الرد على حساد المدنية الإسلامية المكابرين

أينسى حسَّاد الإسلام والمكابرون في عظمة فضله، الزاعمون أنه نقل وتعلم وقلد واقتدى، وأنه إنما صلى وراء غيره — أن الغرب كان غلب على الشرق، وأن المدنية الشرقية يوم ظهر الإسلام كان أخنى عليها الذي أخنى على لبد، وأنه هو الذي جددها وأحيا آثارها، وأقال عثارها؟! وأنها بعد أن كانت قد امَّحت ولحقت بالغابرين، أبرزها من أصدافها، وجلاها من بعد أن كانت ملفوفة بغلافها، ونشرها إلى الخافقين، وبلَّجها كفلق الصبح لكل ذي عينين، وأضفى عليها لباس الإسلام الخاص، ودبجها بديباجة القرآن، التي لم تفارقها في شرق ولا غرب، ولا سهل ولا غر، حتى حمل ذلك كثيرًا من علماء الإفرنج ممن لم يعمه الهوى، ولم يحد في التحقيق عن مهيع الهدى، على أن اعترفوا بأن مدنية الإسلام لم تكن نسخًا ولا نقلًا، وإنما هي قد نبعت من القرآن، وتفجرت من عقيدة التوحيد؟!

فأما ما ترجمته حضارة الإسلام من كتب، وما أخذته عن غيرها من علوم، وما أفادته في فتوحاتها من منازع جميلة، وطرائق سديدة، أخذتها عن غيرها فلا يقدح ذلك في بكارتها الإسلامية، ومسحتها العربية؛ لأن هذا شأن الحضارة البشرية بأجمعها أن يأخذ بعضها عن بعض ويكمل بعضها بعضًا، فالحلم الحقيقي ينحصر في هذا الحديث الشريف: «الحكمة ضالة المؤمن ينشدها ولو في الصين»١ وهذه من أقدس قواعد الإسلام.

وعلى كل حال لا يقدر مكابرٌ أن يكابرَ أن الإسلام كان له دور عظيم في الدنيا سواء في الفتوحات الروحية، أو العقلية، أو المادية، وأن هذه الفتوحات قد اتسقت له في دور لا يزيد على ثمانين سنة؛ مما أجمع الناس على أنه لم يتسق لأمة قبله أصلًا.

وكان نابليون الأول لشدة دهشته من تاريخ الإسلام يقول في جزيرة سنت هيلانة: إن العرب فتحوا الدنيا في نصف قرن لا غير.

وتأمل أيها القارئ في أن قائل هذا القول هو بونابرت الذي لم تكن تملأ عينيه الفتوحات مهما كانت عظيمة.

وَتَعْظمُ فِي عَيْنِ الصَّغِيرِ صِغَارُهَا
وَتَصْغرُ فِي عَيْنِ العَظِيمِ العَظَائِمُ

فهذا رجل عظيم جدًّا استعظم حادث العرب الذي لم يسبق نظيره في التاريخ، وقد بقي دور العرب هو الأول في وقته، ولبثوا وهم المسيطرون في الأرض، لا يضارعهم مضارع، ولا يغالبهم مغالب، مدة ثلاثة قرون أو أربعة، ثم أخذوا بالانحطاط، وجعلت ظلالهم تتقلص عن البلدان التي كانوا غلبوا عليها شيئًا فشيئًا؛ وذلك بفتور الهمم، ودبيب الفساد إلى الأخلاق، ونبذ عزائم الدين، واتباع شهوات الأنفس، وأشد ما ابتلوا به التنافس على الإمارات والرئاسات — ولا سيما بين القيسية واليمانية — مما لولاه لدانت لهم القارة الأوروبية بأجمعها، وكانت الآن عربية كما هو المغرب.

فالمصائب التي حلت بالمسلمين إنما هي مما صنعته أيديهم، ومما حادوا به عن النهج السوي الذي أوضحه لهم القرآن الذي لما كانوا عاملين بمحكم آيه علوا وظهروا وكانت لهم الدول والطوائل، فلما ضعف عملهم به وصاروا يقرءونه بدون عمل، وانقادوا إلى أهواء أنفسهم من دونه، ذهبت ريحهم، وولى السلطان الأكبر الذي كان لهم، وانتقصت الأعداء أطراف بلادهم، ثم قصدوا إلى أوساطها وما زال الأعداء يفتحون من بلدان الإسلام حتى أصبح ثلاث مئة مليون مسلم تحت ولاية الأجانب ولم يبقَ في العالم سوى ٧٠ أو ٨٠ مليون مسلم نقدر أن نقول: إنهم تحت ولاية أنفسهم.

ولنضرب الآن بعض أمثلة عن الأمم الأخرى لأجل المقابلة بيننا وبينهم؛ إذ كانت «بضدها تتبين الأشياء».

اليونان والرومان قبل النصرانية وبعدها

كان اليونانيون قبل النصرانية أرقى أمم الأرض أو من أرقى أمم الأرض، وكانوا واضعي أسس الفلسفة، وحاملي ألوية الآداب والمعارف، ونبغ منهم من لا يزالون مصابيح البشرية في العلم والفلسفة إلى يوم الناس هذا.

وكان الإسكندر المقدوني أعظم فاتح عرفه التاريخ أو من أعظم الفاتحين الذين عرفهم التاريخ، حاملًا للأدب اليوناني، ناشرًا لثقافة اليونان بين الأمم التي غلب عليها، وما كانت دولة البطالسة التي لمعت في الإسكندرية بعلومها وفلسفتها إلا من بقايا فتوح الإسكندر، ثم لم تزل هذه الحالة إلى أن تنصرت اليونان بعد ظهور الدين المسيحي بقليل، فمذ دانت هذه الأمة بالدين الجديد بدأت بالتردي والانحطاط وفقد مزاياها القديمة، ولم تزل تنحط قرنًا عن قرن، وتتدهور بطنًا عن بطن، إلى أن صارت بلاد اليونان ولاية من جملة ولايات السلطنة العثمانية، ولم تعد إلى شيء من النهوض والرقي إلا في القرن الماضي، وأين هي مع ذلك الآن مما كانت قبل النصرانية؟

أفيجب أن نقول: إن النصرانية كانت المسئولة عن انحطاط اليونان هذا؟!

إن القائلين بأن الإسلام قد كان سبب انحطاط الأمم الدائنة به لا مفر لهم من القول بأن النصرانية قد أدت أيضًا إلى انحطاط اليونان التي كانت من قبلها عنوان الرقي.

ثم كانت رومية في عصرها الدولة العظمى التي لا يذكر معها دولة، ولا يؤبه في جانب صولتها لصولة، ولم تزل هكذا هي المسيطرة على المعمور إلى أن تنصرت لعهد قسطنطين، فمنذ ذلك العهد بدأت بالانحطاط مادة ومعنى، إلى أن انقرضت أولًا من الغرب، وثانيًا من الشرق، ولم تسترجع رومية بعد انقراض الدولة الرومانية شيئًا من مكانتها الأولى، وبقيت على ذلك مدة ١٥ قرنًا حتى استأنفت شيئًا من مجدها الغابر.

وما هي إلى هذه الساعة ببالغة ذلك الشأو الذي بلغته أيام الوثنية.

أفنجعل تنصر الرومان هو العامل في انحطاط رومة وتدحرجها عن قمة تلك العظمة الشاهقة؟! لقد قال بهذا علماء كثيرون، كما قال آخرون مثل هذه المقالة في الإسلام، وكلا الفريقين جائر حائد عن الصواب.

فإن لسقوط الرومان بعد فشو الدين المسيحي فيهم، ولسقوط اليونان من قبلهم بعد أن تقبلوا دعوة بولس إلى النصرانية أسبابًا وعواملَ كثيرةً من فساد الأخلاق، وانحطاط الهمم، وانتشار الخنا والخلاعة، وشيوع الإلحاد والإباحة، ومن هِرَمِ الدول الذي يتكلم عنه ابن خلدون، وغير ذلك من أسباب السقوط الداخلية؛ منضمة إليها غارات البرابرة من الخارج، فكانت ثمة أسباب قاسرة مؤدية إلى السقوط الذي كان لا بد منه، فلو فرضنا أن النصرانية لم تكن جاءت وقتئذ لم يكن الرومان ولا اليونان نجوا من عواقب تلك الحوادث، ولا تخطتهم نتائج تلك الأسباب.

فدعوى بعض المؤرخين الأوروبيين أن تغلب المسيحية على اليونان والرومان أخنى على عظمتها، وذهب بمدينتها، ليس فيه من الصحيح إلا كون الأوضاع الجديدة تذهب بالأوضاع القديمة؛ سنة الله في خلقه، وأنه في هيعة هذا التحول لا بد من اضطراب الأحوال وانحلال القواعد واستحكام الفوضى، وإلا فلا أحد يقدر أن يقول: إن الوثنية أصلح للعمران من النصرانية.٢

وهذه الدعوى كادت تكون أشبه بدعوى أعداء الإسلام الذين يزعمون أن الشرق كان رائعًا في بحابح العمران، فجاء الإسلام وطمس المدنيات الشرقية القديمة! لولا أن الحقيقة هي كما قدمنا أن المدنيات الشرقية كانت كلها قد انقرضت أو انحطت قبل ظهور الإسلام بكثير، وأن الإسلام وحده لا غيره هو الذي جدد مدنية الشرق الدارسة، واستأنف صولته الذاهبة الطامسة، وبعث تلك الحواضر العظمى الزاخرة بالبشر كبغداد والبصرة وسمرقند وبخارى ودمشق والقاهرة والقيروان وقرطبة وهلم جرّا، فإن كانت قد بقيت للشرق آثار مدنيات قديمة فإن الإسلام هو الذي وطد بوانيها، وطرز حواشيها، وحمل السيف بيد والقلم بيد إلى أبعد ما تصوره العقل من حدود الأقطار التي لم يسبق لشرقي أن يطأها بقدمه.

فإذا كان الإفرنج الصليبيون من الغرب، وكان المغول أولئك الجراد المنتشر من الشرق، قد دمروا ما بنى الإسلام في تلك الممالك، ونسفوا عمران هاتيك الحواضر، وكانت منافسات ملوك الإسلام الداخلية للشهوات، وإمعانهم في الضلالات، ومحيدهم عن جادة القرآن القويمة، وفقدهم ما يزرعه في الصدور من الأخلاق العظيمة، وقد قضت في الداخل، على ما عجز عن تعفيته العدو من الخارج، فليس الذي في هذا التقلص ذنب الإسلام، ولا التبعة في هذا الانقلاب عائدة على القرآن، وإنما الذنب هو ذنب الهمج من الإفرنج، وجناية ذلك الجراد الزحاف من المغول، وإنما هي تبعة المسلمين الذين رغبوا عن أوامر كتابهم واشتروا بآياته ثمنًا قليلًا، إلا النادر منهم.

وأيضًا فقد تنصرت الأمم الأوروبية في القرن الثالث والرابع والخامس والسادس من ميلاد المسيح، وبقيت أمم في شرقي أوروبة إلى القرن العاشر حتى تنصرت، ولم تنهض أوروبة نهضتها الحالية التي مكنتها تدريجًا من هذه السيادة العظمة بقوة العلم والفن إلا من نحو أربع مئة سنة أي من بعد أن دانت بالإنجيل بألف سنة، ومنها بعد أن دانت به بسبعماية سنة، ومنها بثمان مئة سنة، … إلخ.

وهذه هي القرون المسماة في التاريخ بالقرون الوسطى، ولا نقول: إن الأوروبيين كانوا في هذه القرون بأجمعهم هائمين في ظلمات بعضهم فوق بعض، بل نقول: إن العرب كانوا أعلى كعبًا منهم بكثير في المدنية بإقرار مؤرخيهم، وبرغم أنف لويس برتران وأضرابه.

ومن الكتب المخرجة حديثًا الشاهدة بذلك: التاريخ العام للكاتب الفيلسوف الإنكليزي «ولز» و«تاريخ مدنيات الشرق» لمؤلف إفرنسي متخصص في التواريخ الشرقية اسمه «غروسه» فالحقيقة التاريخية المجمع عليها هي واحدة في هذا الموضوع، لم يظهر ما ينقضها ولن يظهر؛ وهي: إن العرب في القرون الوسطى كانوا أساتيذ الأوروبيين، وكان الواحد من هؤلاء إذا تخرج على العرب تباهى بذلك بين قومه.

سبب تأخر أوروبا الماضي ونهضتها الحاضرة

أفنجعل هذا التأخر الذي كان عليه الأوروبيون في القرون الوسطى مدة ألف سنة ناشئًا عن النصرانية التي كانت دينهم الذي يعضون عليه بالنواجذ؟!

نعم؛ إن الأمم البروتستانتية منهم تجعل مصدر هذا التأخر الكنيسة البابوية لا النصرانية من حيث هي، وتزعم أن نهضة أوروبة لم تبدأ إلا بخروج (لوثير، وكلفين) على الكنيسة الرومانية.

وأما فولتير ومن في حزبه من أقطاب الملاحدة فلا يفرقون كثيرًا بين الكاثوليك والبروتستانت، وعندهم أن جميع هذه العقائد واحدة، وأنها عائقة عن العمل والرقي، ولهذا قال فولتير تلك الكلمة عندما ذُكر لديه لوثير، وكلفين، قال: «كلاهما لا يصلح أن يكون حذاء لمحمد٣» يرى أن محمدًا بلغ من الإصلاح ما لم يبلغا أدناه، مع اعتقادم الكثير أن مذهبهما كان فجر أنوار أوروبا.٤

والحق الذي لا يرتاب فيه أن النصرانية نفسها لم تكن هي المسئولة عن جهالة الإفرنج المسيحيين مدة ألف سنة في القرون الوسطى، بل للمسيحية الفضل في تهذيب برابرة أوروبا.

وهؤلاء اليابانيون هم وثنيون، ومنهم من هم على مذهب بوذا، ومنهم من يقال لهم: طاويون، وكثيرون منهم يتبعون الحكيم الصيني كنفوشيوس، ولقد مضى عليهم نحو ألفي سنة ولم تكن لهم هذه المدنية الباهرة ولا هذه القوة والمكانة بين الأمم، ثم نهض اليابان من نحو ستين سنة وترقوا وعزوا وغلظ أمرهم، وعلا قدرهم، وصاروا إلى ما صاروا إليه ولم يبرحوا وثنيين.

فلا كانت الوثنية إذًا سبب تأخرهم الماضي ولا هي سبب تقدمهم الحاضر، وقد تفاوت اليابان والروسيا وتحاربتا فتغلبت اليابان على روسيا؛ مع أن اليابانيين في العدد هم نصف الروس، ولكن مما لا شك فيه أن اليابانيين أرقى من الروس، والحال أن روسية عريقة في النصرانية، واليابان عريقة في الوثنية.

فليترك إذًا بعض الناس جعل الأديان هي المعيار للتأخر والتقدم.٥

أفنقول من أجل هذا المثال: إن الإنجيل هو الذي أخَّر روسيا عن درجة اليابان، وإن عبادة الآلهة ابنة الشمس هي التي جذبت بضبع اليابان حتى سبقت روسيا؟!

إن لهذه الحوادث أسبابًا وعوامل متراكمة ترجع إلى أصول شتى، فإذا تراكمت هذه العوامل في خير أو شر تغلبت على تأثير الأديان والعقائد، وأصبحت فضائل أقوم الأديان عاجزة بإزاء شرها، كما أصبحت معايب أسخفها غير مؤثرة في جانب خيرها.

ولسنا هنا في صدد أسباب تقدم اليابان السريع حتى نبين أن اعتقاد عامتهم (وجود حصان مقدس يركبه الإله فلان) لم يقف حائلًا دون تقدمهم المبني على ما ركب في فطرتهم من الحماسة، وما أوتوا من الذكاء، وما أورثهم نظام الإقطاع القديم من التنافس في المجد والقوة.

وعندنا أمثلة كثيرة تكاد لا تحصى في هذا الباب اجتزأنا منها بما ذكرناه، ولم نكن لنتعرض لهذا المقام لولا حملات القسوس والمبشرين وكثير من الأوروبيين على الإسلام، وزعمهم أنه عنوان التأخر، وأنه رمز الجمود، وتحدثهم بذلك في الأندية والمجامع ونشرهم هذه الافتراءات في المجلات والجرائد، وقولهم: إن الشجرة تعرف من ثمارها، وإن حالة العالم الإسلامي الحاضرة هي نتيجة جمود الإسلام، وتحجر القرآن.

كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ ۚ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا.٦

وحسبك أن المسيو سان (المقيم الإفرنسي السامي) في المغرب ينشر في العدد الأخير من (مجلة الأحياء) الإفرنسية مقالة يتكلم فيها على يقظة المغرب بعد (ليل الإسلام)! هكذا تعبيره.

فإن كان تأخر إحدى الممالك الإسلامية حقبة من الدهر يجب أن يقال فيه (ليل الإسلام) فكم كان ليل النصرانية طويلًا عندما بقيت أوروبة المسيحية زهاء ألف سنة وهي في حالة الهمجية أو ما يقرب من الهمجية.

إن إدخال الأديان في هذا المعترك وجعلها هي وحدها معيار الترقي والتردي ليس من النصفة في شيء، أما الإسلام فلا جدال في كونه هو سبب نهضة العرب وفتوحاتهم المدهشة مما أجمع على الاعتراف به المؤرخون شرقًا وغربًا، ولكنه لم يكن سبب انحطاطهم فيما بعد كما يزعم المفترون الذين لا غرض لهم سوى نشر الثقافة الأوروبية بين المسلمين دون ثقافة الإسلام، وبسط سيادة أوروبة على بلدانهم، بل كان السبب في تردي المسلمين هو أنهم اكتفوا في آخر الأمر من الإسلام بمجرد الاسم، والحال أن الإسلام اسم وفعل.

هوامش

(١) هذا مضمون حديثين: أحدهما: «الحكمة ضالة المؤمن؛ فحيث وجدها فهو أحق بها» رواه الترمذي من حديث أبي هريرة، ووراه غيره بمعناه مع اختلاف في اللفظ. والثاني: «اطلبوا العلم ولو بالصين» وذكره الكاتب في موضع آخر، وهناك نذكر من أخرجه (راجع ص٩٥) (ر).
(٢) علماء المسلمين يعتقدون أن النصرانية على ما طرأ عليها من الوثنية بالتثليث الوثني القديم أصلح لأنفس البشر من الوثنية الخالصة، ولكنها ليست أصلح ولا أقبل للعمران المدني الذي تتنافس فيه أوروبة وغيرها؛ لأنها ديانة مبنية على المبالغة في الزهد والخضوع لكل حكم دنيوي، والعمران لا يتم ولا يسمو إلا بالسيادة والملك والغنى، ومن قواعد الإنجيل: أن الجمل إذا دخل في ثقب الإبرة فالغني لا يدخل ملكوت السموات، ونعتقد أيضًا أن جميع ما جاء به المسيح — عليه السلام — من الدين فهو حق وكان البشر في أشد الحاجة إلى ما فيه من المبالغة في الزهد والتواضع؛ لمقاومة ما كان عليه اليهود وحكامهم الروم (الرومان) من الطمع والكبرياء والعتو، وأن هذا كان تمهيدًا للإسلام الدين الوسط المعتدل الجامع بين مصالح الدنيا والآخرة، فما ذكرناه من اعتقادنا يتضمن اعترافنا بحقية دين المسيح في نفسه، وبكونه من عند الله تعالى مع التعارض بينه وبين ديننا الناسخ له.
ومن وظيفتي أن أبين هذا في حاشية مقال كتب للمنار باقتراح من أحد تلاميذ المنار على أمير البيان (ر).
(٣) ذكر فولتير هذه الجملة أمام البرنس سيندورف النمسوي الذي صار فيما بعد رئيسًا لوزراء سلطنة النمسة، وعندما دخل بونابرت فيينا كان هذا البرنس هو رئيس الحكومة فيها، وكان نقله هذه الجملة عن فولتير في أيام شبابه عندما اجتمع به في سويسرة فقيدها في مذكراته المحفوظة في خزانة كتب فيينا وعنها نقلتها جريدة الطان ونحن نقلناها عنها (ش).
(٤) ونحن نعتقد هذا، وكان شيخنا الأستاذ الإمام وأذكياء مريديه كسعد باشا زغلول يعتقدونه، ولكن بمعنى سلبي؛ وهو أن هذا المذهب أضعف حجر الكنيسة على العقول البشرية وتقييدها بتعاليمها وفهمها للدين ورأيها في الدنيا، وكان سبب هذا المذهب ما سرى إلى أوروبة عقب الحروب الصليبية بمعاشرة المسلمين من استغلال العقل في فهم الدين وعدم سيطرة أحد عليهم فيه، كما بينه شيخنا في كتاب الإسلام والنصرانية (ر).
(٥) هذا صحيح في جملة الأديان إلا الإسلام؛ فقرآنه وتاريخه يثبتان أنه هو سبب تقدم أهله حين اهتدوا به، وسبب تأخرهم حين أعرضوا عنه، كما بين هذا أمير الكتاب في رسالته هذه، فأظلم الظلم أن يجعل سبب تأخيرهم (ر).
(٦) الكهف: من الآية ٥.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤