الوطن

تباهى يومًا خبَّاز أجير بحبِّ وطنه، وكان قد دَرَسَ بالكلية ولم يزل حافظًا قليلًا من عبارات شيشرون. وسأله ذات مرة أحد جيرانه: «ماذا تعني بوطنك؟ أهو فُرْنك؟ أهي القرية التي وُلِدت فيها ولم ترَها منذ ذلك الوقت؟ أهو الشارع الذي سكَن فيه أبوك وأمك اللذان قضيا نحبَيهما وجعَلاك تكتفي بصنع فطائر صغيرة من أجل العيش؟ أهي دار البلدية حيث لن تُصبح أبدًا مساعد مدير الشرطة هناك؟ أهي كنيسة سيدتنا العذراء حيث لم تستطع أبدًا أن تُصبح أحد الجوقة المرنِّمين بينما وصَل رجل سخيف إلى منصب رئيس الأساقفة وأصبح دوقًا يتقاضى دخلًا يصل إلى عشرين ألف لويس ذهبي؟»

لم يَدرِ الخباز الأجير بمَ يجيب. استنتج أحد المفكرين الذي كان يستمع إلى تلك المحادثة أن داخل الوطن، بصورة ما، دائمًا ما كان يوجد آلاف الناس بلا وطن.

أيها الباريسي العاشق للمتعة، الذي لم يَسبق لك أن ترحل رحلة كبيرة إلا إلى دييب لتتناول السمك الطازج؛ أنت يا مَن لا تعلم شيئًا سوى منزلك الأنيق بالمدينة، ومنزلك الريفي الجميل، ومكانك بتلك الأوبرا، بينما تظلُّ بقية أوروبا تعاني الملل؛ يا من تتكلم بلغتك بتناغُم كافٍ لأنك لا تعرف غيرها؛ أنت تُحب ذلك كله، وتحب أيضًا الفتيات اللاتي تُنفق عليهن، والشمبانيا التي تأتي إليك من رانس، والأرباح التي يدفعها إليك فندق دو فيي كل ستة شهور، ثم تقول إنك تحب وطنك!

أيُمكن تحت أي ظرف أن يحبَّ المرابي وطنه بحرارة؟

والضابط والجندي اللذان لو تُرِكا لنهَبا مقراتهما الشتوية، أيشعُران بحبٍّ دافئ للفلاحين الذين يقتلونهم؟

أين كان وطن دوق جويز؟ أكان في نانسي، أم باريس، أم مدريد، أم روما؟

ما وطنكم يا كاردينالات لابالو، وديبرا، ولورين، ومازاران؟

أين كان وطن أتيلا ومئات الأبطال أمثاله؟

أود أن يُخبرني أحد أين كان موطن إبراهيم؟

كان أول من كتب أن الوطن هو المكان الذي يشعر فيه المرء بالراحة هو — على ما أعتقد — يوريبيدس في مسرحيته «فايتون»؛ لكن أول إنسان غادَر محل ميلاده سعيًا إلى راحته في مكان آخر قالها قبله.

أين الوطن إذًا؟ أليس حقلًا جيدًا يستطيع مالكه الذي سكن منزلًا جميلًا أن يقول: «هذا الحقل الذي أحرثه، وهذا المنزل الذي بنيته هما ملكي؛ أعيش فيهما محميًّا بالقوانين التي لا يستطيع أي طاغية أن ينتهكها. وحينما يلتقي أولئك الذين يَملكون مثلي الحقول والمنازل في مصالحهم المشتركة، فلي صوتي في المجلس؛ أنا جزء من كل شيء، وجزء من المجتمع، وجزء من السلطة؛ هناك وطني»؟

حسنًا إذًا، أمن الأفضل لوطنك أن يكون مملكة أم جمهورية؟ ما زال السؤال مَثار جدل منذ أربعة آلاف عام. اسأل الأغنياء عن إجابة، كلهم يُفضِّلون الأرستقراطية؛ اسأل العامة، يريدون الديمقراطية، الملوك وحدهم يُفضِّلون المَلَكية. كيف، إذًا، يحكم العالمَ كله تقريبًا ملوك؟ اسأل الفئران الذين اقترحوا أن يُعلقوا جرسًا حول عنق القط. السبب الحقيقي، كما قيل، هو أن البشر نادرًا ما يستحقُّون حكم أنفسهم.

مُحزن أن يكون على المرء غالبًا، ليكون وطنيًّا صالحًا، أن يكون عدوًّا لبقية البشرية. يعني كونك وطنيًّا صالحًا أن تتمنى أن تغتني مدينتك بالتجارة، وتستقوي بالسلاح. واضح أن أي دولة لا تستطيع أن تغنم إلا بخسارة غيرها، وأنها لا تستطيع أن تغزو دون أن تُسبِّب بؤسًا. هكذا حال البشر إذًا، أن يعني تمني المرء العظمة لبلده تمني الضرر لجيرانه. مَن يتمن ألا يكون وطنه أبدًا أكبر ولا أصغر، ولا أغنى ولا أفقر يكن مُواطِن العالم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤