الحق

«فقال له بيلاطس: «أفأنتَ إذًا ملك؟» أجاب يسوع: «أنت تقول إني ملك. لهذا قد وُلدت أنا، ولهذا قد أتيتُ إلى العالم لأشهد للحق. كل مَن هو من الحق يسمع صوتي.»

قال له بيلاطس: «ما هو الحق؟» ولما قال هذا خرج أيضًا … إلخ (يوحنا ١٨: ٣٧).

من المحزن للجنس البشري أن بيلاطس قد خرج دون أن ينتظر الإجابة، فينبغي أن نعلم ما هو الحق. كان لدى بيلاطس قليل جدًّا من الفضول. يقول المتهم المَسوق أمامه عن نفسه إنه ملك، أو إنه سيصبح ملكًا، ولا يسأل بيلاطس كيف يمكن أن يكون هذا. إنه القاضي الأعظم باسم قيصر، وله سلطة تقرير الحياة أو الموت. كان واجبه أن يستخرج معنى تلك الكلمات. كان عليه أن يقول: «أخبرني ماذا تفهم من كونك ملكًا. كيف وُلِدتَ لتُصبح ملكًا ولتشهد للحق؟ يقال إن الحق لا يصل إلى آذان الملوك إلا بصعوبة. أنا قاضٍ، ودائمًا ما واجهتُ مشكلة كبيرة في العثور عليه. بينما أعداؤك يَعْوُون ضدك بلا حق، قدِّم لي أي معلومات بهذا الشأن، ستُسدي إليَّ أعظم خدمة أُسْدِيَت إلى قاضٍ، فأنا أفضِّل كثيرًا أن أتعلم كيف أعترف بالحق من أن أنضم إلى مُتذمِّري اليهود الذين يُطالبون بشنقك.»

أكيد أننا لن نتجرأ على التماس ما كان من شأن مؤلِّف الحق كله أن يستطيع الرد به على بيلاطس.

هل كان من شأنه أن يقول: «إن الحق كلمة مجردة يستخدمها أغلب الناس بلا مبالاة في كتبهم وأحكامهم، من أجل الباطل والزور؟» كان من شأن هذا التعريف أن يكون ملائمًا على نحوٍ رائع لكل صناع النظريات. وبالمثل، كلمة «الحكمة» التي عادة ما تُطلق على الحماقة بينما يُطلقون كلمة «حصيف» على شيء لا معنى له.

من ناحية إنسانية، دعونا نُعرِّف كلمة الحق بينما ننتظر تعريفًا أفضل، بأنها «تقرير الوقائع كما هي.»

أفترض أنه لو منح المرء بيلاطس ستة أشهر فقط ليعلمه حقائق المنطق، لأجرى بالقطع هذا القياس الحاسم. يجب ألا ينتزع المرء حياة إنسان لمجرَّد أنه وعظ بخُلُق طيب. حسنًا، الرجل المتهم وعظ على مرأى أعدائه بخلق ممتاز. إذًا يجب ألا يُعاقب بالموت.

ربما كان يجب عليه أن يستنتج هذه الحجة الإضافية.

واجبي أن أفرِّق هذا الجمع المشاغب من المحرضين الذين يطالبون بموت إنسان، بلا سبب معقول، وبلا شكل قانوني. حسنًا، ذلك موقف اليهود في هذه الحالة. إذًا، يجب أن أطردهم وأفرِّق جمعهم.

نفترض أن بيلاطس كان يعرف علم الحساب؛ ولذلك فلن نتكلم عن تلك الصِّيَغ من الحق.

أما عن الحقائق الحسابية، فأعتقد أنه كان يجب على الأقل قضاء ثلاثة أعوام قبل أن يتعلم علمًا أعلى كالهندسة. حقائق الفيزياء، مصحوبة بحقائق الهندسة تلك، من شأنها أن تستلزم أكثر من أربعة أعوام. ونقضي ستة أعوام في دراسة اللاهوت في المعتاد، لكنني أطلب اثني عشر عامًا لبيلاطس؛ لأنه وثني، ولن تكون ستة أعوام أكثر مما ينبغي لاجتثاث كل أخطائه القديمة، وستة أعوام أخرى لجعله مهيئًا ليتسلم قلنسوة حامل الدكتوراه.

لو كان لبيلاطس عقل متوازن جيدًا، لطلبت له عامين فقط لأعلِّمه الحقيقة الميتافيزيقية، ولأن الحقيقة الميتافيزيقية مرتبطة بالضرورة بالحقيقة الأخلاقية، فسيُرضيني أنه كان من شأنه في أقل من تسعة أعوام أن يُصبح عالمًا حقيقيًّا ورجلًا أمينًا تمامًا.

كان عليَّ أن أقول لبيلاطس حينئذ: إن الحقائق التاريخية مجرَّد احتمالات. لو أنك قاتلت في معركة فيليبي، فذلك — من وجهة نظرك — حقيقة تعرفها بالحدس والإدراك. ولكن، من وجهة نظرنا، نحن الذين نقطن بالقرب من الصحراء السورية، هي مجرَّد أمر مُحتمَل جدًّا، نعرفه بالشائعات. كم يلزم من الشائعات لتشكيل اقتناع مساوٍ لاقتناع رجلٍ يمكنه — وقد شهد الشيء — أن يَبتهج بأن لديه نوعًا من اليقين؟

ذلك الذي سمع الشيء يُخبَر به من اثني عشر ألفًا من شهود العيان، لديه فقط اثنا عشر ألف احتمال تُساوي احتمالية قوية واحدة، ولا تساوي اليقين.

ولو عرفت الشيء من واحد فقط من هؤلاء الشهود فأنت لا تعرف شيئًا. سيجب عليك حينها أن تكون شكاكًا. وإن كان الشاهد ميتًا فستكون أكثر شكًّا بعد؛ لأنك لا تستطيع أن تستنير. وإن كان من شهود عدة موتى فأنت في البلوى نفسها. وإن كان من أولئك الذين تحدَّث إليهم الشهود فسيزداد شكُّك أكثر وأكثر.

من جيلٍ إلى جيل، يزداد الشك، وينقص الاحتمال، وعما قريب سيقل الاحتمال إلى الصفر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤