القوة، القدرة الكلية

أفترض أن من يقرأ تلك المقالة مُقتنِع بأن هذا العالم شُكِّل بذكاء، وأن قليلًا من الفَلَك والتشريح يكفي لإثارة الإعجاب بهذا الذكاء الكوني الفائق.

هل يُمكن أن يعرف بنفسه إن كان ذلك الذكاء كلي القدرة، أي قويًّا بلا حد؟ هل لديه أدنى فكرة عن اللانهائي حتى يفهم ما القوة اللانهائية؟

يقول الفيلسوف المؤرِّخ الشهير ديفيد هيوم في: «العناية الإلهية الخاصة»: إن ثقل عشر أوقيات يُرفع في الميزان بفعل ثقل آخر؛ لذا فإن ذلك الثقل الآخر أكبر من عشر أوقيات، ولكن لا أحد يستطيع أن يستخلص سببًا لماذا يجب أن يزن مائة أوقية؟»

بطريقة مماثلة يمكن للمرء أن يقول: يمكنك التعرف على ذكاء فائق، قوي بدرجة تكفي أن يُشكِّلك ويحفظك لمدة محدودة ويُكافئك ويُعاقبك. لكن هل تعرف ما يكفي عن هذه القوة لتُبرهن أنها يمكنها أن تفعل المزيد بعد؟

كيف يُمكنك أن تُثبت بفكرك أن هذا الكائن الأعظم يمكنه أن يفعل أكثر مما فعله؟

حياة الحيوانات كافَّةً قصيرة. هل كان يستطيع أن يجعلها أطول؟

كل الحيوانات فريسة بعضها لبعض، وكل شيء مولود كي يُفترَس. هل كان بإمكانه أن يخلق ولا يُهلِك؟

أنت لا تعلم ما الطبيعة؛ لذا لا يمكنك أن تعرف ما إن كانت الطبيعة لم تُجبره على أن يفعل الأشياء التي فعلها.

هذا العالم ميدانٌ واسع فقط للتدمير والذبح. إما أن الكائن الأعظم كان قادرًا على أن يجعل من هذا الكون مسكنًا أبديًّا للسعادة لكل المخلوقات الحساسة، وإما أنه لم يكن قادرًا. إن كان قادرًا ولم يفعل ذلك فأخشى أني ربما أعتبره خبيثًا. لكن إن لم يكن قادرًا، فلن أخشى من النظر إليه على أنه قوة عظيمة جدًّا طوَّقتها الطبيعة في حدودها.

سواء أكانت قوته متناهية أم لا فهذا لا يعنيك؛ إنها مسألة لا فرق فيها للرعية بين أن يكون لسيده خمسمائة فرسخ من الأراضي أم خمسة آلاف، فلن يَزيده هذا ولن ينقصه ذلك خضوعًا.

أي شيء أكبر إساءة لذلك الكائن الأعظم الذي لا يوصف: أن نقول إنه «خلَق بشرًا بؤساء دون أن يكون قادرًا على الاستغناء عنهم، أم إنه خلقهم لأجل مسرَّته؟»

كثير من الطوائف تُصوِّره على أنه قاسٍ؛ وآخرون؛ خشية أن يَعترفوا بأنه إله شرير، تجرَّءوا على إنكار وجوده. أليس أفضل أن نقول إنه ربما أن ضرورة طبيعته وضرورة الأشياء حتَّمتا كل شيء؟

العالم مسرح للمرض المعنوي والمادي، والإنسان واعٍ بذلك مع الأسف، وعبارة «كل شيء خير» لشافتسبري وبولينجبروك والبابا ليست سوى تناقض فكاهي، نكتة رديئة.

أما مبدآ زرادشت وماني — اللذَين درسهما بايل بعناية — فهما نكتة أسخف؛ فهما، كما لوحظ بالفعل، يُشبهان طبيبَيْ موليير؛ يقول أحدهما للآخر: «امنحني ما يُثير غثياني، وسأمنحك ما يجعلك تَنزف.» المانوية سخيفة؛ ولذلك كان لها مؤيدون كثيرون جدًّا.

أعترف أني لم أستنِرْ بكل ما قاله بايل بشأن المانوية والبولسيانية؛ هذه مسألة خلافية، وكنت سأفضِّل فلسفة محضة. لماذا نُناقش أسرارنا جنبًا إلى جنب مع أسرار زرادشت؟ حالَما تجرؤ على التفكُّر في أسرارنا التي لا تحتاج إلا إلى الإيمان، لا التعقُّل، تفتح على نفسك أبواب الهاوية.

ما من علاقة بين تفاهات لاهوتنا المدرسي وتفاهات التأمُّلات الزرداشتية.

لماذا نُناقش الخطيئة الأصلية مع ما تحدث عنه زرادشت؟ لم تكن هناك قطُّ تساؤلات بشأنها إلا في زمن القديس أوغسطين، لم يَسمع بها زرادشت ولا أي مُشرِّع آخر في العصور القديمة.

إن كنت ستَتجادل مع زرادشت فلنضع كل الأقفال على العهدَين القديم والجديد اللذَين لم يعرفهما، ويجب على المرء أن يُقدِّسهما دون أن يرغب في تفسيرهما.

ما الذي كان ينبغي أن أقوله لزرادشت؟ لا يُمكن لعقلي أن يعترف بإلهَين يتصارعان؛ فهذا يصلح فقط لقصيدة تتعارك فيها مينرفا مع مارس. إن عقلي الضعيف أكثر قنوعًا ورضًا بكائن عظيم واحد، كان من شأن جوهره أن يصنع — وصنع — كل ما سمحت به الطبيعة له، من قنوعه ورضاه بكائنَين عظيمين أحدهما يُفسد أعمال الآخر. إن مبدأ الشر أهرِمان لديك لم يكن قادرًا على خرق قانون واحد من القوانين الفلَكية والفيزيائية لمبدأ الخير أورموزد، وكل شيء يتقدم في السماء بأقصى درجة مُمكنة من النظام. لماذا كان ضروريًّا أن تكون لدى أهرمان الشرِّير السيطرة على ذلك الكوكب الضئيل من العالم؟

لو كنت أنا أهرمان، لهاجمت أورموزد في عقر داره ذي الشموس والنجوم الكُثر. لم أكن لأكتفي بشنِّ الحرب عليه في قرية صغيرة.

هناك الكثير من الشر في هذه القرية، ولكن من أين عرفت أن ذلك الشر ليس حتميًّا؟

أنت مُجبَر على الاعتراف بذكاءٍ منشور على الكون، ولكن:
  • (١)

    هل تعرف، مثلًا، إن كانت تلك القوة تملك التنبؤ بالمستقبل؟ ادَّعيتَ هذا ألف مرة، ولكنك لم تكن قادرًا قط على إثباته أو فهمه. لا يُمكنك أن تعلم كيف يمكن لأي كائن مهما يكن أن يرى ما ليس كائنًا. حسنًا، المستقبل ليس كائنًا؛ ولذا لا يستطيع أي كائن أن يراه. نزلت إلى القول إنه يتنبَّأ به؛ ولكن التنبؤ مجرد حدس. هذا هو رأي طائفة السوسينيوسيِّين.

    حسنًا، إن الإله الذي يحدس — كما تقول — ربما يُخطئ. في نظريتك هو بالتأكيد مخطئ؛ لأنه لو كان تنبأ بأن عدوه سيُفسِد كل أعماله الدنيوية لما كان أوجدها، ولم يكن ليُهيئ نفسه لخِزي الانهزام باستمرار.

  • (٢)

    ألا أُسدي إليه تكريمًا أكبر بكثير بقولي إنه صنَع كل شيء طبقًا لضرورة طبيعته مما تفعل أنت له بالإعلاء من قدر عدوٍّ يُشوِّه جميع أعماله في هذا العالم ويلوثها ويحطمها؟

  • (٣)

    ليس معنى أن تكون لديك فكرة غير قيِّمة عن الله أن تقول إنه بعد أن شكَّل آلاف الملايين من العوالم التي لا يسكنها الموت والشر، كان من الضروري أن يقطن الشر والموت في هذا العالم.

  • (٤)

    ليس ازدراءً لله أن تقول إنه لم يستطِع أن يخلق الإنسان دون أن يمنحه احترام الذات؛ لأن هذا الاحترام للذات لم يَستطِع أن يقوده دون أن يُضلِّله دائمًا تقريبًا؛ وأن عواطفه ضرورية، ولكنها كارثية؛ وأن التكاثُر لا يمكن أن يحدث دون رغبة؛ وأن الرغبة لا يمكن أن تُحفِّز الإنسان دون مُشاجَرات؛ وأن تلك المشاجرات تجلب الحروب بالضرورة في طريقها … إلخ.

  • (٥)

    حينما يرى جزءًا من توليفات ممالك الحيوان والنبات المعادن، وهذا الكون مخرَّمًا في كل مكان كالغربال، تهرب منه نفثات كثيرة للغاية في مجموعات كبيرة، فأيُّ الفلاسفة ستكون لديه الجرأة الكافية، وأي الأساتذة سيكون أحمق بما يكفي ليرى بوضوحٍ أن الطبيعة كان بإمكانها منْع تأثيرات البراكين، وشدائد الغلاف الجوي، وعنْف الرياح، والأوبئة، وكل الكوارث المُدمرة؟

  • (٦)

    لا بد أن يكون المرء مقتدرًا جدًّا، وقويًّا جدًّا، ومجتهدًا جدًّا حتى يكون قد خلق أُسودًا يمكنها التهام الثيران، وخلَق بشرًا يُمكنهم أن يخترعوا أسلحة تقتل بضربة واحدة، ليس فقط الثيران والأسود، لكن أيضًا بعضهم بأيدي بعض. على المرء أن يكون قويًّا جدًّا كي يكون قد تتسبب في وجود العناكب، التي تغزل شباكًا لتصطاد الذباب؛ ولكن هذا لا يشكِّل القدرة الكلية أو القوة اللانهائية.

  • (٧)

    لو كان الكائن الأعظم لا نهائي القدرة فما من سبب يُفسِّر لماذا لم يكن ينبغي أن يجعل كل الحيوانات الحساسة لا نهائية السعادة. لم يفعل ذلك؛ ولذا لم يكن قادرًا.

  • (٨)

    لقد ضلت كل طوائف الفلاسفة أخلاقيًّا وماديًّا. لم يبقَ إلا الإقرار بأن الله تصرف على النحو الأفضل ولم يكن قادرًا على التصرف بطريقة أفضل.

  • (٩)

    هذه الضرورة تُسوِّي كل الصعاب وتُنهي كل المجادَلات. ليست لدينا الجسارة لنقول: «كل شيء خير.» لكنَّنا نقول: «كل شيء أقل ما يُمكن سوءًا.»

  • (١٠)

    لماذا يموت طفل في رحم أمه في أحيان كثيرة؟ لماذا يَبقى آخر، كان من سوء حظه أن يولد، ويتعذَّب طوال عمره، ويُقضى عليه بموت مرعب؟

لماذا فسد مصدر الحياة في كل أرجاء العالم منذ اكتشاف أمريكا؟ ولماذا يقضي مرض الجدري على ثُمْن الجنس البشري منذ القرن السابع من عصرنا؟ ولماذا تكون المثانة طوال الوقت عرضة لتكوين الحصوات؟ ولماذا الطاعون والحرب والمجاعة والتفتيش؟ تلفَّت في كل اتجاه ولن تجد حلًّا آخر سوى أن كل شيء كان ضروريًّا.

أتحدث هنا إلى الفلاسفة فقط، لا إلى اللاهوتيين. نحن نعلم جيدًا أن الإيمان هو الخيط في المتاهة. نعلم أن سقوط آدم وحواء، والخطيئة الأصلية، والقوة الهائلة الممنوحة للشيطان، والتفضيل الذي أنعَم به الكائن الأعظم على الشعب اليهودي، والاستغناء بالمعمودية عن الختان، كل ذلك يُشكِّل الإجابات التي تفسِّر كل شيء. لقد تجادَلنا فقط ضد زرادشت لا ضد جامعة قلنبرية التي نخضع لها في مقالاتنا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤