التقبيل

أستميح الفتيان والفتيات عذرًا؛ فربما لا يجدون هنا ما يبحثون عنه. هذه المقالة للباحثين والأشخاص الجادِّين فقط الذين تناسبهم.

كثيرًا ما نجد طلبًا للتقبيل في كوميديات زمن موليير. يطلب شامبين في كوميديا «الأم كوكيت» التي ألَّفها كينو القبلات من لوريت؛ تقول له: «لستَ قانعًا بعد؟ أمر مُخجِل حقًّا؛ قبَّلتُك مرتين.» ويجيبها شامبين: «ماذا؟! أتحصين قبلاتك؟» (الفصل الأول – المشهد الأول).

اعتاد الخدم دومًا أن يطلبوا القبلات من الوصيفات؛ وكان الناس يُقبِّلون بعضهم بعضًا على خشبة المسرح. عادة ما كان هذا فعلًا غبيًّا بليدًا لا يُحتمل، خاصة في حالة المُمثِّلين الدميمين الذين يُصيبون المرء بالغثَيان.

إذا رغب القارئ في القبلات، فليبحث عنها في مسرحية «القس فيدو»؛ هناك مقطع أغنية كامل لا يُذكَر فيه إلا القبلات، والعمل مؤسَّس فقط على قُبلة منحها ميرتيللو ذات يوم لأميريللي في لعبة استغماية: «قبلة لذيذة جدًّا.»

يعلم الجميع فصل القبلات الذي يقول فيه جون دي لا كاسا رئيس أساقفة بينيفينتو إن الناس يستطيعون أن يُقبِّلوا بعضهم بعضًا من الرأس إلى القدم. ويُشفق على ذوي الأنوف الكبيرة الذين يستطيعون بالكاد الاقتراب بعضهم من بعض؛ وينصح السيدات ذوات الأنوف الكبيرة بأن يتَّخذن عشاقًا ذوي أنوف مفلطحة.

كانت القبلة شكلًا عاديًّا من أشكال التحية خلال الأزمنة القديمة. يذكر بلوتارخ أن المتآمِرين، قبل أن يَقتلوا قيصر، قبَّلوا وجهه ويده وصدره. يقول تاسيتس إنه حينما عاد أجريكولا، حمو قيصر، من روما استقبله دوميتيان بقُبلة باردة، ولم يقل له شيئًا، وتركه مرتبكًا وسط الجمع. وكان الشخص الأدنى منزلة الذي لم يكن بمقدوره أن ينجح في تحية مَن يفوقه منزلةً بالتقبيل، يضع فمه على يده ويرسل له قبلة، يردُّ عليها الآخر بالطريقة نفسها إذا رغب في ذلك.

استُخدمت هذه العلامة أيضًا في عبادة الآلهة. يقول أيوب في سفره (الإصحاح الحادي والثلاثين)، الذي يحتمل أن يكون أقدم الأسفار المعروفة، إنه لم يعبد الشمس والقمر مثل العرب الآخرين، وإنه لم يرفع يده إلى فمه وهو يتطلَّع إلى النجوم.

في عالمنا الغربي لا يتبقَّى شيء من هذه العادة القديمة سوى المُجاملة الطفولية اللطيفة التي ما زالت تُعلَّم للأطفال في بعض المدن الصغيرة، بتقبيل الأيدي اليمنى حينما يمنحهم أحدٌ بعض الحلوى.

كان أمرًا فظيعًا أن تخون بقبلة. كان هذا هو ما جعل قَتَلة قيصر أكثر بغضًا. نعلم جميعًا عن قبلات يهوذا التي صارت مضرب المثل.

لأن يوآب، أحد قادة داود، شديد الغيرة من عماسا، وهو قائد آخر، يقول له (سفر صموئيل الثاني: ٢٠: ٩): «أسالم أنت يا أخي؟ وأمسكتْ يد يوآب اليمنى بلحية عماسا ليُقبله.» وبيده الأخرى، سلَّ سيفه «وضربه به في الضلع الخامس، فدلق أمعاءه على الأرض.»

ربما لن نجد قُبلة أخرى في الاغتيالات الأخرى المتكررة نوعًا ما التي ارتُكبت بين اليهود، إلا أن تكون ربما تلك القبلات التي منحَتها يهوديت للقائد أليفانا قبل أن تقطع رأسه وهو نائم في فراشه، ولكن ما من إشارة إليها، والأمر هنا محتمل وحسب.

في إحدى تراجيديات شكسبير المعنونة «عطيل» نجد هذا العطيل، الذي هو رجل أسود، يمنح قبلتَين لزوجته قبل أن يشنقها. ربما يبدو هذا بغيضًا للغاية للشرفاء؛ لكن أنصار شكسبير يقولون إنها طبيعية على نحو رائع، وخصوصًا مع رجل أسود.

حينما اغتيل جيوفاني جالياس سفورزا في كاتدرائية ميلانو في عيد القديس ستيفن، فإن الميديتشيَّيْن بكنيسة ريباراتا، والأدميرال كوليني، وأمير الأورانج، والمارشال دانكر، والإخوة ويت، وكثيرين غيرهم لم يُقَبَّلوا على الأقل.

ولا أعلم أي أمر رمزي أو مقدَّس اقترن بالقُبلة بين القدماء؛ إذ كان المرء يُقبِّل تماثيل الآلهة ولحاها حينما كان النحاتون يُظهرونها بلحية. كان المنضمون حديثًا يتبادلون القبلات في أساطير سيرس الغامضة علامة على الوفاق.

كان المسيحيون الأوائل، رجالًا ونساءً، يُقبِّل بعضهم بعضًا على الفم في «أغابيهم»، وكانت هذه الكلمة ترمز لعيد المحبة. كانوا يُعطون بعضهم بعضًا القُبلة المباركة، قبلة السلام، قبلة الأخ والأخت. استمرت هذه العادة لأكثر من أربعة قرون، ومُنعت في النهاية بسبب عواقبها؛ فقبلات السلام هذه، وأغابي المحبة هذه، وتسميات «الأخ» و«الأخت» هذه هي ما جلب على المسيحيِّين الذين كانوا معروفين قليلًا اتهامات الزنا التي اتهمهم بها كهَنة جوبيتر وكاهنات فيستا. ترى في كتابات بيترونيوس وغيره من المؤلِّفين العلمانيين أن المُتحرِّرين كانوا يُطلقون على أنفسهم وصف «أخ» و«أخت». وكان من المعتقد أن الأسماء نفسها بين المسيحيين تشير إلى السمعة السيئة نفسها. كانوا شركاء أبرياء في الجريمة بنَشرهم تلك الاتهامات عبر الإمبراطورية الرومانية.

في البداية كان هناك سبعة عشر مجتمعًا مسيحيًّا مختلفًا، كما كانت هناك تسعة مجتمعات مختلفة وسط اليهود، شاملة نوعَي السامريِّين. اتَّهمَت تلك المجتمعات التي كانت تتباهى بأنها الأكثر أرثوذكسية غيرها بأشد الفواحش شططًا. مصطلح «غنوصي» الذي كان في البداية مَدعاةً للفخر، وكان يعني «مُتعلِّم»، و«مستنير»، و«نقي»، أصبح مصطلحًا يدل على الفظاعة والازدراء، وتعييرًا بالهرطقة. ادَّعى القديس إبيفانيوس في القرن الثالث أن الرجال والنساء اعتادوا على دغدغة بعضهم بعضًا؛ وأنهم بعد ذلك كانوا يُقبِّلون بعضهم بعضًا قبلات فاحشة، وأنهم كانوا يقيسون درجة إيمانهم بقدر شهوانية قبلاتهم؛ وأن الزوج كان يقول لزوجته عندما كان يُقدم لها عضوًا جديدًا شابًّا: «تبادلي الأغابي مع أخي.» ومن ثم كانوا يُتمِّمون الأغابي.

لن نجرؤ هنا أن نكرر باللسان الفرنسي العفيف١ ما يُضيفه القديس إبيفانيوس باليونانية في كتابه «ضد أنصاف الإخوة» (الكتاب الأول، الجزء الثاني). سنقول وحسب إنه ربما كان هذا القديس مخدوعًا نوعًا ما، وإنه سمح لنفسه أن تشتطَّ به الحماسة، وإنه ليس كل الهراطقة فاحشين فاضحين.

إن طائفة «التقويِّين» برغبتها في أن تُحاكي المسيحيين الأوائل، تتبادل قبلات السلام في نهاية تجمعاتها، ويدعو بعضهم بعضًا «أخي، وأختي»؛ وهذا ما صرَّحَت به لي منذ عشرين عامًا سيدة تَقَوِيَّة بارعة الحسن والإنسانية. كانت العادة القديمة هي التقبيل على الفم؛ وحافظ التقويُّون بعناية عليها.

لم تكن هناك طريقة أخرى لتحية السيدات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا وإنجلترا؛ كان من حق الكاردينالات أن يُقبِّلوا الملكات على الفم، وحتى في إسبانيا. أما الأمر الفريد فأنهم لم يكن لهم الامتياز نفسه في فرنسا؛ حيث كانت لدى النساء دومًا حرية أكبر مما في أي مكان آخر، ولكن «لكل بلد طقوسها»، ولا يوجد عرفٌ من العمومية بحيث لا تقدِّم المناسبة والعادة استثناءات منه. كان من الفظ والمهين بالنسبة إلى امرأة محترمة حينما تستقبل أحد السادة لأول مرة ألا تُقبله، بصرف النظر عن شاربيه. يقول مونتين (المجلد الثالث، الفصل الخامس): «إنها عادة مسيئة ومهينة للسيدات أن يكنَّ مُضطَرات لإعارة شفاهن لأي زائر لديه ثلاثة خُدَّام في جناحه، وإن يكن مُنفِّرًا.» مع ذلك فقد كانت تلك العادة هي الأقدم في العالم.

إذا كان من الكريه لفم صغير جميل أن يلتصق بفم كبير قبيح بدافع من المُجاملة، فقد كان هناك خطر عظيم فيما بين أفواه حمراء نضرة في عمر العشرين إلى الخمسة والعشرين، وهذا هو ما أدى إلى إلغاء طقس التقبيل في أسرار الأغابي. ولعل هذا هو ما تسبَّب في اقتصار النساء عند أهل المشرق على تقبيل آبائهن أو إخوتهن فقط؛ وهو تقليد نقله العرب إلى إسبانيا منذ زمن طويل.

ها هو الخطر، سنكتشف أن هناك عصبًا من الزوج الخامس يمتد من الفم إلى القلب ومن ثم لأسفل، بمثل هذه الصنعة الرفيعة أعدَّت الطبيعة كل شيء! الغدد القليلة للشفاه، بنسيجها الإسفنجي، وحلماتها الناعمة، وجلدها الرقيق، الحساس؛ كل ذلك يمنحها إحساسًا شهوانيًّا فاتنًا لا يخلو من التناظر مع جزء آخر أكثر خفاء وحساسية. ربما يصعب الاحتشام أثناء قُبلة مطوَّلة مستلذة بين شخصين تقويَّين في الثامنة عشرة من العمر.

ومما تجدر ملاحظته أن الجنس البشري واليمام والحمام هم وحدهم من يعرفون التقبيل، ومن هنا أتت عند اللاتينيين كلمة «كولومباتيم» (مشابهة الحَمَام) التي لا تستطيع لغتنا ترجمتها. ما من شيء لم يُسأ استعماله. القُبلة التي صمَّمتها الطبيعة للفم طالما عُهِّرت باستخدامها مع أغشية لا يبدو أنها صُنعت لهذا الغرض. يعلم المرء بالطبع ما اتُّهم به فرسان الهيكل.

لا نستطيع بصراحة أن نعالج هذا الموضوع المُمتع لمدة أطول، مع أن موتين يقول: «ينبغي أن يتكلم المرء عن ذلك بلا خجل؛ نتكلم بالفعل بصَفاقة عن «القتل» و«الجرح» و«الخيانة»، لكننا لا نجرؤ على الكلام عن ذلك الأمر إلا بأنفاس متقطعة.»

هوامش

(١) أو الإنجليزي. (مترجم النسخة الإنجليزية).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤