النفس

(١) القسم الأول

هذا مصطلح غامض مُبهَم، يُعبِّر عن مبدأ مجهول لآثار معروفة نحسُّها فينا. تتماثل كلمة «نفس» مع كلمة «أنيما» اللاتينية، ومع كلمة «نِوْما» الإغريقية، ومع المصطلح الذي استخدمتْه كل الأمم لتُعبِّر عما لم تفهمه أفضل مما نفهمه بأي حال.

وهي تدلُّ في المعني الصحيح والحرفي للاتينية واللغات المُشتقة من اللاتينية على «ذلك الذي يتحرك». هكذا تكلم الناس عن نفس البشر، والحيوانات، وأحيانًا النباتات؛ ليُشيروا إلى أساس نموِّها وحياتها. لم يكن لدى البشر أبدًا سوى فكرة مرتبكة عن هذه الكلمة وهم ينطقونها، كما يحدث حينما يقال في سفر التكوين: «وجبَل الرب الإله آدم ترابًا من الأرض ونفخ في أنفه نسمة حياة فصار آدم نفْسًا حية.» وكما يقال إن «نفس الحيوانات في الدم»؛ وكما يقال «لا تقتلوا نفسي»، وما إلى ذلك.

هكذا اعتُبرت النفس أصل الحياة وسببها، بل الحياة ذاتها. ولهذا تصوَّرت كل الأمم المعروفة طويلًا أن كل شيء كان يموت مع الجسد. إذا استطاع المرء أن يستخلص أي شيء في فوضى التواريخ القديمة، فسيبدو أن المصريين، على الأقل، كانوا أول من ميَّزوا بين الذكاء والنفس، وقد تعلم اليونانيون منهم التمييز بين عقلهم، νοῦς، ونفسهم، πνεῦμα، وروحهم، σкιά. واتبع اللاتينيون النموذج نفسه؛ إذ ميَّزوا بين العقل والنفس. وفي النهاية، أصبحنا نحن أيضًا نُميِّز بين نفسنا وفهمنا. ولكن، هل هذا الذي هو أساس حياتنا مختلف عن ذلك الذي هو أساس أفكارنا؟ أهو الكائن نفسه؟ وهل يُشبه هذا الذي يوجهنا ويَمنحنا الإحساس والذاكرة ذلك الذي هو في الحيوانات سبب الهضم، وسبب أحاسيسها، وذاكرتها؟

ها هو الموضوع الأبَدي لجدالات البشر. وأقول موضوع أبدي؛ لأنه ليس لديَّ أيُّ فكرة أولى يمكن أن نبدأ منها في هذا التمحيص، ولا يسعنا إلا أن نظلَّ إلى الأبد في متاهة الشك والتخمين الواهي.

ليس لدينا أصغر درجة يمكن أن نضع القدم عليها لكي نصل إلى أدنى معرفة لما يجعلنا أحياءً، وما يجعلنا نفكر. وأنَّى لنا أن نعرف؟ كان ينبغي علينا أن نرى الحياة والفكر وهما يدخلان جسدًا. هل يعرف أب كيف أنتج ابنه؟ هل تعرف أم كيف حبلت به؟ هل استطاع إنسانٌ قطُّ التكهُّن كيف يفعل، وكيف يستيقظ وكيف ينام؟ هل يعرف أي إنسان كيف تُطيع أطرافه إرادته؟ هل اكتشف أي إنسان بأي فن تُمَيَّز الأفكارُ في دماغه وتنبثق منها وفق أمره؟ إنها آلات ذاتية الحركة هشَّة، تحركها اليد الخفية التي توجهنا على مسرح العالم، فمَن منا كان قادرًا على اكتشاف الخيط الذي يوجهنا؟

نحن نجرؤ على التساؤل عما إن كانت النفس «روحًا» أم «مادة»، وما إن كانت تنشأ من العدم في وقت ميلادنا، وما إن كانت بعد أن تُنفَخ الحياة فينا ليوم واحد على الأرض تعيش بعدنا إلى الأبد. هذه الأسئلة تبدو سامية؛ فما هي؟ أسئلة بشرٍ عميان يسألون عميانًا آخرين: «ما هو النور؟»

حينما نرغب في تعلُّم شيء بالتقريب عن قطعة من المعدِن، نضعها في بوتقة على النار. لكن هل لدينا بوتقة نستطيع أن نضع فيها النفس؟ يقول امرؤ: «النفس هي الروح.» لكن ما هي الروح؟ قطعًا، لا أحد يعرف. إنها كلمة خالية من المعنى لدرجة أن المرء يُضطر إلى أن يقول إن الروح ليست كذا، بدلًا من أن يقول إن الروح هي كذا. يقول آخر: «النفس مادة»، لكن ما هي المادة؟ إنما نعلم بعض تجلياتها وبعض خصائصها، ولا يبدو أن أيًّا من هذه الخصائص أو من هذه التجليات له أدنى صِلة بالفكر.

تقول: «إن الفكر شيء مُتمايز عن المادة»، ولكن ما دليلك على ذلك؟ هل لأن المادة قابلة للتجزئة وقابلة للتشكُّل، والفكر ليس كذلك؟ ولكن من أخبرك أن المبادئ الأولى للمادة كانت قابلة للتجزئة ومتشكِّلة؟ محتمَل جدًّا أنها لم تكن كذلك، تذكر طوائف كاملة من الفلاسفة أن عناصر المادة لم يكن لها أبدًا شكل أو امتداد. تَصيح بنبرة المنتصر قائلًا إن «الفكر ليس خشبًا ولا حجرًا ولا رملًا أو معدِنًا؛ لذا فالفكر لا ينتمي إلى المادة.» أيها المُفكِّرون الضِّعاف الطائشون! إن الجاذبية ليست خشبًا ولا رملًا ولا معدِنًا ولا صخرًا؛ والحركة والنمو والحياة ليست هذه الأشياء أيضًا، ومع ذلك فالحياة والنمو والحركة والجاذبية تُعَد مادة. والقول بأن الله لا يُمكنه أن يجعل المادة تُفكر يعني قولَ أكثرِ أسخفِ الأشياء وقاحةً، الذي لم يجرؤ أحد قطُّ على التفوه به في أفضل مدارس العَتَه. لسنا متأكِّدين من أن الله خلق المادة هكذا، نحن متأكِّدون فقط من أنه يستطيع ذلك. ولكن ما المهم في كل ما قيل، وكل ما سيُقال عن النفس؟ ما أهمية أن يُطلَق عليها طاقة أو جوهرًا أو وهجًا أو أثيرًا؟ أنها ظلت كونية، أو غير مخلوقة، أو عابرة … إلخ؟

في تلك المسائل المتعذَّر بلوغها على العقل، ما أهمية روايات خيالاتنا المرتابة هذه؟ ماذا يهم أن آباء القرون الأربعة الأولى اعتقدوا أن النفس جسدية؟ ماذا يُهم أن ترتليانوس — بتناقضه المعهود — قرَّر أنها جسدية، ومُشكَّلة، وبسيطة في الوقت نفسه؟ لدينا ألف سبب لنجهل ذلك، وما من سبب واحد يمكنه أن يمنحنا بصيصًا من الاحتمالية.

كيف يمكن، إذًا، أن نكون بهذه الجرأة لنجزم بماهية النفس؟ نعرف قطعًا أننا نوجد، وأننا نشعر، وأننا نفكر. لكن هل نودُّ الذهاب خطوة أبعد من ذلك؟ نسقط في هاوية مُبهَمة، وفي هذه الهاوية ما زلنا مُتهوِّرين بجنون لنتنازع حول ما إن كانت تلك النفس التي ليس لدينا أدنى فكرة عنها خُلِقت قبلنا أم معنا، وما إن كانت تفنى أم إنها خالدة!

إن بند «النفس» وكل البنود ذات الطبيعة الميتافيزيقية يجب أن يبدأ بخضوع مُخلَص لعقائد الكنيسة التي لا جدال فيها. الوحي أكثر جدارة في ذلك بلا شك من الفلسفة بأكملها. النظريات تُدرِّب العقل؛ لكن الإيمان يُضيئه ويُرشده.

ألا نتفوَّه كثيرًا بكلمات ليست لدينا عنها سوى فكرة مُرتبكة، أو حتى ليست لدينا فكرة عنها على الإطلاق؟ أليست كلمة النفس مثالًا لذلك؟ حينما يُعطَّل صمام المِنفاخ الذي يستخدمونه لتغذية النيران، وحينما يخرج الهواء المحبوس في المنفاخ من منفذ آخر غير متوقَّع في هذا الصمام، بحيث لا يظل مضغوطًا أمام الذراعَين، ولا يُدفَع بقوة نحو المَوقد الذي يجب أن يشعله، يقول الخدم الفرنسيون: «فاضت نفس المنفاخ». هم لا يعلمون عنها أكثر من ذلك، ولا يُمكن أن يشغلهم هذا السؤال.

يقول البستاني: «نفس النباتات»، ويعتني بها جيدًا دون أن يعرف ماذا يُقصد بهذا المُصطلح.

يَضبط صانع الكمان وضع «روح الكمان» ويَسحبه إلى الأمام أو إلى الخلف من تحت الفرسة في بطن الآلة؛ قطعة ضئيلة من الخشب، إن نقصَت أو زادت، تمنح الآلة أو تسلبها كل رُوحها الهارمونية.

لدينا الكثير من الصناعات التي يمنح فيها العاملون صفة «النفس» أو «الروح» لآلاتهم. لم يُسمع أبدًا أحد منهم يتجادل حول معنى تلك الكلمة، ولكن ليس الأمر كذلك مع الفلاسفة.

بالنسبة إلينا، تُشير كلمة «نفس» إلى كل ما يتحرك. أطلق أجدادنا الكلتيوين على رُوحهم كلمة seel التي أُخِذت منها الكلمة الإنجليزية soul والألمانية seel. ولم يتعارَك التيوتونيون والبريطونيون القدماء في جامعاتهم حول هذا التعبير.
ميَّز اليونانيون بين ثلاثة أنواع من النفس؛ أولًا: سايك، ψυχή، وهي التي تشير إلى النفس الحساسة، نفس الأحاسيس؛ ولهذا كان لدى «الحب» ابن أفروديت الكثير من العاطفة تجاه «النفس»؛ ولهذا أحبَّته النفس بقوة. ثانيًا: نِوْما، πνεῦμα، وهي النَّفَس الذي يمنح الحياة والحركة للآلة كلها، وهي التي تُرْجمت إلى سبريتوس، أو روح، وهي كلمة مُبهَمة أعطيت ألف معنًى مختلف. ثالثًا: نوس، νοῦς، وتعني الذكاء.

كان لدينا إذًا ثلاث أنفس، دون أن يكون لدينا أدنى فكرة عن أيٍّ منها. يُقرُّ القديس توما الأكويني (مجموعة أعمال القديس توما. طبعة ليون، ١٧٣٨م) بتلك النفوس الثلاث بصفته مشَّاءً، ويميز بين كل من هذه النفوس في ثلاثة أجزاء. السايك في الصدر، والنِّوْما موزعة في أنحاء الجسد كله، والنوس في الرأس.

كان هناك أساس في فوضى الأفكار، مع ذلك. لحظ البشر أنه أثناء شعورهم بعواطف الحب والكره والغضب والخوف تُحَفَّز أعضاؤهم الداخلية على الحركة. الكبد والقلب محلٌّ للعواطف. وإذا فكَّر المرء بعمق فإنه يشعر بالكد في أعضاء الرأس؛ لذا فالنفس المُفكِّرة كانت في الرأس. وبلا تنفُّس ما من نمو ولا حياة؛ لذا فالنفس الحيوية موجودة في الصدر الذي يستقبل نَفَس الهواء.

حينما كان الناس يرَوْن في أحلامهم أقاربهم الموتى أو أصدقاءهم، كان عليهم أن يتساءلوا عما ظهَر لهم. لم يكن الجسد الذي تلف في محرقةٍ جنائزية أو الذي ابتلعه البحر وأكلته الأسماك. لكنه كان شيئًا آخر؛ ولذلك اعتقدوا — بسبب رؤيتهم إياه — أن الميت تكلَّم، وأن الحالم وجَّه إليه الأسئلة. أكان السايك أم النِّوما أم النوس هو من اتصل بالمرء في الحلم؟ تخيَّل امرؤ شبحًا، شكلًا هوائيًّا. كانت سكيا، σкlά، كانت ديمون، δαίμων، شبحًا من الظل، نفسًا صغيرة من الهواء والنار، لا محدودة جدًّا، تجوَّلَت في مكان لا أعرفه.

في النهاية، حينما أراد المرء أن يمعن النظر في الأمر، أصبح ثابتًا أن هذه النفس جسَدية، وأن العالَم القديم كله لم تكن لديه أي فكرة أخرى. أخيرًا، جاء أفلاطون الذي جعل هذه النفس سامية لدرجة أنه من المشكوك فيه أنه لم يفصلها تمامًا عن المادة، ولكن ذلك صنَع مشكلة لم تُحلَّ أبدًا حتى أتى الإيمان لتنويرنا.

عبثًا يقتبس الماديون من بعض آباء الكنيسة الذين لم يُعبِّروا عن أنفسهم بدقة. يقول القديس إيريناؤس (المجلد الخامس، الفصلان السادس والسابع) إن النفس هي فقط نَفَس الحياة، وإنها غير مادية فقط بمقارنتها مع الجسد الفاني، وإنها تحفظ هيئة الإنسان حتى يمكن التعرف عليه.

وعبثًا يُعبِّر ترتليانوس عن أفكاره قائلًا: «إن جسدية النفس تُشرق ساطعة في الإنجيل» («عن النفس»، الفصل السابع)؛ لأنه لو لم يكن للنفس جسم، لما كانت لصورة النفس صورة الجسد.

عبثًا يُسجل رؤيا المرأة المقدَّسة التي رأت نفْسًا مُشرقة للغاية بلون الهواء.

وعبثًا يقول تاتيِن في عجالة («خطاب إلى الإغريق»، ٢٣ تقريبًا): إن نفس الإنسان مكوَّنة من أجزاء كثيرة.»

وعبثًا يُقتبَس من القدِّيس هيلاريوس (في تفسير سانت هيلاريوس للقديس متى): «ما من شيء مخلوق ليس ماديًّا، سواء في السماء أو على الأرض، أو بين ما هو مرئي أو ما ليس مرئيًّا، فكل شيء مُكَوَّن من عناصر، والأنفس سواء أكانت تسكن الأجساد أم تَنبعث منها، لها دائمًا جوهر مادي.»

عبثًا يقول القديس أمبروز في القرن السادس («عن إبراهيم» المجلد الثاني، الفصل الثامن): «لا نعرف إلا المادة، باستثناء الثالوث المقدَّس وحده.»

قررت هيئة الكنيسة بأكملها أن النفس غير مادية. ووقع هؤلاء القديسون في خطأ كان شائعًا في ذلك الوقت؛ فقد كانوا بشرًا، ولكنهم لم يخطئوا أخلاقيًّا لأن هذا معلَن بوضوح في الأناجيل.

لدينا لذلك حاجة واضحة لقرار من الكنيسة التي لا تخطئ، بشأن هذه الأمور في الفلسفة، فليست لدينا من تلقاء أنفسنا بالفعل أيُّ فكرة كافية عما يُدعى «روحًا خالصة» وما يُدعى «مادة». الروح الخالصة تعبير لا يُعطينا أيَّ فكرة، ونحن نعرف المادة فقط ببضع ظواهر. لكننا نعرفها بشكلٍ ضئيل حتى إننا ندعوها «جوهرًا». حسنًا، إن كلمة جوهر تعني «ما هو تحت»، ولكن ما هو تحت سيبقى خفيًّا دائمًا عنا. ما هو تحت هو سرُّ الخالق، وسر الخالق هذا في كل مكان. نحن لا نعلم كيف نستقبل الحياة، ولا كيف نمنحها، ولا كيف ننمو، ولا كيف نهضم، ولا كيف ننام، ولا كيف نُفكِّر، ولا كيف نشعر.

إن الصعوبة الهائلة تكمن في أن نفهم كيف يُمكن أن يملك كائن، أيًّا ما يكن، أفكارًا.

(٢) القسم الثاني

اتَّبع مؤلفُ مقالة النفس في «الموسوعة» جاكلوتَ بدقَّة، لكن جاكلوت لا يُعلِّمنا شيئًا؛ إنه يعارض أيضًا لوك لأن لوك المُتواضع قال (المجلد الخامس، الفصل الثالث، الفقرة السادسة): «ربما لن يكون بإمكاننا أبدًا أن نعرف ما إن كان أيُّ موجودٍ ماديٍّ محضٍ يُفكر أم لا؛ لأنه يستحيل علينا، بتأملات أفكارنا بلا وحي، أن نكتشف ما إن كان القدير لم يَمنح بعض أنظمة المادة، المنظَّمة بدقة، قدرة على الإدراك والتفكير، أو شيئًا آخر ملحقًا ومثبتًا بالمادة، شديد التنظيم؛ جوهرًا مفكِّرًا غير مادي. وأنه، فيما يتعلَّق بأفكارنا، ليس أبعد كثيرًا عن فهمنا أن ندرك أن الله يستطيع إن شاء أن يزيد على المادة ملكة التفكير، من أنه ينبغي أن يُضيف إليها جوهرًا آخر ذا قدرة على التفكير؛ ولأننا لا نعرف أين يتكوَّن التفكير، ولا لأي نوع من الجواهر شاء القدير أن يمنح تلك القوة التي لا يمكنها أن تكون في أي مخلوق إلا بمحض مشيئة الخالق ورضاه الطيبَين. فأنا لا أرى أيَّ تناقض في أن الكائن المفكر الأزلي من شأنه إن شاء أن يمنح لأنظمة معينة من المادة المجردة من الإحساس المخلوقة، ويضع معها كيفما يراه مناسبًا، درجات من الإحساس والإدراك والفكر.»

كانت هذه كلمات رجل مُتعمِّق متديِّن مُتواضع.

نعرف بالطبع عن تلك النزاعات التي وجب خوضها ثمنًا لهذا الرأي الذي بدا جريئًا، لكنه لم يكن في الحقيقة سوى نتيجة لاقتناعه بالقدرة الكلية لله وبضعف الإنسان. لم يقل إن المادة تفكِّر، لكنه قال إننا لا نملك ما يكفي من المعرفة لنُثبت أنه يستحيل على الله أن يضيف عطية الفكر للمخلوق المجهول الذي يُدعى «المادة»، بعد منْحها عطية الجاذبية وعطية الحركة، وكلاهما غامض بالمثل.

يقينًا، لم يكن لوك الوحيد الذي طرَح هذا الرأي؛ فقد كان ذلك رأي كل الحضارات القديمة التي أكدت، فيما يتعلق بالنفس بوصفها مادة غير محدَّدة للغاية، أن المادة، بناءً على ذلك، يمكن أن تشعر وتفكر.

وكان رأي جاسندي، كما يمكن أن نراه في اعتراضاته على ديكارت، يقضي بما يلي: «صحيح أنك تعرف ما تُفكِّر فيه، لكنك تجهل من أي نوع من الجواهر أنت يا مَن تُفكر. لذا، على الرغم من أن عملية التفكير معروفة لك، فمبدأ وجودك محجوبٌ عنك، وأنت لا تعرف ما هي طبيعة هذا الجوهر، وهذه إحدى العمليات التي يجدر أن تُفكِّر بها. أنت تُشبه رجلًا أعمى يشعر بحرارة الشمس يعتقد أن لديه فكرة واضحة محدَّدة عن الأجرام السماوية؛ لأنه لو سُئل ما هي الشمس لتمكَّن من الرد بأنها شيء يشع حرارة … إلخ، وهكذا.»

يُكرِّر جاسندي نفسه في كتابه «الفلسفة الإبيقورية» مرارًا أنه ما من دليل رياضي على الطبيعة الروحية الخالصة للنفس.

يقول ديكارت في إحدى خطاباته إلى الأميرة إليزابيث البالاتينية: «أعترف أنه بالمنطق الطبيعي وحده يُمكننا أن نقوم بكثير من التخمينات حول النفس ونمتلئ بالآمال، ولكن ما من يقين.» وفي تلك العبارة يُعارض ديكارت في رسائله ما يُقدمه في أعماله، وهو تناقضٌ مألوف مع الأسف.

قصارى القول أننا رأينا كيف أنه بينما كان جميع آباء الكنيسة في القرون الأولى يؤمنون بأن النفس خالدة؛ فقد آمنوا في الوقت ذاته بأنها مادية. لقد اعتقدوا أنه سهل على الله أن يحفظ كما يَخلق. قالوا: «خلَق الله النفس مُفكِّرة، وسوف يحفظها مفكرة.»

أثبت مالبرانش على نحو جيد للغاية أننا ليست لدينا أيُّ فكرة عن أنفسنا، وأن الأشياء غير قادرة عن منحنا الأفكار؛ ومن ذلك يَستنتج أننا نرى كل شيء في الله. يُماثل هذا في الحصيلة جعْل الله مؤلِّف كل أفكارنا، فبأي شيء يُمكننا أن نرى فيه لو لم تكن لدينا أدوات للرؤية؟ وهذه الأدوات لا يحفظها ولا يُوجهها إلا هو. هذه النظرية متاهة: يقودك أحد مساراتها إلى اسبينوزا، وآخر إلى الرواقية، وآخر إلى الفوضى.

حينما يملك امرؤ حجة جيدة عن الروح والمادة، ينتهي المرء دائمًا بالافتقار للتفاهم مع الآخرين. ما من فيلسوف كان قادرًا بقوَّته على أن يرفع هذا الحجاب الذي بسطَته الطبيعة فوق كل المبادئ الأولى للأشياء. يجادل البشر، وتعمل الطبيعة.

(٣) القسم الثالث

عن نفس الحيوانات وعن بعض الأفكار التافهة

قبل تلك النظرية الغريبة التي تَفترض أن الحيوانات محض آلات بلا إحساس، لم يفكر البشر أبدًا أن الوحوش لديها نفس غير مادية. لم يُجازف أحد لدرجة أن يقول إن محارة تملك نفْسًا روحية. اتفق الجميع في سلام على أن الحيوانات تلقَّت من الله الشعور والذاكرة والأفكار، لكن ما من روح خالصة. لم يُسئ أحد استخدام هبة المنطق إلى حدِّ القول إن الطبيعة منحت الحيوانات كل أعضاء الشعور حتى لا تشعر بأي شيء. لم يقل أحدٌ إنها تصرخ حينما تُجرح، وتطير حينما تُطارد، من دون أن تشعر بألم أو خوف.

في ذلك الوقت لم يُنكر الناس القدرة الكلية لله. كان قادرًا أن يمنح المادة المتعضية للحيوانات السرورَ والألم والتذكُّر وتوليفةً من بضع أفكار. كان قادرًا أن يمنح لكثير منها، مثل القرد والفيل وكلب الصيد، موهبة إتقان الفنون التي تعلموها، ولم يكن فقط قادرًا على منحِ آكلات اللحوم كلها تقريبًا موهبة القتال على نحو أفضل في الأعمار المتقدِّمة المحنَّكة مما في سن الشباب المبالغ في الثقة، لم يكن فقط قادرًا على أن يفعل هذه الأشياء، ولكنه فعلها، والكون يشهد بذلك.

أكد بيريرا وديكارت أن الكون كان مخطئًا، وأن الله كان محتالًا؛ فقد منَح الحيوانات كل أدوات الحياة والإحساس؛ لتبقى في الوقت ذاته بلا حياة أو إحساس، حقًّا! لكني لا أَعرف أي فلاسفة مزعومين هؤلاء الذين اندفعوا، من أجل الرد على وهم ديكارت، في الوهم المقابل؛ فقد ادَّعوا تلك الرُّوح الخالصة للضفادع والحشرات.

بين هذين الجنونَيْن، الجنون الرافض لإحساس أعضاء الإحساس، والآخر الذي يُسْكن روحًا خالصة في بَقة، فكَّر شخصٌ ما في طريق وسيط. كان ذلك هو الغريزة. وما الغريزة؟ عجبًا! هي صيغة هيئة جوهرية، إنها هيئة بلاستيكية. إنها لا أعرف ماذا! إنها غريزة. سأُساند رأيك طالما أنك ستُسمِّي معظم الأشياء «لا أعرف ماذا»، طالما أن فلسفتك تبدأ وتنتهي بعبارة «لا أعرف ماذا»، سأقتبس لك من بريور في قصيدته عن تفاهة العالم.

إن مؤلف مقالة «النفس» في «الموسوعة» يَشرح فكرته كالآتي: «أصوِّر نفس الحيوانات وكأنها جوهر غير مادي وذكي، ولكن من أي نوع؟ يبدو لي أنها يجب أن تكون مبدأً نشطًا لديه حواس … وهذا فقط ما لديها. لو تفكَّرنا في طبيعة نفس الحيوانات فهي تُمدنا بقاعدة يمكن أن تقودنا لأن نفكِّر في أن روحانيتها ستُنقذها من الفناء.»

لا أعلم كيف يصوِّر امرؤ جوهرًا غير مادي. أن تُصوِّر شيئًا يعني أن تصنع صورة له، وحتى الآن لم يكن أحد قادرًا على رسم الروح. فيما يتعلق بكلمة «أصوِّر»، أريد من الكاتب أن يفهم عبارة «أنا أدرك»؛ وإذ أتحدَّث عن نفسي أعترف بأنني لا أدركها. وأعترف بقدر أقل بأن نفسًا روحانية يمكن إفناؤها لأني لا أدرك الخلق ولا العدم؛ لأني لم أحضر قطُّ مجلس الله؛ ولأني لا أعلم شيئًا على الإطلاق عن مبادئ الأشياء.

إن أردتُ أن أُثبت أن النفس كائن حقيقي، يَمنعني شخصٌ ما بإخباري بأنها مَلَكة. إن زعمتُ أنها ملَكة وأن لديَّ ملَكة التفكير، يقال لي إنني مُخطئ؛ وإن الله، السيد الأبدي للطبيعة كلها، يفعل كل شيء بداخلي، ويوجِّه جميع أفعالي وأفكاري، وإنني إن كنت أنتجتُ أفكاري، فيجدر بي أن أُعرِّف الفكر الذي سيكون بداخلي في الدقيقة القادمة؛ وهو ما لا أعرفه مطلقًا؛ وإنني محض إنسان أوتوماتيكي مُحمَّل ببعض الأفكار والأحاسيس، تابع بالضرورة، وبين يدي الكائن الأسمى أكثر إذعانًا له بلا حدود من الطين للخزاف.

أعترف بجهلي، وأعترف بأن أربعة آلاف مجلَّد من الميتافيزيقا لن تُعلمنا شيئًا عن ماهية أنفسنا.

قال فيلسوف أرثوذكسي لفيلسوف هرطقي: «كيف كنتَ قادرًا على أن تصل إلى تلك النقطة التي تتخيَّل فيها أن النفس فانية بطبيعتها، وأنها أبدية فقط بمشيئة الله الخالصة؟»

«بخبرتي.»

«كيف! هل أنت ميت؟»

«نعم، مرارًا. عانيت كثيرًا من الصرع في شبابي، ويُمكنني أن أؤكد لك أني كنت ميتًا تمامًا لبضع ساعات. لا إحساس، ولا ذاكرة حتى للدقيقة التي سقطت فيها مريضًا. الشيء نفسه يحدث لي كل ليلة تقريبًا. لا أشعر أبدًا باللحظة المحدَّدة التي أذهب فيها لأنام؛ نومي بلا أحلام تمامًا. لا يُمكنني أن أتخيل بالحدس كم مكثتُ نائمًا. أكون ميتًا عادة ست ساعات من الأربع والعشرين ساعة كل اليوم. هذا ربع حياتي.»

أكَّد الأرثوذكسي حينئذ أنه دائمًا ما فكر أثناء نومه، دون أن يعرف شيئًا عن الأمر. أجابه الهرطقي: «أُومِن عن طريق الوحي أني يجب أن أُفكر دائمًا في الحياة الأخرى، ولكني أؤكد لك أني نادرًا ما أفكر في ذلك.»

لم يكن الأرثوذكسي على خطأ في زعمه خلود النفس؛ لأن الإيمان والمنطق يُثبتان هذه الحقيقة، ولكن ربما كان على خطأ في تأكيده أن الإنسان النائم دائمًا ما يفكر.

أقر لوك بصراحة بأنه لم يفكر دائمًا بينما وهو نائم. وقال فيلسوف آخر: «الفكر خصيصة للإنسان، لكنه ليس جوهره.»

دعنا نترك لكل إنسان الحرية والعزاء في البحث عن نفسه، وفقدان نفسه وسط أفكاره.

جيد مع ذلك أن نعلم أنه في عام ١٧٣٠م عانى أحد الفلاسفة١ بشدة من الاضطهاد؛ لاعترافه — مع لوك — بأن فهمه لم يكن يُمارَس في كل لحظة في اليوم والليلة. تمامًا كما أنه لم يكن يستخدم ذراعَيه وقدميه في كل اللحظات. لم يَضطهده جهل المحكمة وحسب، ولكن أُرْخِي العنان للنفوذ الحقود لقلَّة ممن يُدْعَوْن أدباء ضده. وما أنتج في إنجلترا قليلًا من الخلافات الفلسفية، أنتج في فرنسا أخس الأعمال الوحشية؛ فقد عانى رجل فرنسي بسبب لوك.

دائمًا ما كان في وحل أدبنا أكثر من واحد من هؤلاء الوضيعين الذين باعوا أقلامهم، وتآمروا حتى ضد المُحسنين إليهم. ربما تبدو هذه الملحوظة بعيدة نوعًا ما عن موضوع «النفس»؛ لكن هل يجب على المرء أن يُفوِّت فرصة إرعاب أولئك الذين يجعلون أنفسهم غير مستحقين للقب رجال الأدب، الذين يعهرون بما لديهم من عقل وضمير قليلين من أجل مصلحة ذاتية وضيعة، وسياسة متعصِّبة، ويَخونون أصدقاءهم ليتملقوا الحمقى، وينفثون في الخفاء السم الذي يرغب الأقوياء والأشرار في أن يتجرعه المواطنون النافعون؟

باختصار، بينما نعبد الله بكل نفوسنا، دعونا نعترف دومًا بجهلنا العميق بالنفس؛ تلك المَلَكة من الشعور والتفكير التي نملكها من خيره الذي لا ينفد. دعونا نُقر بأن منطقنا الضعيف لا يمكنه أن يسلب الوحي والإيمان شيئًا، ولا أن يَزيدهما شيئًا. دعونا نستنتج بإيجاز أن علينا أن نستخدم هذا الذكاء الذي لا نعرف طبيعته، من أجل إتمام العلوم التي تُعد موضوع «الموسوعة»، تمامًا كصانعي الساعات الذين يستخدمون الزنبركات في الساعات دون يعرفوا ما هو الزنبرك.

(٤) القسم الرابع

عن النفس وعن معرفتنا القليلة

بناءً على بيِّنة معارفنا المكتسبة، جرؤنا على أن نتساءل عما إن كانت النفس خُلِقت قبلنا؛ وما إن كانت تأتي من العدم إلى جسدنا؛ وفي أي عمر سكنت بين المصران الأعور والمستقيم؛ وما إن كانت أتت بالأفكار معها أم استقبلَتْها هناك؛ وما هي تلك الأفكار؛ وما إن كان جوهرها بعد أن أحيَتْنا في بضع دقائق سيعيش من بعدنا إلى الأبد دون تدخُّل الله نفسه؛ وبما أنها رُوح، وبما أن الله روح، فهل هما من طبيعة متشابهة؛ هذه الأسئلة تبدو سامية، فما هي؟ هي أسئلة العميان عن النور.

ماذا علَّمنا الفلاسفة القدماء والمُحدثون كافة؟ طفل أكثر حكمة منهم، فهو لا يفكر في الأشياء التي لا يمكنه أن يُشكِّل عنها أي مفهوم.

ستقول إنه مُحزن لفضولنا الذي لا يُمكن إشباعه، ولظمئنا الذي لا يكل للسعادة أن نكون جهلة بأنفسنا هكذا! أوافق، وثمة أمور أكثر مُحزِنة، لكني سأجيبك بالآتي:

لك حتف إنسان، ورغبات إله (أوفيد، «التحولات،» ٢: ٥٦).

مرة أخرى يبدو أن طبيعة كل مبدأ للأشياء هي سر الخالق. كيف يُمكن للهواء أن يحمل الصوت؟ كيف تُخلق الحيوانات؟ كيف تُطيع أطرافنا دومًا إراداتنا؟ أي يد تضع الأفكار في ذاكرتنا، وتحفظها هناك وكأنها في سجل، وتسحبها أحيانًا حينما نريدها، وأحيانًا رغمًا منَّا؟ طبيعتنا، وطبيعة الكون، وطبيعة أقل نبتة، كل شيء بالنسبة إلينا غارق في هُوَّة مظلمة.

الإنسان كائن يفعل، ويشعر، ويفكر. هذا كل ما نعرفه عنه، ولم تُعْطَ لنا معرفة ما يجعلنا نشعر ونفكر، أو ما يجعلنا نفعل، أو ما يجعلنا نوجد. إن ملَكة الفعل مبهمة بالنسبة إلينا تمامًا كما هي ملَكة التفكير. صعوبة إدراك كيف تكون لجسد من الطين مشاعر وأفكار هي أقل من صعوبة إدراك كيف تكون لأي كائن، أيًّا ما يكن، أفكار ومشاعر.

لدينا في جانبٍ نفسُ أرشميدس، وفي الجانب الآخر نفسُ أحمق؛ أهما من الطبيعة نفسها؟ إن كان جوهرهما هو أن تُفكِّرا، فهما تفكران دائمًا، وباستقلالٍ عن الجسد الذي لا يمكنه الفعل من دونهما. إن كانتا تفكِّران بطبيعتهما، فهل يمكن لنوع النفس التي لا يُمكنها حل مسألة جمع حسابية أن يماثل تلك التي قاست السماء؟ لو كانت أعضاء الجسد هي التي جعلت أرشميدس يُفكر، فلماذا لا يفكر على الإطلاق هذا الأحمق الأشد من أرشميدس بِنية، والأكثر نشاطًا، والذي يؤدِّي كل وظائفه على نحو أفضل؟ تقول إن ذلك لأن دماغه ليس جيدًا كدماغه. ولكنك تفترض افتراضًا؛ فأنت لا تعلم على الإطلاق. لم تُكتَشَف فروق بين الأدمغة السليمة التي شُرِّحت. من المحتمل جدًّا حتى أن يكون مخيخ الأحمق أفضل حالًا من مخيخ أرشميدس الذي سبَق أن اشتغل بقدرٍ مُذهل، وربما بلي وتغضَّن.

لذا دعنا نُلخِّص ما استنتجناه بالفعل، أننا جاهلون بكل المبادئ الأولى. وفيما يتعلق بالجهلة الذين يفخرون أنفسهم بناءً على معرفتهم فهم أدنى كثيرًا من القرود.

والآن، أيها المُتجادلون الغاضبون المُتنازعون، قدِّموا مرافعاتكم بعضكم ضد بعض. اعرضوا إهاناتكم، انطقوا بجُمَلكم. أنتم يا من لا تعلمون كلمة واحدة عن الأمر.

(٥) القسم الخامس

عن مفارقة واربيرتون عن خلود النفس
ألَّف واربيرتون، أسقف جلوسيستر ومُحرِّر أعمال شكسبير وشارحها، مستفيدًا من الحرية الإنجليزية، ومستغلًّا عادةَ رمي الخصوم بالإهانات، أربعة مجلدات؛ ليُثبت أن خلود النفس لم يُذكَر قط في الأسفار الخمسة، وليستنتج من البرهان نفسه أن رسالة موسى مقدَّسة. هذا ملخَّص كتابه الذي يُقدمه هو نفسه في الصفحتَين السابعة والثامنة من المجلد الأول:
  • (١)

    «الاعتقاد بحياة أخرى وبمكافآت وعقوبات بعد الموت ضروري لكل المجتمعات المدنية.

  • (٢)

    اتفق الجنس البشري بأكمله (وهذا ما يُخطئ فيه)، وخصوصًا أمم العصور القديمة الأكثر حكمة والأكثر ثقافة، في الإيمان بهذا الاعتقاد وتعليمه.

  • (٣)
    لا يمكن العثور عليها في أي جزء من شريعة موسى. ومن ثم، فشريعة موسى ذات أصل إلهي. وهذا ما سأثبته بهذَين القياسين المنطقيين:
    • القياس الأول: كل دين، وكل مجتمع لا يتخذ من الإيمان بخلود النفس أساسًا له، لا يمكن الحفاظ عليه إلا بعناية إلهية غير عادية؛ الدين اليهودي لم يتَّخذ من الإيمان بخلود النفس أساسًا؛ لذا فالدين اليهودي حُفظ بعناية إلهية فائقة.
    • القياس الثاني: كل المشرِّعين القدماء قالوا إن دينًا لا يُعلِّم خلود النفس لا يمكن أن يُحفَظ إلا بعناية إلهية فائقة. أسَّس موسى دينًا لا يعتمد على خلود النفس؛ ومن ثم آمن موسى بأن دينه محفوظ بعناية إلهية غير عادية.»

ما هو غير عادي بقدر أكبر بكثير هو زعم واربيرتون الذي كتبه بحروف كبيرة في بداية كتابه. كثيرًا ما انتُقِد بسبب طيشه المُتطرِّف وإيمانه السيئ اللذَين يجرؤ بهما على القول إن المشرِّعين القدماء كافة آمنوا بأن الدين الذي لا يؤسَّس على العقوبات والمكافآت بعد الموت لا يمكن أن يُحفَظ إلا بعناية إلهية غير عادية، ولم يقل أحدهم ذلك قط. لم يُكلِّف نفسه حتى عناء أن يُعطي مثالًا لذلك في كتابه الضخمِ المَحشوِّ بعدد هائل من الاقتباسات الغريبة جميعها عن موضوعه. لقد دفَن نفسه تحت كومة من المؤلِّفين اليونانيين واللاتينيين، القدماء والمُحدثين؛ خوفًا من أن يكشف أحدٌ حقيقته على الجانب الآخر من كومة هائلة من الأظرف. وحينما سبر النقد الغور أخيرًا بُعث من بين كل هؤلاء الموتى ليُحمِّل كل خصومه بالإهانات.

صحيح أنه قرب نهاية المجلد الرابع، وبعد أن مضى عبر مائة متاهة، وقاتل ضد جميع من التقاهم على الطريق، يصل أخيرًا إلى سؤاله العظيم الذي تركه هناك. ويُلقي كل اللوم على سفر أيوب الذي يمر بين الدارسين وكأنه كتابٌ عربي، ويُحاول أن يثبت أن أيوب لم يؤمن بخلود النفس. بعد ذلك يشرح بطريقته كل نصوص الكتب المقدسة التي حاول الناس باستخدامها مُناهَضة هذا الرأي.

كل ما يُمكن للمرء أن يقوله عن ذلك هو أنه إن كان مصيبًا، فلم يكن ينبغي لأسقف أن يكون مصيبًا بهذه الطريقة. كان يجب عليه أن يَشعر أنه ربما يستمد المرء استدلالات خطيرة؛ لكن كل شيء في هذا العالم هو فوضى من التناقُض. هذا الرجل الذي أصبح متهِمًا ومُضطهِدًا، لم يرشَّم أسقفًا بوكالة من رعاية الدولة إلا حالَما فرغ من كتابة هذا الكتاب.

لو كان في سالامانكا، أو قلمرية، أو روما لأُجبِر على التراجع وطلب العفو. أما في إنجلترا، فقد أصبح نبيلًا في منطقة يبلغ دخلها مائة ألف ليرة. كان ذلك كافيًا ليُعدِّل مناهجه.

(٦) القسم السادس

عن الحاجة إلى الوحي

أعظم فائدة ندين بها للعهد الجديد هي أنه كشف لنا عن خلود النفس؛ لذلك كان من العبث أن يُحاول هذا الأخ واربيرتون إخفاء هذه الحقيقة المهمَّة بزعمه المستمر خلال استخدامه موسى في نقل أفكاره أن «اليهود القدماء لم يعرفوا شيئًا عن هذه العقيدة المهمَّة، وأن الصدوقيين لم يُقروا بها في وقت سيدنا يسوع.»

وهو يُؤوِّل بطريقته الكلمات الحقيقية التي وُضِعت في فم يسوع المسيح: «أما قرأتم ما قيل لكم من قبل الله القائل: أنا إله إبراهيم وإله إسحق وإله يعقوب؟ ليس الله إله أموات بل إله أحياء.» (متَّى ٢٢: ٣١، ٣٢). إنه يُعطي لعبرة الرجل الغني الشرير معنًى مناقضًا لكل تعاليم الكنيسة. وفند رأيه شيرلوك، أسقف لندن، وعشرون عالمًا آخر. بل إن الفلاسفة الإنجليز لاموه على فضيحة أسقف أنجليكاني أعلن عن رأيٍ مُناقض لرأي الكنيسة الأنجليكانية. وبعد ذلك يُقرر هذا الرجل أن يعامل هؤلاء الأشخاص على أنهم مزدرون بالمقدَّسات، مثل شخصية أرلكوين في كوميديا «لص البيوت» الذي يرى بعد أن رمى الأثاث من النافذة رجلًا يحمل بعضًا منه؛ فيصرخ بكل قوته: «أوقفوا اللص!»

على المرء أن يُبارك الكشف عن خلود النفس، والمَثوبات والعقوبات بعد الموت، وغير ذلك مما ظلَّت فلسفة الجنس البشري العقيمة مرتابة بشأنه. لم يؤمن قيصر العظيم بشيء من ذلك على الإطلاق، وقد عبَّر عن موقفه بوضوح في مجلس شيوخ مُكتمل، حينما أعلن، لكي يمنع إعدام كاتالينا، أن الموت يترك الإنسان بلا إحساس، وأن كل شيء يموت معه، ولم ينتقد أي شخص هذا الرأي.

انقسمت الإمبراطورية الرومانية بين طائفتين رئيستين؛ الإبيقورية التي أكَّدت أن الإله غير مُجْدٍ للعالم، وأن النفس تفنى مع الجسد. والرواقية التي تعاملت مع النفس على أنها جزء من الإله يلتحم بعد الموت بأصله، بذلك الشيء العظيم التي انبثقَت منه. ولذلك، فسواء أآمن المرء بأن النفس فانية أم بأن النفس خالدة، اتفقت الطائفتان كلتاهما في السخرية من الآلام والعقوبات بعد الموت.

ما زالت لدينا آثار كثيرة من إيمان الرومان هذا. وبفضل هذا الرأي المحفور بعُمقٍ في قلوب كثير من المواطنين الرومان البسطاء، قتَلوا أنفسهم بلا أدنى تردُّد، ولم ينتظروا أن يُسلمهم طاغية إلى مُعْدِميهم.

حتى أكثر الرجال فضيلة، وأولئك الأكثر اقتناعًا بوجود الله، لم يَأمُلوا في ثواب ولم يخافوا من عقاب. كليمندس، الذي أصبح فيما بعد بابا وقديسًا بدأ بنفسه في الشك فيما قاله المسيحيون الأوائل عن الحياة الأخرى، واستشار القديس بطرس في قيسارية. نحن لا نصدق أن القديس كليمندس كتَب التاريخ الذي يُنسب إليه، ولكن ذلك التاريخ يُدلِّل على الحاجة التي كانت لدى الجنس البشري إلى وحيٍ محدَّد. كل ما يُمكن أن يفاجئنا هو أن عقيدة قمعية ومفيدة هكذا تَرَكت فريسةً لكثير من الجرائم المروِّعة أناسًا لديهم القليل من الوقت ليعيشوه، ويرَوْن أنفسهم محصورين بين نوعين من الخلود.

(٧) القسم السابع

نفوس الحمقى والمسوخ

يولد طفل مُشَوَّهٌ معاقًا ذهنيًّا تمامًا، لا يملك أفكارًا، ويعيش بلا أفكار. رأينا نماذج شبيهة بذلك. كيف ينبغي تعريف هذا الحيوان؟ قال الأطباء إنه شيء ما بين الإنسان والبهيمة. وقال آخرون إن لديه نفسًا حساسة، لكنها ليست نفسًا مُفكِّرة. إنه يأكل، ويشرب، وينام، ويستيقظ، ولديه حواس، لكنه لا يُفكر.

أثمَّة حياة أخرى لهذا المخلوق أم لا؟ طُرح السؤال ولم يُجِب أحد عنه إجابة وافية.

يقول بعض المفكِّرين إن هذا المخلوق لابد أن لديه نفسًا؛ لأن أباه وأمه كانت لديهما نفسان. لكن بذلك المنطق يمكن للمرء أن يثبت أنه لو أنه أتي إلى العالم بلا أنف فسيَعتبِر الناس أن له أنفًا لأن أباه وأمه لديهما أنفان.

قد تلد امرأة طفلًا بلا ذقن، وجبهته متقلِّصة داكنة بعض الشيء، وأنفه نحيل مدبَّب، وعيناه مستديرتان، ولا يختلف عن طائر سنونو، إلا أن باقي جسده يشبه أجسادنا. يُعمِّده الوالدان، وبأكثرية الأصوات، يُعَد إنسانًا ذا نفس خالدة. لكن إن كان لدى ذلك المخلوق الضئيل السخيف أظافر مدبَّبة، وفم مثل المنقار، فسيُعلنون أنه مسخ، ولا تكون له نفس، ولا يُعمَّد.

معروف جيدًا أنه في لندن عام ١٧٢٦م كانت هناك امرأة تلد أرنبًا كل أسبوع. لم توجد صعوبة كبيرة في رفض تعميد هذا الطفل على الرغم من الجنون الذي انتشر كالوباء في لندن لثلاثة أسابيع بسبب تصديق أن تلك المرأة الفقيرة المُحتالة كانت تلد أرانب برية. أقسم الجراح الذي كان يعتني بها، وكان يُدعى القدِّيس أندريه، أنه ما من شيء أصدق من ذلك، وصدَّقه الناس. لكن ما السبب الذي جعَل السذَّج يُنكِرون على أطفال تلك المرأة أن تكون لهم أنفس؟ كانت لديها نفس؛ ومن ثم ينبغي أن يكون أطفالها مزوَّدين بأنفس هم أيضًا. سواء أكانت لديهم أذرع أم براثن حيوانات، وسواء أوُلدوا بخطم أم بوجه، أفلا يُمكن للكائن الأعظم أن يهب منحة الفكر والإحساس لكائنٍ ضئيل لا أعرف ما هو، ولدتْه امرأة على هيئة أرنب كما يمنحها لكائن ضئيل لا أعرف ما هو، على هيئة إنسان؟ هل يُمكن للنفس التي كانت مُستعدَّة أن تستقر داخل جنين تلك المرأة أن تعود إلى الفضاء مرة أخرى؟

يُدوِّن لوك ملحوظة ذائعة، عن المسوخ، مفادها أنه لا يجب على المرء أن يَعزو الخلود إلى المظاهر الخارجية لجسدٍ ما، وأن الشكل ليس له علاقة بذلك. ويقول إن هذا الخلود لا يتعلق بشكل وجهه أو صدره أكثر مما يتعلق بطريقة تهذيب لحيتِه أو قصة معطفه.

يسأل لوك: ما هو بالضبط مقياس التشوه الذي تعرف من خلاله ما إن كانت للطفل نفس أم لا؟ ما هي الدرجة المحدَّدة التي لا بد معها من الإعلان أنه مسخ محروم من النفس؟

لكن المرء يسأل عما هو أبعد من ذلك: ما الذي تكونه نفسٌ ليس لديها إلا أفكار رائعة؟ هناك بعض من لا تفارقهم أبدًا الأفكار الرائعة. أيستحقُّون أم لا يستحقون؟ وما العمل مع روحهم النقية؟

ماذا يمكن أن يظن المرء في طفل برأسَيْن وبلا تشوُّه عدا ذلك؟ يقول بعض المفكِّرين إن لديه نفسَين لأن لديه غُدتين صَنَوْبريتَين، وجسمًا ثفنيًّا، ومركزين عصبيَين. يرد آخرون بأنه لا يمكن للمرء أن تكون له نفسان بينما يكون له صدر واحد وسرَّة واحدة.٢

باختصار، طُرِح كثير من الأسئلة عن هذه النفس الإنسانية الضعيفة، وإن كان ضروريًّا أن نجيب عنها جميعًا، فسيُسبِّب لها هذا الفحص من الشخص صاحب هذه النفس ضجرًا لا يُطاق. وقد يحدث لها ما حدث لكاردينال بولينياك في مجمع الأحبار الكاثوليك؛ فبعد أن تعب مدبِّر أعماله من أنه لم يَقدِر قطُّ على جعله يُسوِّي حساباته، خاض الرحلة من روما، وأتى إلى النافذة الصغيرة لحُجرته المثقلة بحزمة هائلة من الأوراق. ظل يقرأ لما يقرب من ساعتين، وفي النهاية، وبعد أن رأى أنه لم يعد يأتيه ردٌّ منه، نظر إلى الأمام. كان الكاردينال قد رحل قبل ساعتين. سترحل نفوسنا قبل أن نتوصل إلى الحقيقة، ولكن فلنكن أمناء أمام الله مهما يكن جهلنا، نحن ومدبِّرو أعمالنا.

هوامش

(١) فولتير نفسه.
(٢) راقب شوفالييه أنجوس، الفلكي المستنير، في حرصٍ، عظاءة ذات رأسين أياما عدة، وأكَّد بنفسه أن العظاءة كانت تملك إرادتين مستقلتَين، متساويتَين تقريبًا في السيطرة على الجسم. حينما كانت العظاءة تُعطى قطعة من الخبز على نحو لا تستطيع معه رؤيتها إلا برأس واحدة كان هذا الرأس يرغب في الذهاب وراء الخبز، والرأس الآخر يرغب في أن يظل الجسد ساكنًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤