المقدمة
١
لعل أحدًا لا يجادل البتة في أن الأمة تنسحق الآن، وبقوة، تحت وطأة أزمةٍ شاملةٍ لا يبدو إلى البُرء منها أيُّ سبيل … إذ ثمَّة الانهيارُ في كل موقع، والانتكاسُ على كل جبهة، والكبوة مآلُ كل إصلاح، والسقوط نهايةُ كل نهضة … وهكذا إلى حد أن جميع مطالب النهوض والتقدم لم تزل في طور الأحلام والأماني، بل والأوهام، رغم قرنَين تقريبًا من السعي والإقدام.
والحق أن لاتاريخية الخطاب هذه، لا تعني أبدًا غياب أي مفهومٍ عن «التاريخ»، بقَدر ما تعني فقط غيابًا للتاريخ بوصفه إطارًا لفعل الإنسان وتقدُّمه، وشكلًا من أشكال وعيه بالعالم، أو التاريخ بوصفه صيرورةً خلَّاقة تنبثق عن أشكالٍ للحياة أكثر تطورًا وفاعلية. وإذن فإنه يبقى أن ثمَّة تصورًا للتاريخ يهيمن على الخطاب هو — وللمفارقة — ما يُكرِّس لاتاريخيته. ولعله يُمكِن القول إن جوهر هذا التصور للتاريخ إنما يتمثل في حضوره كصيرورة انهيارٍ ونكوصٍ لا يرتفعان إلَّا عَبْر القفز منه إلى لحظةٍ خارجه؛ حيث الليبرالي العربي ورفيقه الإصلاحي أو حتى العلماني لا يعرف الواحد منهم سبيلًا إلى تجاوز انهيار واقعه إلا عَبْر القفز إلى لحظة خارجه ينقلها ويستعيرها من آخر (بعيد في الزمان أو المكان).
ورغم أهمية الوعي بهذه الحقيقة، فإن الوقوف عندها لا يمكن أن يئول بالخطاب إلى تجاوُز مأزقه؛ ولهذا فإنه يبقى أنها لا تعدو كونَها مجرد نقطةٍ يبدأ منها السير إلى الوعي بما يؤسِّسها؛ ذلك أن تحليلًا للخطاب لا يمكن أن يئول إلى ما هو أبعدُ من الوعي بحقيقة لاتاريخيته؛ الأمر الذي يعني أن الوعي بما يؤسِّس هذه اللاتاريخية لا يُمكِن إنجازُه إلا من خارج الخطاب «العربي المعاصر»؛ وأعني من التراث الذي يضرب فيه هذا الخطاب بجذوره البعيدة؛ إذ الحق أن حضور التراث في الخطاب العربي المعاصر يتجاوز مجرد استدعاء هذا الخطاب لمضمونه ومحتواه لتوظيفه داخل تياراته ومشروعاته الفكرية، إلى التأسيس لنظام بنيته العميقة المضمرة. وإذن فإنه لا بد من البحث في التراث عن كل ما يؤسس للاتاريخية الخطاب المعاصر.
٢
وإذن فالإمامة تفكيرٌ في «الحاضر» غالبًا ما يقصد «الماضي»، وذلك فيما التاريخ هو تفكيرٌ في «الماضي» دائمًا ما يقصد «الحاضر»، ويبقى «المستقبل» بعدًا غائبًا عنهما معًا. لكنه يبدو أنه رغم اختلاف نقطتَي البدء بينهما، فإن الحاضر يبتدي بوصفه قصدَهما المشترك إما زحزحةً أو تكريسًا له. وليس من شك في أن الرابطة — أو «واو» العطف — بينهما تتبلور ابتداءً من هذا القصدِ المشتركِ الذي يعني أن الواحد منهما يتأسَّس بالآخر ويؤسِّسه؛ حيث التاريخ يجد في الإمامة أساسه ومعناه، بمثلِ ما تجد الإمامةُ فيه دلالتَها ومغزاها؛ ولهذا فإنه إذا كان من المؤرِّخين من كتب في «الإمامة والسياسة»، فإنه كان يمكن لأصولي أن يكتب في «الإمامة والتاريخ»، ولأن أصوليًّا لم يكتب، فإن الأمر لم يستوقف أحدًا، باحثًا فيما يُمكِن أن يكون بينهما من علاقة وارتباط. ومن هنا فقرهما (أعني الإمامة والتاريخ) معًا.
إذ رغم العديد من الدراسات عن «الإمامة» فإن الأمر لم يتجاوز التفكير في جملة مسائلها الجزئية أو بعضها أو رصد تطوُّرها في حقبةٍ زمنيةٍ معينة، أو عند فرقةٍ كلاميةٍ محدَّدة، ومن دون التطرق إلى التأمل في دلالةٍ أشمَل تتجاوز هذه الجزئيات، فتجعلها ذات مغزًى يتخطى بها حدود كونها مجرَّد تشريعٍ لكيفية ممارسة السياسة، إلى التشريع لبناء التصوُّرات وبلورة المفاهيم.
ورغم أن نقطة البدء في كلٍّ من الإمامة والتاريخ هي الحاضر والماضي، فيما سبق القول، فإن الرابطة بينهما تتكشَّف — للمفارَقة — من خلال المستقبل على نحوٍ أساسي؛ إذ الحق أن الدور التأسيسي الذي تلعبه الإمامة في التاريخ يتبدَّى جوهريًّا، من خلال ما يتضمنه التاريخ من تصوُّر عن المستقبل؛ فقد بدا أن مواقف الفرقاء حول الإمامة قد تبلورَت من الاختلاف حول تقييمِ ما جرى فيما يتعلق بإمامة الخلفاء الأربعة وما ترتَّب عليها … حيث انتهى البعض (وهم الأشاعرة عمومًا) إلى أنَّ ما تحقَّق في الإمامة كان هو الأفضل من كل الوجوه، فيما صار آخرون — في المقابل — (وهم الشيعة عمومًا) إلى أن الأفضل هو ذلك الذي لم يتحقَّق على الإطلاق، وتجاوز فريقٌ ثالث (وهم المعتزلة) إلى تناول المسألة خارج سياق المفاضَلة بالكلية، والنظر فيما جرى من أفعال وأقوال وتحليلها والموازنة بينها قبل تعيين الأفضل في المسألة … وبحسب هذا الاختلاف حول الإمامة تبدَّى التاريخ تدهورًا من الأفضل المتحقِّق في الماضي عند فريق «الأشاعرة»، وصعودًا إلى الأفضل الذي لم يتحقَّق بعدُ عن فريقٍ آخر (الشيعة)، أو تحليلًا وموازنة يكون فيها التاريخ، لا انهيارًا من — أو صعودًا إلى — نموذجٍ مطلقٍ خارجه، بل مسارًا واقعيًّا يحدِّده وعي الإنسان وعمله (المعتزلة). وليس من شك في أن ذلك يعني اختلافًا — في العمق — حول «المستقبل» … أهو انهيار وسقوط، أم تعالٍ وصعود … أم أفقٌ مفتوح يتحدَّد من خلال الإنسان (وعيًا وعملًا)؟
وإذن فإنه الانتقال من السياسة «معاضدة» أو «مناهضة» أو «خلخلة» إلى التاريخ «تحققًا للأفضل» أو «عدم تحقُّق له» أو «التاريخ تحليلًا وموازنة»، ومن ثَم إلى المستقبل «سقوطًا» أو «صعودًا» أو «أفقًا مفتوحًا». ولعله يُمكِن بيان الارتباط بالشكل التالي:
وهكذا يتخارج التاريخ من الإمامة، وتتعين صورة المستقبل ابتداءً من ارتباطهما معًا. وإذ يحيل ذلك إلى أن القصد، هنا، لا ما تعرضه «الإمامة» أو حتى «التاريخ» على نحوٍ مباشر، بل هو ارتباطهما الذي يجعلهما يتكشَّفان عن مضمونٍ باطني أكثر ثراءً مما يعرضانه عند السطح، فإن الأمر يقتضي نظامًا منهجيًّا يناسب هذا القصد، انطلاقًا بالطبع من أن طبيعة الموضوع تفرض نظام المنهج وتحدِّده.
٣
والحق أن مشكلة المنهج تفرض نفسها بحدةٍ على الباحث في الإسلاميات على نحوٍ خاص؛ حيث يبدو وكأن المنهج — في معظم الأحيان — قد تبلور ضمن أفقٍ معرفي وحضاري مغاير للأفق الخاص بالموضوع المدروس. وهنا فإن «الموضوع» غالبًا ما يتقلص إلى مجرد ساحةٍ يستعرضُ عليها الباحث معرفتَه بالمنهج، وبحيث يستحيل الموضوع إلى وجودٍ من أجل المنهج فقط، وخصوصًا إذا كان المنهج — وهو كذلك في أحيانٍ كثيرة — جزءًا من زخارف الحداثة التي يقع الكثيرون تحت سطوتها. والملاحظ أن هذه التضحية (بالموضوع) تئول — وتلك هي المفارقة — إلى اضمحلال المنهج وتلاشيه؛ لأن الغاية الحقة لأي منهجٍ هي إنتاج معرفةٍ دقيقة بموضوعٍ ما. وإذا ما أخفق المنهج في تحقيق هذه الغاية، فإنه يستحيل من منهجٍ لبحث موضوع إلى أن يكون، هو نفسه، موضوعًا لبحث؛ وبما يعني أنه يفقد جوهره كمنهج. وهكذا فإن هيمنة المنهج على الموضوع، لا تئول فقط إلى تهميش الموضوع، بل إلى تهميش الجوهر الحقيقي للمنهج.
ولكن ذلك ينبغي أن يئول إلى هيمنةٍ مضادةٍ للموضوع على المنهج، وبحيث يتلاشى المنهج تحت سطوة الحضور الطاغي للموضوع، وليس من شكٍّ في أن ذلك بدَوره مما يُعجِز الباحث عن إنتاج معرفةٍ حقَّة بالموضوع؛ لأنه يستحيل إلى مجرد مادة للتكرار المُمِل؛ وهو التكرار الذي يُفقر الموضوع ويُلاشيه، وذلك من حيث يعجز معه الموضوع عن التفتُّح عن سائر ما يطويه ويتضمَّنه في أعماقه، وعن الكشف — بالتالي — عن دلالته الحقَّة في سياق بناءٍ أشمل يطويه مع غيره. وإذن فإنه يبدو ضرورة البدء في المسألة المنهجية من نقطةٍ خارج نطاق هيمنة الموضوع على المنهج أو العكس.
وإذا كان يبدو أن مضمون العلاقة بين المنهج والموضوع يتبلور من قدرة المنهج على إنتاج ضربٍ من المعرفة الحقَّة بالموضوع، فإن ذلك ما ينبغي أن يكون المبدأ الحاكم للعلاقة بينهما؛ وأعني به القدرة على إنتاج ضربٍ من المعرفة لم يكن ممكنًا. وهنا فإن الأمر لا يتعلق بإنتاج معرفةٍ بالموضوع فقط، بل وبالمنهج أيضًا. وهكذا فإن العلاقة بينهما تتحدَّد ابتداءً من قدرة المنهج — من جهة — على فتح مغاليق الموضوع وإفساح المجال أمامه للنطق بما هو مضمرٌ فيه، وقدرة الموضوع — من جهةٍ أخرى — على الاستجابة لنظام المنهج، والإفادة منه في النطق بما يسكُت عنه؛ وبما قد يؤدي إلى الكشف عن آفاقٍ للمنهج قد لا تكون موضوعَ إدراكٍ من قبلُ. ولعل ذلك يعني أن العلاقة بينهما تتحدد ابتداءً من أن الواحد منهما يُفيد الآخر في التكشُّف عن سائر ما يطويه من آفاقٍ وممكنات.
وتبعًا لذلك فإن المنهج لن يكون جملة قواعدَ جامدة تتنزل على الموضوع كالقَدَر الذي لا رادَّ له، بل أفقًا يتطور فيه الموضوع وينمو. وكذا فإن الموضوع يستحيل، بدوره، إلى أفقٍ يتطوَّر فيه المنهج ويحقِّق إمكاناته. ولعل ذلك يعني أنَّ المنهج ليس كيانًا مكتملًا لا يقبل أي تطور، بل إنه — وحسب طبيعة الموضوع بالطبع — يحقِّق اكتماله عبر التحاور مع أنظمةٍ منهجيةٍ أخرى والتكامل معها. ولعل هذا الطرح للمسألة المنهجية يمثل تجاوزًا للمشكلة الخاصة بالإسلاميات دون غيرها تقريبًا، وأعني بها مشكلة غربة المنهج عن الموضوع. وابتداءً من قاعدة أن الموضوع هو الذي يحدِّد منهجه ويعينه، فإنه يلزم أولًا تحديد «الموضوع» والتعرف عليه، ليتسنَّى بعد ذلك تعيين «المنهج» وضبط عناصره.
إن «الموضوع» هنا هو جزء من التراث، ولكن لماذا البحث في التراث وقراءته؟ لأنه بدت — وتاريخ الفكر العربي المعاصر خير شاهد — استحالةُ أي نهضة من نقطة بدءٍ خارج التراث؛ لأنها تكون والحال كذلك (وذلك على فرض إمكانها بالطبع) مجرد استنساخٍ شائهٍ للآخر تتلاشى معه الذات وتغيب. ومن جهةٍ أخرى فإنها (أي النهضة) لا يُمكِن أن تكون من التراث باجتراره وإعادة استهلاكه؛ لأنها تكون والحال كذلك مجرد تكرارٍ يتلاشى معه كونُها نهضة. وإذن فالأمر يقتضي أن يكون «التراث» موضوعًا لموقفٍ معرفي يجعل منه أساسًا للنهضة، لكن لا عَبْر تكراره. وإذ التراث هو الموضوع، فإن المنهج هو «القراءة» (قراءة التراث)، وأعني بالقراءة السعي إلى إنتاج معرفةٍ بالتراث تتجاوز مجرد تكراره. ومن هنا فإن جميع ضروب التناول السلفي للتراث، لا يمكن أن تمثِّل أبدًا قراءاتٍ له؛ لأنها لا تفعل إلا أن تكرِّر التراث من دون أدنى فاعلية لذاتٍ قارئة؛ حيث الذات تكون مجرد جزء من التراث (يحتويها ويستوعبها، وبما يعني أنها مستلَبة فيه)، لا أن يكون التراث هو ما يمثِّل جزءًا منها (تحتويه وتستوعبه، وبما يعني أنها مُسيطِرة عليه).
وإذن فالقراءة تفترض حضورًا مزدوجًا للمقروء (التراث) والقارئ (الذات)، وبما يعنيه ذلك من أن غياب أحدهما لا يُنتِج قراءة؛ ذلك أنه إذا كان حضور المقروء فقط يُنتِج تكرارًا لا قراءة، فإن مجرد حضور القارئ لن يُنتِج بدوره قراءة بل إسقاطًا. وإذا كان التكرار هو داء القراءة السلفية (إذا جاز أنها قراءة)، فإن الإسقاط هو داء القراءة الأيديولوجية التي استحال معها التراث إلى مجرد ساحة، راح الكثيرون يُسقِطون عليها أوهامهم الأيديولوجية؛ إذ القراءة الأيديولوجية هي كل قراءة تتخذ نقطة بدئها من أي أيديولوجيا خارج التراث (وهي أيديولوجيا حداثية بالطبع)، ثم تنطلق إلى بلورة تأويلٍ للتراث تبرِّر من خلاله انحيازها إلى هذه الأيديولوجيا، وتدعم به محاولاتِ فَرضِها على الواقع.
وهكذا فرغم أن هذه القراءات تبقى بمثابة علاماتٍ بارزة، محكومة بالأفق المعرفي السائد في وقتها، وبالسياق التاريخي الذي ينتظمها، في مسارٍ طويل يتجه إلى تحديث التراث وإنتاج معرفةٍ علمية به، فإنها تبدو مسكونةً بضروبٍ من العوائق الذاتية التي تُهدِر فعاليتها الكاملة. ومن هنا ضرورة الوعي بحدود هذه القراءات، سعيًا إلى تخطي عوائقها الذاتية. ولعله يبقى أن قراءةً تطمح إلى التواصل مع هذه القراءات، لا بد لها من الإلحاح على التناول المعرفي والعلمي للتراث تجاوزًا للإسقاط والذاتية الفجة، ولا بد لها أيضًا من التحرُّر من كل انحيازٍ أيديولوجي، أو الوعي به والسيطرة عليه على الأقل. والحق أن مطلب التحرر من الانحياز الأيديولوجي أو السيطرة عليه، يبدو مرتبطًا بمطلب إنتاج معرفةٍ علميةٍ بالتراث ومتوقفًا عليه، وبمعنى أن الوعي المعرفي والعلمي بالتراث هو ما يحرِّر القارئ من سطوة الانحياز الأيديولوجي الذي يعني أو يحيل إلى خللٍ في إجراءات القارئ المنهجية أو حتى في تطبيقاته لها؛ إذ كثيرًا ما تكون الإجراءاتُ المعلنة، كأساسٍ علمي، لقراءةٍ ما في غاية الدقة والضبط، لكنها عند التطبيق الفعلي في الممارسة تفقد ما تنطوي عليه من دقة وضبط لأسبابٍ شتى، قد ترجع إلى طبيعة الموضوع المقروء، أو إلى انحيازٍ عند القارئ نفسه يخرج عن سيطرة وعيه. ومن هنا ضرورة أن يقوم قارئ التراث، لا بتحديد إجراءاته وأدواته المنهجية وضبطها فقط، بل واختبار فعالية هذه الأدوات بعد الفراغ من تطبيقه لها في قراءته.
ومن هنا، فإن تفاعُل وتحاور عدة أنظمةٍ منهجية سيكون هو الغالب على التحليل في سياق هذه الأطروحة، وذلك من حيث يبدو هذا التفاعل والتحاور هو الأكثر قدرةً على إنتاج معرفةٍ منضبطةٍ بالموضوع المدروس. ولعل من أهم الأنظمة المنهجية المتفاعلة في هذه الأطروحة النظام البنيوي الذي يقصد إلى التماس البنية العميقة لنصٍّ أو لجملة نصوصٍ تنتمي إلى مؤلفٍ أو فرقةٍ أو تيار والسعي إلى تفسير وجوه التماثل والاختلاف بين عناصرها، وذلك من خلال مَحوَرَتها حول ثابتٍ واحد يكون قادرًا على استيعاب جميع التحوُّلات داخلها، وبحيث تجد كل فكرة من الأفكار الجزئية في هذه النصوص تبريرها ومعقوليتها في هذا الثابت البنيوي.
ولعل قيمة هذا المنهج تتأتى من قدرته على تحرير القارئ من كل الانحيازات والأحكام المسبقة، والابتداء بقراءة النصوص وتحليلها سعيًا إلى استخلاص الثوابت القارَّة فيها من خلال فعل القراءة. ولعله يُمكِن القول إن الأمر هنا يقف عند مجرد حدود الشرح والفهم.
والحق أن مجرد الشرح أو الفهم لا يُمكِنه إنتاجُ معرفة بالنصوص، بل لا بد من إكمال هذه الخطوة بفعل «التفسير» الذي يتحقَّق — في جزءٍ منه — من خارج النص. وهنا تظهر أهمية «المنهج التاريخي» الذي يبدو ضروريًّا لاختبار مدى التحقُّق التاريخي للثوابت البنيوية المكتشفة عَبْر القراءة، كما يُمكِن من خلاله رصدُ سياقِ انبثاقِ البنيات، وكيفية تحوُّلها، في مرحلةٍ معيَّنة، إلى نظام يختص بآليات تطوُّر مستقلة عن سياق التاريخ ذاته؛ إذ الحق أن هذا الاستقلال عن التاريخ وبفضله، لا رغمًا عنه. وفي كلمةٍ واحدة فإن هذا المنهج يمثِّل خروجًا من «النص» إلى «العالم» حيث الانحصار، داخل النص وحده، يئول إلى إنتاج معرفةٍ مغلقة، لا يمكن تفسيرُها بحالٍ. ولعل قصور هذه المعرفة يتأتى من أن النص لا يتخلق في فضاءٍ خاصٍّ به وحده، بل إنه نتاجٌ مشروط (معرفيًّا) بجملة النصوص السائدة وقت كتابته، و(تاريخيًّا) بجملة ما يطرحه الواقع من مشكلات وتساؤلات.
ورغم الوعي بأن هذا التحدد المعرفي والتاريخي للنص، لا يكون بكيفيةٍ مباشرةٍ أو فجَّة، بل بكيفياتٍ خفيةٍ ومعقدة، فإن ذلك لا يعني إمكان إلغائها وتصوُّر النص بمعزل عنها؛ إذ النص يستحيل — والحال كذلك — إلى بناءٍ هشٍّ مُعلَّق في الفراغ. ولعله يلزم الوعي مع ذلك، بأنه لا يمكنُ اختزالُ النص في هذه الشروط المعرفية والتاريخية خارجه، حيث النصُّ يسعى، بالطبع، إلى تجاوزها والانفلات منها … ومن هنا بقاؤه.
٤
-
وضع كل تصور أو فكرة أو حكمٍ مسبق على نص أو مؤلف أو فرقة، بين قوسَين، وعدم الاعتبار بها البتة، والابتداء بفعل القراءة دون أي انحياز وترك النص يتكشَّف عن نظامه الباطن. ومن هنا فإنه لن يكون ثمَّة اعتبارٌ للقول بوسطية الأشاعرة بين الجبرية والمعتزلة في مسألة خلق الأفعال، وبالقَدْر نفسه يسقط الاعتبار عن الرأي القائل بتطرف المعتزلة في معالجة قضايا العلم، وغيرها من الآراء والأحكام المسبقة التي تُعيق إنتاج معرفةٍ علمية بنصوص هذه الفِرَق.
-
قراءة النص، لا بوصفه جملة أفكارٍ جزئيةٍ متجاورة، بل بوصفه نسيجًا تنصهر فيه جملة هذه الأفكار وبحيث يتجه السعيُ إلى الكشف عن الثابت الكلي الذي ينتظم شتات هذه الأفكار الجزئية ويمنحُها المعقولية والتبرير، وليس من شك في أن هذا الثابت هو غاية القراءة وقصدها.
-
إن التركيز على هذا الثابت، في القراءة، يعني التقليل من شأن ما قد يكون من اختلافاتٍ جزئيةٍ ظاهرة بين جملة نصوص تنتمي إلى مؤلفٍ واحد أو فرقةٍ واحدة؛ إذ العِبرة، هنا، بأن ثمَّة ثابتًا كليًّا ينتظم هذه النصوص، ويقدر على تفسير وتبرير حتى هذه الضروب من الاختلاف الجزئي بين النصوص، وليس مجرد التماثل بينها فقط …
-
إذا كان النص (في علم العقائد بالطبع) ينطوي على بنيةٍ كليةٍ تنتظم مسائله الجزئية، وينصرف الجهد إلى كشفها، فإن هذه المسائل الجزئية تنطوي بدورها على أنظمةٍ بنيويةٍ تحقِّق البنية الكلية، وتتحقق من خلالها؛ وبحيث يمكن الحديث في النسق الأشعري مثلًا عن بنيةٍ كلية تنتظم النسَق بأَسْره، وعن بنياتٍ جزئيةٍ في مسائل النبوة أو خلق الأفعال أو التفضيل والصفات … إلخ؛ وهي بنياتٌ تكتسب خصوصيتها من خصوصية المسائل الجزئية التي تنتظمها أو تنبثق فيها. وهنا فإنه بقَدر ما يكون اختبار بنية المسألة الجزئية بالقياس على بنية النسَق الكلية محققًا لهذه البنية الجزئية، فإنه يكشف عن بعض الاختلاف بينهما؛ والذي ينشأ من خصوصية المجال الذي تتحقق فيه هذه البنية الجزئية. ولعل هذا الاختبار يقوم على المراوحة المستمرة بينهما؛ أي الانتقال من الكلي إلى الجزئي ثم من الجزئي إلى الكلي، وهكذا.
والحق أن هذا الاختبار للبنية يبدو قاصرًا؛ لأنه يظل محصورًا داخل حدودها، ومن هنا ضرورة اختبارها، في الخطوة الأخيرة، خارج هذه الحدود؛ أي في العالَم والتاريخ. وهنا فإن الاختبار يقوم أيضًا على المراوحة المستمرة بينهما؛ أي الانطلاق من البنية إلى التاريخ ثم من التاريخ إلى البنية … وهكذا في مراوحةٍ مستمرةٍ تؤكد تفاعُلهما وتكامُل عناصرهما. ولعل هذه المراوحة بينهما تُحيل إلى أنها ليست البنية فقط هي التي يفسِّرها التاريخ ويؤكِّد تحقيقها، بل إنها أيضًا تُفسِّره وتَهَبه النظام والمعقولية.
وهكذا تتكامَل خطواتُ التحليل محققةً للآليتَين اللتَين تمثِّلان غاية المنهج ومُبتغاه؛ وهما آليَّتا الفهم والتفسير.
٥
إذا كان قد بدا أن فعالية القراءة تقتضي الوعي بسياق المقروء، فإنه يبدو كذلك أن اكتمال هذه الفاعلية يقتضي الوعي بسياق القارئ أيضًا؛ إذ القارئ كالمقروء، ليس وجودًا قائمًا في الفراغ، بقَدر ما هو وجودٌ قائم ضمن شبكة من العلاقات السائدة في لحظةٍ معينة، وبمعنى أنه قارئ في التاريخ، وبالتاريخ، ومن أجل التاريخ؛ ولهذا فإنه يقوم بالقراءة وهو ينطوي على جملة محدِّداتٍ تاريخيةٍ ومعرفية تلعب دورًا في فهمه للمقروء واستيعابه له وإعادة هيكلته. ليس القارئ إذن شعورًا محايدًا، أو في حالة براءةٍ أصلية، بل هو منخرطٌ في جملة إشكاليات تؤطِّر وعيه وتحدِّد رُؤاه؛ وأعني بها إشكالياتِ كلٍّ من الواقع والفكر العربي المعاصر … إشكاليات الواقع بكل ما ينطوي عليه من التخلف والتبعية والانهزام والتشرذم والتفاوت وغياب العدالة … إلخ، وإشكاليات فكر يبدو عاجزًا عن إنتاج معرفةٍ مطابقة (لا زائفة) تقدر على الخروج بهذا الواقع من أزمته.
تلك هي جملة الإشكاليات المحددة لسياق القارئ والمؤطرة له؛ ولأن حضورها والوعي بها يبدو ضروريًّا من أجل قراءةٍ أكثر إنتاجًا وفاعلية، فإنها ستكون نقطةً يبدأ منها السير هنا.