التحيزات

التحيُّز هو رأي بلا حُكم. هكذا يُلهم الناس أطفالهم في العالم بأجمعه بكل تلك الآراء التي يَرغبون فيها قبل أن يستطيع الأطفال أن يحكموا.

هناك بعض التحيُّزات العامة الضرورية التي تصنع الفضيلة حقًّا. يُعلَّم الأطفال في جميع البلدان أن يعرفوا الله المُثيب المعاقب، وأن يحترموا وأن يُحبوا أباهم وأمهم، وأن ينظروا إلى السرقة على أنها جريمة، والكذب الأناني على أنه رذيلة قبل أن يُمكنهم أن يخمِّنوا ماهية الرذيلة والفضيلة.

هناك إذًا، بعض التحيُّزات الجيدة جدًّا، وهي تلك التي يُصدِّق عليها العقل حينما يفكر المرء.

ليست العاطفة تحيُّزًا بسيطًا؛ إنها شيء أشد قوة. لا تحب الأم ابنها لأنها لُقِّنت أنها يجب أن تحبه، إنها تُحبه رغمًا منها تمامًا. ليس من قبيل التحيُّز أنك تُهرَع لنجدة طفل مجهول يوشك على السقوط في هاوية، أو على أن يأكله وحش.

لكن من قبيل التحيُّز أنك ستحترم رجلًا مرتديًا ثيابًا معينة، يمشي برزانة، ويتحدث كذلك. لقَّنك والداك أنك يجب أن تنحني أمام هذا الرجل، أنت تحترمه قبل أن تعلم ما إن كان يستحق احترامك، وتكبر عُمرًا ومعرفةً، وتفهم أن هذا الرجل دجَّال غارق في كبريائه وأنانيته ومَكْره؛ تَحتقر ما كنت تُبجِّله، ويتنازل التحيُّز للحكم. من قبيل التحيز صدَّقتَ تلك الأساطير التي كانوا يقصونها عليك في المهد؛ فقد تلقنت أن التيتان شنوا حربًا على الآلهة، وأن فينوس كانت عاشقةً لأدونيس، ولما بلغتَ الثانية عشرة قبلتَ تلك الأساطير على أنها حقائق، وحينما بلغتَ العشرين نظرتَ إليها على أنها استعارات بارعة.

دعنا نفحص باختصار أنواعًا مختلفة من التحيُّزات لنُرتِّب أمورنا، ربما سنكون مثل أولئك الذين أدركوا أنهم احتسبوا مكاسب وهمية في زمن نظريات جون لو.

(١) تحيزات الحواس

أليس غريبًا أن تخدعنا أعيننا دائمًا حتى وإن كان لدينا نظر ثاقب، وأن آذاننا على العكس من ذلك لا تخدعنا؟ دع أذنك المطَّلعة جيدًا تسمع ذلك: «أنت جميل. أحبك.» واضح تمامًا أن شخصًا ما لم يقل: «أكرهك. أنت قبيح.» لكنك ترى مرآة ناعمة، ثم يتضح لك أنك مخطئ؛ إذ ترى أنها ذات سطح غير مستوٍ تمامًا. ترى الشمس وكأن قُطرها قدَمان تقريبًا، ويَثبُت أنها أكبر بمليون مرة من الأرض.

يبدو أن الله وضَع الحقيقة في أذنيك، والخطأ في عينيك، لكن ادرس البصريات وسترى أن الله لم يخدَعك، وأنه يتعذَّر على الأجسام أن تبدو لك بطريقةٍ غير التي تراها بها في الوضع الحالي للأشياء.

(٢) التحيزات المادية

تُشرق الشمس، وكذلك القمر، والأرض ساكنة؛ هذه تحيزات فيزيائية طبيعية. لكن أن الاستاكوزا جيدة للدم لأنها تكون حمراء حينما تُطهى؛ وأن ثعابين الماء تعالج الشلل لأنها تتلوَّى؛ وأن القمر يؤثر في أسقامنا لأن أحدًا ما لحظ يومًا ما أن رجلًا مريضًا زادت حُمَّاه خلال انحسار القمر؛ فهذه الأفكار وآلاف غيرها هي أخطاء الدجَّالين القدماء الذين حكموا بلا منطق، وحينما انخدعوا، خدعوا غيرهم.

(٣) التحيزات التاريخية

طالما صُدِّقت غالبية الحكايات التاريخية بلا تمحيص، وهذا التصديق تحيُّز. يروي فابيوس بيكتور أنه قبل ولادته بقرون كثيرة، بينما كانت كاهنة بلدة ألبا ذاهبة لتَجلب بعض الماء بدلوها، اغتُصِبت، وأنها ولدت رومولوس وريموس، وأنهما أرضعتهما ذئبة … إلخ. آمن الرومان بتلك الأسطورة، ولم يفحصوا ما إن كانت في ذلك الوقت كاهنات في لاتيوم، وما إن كان من المُحتمل أن تغادر ابنة الملك ديرها مع دلوها، وما إن كان من المُحتمل أن تُرضِع ذئبة طفلين بدلًا من أن تفترسهما؛ وهكذا رسَّخ التحيز نفسه.

يكتب راهبٌ أن كلوفيس، وهو في خطر عظيم في معركة تولبياك، أقسم أن يصير مسيحيًّا إن نجا. لكن هل من الطبيعي أن يُخاطب المرء إلهًا غريبًا في مناسبة كتلك؟ ألا يفعل الدين الذي وُلد عليه المرء فعله بأقصى قوته؟ أي مسيحي ذلك الذي لن يخاطب العذراء المقدسة وهو في معركة ضد الأتراك، لا محمد؟ يُضاف لذلك أن حمامة قد جلبَت القارورة المقدَّسة بمنقارها لتمسح كلوفيس بالزيت، وأن ملاكًا جلب شعار الأوريفيليم ليقوده. صدَّق التحيز كل القصص الصغيرة من هذه الشاكلة. أولئك الذين يفهمون الطبيعة البشرية يعرفون جيدًا أن كلوفيس الغاصب ورولون (أو رول) الغاصب تحوَّلا إلى المسيحية من أجل أن يحكما المسيحيين بمزيد من الاطمئنان، تمامًا كما تحول الأتراك الغاصبون إلى الإسلام من أجل أن يحكموا المسلمين بمزيدٍ من الاطمئنان.

(٤) التحيزات الدينية

لو أن مربيتك أخبرتك أن سيريس تحكم على المحاصيل، أو أن فيستنو وإكساكا تجسَّدا في هيئة رجال أكثر من مرة، أو أن سامونوكودوم نزل ليقطَع غابة، أو أن أودين ينتظرك في كهفه بالقرب من جتلاند، أو أن محمدًا أو أحدًا آخر قام برحلة في السماء، وإن أتى في النهاية مُعلِّمك ليسوق إلى عقلك ما طبعَته مُربيتك داخله فستحتفظ بذلك طوال العمر. إن رغب حُكْمك أن يعارض تلك التحيزات، فسيَصرخ جيرانك، وعلى رأسهم زوجات جيرانك: «ملعون مُزدرٍ» ويَطردونك؛ وسيتهمك درويشك — خشية أن يرى دخله يتناقص — أمام القاضي، وسيحكم القاضي بخوزقتك لو استطاع؛ لأنه يحب أن يسود على حمقى، ويعتقد أن الحمقى يُطيعون بشكل أفضل من الآخرين، وسيستمر ذلك حتى يبدأ جيرانك والدرويش والقاضي يفهمون أن الحماقة لا تجدي، وأن الاضطهاد مَقيت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤