طريقة أبي حنيفة وفقهه

هل له طريقة خاصة به؟

نعم! علينا أن نتساءل أولًا قبل الكلام عن فقه أبي حنيفة: هل له طريقة خاصة في استنباط الأحكام الشرعية؛ أو بعبارة أخرى: هل كان التاريخ والمؤرخون على حقٍّ حين نسبوا لأبي حنيفة مذهبًا خاصًّا صار يُعرف به؟ وإذا كان هذا حقًّا، فما هذه الطريقة التي عُرفت بأنها مذهبه؟ وإذًا ما هذه الأسس والأصول التي يقوم عليها؟

وهنا نجد الآراء تختلف، ونرى لبعض المستشرقين رأيًا في هذه المسألة، أخذه بعض من كتبوا من المسلمين في تاريخ الفقه وتبنَّوه وأخذوا يدافعون عنه، كما نرى آراء أخرى للمستشرقين وغيرهم تخالف ذلك الرأي تمامًا.

ها هو ذا «جُويِنبُل» المستشرق الإنجليزي المعروف، يؤكد — فيما كتبه عن أبي حنيفة في دائرة المعارف الإسلامية — أنه لا أساس لما يراه كثير من الكتاب الأوروبيين من أنه اصطنع أصولًا مبتكرة، وأنه أسَّس مذهبًا اعتمد فيه كل الاعتماد على القياس. ثم نراه بعد ذلك يعمم الحكم على أئمة الفقه جميعًا، فيقول: إنه لا يوجد بصفة عامة أي فارق بين المذاهب الفقهية المختلفة في الإسلام من ناحية الأصول التي تقوم عليها.

وإذًا، فليس لأبي حنيفة مذهب خاصٌّ به يستحق أن يُنسب إليه، على رأي هذا المستشرق؛ بل ليس لسائر الأئمة مذاهب فقهية يختلف الواحد منها عن الآخر، من ناحية الأصول التي تقوم عليها. وبذلك يكون من المبالغة في القول والتجنِّي على تاريخ الفكر أن ننسب لكل منهم مذهبًا فقهيًّا خاصًّا به!

وهذا الرأي نراه ماثلًا بوضوح في كتابة أحد المسلمين المعاصرين، فقد تبنَّاه دون إشارة إلى من ذهبوا إليه، وردَّده في بضع صفحات من كتابه عن تاريخ الفقه الإسلامي.١

فإن القارئ لهذه الصفحات يجد هذا التعبير بعد أن تحدَّث عما هو حقٌّ من تطور الفقه الإسلامي، كما هو معروف من تاريخه: فهو — أي أبو حنيفة — لم يكوِّن طريقة، وإن ما ارتبط باسمه من الآثار والمعارف — كما نراه في مثل كتاب الآثار والمبسوط للشيباني — يرجع إلى أصل قديم … ولكن ما هي طريقة أبي حنيفة؟ فهل أوجد لنا حقيقة طريقة فقهية؟ الحق، أن هذا موضع بحث ونظر؛ ليس من أجل أن الإمامة في هذه المسألة يجب أن تكون لغير أبي حنيفة؛ ولكن من أجل أنه لا توجد في الفقه الإسلامي طريقة بالمعنى الحقيقي!

وقد كان من اليسير أن نفهم أن الطريقة التي ينكرها الأستاذ الكاتب هنا على أبي حنيفة، وعلى غيره من أئمة الفقه أيضًا، هي ما يريده الغربيون بكلمة Méthode وما ترجمناه نحن العرب بكلمة «خطة».
نعم! كان فهم هذا سهلًا ميسورًا، وحينئذٍ لا يكون الأمر من الخطر بدرجة تدعو لمناقشته؛ ولكنه أفصح عن مراده ومراد من أخذ عنهم، وهو أن المراد بالإنكار هو «المذهب» لا خطة البحث والكتابة والتأليف، فقد ذكر بعد ذلك أنه: «تحت كلمة طريقة أبي حنيفة Sysrème، يترجم علميًّا بلفظ: مذهب أو نظام، على ما هو معروف.»

نعم لأبي حنيفة مذهب

وعلى الضد من ذلك الرأي الخاطئ قال آخرون من كبار المستشرقين الأعلام بأن أبا حنيفة جَدِير بأن يُنسب إليه المذهب الذي عُرف ولا يزال يُعرف به، ونكتفي هنا بذكر آراء اثنين من هؤلاء الأعلام، وهما: إدوارد سخاو، وجولدتسهير.٢

فقد جاء عن الأول، في بحث نُشر بمدينة «فيينا» عام ١٧٨٠م عنوانه: «حول أقدم تاريخ للفقه الإسلامي» أن أبا حنيفة هو «إمام أصحاب الرأي» كما يسميه الخطيب في تهذيب النووي «صاحب الرأي» كما يذكر ابن قتيبة في كتابه «المعارف». وأشار بعد ذلك إلى أن ابن النديم ذكره على رأس العراقيين «أصحاب الرأي»، وأورد في هذا أبياتًا لمسعود الوراق يمدح الإمام بها؛ وهي:

إذا ما الناسُ يومًا قايسونا
بآبدةٍ من الفُتيا طريفة
أتيناهم بمقياسٍ صحيحٍ
تلادٍ من طراز أبي حنيفة
إذا سمع الفقيه بها دعاها
وأثبتها بحبرٍ في صحيفة
وإذا كان «سخاو» يرجع هنا إلى آراء مؤرخي الفكر الإسلامي ورجاله، فإن الذي يعنينا أنه يقر هذه الآراء فيما نحن بصدده؛ على أنه يصرح بعد ذلك بالرأي الذي نراه، وذلك إذ يقول ما نصه:

وهنالك ثلاثة رجال على وجه الخصوص هم الذين تناولوا بادئ ذي بدء ما جمع من المواد منذ تأسيس الإسلام، حتى أواسط النصف الأول من القرن الثاني الهجري، ووحدوه، وجعلوا منه نظمًا فقهية كاملة … وقد انتشرت تعاليمهم عن طريق عدد كبير من التلاميذ في أقطار برمَّتها من دولة الخلافة، ولقيت اعتبارًا شرعيًّا، وهؤلاء هم: أبو حنيفة في العراق، المتوفى عام ١٥٠ﻫ. والأوزاعي (وهو أقلهم شهرة) في سوريا، المتوفى عام ١٥٧ﻫ، ومالك بن أنس في الحجاز، المتوفى عام ١٥٩ﻫ.

وبعد «إدوارد سخاو» نجد «جولدتسهير»، في بحث ضخم قيِّم له عن أهل الظاهر، نُشر بمدينة «ليبزج» عام ١٨٨٤م، يتحدث عن مدى نجاح استعمال القياس والاستحسان في عهد أبي حنيفة، وإنه من العسير تقدير مدى هذا النجاح تقديرًا دقيقًا، وذلك — كما يقول — لعدم المصادر المحايدة لتاريخ أقدم مراحل النمو في الفقه الإسلامي.

ثم يذكر بعد ذلك أن كل ما يمكن أن نعلمه هو أمران:
  • أولًا: أن الفقه المبني على الرأي، الذي لا يعترف بأهمية راجحة للمواد المأخوذة عن المصادر المأثورة، لم يصل إلى ازدهار قبل أبي حنيفة.
  • ثانيًا: أن أبا حنيفة قام بالمحاولة الأولى في البناء على الأعمال السابقة، لتقنين الشرع الإسلامي على أساس القياس، فذلك ما لم يحصل من قبلُ إلى زمنه، فقد ظهر في عهده عرض منهجي للفقه الإسلامي المبني على أساس القياس.

رأي الفقهاء والمعاصرين فيه

وبعد رأي هذين المستشرقَين في أبي حنيفة، وفي أنه كان صاحب طريقة ومذهب في الفقه يقوم على الرأي والقياس، ينبغي أن نأتي على شيء من آراء الفقهاء والمعاصرين له في فقهه وأُسسه، وحينئذٍ يتبيَّن لنا بوضوح أن المذهب الذي عُرِف حَرِيٌّ أن يُنسب حقًّا إليه، وسنكتفي هنا بمرجع واحد، وهو الخطيب البغدادي؛٣ وذلك لأننا سنتكلم فيما بعدُ بتفصيل عن هذه الأسس والأصول لمذهب أبي حنيفة؛ ولأن الخطيب جمع لنا في كتابه ما قيل عن الإمام مدحًا وذمًّا في غير محاباة بطيِّ إحدى الناحيتين.
ها هو ذا محمد بن سلمة يذكر أن خلف بن أيوب قال: «صار العلم من الله تعالى إلى محمد ، ثم صار إلى أصحابه، ثم صار إلى التابعين، ثم صار إلى أبي حنيفة وأصحابه، فمن شاء فَلْيَرضَ، ومن شاء فليسخط.»٤

ثم نرى الإمام الشافعي يقول — كما يحدِّث عنه حرملة بن يحيى: «من أراد أن يتبحر في الفقه فهو عيال على أبي حنيفة.» ويذكر أبو عبيد أنه سمع الشافعي يقول: «من أراد أن يعرف الفقه فليلزم أبا حنيفة وأصحابه، فإن الناس كلهم عيال عليه في الفقه.» ويذكر عبد الله بن الزبير الحميدي أنه سمع سفيان بن عُيَينة يقول: «شيئان ما ظننت أنهما يجاوزان قنطرة الكوفة وقد بلغا الآفاق؛ قراءة حمزة، ورأي أبي حنيفة.»

ويحدِّث علي بن المديني أنه سمع عبد الرزاق يقول: «كنت عند مَعمَر فأتاه ابن مبارك، فسمعنا مَعمَرًا يقول: ما أعرف رجلًا يُحسن أن يتكلم في الفقه، أو يسعه أن يقيس ويشرح لمخلوق طريق النجاة في الفقه، أحسن معرفة من أبي حنيفة …» وكذلك يحدث عبد الله بن أبي جعفر الرازي أنه سمع أباه يقول: «ما رأيت أحدًا أفقه من أبي حنيفة …» وفي الموازنة بينه وبين معاصره سفيان الثوري يقول أبو مطيع الحَكَم بن عبد الله: «ما رأيت صاحب حديث أفقه من سفيان الثوري، وأبو حنيفة أفقه منه.» وقد سئل يزيد بن هارون: أيُّما أفقه، أبو حنيفة أو سفيان؟ فقال: «سفيان أحفظ للحديث، وأبو حنيفة أفقه.»

وبعد ذلك كله، آن لنا أن نأخذ مما نقله الخطيب من هذه الطعون في أبي حنيفة وذمه، وهو شيء كثير،٥ دليلًا على أنه كان حقًّا صاحب طريقة ومذهب يُعتبر جديدًا في الفقه؛ فإن كثيرًا من هذه الطعون يقوم على رفضه كثيرًا من الأحاديث والآثار، وجنوحه إلى الرأي والقياس، وهذا ما اعتبره معاصروه ومن إليهم طريقة أو مذهبًا جديدًا في الفقه واستنباط أحكامه.

فإنه ليُروى أنه خالف مائتي حديث، بل يذكر يوسف بن أسباط أنه ردَّ على رسول الله أربعمائة حديث أو أكثر، ويصرح بعضهم بأن أمر الناس كان مستقيمًا حتى ظهر أبو حنيفة بالكوفة، وعثمان البَتِّي بالبصرة، وربيعة بن عبد الرحمن بالمدينة، فقالوا بالرأي، فضلوا وأضلوا. وسيجيء الرد عن هذه التهمة في موضعه إن شاء الله تعالى، وحينئذٍ يتبيَّن أنه لا أساس لها.

على أنه من الأمانة في البحث أن نذكر أن «شاه ولي الله الدهلوي» يقول عن أبي حنيفة ومذهبه ما ننقله حرفيًّا عنه:٦ «كان أبو حنيفة رضي الله عنه ألزمهم بمذهب إبراهيم النخعي وأقرانه، لا يجاوزه إلا ما شاء الله، وكان عظيم الشأن في التخريج على مذهبه، دقيق النظر في وجوه التخريجات، مقبلًا على الفروع أتم إقبال. وإن شئت أن تعلم حقيقة ما قلنا، فلخِّص أقوال إبراهيم وأقرانه من كتاب الآثار لمحمد رحمه الله، وجامع عبد الرزاق، ومصنف أبي بكر بن أبي شيبة، ثم قايسه بمذهبه تجده لا يفارق تلك الحجَّة إلا في مواضع يسيرة، وهو في تلك اليسيرة أيضًا لا يخرج عما ذهب إليه فقهاء الكوفة.»

وإذًا، فأبو حنيفة — في رأي ولي الله الدهلوي — ليس له من فضل في بناء المذهب الذي يُنسب إليه إلا فيما يتصل بخريج المسائل ووجوه هذا التخريج، وذلك على أصول مذهب النخعي الذي عرفه عن شيخه حماد بن أبي سليمان، ثم بالمهارة في التفريع على هذه الأصول؛ وذلك كله ليكون مذهبًا قابلًا للتطبيق، ووافيًا بحاجات الحياة العملية المتجددة دائمًا في كل زمان ومكان.

ونحن من جانبنا نرى أن في هذا القول غمطًا كبيرًا لقيمة أبي حنيفة في تشييد المذهب الذي عُرف به، والأدلة على هذا نراها قاطعة وملموسة، إذا ما أجلنا النظر في كتب الإمام محمد بن الحسن التي دوَّن فيها هذا المذهب، وهي كتب «ظاهر الرواية» المعروفة، والتي تُسمَّى أيضًا بكتب الأصول، وكتب أو مسائل النوادر.

فمن هذه الكتب التي تُعتبر عُمُد المذهب، نرى الإمام لم يلتزم دائمًا رأي إبراهيم النخعي؛ بل كانت له آراء سرَت إليه من غيره من الفقهاء السابقين، كما كانت له آراء مستقلة ذهب إليها، بناء على الأصول التي كان يرجع إليها والتي سنتحدث عنها بعد قليل.

ومن الأدلة على استقلاله بالرأي عن حماد وشيخه إبراهيم النخعي، هذه المُثل التي نكتفي بذكرها، وكلها مأخوذة من كتاب الآثار لمحمد بن الحسن الذي أشار إليه الدهلوي نفسه:٧
  • (أ)

    يرى النخعي أن من قال لامرأته: «أنت عليَّ حرامٌ.» ونوى بذلك الطلاق، كانت طلقة واحدة رجعية، على حين يرى أبو حنيفة: أن الأمر يكون على ما نوى واحدة أو اثنتين أو ثلاثًا، وإن نوى الكذب فليس بشيء.

  • (ب)

    وإذا قال الزوج لزوجته: «أمْرك بيدك.» فاختارت زوجها، كان ذلك طلقة واحدة، على حين يرى أبو حنيفة أن الأمر يكون على ما نواه الزوج؛ فإن نوى واحدة أو اثنتين فهي واحدة بائن، وإن نوى ثلاثًا فهي ثلاث.

  • (جـ)

    ويرى النخعي أن من أقرض آخر شيئًا من الورِق ثم قضى المدين دينه بأفضل منه كان ذلك مكروهًا؛ لأن الورِق بالورِق فيه شبهة الربا. ويرى أبو حنيفة أنه لا بأس في هذا ما لم يكن شرطًا اشترطه عليه، فإذا كان شرطًا اشترطه فلا خير فيه.

  • (د)

    وإذا سرق رجل وقُطعت يده جزاء ما اقترف، هل يضمن المال الذي سرقه؟ يرى النخعي أنه يضمن. ويرى أبو حنيفة أنه لا يضمن؛ إلا أن يوجد المسروق بعينه فيُرَد حينئذٍ لصاحبه.

ومع ذلك، نحن نؤمن بالتطور وبعامل الزمن في إنضاج الآراء والنظريات والمذاهب، وهذا ما نجده في الفقه وفي غيره من ضروب المعارف والعلوم؛ وإلا كان أمرًا يتعذر تفسيره أن نرى الإمام مالك بن أنس مثلًا يكتب موطأه المعروف.

لقد وقف الإمام أبو حنيفة على ما استطاع أن يقف عليه من سنة الرسول ، وأقوال الصحابة ومن تلاهم من التابعين، وعُني بالنظر في تعليل الأحكام التشريعية كما وردت في الكتاب والسنة، فكان له بعد ذلك أن ينظم هذه المادة الفقهية الضخمة، وأن يجعل من «الرأي» الذي عُرف من قبلُ «القياسَ» الذي استخدمه وأجاد استخدامه في استنباط الأحكام بقياس المجهول حكمه على ما نُص على حكمه.

وبهذا، كان له فضل وضع طريقة منظمة — أو مذهب منظم — لبناء جانب كبير من الفقه على أساس القياس، وصارت هذه الطريقة معترفًا بها، وسار بها تلاميذه وأنصاره من بعده إلى آخر المدى. والأمر في ذلك طبيعي وبدهي؛ فكل جيل ينتفع بعمل الأجيال السابقة، كما يضم إلى ما ورثه من تراث، لَبِنات أخرى.

وبهذا أيضًا يكون الفقه، قبل غيره من العلوم، يصور لنا سلسلة متصلة الحلقات من الجهود والتطور الدائم الذي يجب ألا ننساه أو ننسى أثره الكبير. وأخيرًا، نذكر أن باحثًا محدَثًا، هو المرحوم الأستاذ أحمد أمين، تناول أبا حنيفة وفقهه بإيجاز، وكان مما انتهى إليه قوله:٨

مما لا نشك فيه أن أبا حنيفة خرج على الناس بمذهب جديد، فيه حرية للعقل بكثرة استعمال الرأي والقياس، وبما استتبع ذلك من كثرة الفروع ورجوعها إلى أصول، وبمقدرة فائقة في الاستنباط، وبشجاعة في مواجهة المسائل — حتى الفرضية منها — والإفتاء بها، وبتعرُّف وجوه الحيل في المسائل في الحدود التي ذكرناها، وبتقريب الفقه إلى الأذهان.

أصول أبي حنيفة

والآن، وقد ثبت — كما رأينا — أن لأبي حنيفة طريقة في استنباط الأحكام لها ما يميزها، ومذهبًا عُرف به حقًّا، فما أسس هذه الطريقة، وما أصول هذا المذهب؟ ولعلنا نهتدي بفضل الله وعونه للجواب عن هذا السؤال، إذا بحثنا أولًا رأي الإمام نفسه في فقهه وأصوله، ثم بحثنا آراء خصومه في بعض هذه الأصول؛ فبهذا وذاك، نصل إلى الحق الذي نرجوه.

فمن المسألة الأولى، ننقل عن ابن عبد البر صاحب الانتقاء (ص١٤٢ وما بعدها) هذه الروايات، التي نراها كلها أو بعضها عند غيره أيضًا وهي:
  • (أ)

    سمع رجل أبا حنيفة يقول: آخذ بكتاب الله، فما لم أجد، فبسنة رسول الله ، فما لم أجد في كتاب الله ولا في سنة رسوله أخذت بقول أصحابه، آخذ بقول من شئت منهم، وأدع من شئت منهم، ولا أخرج من قولهم إلى قول غيرهم.

  • (ب)

    ويذكر ابن المبارك أنه سمع سفيان الثوري يقول بأن أبا حنيفة كان شديد الأخذ للعلم، ذابًّا عن حُرَم الله أن تُستحل، يأخذ بما صح عنده من الأحاديث التي كان يحملها الثقات، وبما صح عنده من فعل رسول الله ، وبما أدرك عليه علماء الكوفة، ثم شنع عليه قومٌ يغفر الله لنا ولهم.

  • (جـ)

    ويروي يحيى بن خريس أن أبا حنيفة قال: إذا لم يكن في كتاب الله ولا في سنة رسول الله، نظرت في أقاويل الصحابة، ولا أخرج عن قولهم إلى قول غيرهم. فإذا انتهى الأمر، أو جاء الأمر، إلى إبراهيم (النخعي) والشعبي وابن سيرين، والحسن، وعطاء، وسعيد ابن المُسَيِّب، وعدَّد رجالا؛ فقوم اجتهدوا، فأجتهد كما اجتهدوا.

  • (د)

    ويروي أبو حمزة أنه سمعه يقول: إذا جاءنا الحديث عن رسول الله أخذنا به، وإذا جاءنا عن الصحابة تخيَّرنا، وإذا جاءنا عن التابعين زاحمناهم.

  • (هـ)

    ويحدِّث أبو عصمة أنه سمعه يقول: ما جاءنا عن رسول الله قبلناه على الرأس والعينين، وما جاءنا عن أصحابه رحمهم الله اخترنا منه، ولم نخرج عن قولهم (لعل الصحيح: أقوالهم)، وما جاءنا عن التابعين فهم رجال ونحن رجال، ثم يختم الراوي حديثه بقوله: وأما غير ذلك فلا تسمع التشنيع.

وإذا أضفنا إلى هذه النقول ما هو مُجمع عليه من المؤرخين من أن أبا حنيفة كان إمام أهل الرأي والقياس، يتبيَّن لنا أن أصول مذهبه كانت القرآن، والسنة، والإجماع، والقياس، وما إليه من الاستحسان.

تهمته بالغلو في القول برأيه

ولكن، نراه يذهب في الاجتهاد بالرأي إلى حد بعيد في مسائل كثيرة تجاوز الحصر، وذلك لبيئته التي نشأ بها، وكثرة مسائلها ومشاكلها التي لا توجد في جميعها نصوص يُرجع إليها في إيجاد حلول وأحكام لها، ومن ثَمَّ، نرى خصومه، يُكثرون عليه من التشنيع، ويرمونه برفض كثير من الأحاديث والعمل برأيه، وهذه هي المسألة الثانية التي يجب بحثها.

وقد أشرنا آنفًا إلى هذه التهمة، وهنا موضع الكلام عليها بشيء من التفصيل، ومرجعنا الأول فيها هو الخطيب البغدادي في كتابه المعروف «تاريخ بغداد»:٩
  • (أ)

    يروي أبو إسحاق الفزاري أنه كان يأتي أبا حنيفة، فيسأله عن الشيء من الغزو، فسأله عن مسألة فأجاب فيها، فقال له إنه يروى فيها عن النبي كذا وكذا، فقال: دعنا من هذا.

  • (ب)
    ويقول سفيان بن عُينية: «ما رأيت أجرأ على الله من أبي حنيفة: كان يضرب الأمثال لحديث رسول الله فيرده، بلغه أني أروي: «البيِّعان بالخيار ما لم يفترقا.»١٠ فجعل يقول: أرأيت إن كانا في سفينة، أرأيت إن كانا في سجن، أرأيت إن كانا في سفر، كيف يفترقان؟!»
  • (جـ)

    ويذكر أبو صالح الفرَّاء أنه سمع يوسف بن أسباط يقول: رد أبو حنيفة على رسول الله أربعمائة أو أكثر، فقلت له: يا أبا محمد، تعرفها؟ قال: نعم. قلت أخبرني بشيء منها، فقال: قال رسول الله : «للفرس سهمان وللرجل سهم.» قال أبو حنيفة: أنا لا أجعل سهم بهيمة أكثر من سهم مؤمن! وأشعَر رسول الله البُدن، وقال أبو حنيفة: الإشعار مُثْلةٌ … وكان النبي يُقرِع بين نسائه إذا أراد أن يخرج في سفر، وقال أبو حنيفة: القرعة قمار.

  • (د)

    ويروون أن حماد بن سلمة قال، وقد ذكر أبا حنيفة: إن أبا حنيفة استقبل الآثار واستدبرها برأيه. وفي رواية أنه قال: إن أبا حنيفة استقبل الآثار والسُّنن فردَّها برأيه.

ونقف إلى هذا الحد في نقل هذه الطعون التي أطال فيها الخطيب، وذكر منها الكثير؛ لنلتمس الطريق إلى الحق فيما نقلناه أولًا عن أبي حنيفة ومن وصفوا فقهه وأصوله كما سمعوا منه، وفيما نقلناه عن هؤلاء الطاعنين.

وهذا الطريق في رأينا هو أن ننظر أولًا فيما يؤخذ من أقوال أبي حنيفة نفسه ردًّا على ما اتُّهم به من تجافيه عن السنن والآثار، لا لسبب إلا لجنوحه إلى اجتهاده ورأيه الخاص، ثم ننظر في دفاع القدامى عنه، ومنهم معاصرون له؛ وبعد هذا وذاك، ننظر فيما كتبه بعض المحدثين المعاصرين لنا في هذه المسألة، وأخيرًا ننتهي ببيان الرأي الذي نعتبره الحق فيما اختلف فيه أولئك الناس من قدامى ومحدثين. تلك إذًا، أربع نقط نتكلم عن كل منها بإيجاز، ثم نُعقبها النتيجة التي نستخلصها منها.

رده هو نفسه على ذلك

لقد أحس أبو حنيفة بهذه التهمة في حياته التي لهج بها كثير من الناس، فلم يرَ بدًّا من أن يرد عن نفسه، وكان من ذلك ما سبق أن نقلناه من توضيح طريقته وأصول مذهبه، هذه الطريقة وتلك الأصول التي يمكن إيجازها في قوله نفسه: إذا جاء الحديث عن النبي لم نَمِل عنه إلى غيره وأخذنا به، وإذا جاء عن الصحابة تخيَّرنا، وإذا جاء عن التابعين زاحمناهم. ومن المفهوم أنه يريد «بالحديث» الذي يجيء عن الصحابة والتابعين، هو الآثار التي تحمل أقوالهم وآراءهم في الفقه، لا الأحاديث التي يروونها عن الرسول .

ثم نرى بعد هذا نُعيم بن عمرو يحدِّث أنه سمع أبا حنيفة يقول: «عجبًا للناس! يقولون إني أفتي بالرأي، ما أفتى إلا بالأثر.»١١ أي متى صح عنده، وإلا اجتهد برأيه طبعًا.

دفاع غيره عنه

وكان من الطبيعي أن يجد أبو حنيفة كثيرًا من القدامى يدفعون عنه هذه التهمة، ومن هؤلاء معاصرون له، ومنهم متأخرون عنه، وهؤلاء وأولئك كثيرون، فنكتفي من ذلك بالقليل الذي له دلالته فيما نحن بصدده:١٢
  • (أ)

    يروي خالد بن صبيح أنه سمع زفر (تلميذ أبي حنيفة) يقول: لا تلتفتوا إلى كلام المخالفين؛ فإن أبا حنيفة وأصحابنا لم يقولوا في مسألة إلا من الكتاب والسنة والأقاويل الصحيحة، ثم قاسوا بعدُ عليها.

  • (ب)

    ويروي عبد العزيز بن أبي رِزمَة، وقد ذكر علم أبي حنيفة بالحديث، أنه قدم الكوفة أحد المحدثين، فقال أبو حنيفة لأصحابه: انظروا هل عنده من الحديث شيء ليس عندنا؟ قال: وقدم عليهم محدث آخر، فقال (أي أبو حنيفة) لأصحابه مثل ذلك.

  • (جـ)

    ويقول الحسن بن صالح: كان أبو حنيفة شديد الفحص عن الناسخ من الحديث والمنسوخ، فيعمل بالحديث إذا ثبت عنده عن النبي وعن أصحابه، وكان عارفًا بحديث أهل الكوفة وفقه أهل الكوفة، شديد الاتباع لما كان عليه الناس ببلده.

  • (د)

    ويحدث أحمد بن المفلس أنه سمع يحيى بن آدم، وكان من كبراء المحدِّثين بالعراق يقول: إن للحديث ناسخًا ومنسوخًا، كما في القرآن ناسخ ومنسوخ.

    وكان النعمان جمع حديث أهل بلده كله، فنظر إلى آخر فعل رسول الله الذي قُبض عليه فأخذ به، فكان بذلك فقيهًا.

  • (هـ)

    ويقول أبو يوسف أكبر أصحابه: ما رأيت أحدًا أعلم بتفسير الحديث ومواضع النكت التي فيه من الفقه من أبي حنيفة، كما يقول في مناسبة أخرى: وكان هو أبصر بالحديث الصحيح مني.

    وقريب من هذا، ما رُوي عن إسرائيل إذ يقول: كان نعم الرجل نعمان! ما كان أحفظه لكل حديث فيه فقه، وأشدَّ فحصه عنه، وأعلمه بما فيه من الفقه.

وبعد هؤلاء جميعًا، نرى العلامة المحقق ابن خلدون يتناول مسألة إقلال بعض أئمة الفقه من رواية الحديث، وما يجري ذلك من التهمة لبعضهم، فقال في مقدمته متحدثًا عن الأئمة المجتهدين بعامة:١٣

اعلم أن الأئمة المجتهدين تفاوتوا في الإكثار من هذه الصناعة (يريد: علم الحديث) والإقلال … وقد تقوَّل بعض المبغضين المتعسفين: بأن منهم من كان قليل البضاعة؛ فلهذا قلَّت روايته. ولا سبيل إلى هذا المعتقد في كبار الأئمة؛ لأن الشريعة إنما تؤخذ من الكتاب والسنة، ومن كان قليل البضاعة من الحديث يتعيَّن عليه طلبه وروايته والجد والتشمير في ذلك، ليأخذ الدين عن أصول صحيحة، ويتلقى الأحكام عن صاحبها المبلِّغ لها. وإنما قلل منهم من قلل من الرواية؛ لأجل المطاعن التي تعترضه فيها، والعلل التي تعرض في طريقها، لا سيما والحَرج مقدم عند الأكثر، فيؤديه الاجتهاد إلى ترك الأخذ بما يعرض من ذلك فيه من الأحاديث وطرق الأسانيد.

والإمام أبو حنيفة إنما قلَّت روايته لما شدد في شروط الرواية والتحمل، وضعَّف رواية الحديث اليقيني إذا عارضها الفعل النفسي؛ وقلَّت من أجلها روايته فقلَّ حديثه، لا أنه ترك رواية الحديث، فحاشاه من ذلك.

ويدل على أنه كان من كبار المجتهدين في علم الحديث، اعتماد مذهبه بينهم، والتعويل عليه، واعتماده ردًّا وقبولًا … فلا تأخذك ريبة في ذلك؛ فالقوم أحق الناس بالظن الجميل بهم، والتماس المخارج الصحيحة لهم. والله سبحانه وتعالى أعلم بما في حقائق الأمور.

دفاع بعض المحدثين

وقد تعرَّض أخيرًا لهذه المسألة الهامة في تفصيل وبحث شامل عميق، المغفور له العلامة الشيخ محمد زاهد الكوثري، وذلك في كتاب صدر عام ١٣٦٥ﻫ، سماه: «النكت الطريفة في التحدث عن ردود ابن أبي شيبة على أبي حنيفة». وقد جاء في صدر الكتاب هذه الكلمات: «ادعى ابن أبي شيبة مخالفة أبي حنيفة لأحاديث صحيحة في مائة وخمس وعشرين مسألة من أمهات المسائل الاجتهادية؛ فقام هذا الكتاب بتمحيص أدلة الطرفين، كاشفًا عن كثير من الحقائق في تفاوت مدارك الفقهاء، وأطوار الفقه الإسلامي، مما له خطر عند الباحثين.»

ونعرف أن المرحوم الأستاذ الأجلَّ الشيخ الكوثري كان شديد الإجلال للأحناف وإمامهم، ومن ثَمَّ كان شديد العصبية لأبي حنيفة، وكثيرًا ما كان يقول لي ما معناه: إني أحب الإمام أبا حنيفة، فلا تؤاخذني إن رأيت عصبية مني له.

ولكني أعرف مع ذلك، أنه كان بحاثة حقًّا، وقد أمده الله تعالى بكل ما ينبغي أن يكون عليه الباحث حقًّا؛ من استعداد طيب جيد للعلم والمعرفة، وبَصَر بالمراجع الأصلية كان موضع العجب والإعجاب، وجَلَد على القراءة والبحث وتحري الحقيقة، وقدرة على الموازنة والنقد والترجيح والاستنباط، وكثرة الإنتاج الجيد المحمود.

وهذا الكتاب الذي بين أيدينا حقيق بالتقدير والبحث، وحَريٌّ بالباحث أن يرجع إليه؛ ولذلك نعتمده في هذه المسألة، ونأخذ عنه ما يعيننا على الوصول إلى الحق، في غير عصبية إلا للحقيقة وحدها. ولن نستطيع هنا، والمجال محدود، أن نسايره في كل المسائل التي تناولها؛ ولذلك لا نجد بدًّا من تخير بعضها، فتكون نموذجًا لسائرها:
  • (١)

    روى ابن أبي شيبة في مصنَّفه أن النبي رجم يهوديًّا ويهودية زنيا، ثم ذكر أن أبا حنيفة قال: ليس عليهما رجم. وهذا الحديث مع ما في أسانيده في رواياته المختلفة من كلام، لم يأخذ به أبو حنيفة لأنه حكاية فعل من الرسول، وقد عارض هذا الفعلَ قول ينص على اشتراط الإسلام في المحصن إذا زنى، والقول مقدَّم على الفعل عند التعارض، كما هو معروف، وهو قول الرسول : «من أشرك بالله فهو غير محصن.»

    على أن ابن حجر العسقلاني يقول في فتح الباري:١٤ قال المالكية ومعظم الحنفية وربيعة شيخ مالك: شرط الإحصان الإسلام. ورأوا أن الرسول قد رجم هذين اليهوديين بحكم التوراة، وكان ذلك أول دخول المدينة، وكان مأمورًا باتباع حكم التوراة، حتى يُنسخ ذلك في حكم الإسلام.
  • (٢)

    من المعروف أن الرجل إذا ارتد عن الإسلام يجب قتله شرعًا، وفي هذا يقول الرسول : «من بدَّل دينه فاقتلوه.» وذلك بلفظه عامٌّ في الرجل والمرأة، كما يقول: «لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث: الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة.»

    وبعد أن روى ابن أبي شيبة هذا، قال: وذكروا أن أبا حنيفة قال: لا تُقتل إذا ارتدت.

    وهنا نرى الشيخ الكوثري يجد أن ما رواه ابن أبي شيبة من أحاديث وآثار بقتل المرتدة لا غبار عليها؛ ولكنه يذكر ما رواه أبو هريرة من أن امرأة ارتدت على عهد رسول الله فلم يقتلها، وكذلك ما يرويه الطبراني في المعجم الكبير، من أن رسول الله قال لمعاذ بن جبل: «أيما رجل ارتد عن الإسلام فادْعُه؛ فإن تاب فاقبل منه، وإن لم يتب فاضرب عنقه، وأيما امرأة ارتدت عن الإسلام فادعُها؛ فإن تابت فاقبل منها، وإن أبت فاستبقها.» ومعنى هذا، كما جاء عن ابن عباس وغيره، أنها تُحبس في السجن حتى تموت أو تتوب.

    وهنا، يرى أبو حنيفة أنه رويت أحاديث وآثار تدل على التسوية بين الرجل والمرأة في وجوب القتل إذا أصرَّ أيهما على ردَّته، وأخرى تجعل الحكم في المرأة أن تُستتاب، وإلا حُبست حتى تموت أو تتوب؛ وأن في أسانيد بعض روايات الأولى مَن تُرك حديثه أو اتُّهم بالوضع، فكان أن اعتمد الأحاديث والآثار الأخرى.

    ذلك فضلًا عن المُجمع عليه من أن الحدود تدرأ بالشبهات، ومن أن الرسول نهى عن قتل النساء والصبيان في الحروب؛ فإذا كانت الكافرة الأصلية موضع رفق، فالمرتدة الطارئة الكفر بدار الإسلام أولى بالرفق، كما يقول الشيخ الكوثري، تمكينًا لها من العودة إلى حظيرة الإسلام.

  • (٣)

    روى ابن أبي شيبة في مسألة حصة الفارس والراجل من غنيمة الحرب، وهي من مسائل القانون العام، بضعة أحاديث كل منها يدل على أن للفرس سهمين وللرجل سهمًا، ثم ذكر أن أبا حنيفة قال: «سهم للفرس وسهم لصاحبه»؛ فلو قاتل إنسان على فرسه كان له سهمان، سهم له وسهم لفرسه، ولو قاتل راجلًا كان له سهم واحد. على حين أنه بحسب الأحاديث التي رواها ابن أبي شيبة يكون لمن قاتل فارسًا ثلاثة أسهم؛ اثنان للفرس، وواحد له.

    لكن أبا حنيفة لم يقل برأيه إزاء هذه الأحاديث؛ بل رأى أحاديث أخرى تدل على أن الرسول أعطى في بعض الغزوات للفارس سهمين وللراجل سهمًا، وكذلك قال سيدنا عمرو رضي الله عنه حين بلغه من بعض عماله أنه فعل ذلك حين غنم في حرب قام بها.

    نظر أبو حنيفة إذًا إلى هذه الأحاديث والآثار من ناحية، وإلى تلك من ناحية أخرى، فقال: السهم الواحد — أي للفرس — متيقَّن به؛ لاتفاق الآثار، وما زاد عليه مشكوك فيه لاشتباه الآثار؛ فلا أعطيه إلا المتيقَّن، ولا أُفضِّل بهيمة على مؤمن.١٥
  • (٤)

    وهذه مسألة من مسائل القانون المدني، وهو أهم فروع قسم القانون الخاص، وهي مسألة خيار المجلس المختلف فيه بين الفقهاء، فقد روى فيها ابن أبي شيبة بضعة أحاديث، ومنها قوله : «البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا.» ثم ذكر بعدها أن أبا حنيفة قال: «يجوز البيع وإن لم يتفرقا»؛ أي يتم البيع ويصير لازمًا إلا إذا كان فيه خيار الشرط مثلًا.

    وقد بحثنا هذه المسألة في تفصيل عميق من كل نواحيها في كتاب ظهر لنا منذ أعوام.١٦ وانتهينا من البحث إلى هذه النتائج:
    • (أ)

      أن أحاديث خيار المجلس متفق عليها بين الأئمة جميعا، حتى الإمام مالك بن أنس؛ فقد روى أحدها في موطئه وإن كان لم يعمل به، لدليل رآه أقوى منه.

    • (ب)
      أن الذين لا يرون خيار المجلس، ومنهم أبو حنيفة ومالك، يرون أن آية سورة النساء التي تقول: يَا أيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إلَّا أنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ، تفيد أنه متى وقع البيع بالإيجاب والقبول عن تراضٍ كان لكل من الطرفين الانتفاع بما أخذ: البائع بالثمن والمشتري بالمبيع؛ وإذًا، فقد تم البيع وليس لأحدهما ما يُسمَّى خيار المجلس؛ لأن ذلك لو كان مشروعًا لمنع ملك البدل لكلٍّ من الطرفين وحَلَّ الانتفاع به.
    • (جـ)

      أن أبا حنيفة يلجأ بعد ذلك إلى أن المراد بالافتراق في «الحديث» هو الافتراق بالقول، بمعنى أن للبائع أن يرجع في إيجابه قبل أن يصدر القبول عن المشتري، وهذا هو معنى الخيار، أما إذا تفرقا بالقول؛ أي رضيا بالبيع وصدر الإيجاب والقبول بلا رجوع من الموجب قبل القبول، فقد تم البيع.

    • (د)
      أن أصحاب هذا الرأي قد استدلوا لهذا التأويل مما ورد في القرآن من مثل قوله تعالى (سورة البينة ٩٨: ٤): وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ الْبَيِّنَةُ. وقوله: (سورة آل عمران ٣: ٣٠١): وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا؛ فإنه من الواضح أنه ليس المراد بالافتراق في ذلك ونحوه الافتراق بالأبدان؛ بل الأقوال.

    وبعد هذه النتائج التي انتهينا إليها، لا نرى خيرًا في إطالة الحديث عن هذه المسألة؛ فلنتركها إلى غيرها.

  • (٥)
    وهذه مسألة تتعلق بشعيرة من شعائر الحج، وهي مسألة إشعار الهَدْي؛ فقد روى ابن أبي شيبة أن النبي خرج عام الحديبية في بضع عشرة ومائة من أصحابه؛ فلما كان بذي الحُليفة قلَّد الهدْي وأشعر وأحرم، وبعد هذا، ذكر ابن أبي شيبة أن أبا حنيفة قال: الإشعار مُثلة.١٧
    والخطب هنا يسير؛ فإن الشيء أو العمل الواحد يتغير من حال إلى حال، أو من زمن إلى زمن، فيتغير لذلك حكمه، وقد رأينا كثيرًا من هذا فيما كان من صنيع سيدنا عمر بن الخطاب وغيره من الصحابة والتابعين.١٨

    والإشعار، وهو موضع الحديث هنا، قد يكون برفقٍ كما كان يصنع الرسول الذي غرس الله في قلبه الكبير الرحمة بالإنسان والحيوان معًا، فيكون إذًا من سننه الشريفة، وقد يكون أحيانا بعنف، فيكون مُثْلة بالحيوان ينبغي أن يُنهى عنها، فلعل أبا حنيفة قال عنه «إنه مُثلة» ويريد به ما كان في زمنه.

    على أن السيدة عائشة رضي الله عنها تركته، كما خيَّر سيدنا ابن عباس رضي الله عنه بين فعله وتركه.

    وكذلك، ليس للمجتهد أن يتسارع إلى قبول النقل والعمل به إلا بعد تصفُّح العلل والأسباب، وأقصى ما يُرمى به المجتهد حين يخالف حديثًا في مسألة ما، أن يقال: لم يبلغه الحديث، أو بلغه من طريق لم يرضَه.

  • (٦)

    وهذه مسألة من مسائل القانون المدني في القانون الوضعي، وتُدرس في الفقه الإسلامي فيما يصح أن نسميه قانون المرافعات، وهذا هو موضعها في رأينا؛ لأنها مسألة الاكتفاء بشاهد واحد، ويمين المدَّعي لإثبات دعواه، ولا يطلب إثبات الدعاوى إلا بعد رفعها للقضاء.

    وفيها يروي ابن أبي شيبة أحاديث وآثارًا تدل على جواز إثبات دعوى المدعي بشاهد واحد ويمين الطالب، ثم ذكر بعدها أن أبا حنيفة قال: لا يجوز ذلك.

    وقد عُني الشيخ الكوثري في هذه المسألة، ببيان ما في هذه الأحاديث والآثار من علل في طرقها تجيز عدم الأخذ بها، وتجعلها لا حُجيَّة فيها.

    ثم أشار إلى الآثار والأخبار التي تعارضها، وإلى الفقهاء الذين لم يأخذوا بها وأوجبوا أن يكون نصاب الشهادة رجلين أو رجلًا وامرأتين.

    ونحن من جانبنا، نرى من الخير أن نأتي ببعض ما ذكرناه في هذه المسألة في كتابنا «عصر نشأة المذاهب» من سلسلة تاريخ الفقه الإسلامي.١٩ وذلك إذ نقول:
    يقول الله تعالى (سورة البقرة ٢: ٢٨٢): وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاء وإلى هذا ذهب فقهاء العراق كأبي حنيفة والثوري، وآخرون غيرهم مثل عمر بن عبد العزيز بالشام، والليث بن سعد بمصر.

    وهم يستدلون فضلًا عن كتاب الله بسنة رسوله: فقد ثبت عن الأشعث بن قيس أنه كان بينه وبين رجل خصومة في شيء، فاختصما إلى الرسول ، فقال: «شاهداك أو يمينه.» فقال الأشعث: إذًا يحلف ولا يبالي، فقال النبي: «من حلف على يمين يقتطع بها مال امرئ مسلم، هو فيها فاجر، لقي الله وهو عليه غضبان.» وكذلك يحدِّث علقمة بن وائل بن حجر عن أبيه، في أمر الحضرمي الذي خاصم الكِنْدي في أرض في يده، ادعاها، وجحد الكندي: أن النبي قال للحضرمي: «شاهداك أو يمينه، ليس لك إلا ذلك.»

    لكن الإمام مالك بن أنس يرى غير ذلك، وأن شهادة واحد للمدعي مع يمينه يُعتبر كافيًا لإثبات دعواه، وهو يستدل بما رواه من أن الرسول قضى باليمين مع الشاهد، وأن عمر بن عبد العزيز كتب إلى عبد الحميد بن عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب، وهو عامل على الكوفة: أن اقضِ باليمين مع الشاهد؟ وأن أبا سلمة بن عبد الرحمن وسليمان ابن يسار سُئلا: هل يُقضَى باليمين مع الشاهد؟ فقالا: نعم.٢٠

    وفي مقابل هذا نرى — كما يقول الليث بن سعد في رسالته إلى مالك — أنه لم يقضِ بذلك أصحاب رسول الله بالشام وحمص، ولا بمصر، ولا بالعراق، ولم يكتب به إليهم الخلفاء الراشدون.

    ولما ولي عمر بن عبد العزيز — وهو ما نعرف في إحياء السنن، والجِدِّ في إقامة الدين، وفي إصابة الحق، وفي العلم بما مضى من أمر الناس — كتب إليه زُريق بن عبد الحكم: إنك كنت تقضي بالمدينة بشهادة الشاهد الواحد ويمين صاحب الحق. فرد عليه بقوله: إنا كنا نقضي بذلك بالمدينة؛ فوجدنا أهل الشام على غير ذلك، فلا نقضي إلا بشهادة رجلين عدلين أو رجل وامرأتين.٢١
  • (٧)

    وهذه مسألة جواز الانتفاع بالشيء المرهون أو عدم جوازه، وهي مسألة تجري كثيرًا في حياتنا العملية، وقد أتى فيها ابن أبي شيبة بحديثين؛ هما: حدثنا وكيع عن زكريا عن عامر عن أبي هريرة أن النبي قال: «الظَّهر يُركب إذا كان مرهونًا، ولبن الدَّرِّ يُشرب إذا كان مرهونًا، وعلى الذي يركب ويشرب نفقته.» والثاني رواه وكيع عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: «الرهن محلوب مركوب.» ثم ذكر أن أبا حنيفة قال: لا يُنتفع به.

    وجملة ما ذكره الشيخ الكوثري هنا، هو أن انتفاع المرتهن بما رُهن لديه كان جائزًا أولًا، ثم نُسخ بعد ذلك بتحريم الربا، وبتحريم كل قرض جر منفعة؛ ولهذا نجد كثيرًا يخالفونه من الصحابة والتابعين.

    فهذا الإمام البيهقي يروي في «السنن الكبرى» أن رجلًا جاء إلى عبد الله بن مسعود فقال: إني أسلفت رجلًا خمسمائة درهم، ورهنني فرسًا ركبتها أو أركبتها، فقال له: «ما أصبت من ظهرها فهو ربا.» والشعبي؛ وقد روى عن أبي هريرة حديثا في جواز الانتفاع بالرهن، نراه يقول بعدُ: لا يُنتفع من الرهن بشيء. وكذلك يقول في رجل ارتهن جارية فأرضعت له: يُغرَّم لصاحب الجارية قيمة إرضاع اللبن. ومثل هذا كان من شُريح القاضي، حين سئل عن رجل ارتهن بقرة فشرب من لبنها، فقال: ذلك شرب الربا.٢٢ إذًا، يكون حديث جواز الانتفاع بالرهن منسوخًا بما ذكرنا؛ وإلا لما خالفه في العمل والإفتاء هؤلاء وغيرهم. ثم هو — كما يقول الطحاوي وابن عبد البر — ترده أصول مُجمع عليها، وآثار لا يُختلف في صحتها.٢٣ ويدل على نسخه أيضًا حديث ابن عمر (البخاري في أبواب المظالم) الذي فيه: لا تُحلب ماشية امرئ بغير إذنه.
  • (٨)
    هذا وننتهي من هذا الاستعراض بذكر المسألة المعروفة «ببيع المُصَرَّاة» وهي البقرة (مثلًا) التي يحبس البائع لبنها في ضرعها أيامًا ليظن المشتري أنها غزيرة اللبن. وقد روى ابن أبي شيبة فيها حديثين هما:
    • (أ)

      «من اشترى مُصرَّاة فهو فيها بالخيار، إن شاء ردها ورد معها صاعًا من تمر.»

    • (ب)

      «من اشترى مُصرَّاة فهو فيها بخير النظرين، إن ردها ردَّ معها صاعًا من طعام أو صاعًا من تمر.»

    ثم ذكر بعد ذلك أن أبا حنيفة قال بخلافه.

    وفي المسألة، وهي مسألة خيار العيب، أحاديث أخرى، ونكتفي منها بحديث من الثلاثة التي ذكرها البيهقي (السنن الكبرى ج٥: ٣٢٠،٣١٨) وهو: «لا تصروا الإبل ولا الغنم، فمن ابتاعها بعد ذلك فهو بخير النظرين بعد أن يحلبها؛ فإن رضيها أمسكها، وإن سخطها ردها وصاعًا من تمر.»

    ولا يعنينا هنا بحث المسألة من جميع نواحيها، وبيان وجه الحق فيها، فقد استوفينا ذلك في بحث آخر.٢٤ وإنما الذي يعنينا هو بيان وجهة نظر أبي حنيفة في عدم الأخذ بما ورد في هذه المسألة من أحاديث.
    وفي هذه الناحية. يرى الشيخ الكوثري أن الحديث صحيح الإسناد بدون شك؛ ولكن أفق المجتهد أوسع، ونظره في الحديث غير قاصر على ناحية واحدة؛ فربما ظهر للبعض من علة تمنع الأخذ بظاهره ما لا يظهر للآخر، ويعتني هذا المجتهد بموافقة الحديث للأصول المجمع عليها فوق اعتناء ذاك المجتهد بهذا. وقد خالف أبو حنيفة وطائفة من الفقهاء غيرهم في الأخذ بهذا الحديث، وقالوا ليس للمشتري ردُّ المُصرَّاة بخيار العيب؛ ولكنه يرجع بالنقصان لوجود ما يمنع الرد، إذ رأوا أن في الحديث اضطرابًا واختلافًا شديدًا في مدة الخيار وفي ما يرده المشتري.٢٥
    ثم لا بد من سلامة المتن من ألا يخالف ما هو أقوى منه من كتاب وسنة وأصل مجمع عليه؛ فالشذوذ والعلة يمنعان من الأخذ بالحديث، فيتوقف المجتهد عن العمل بظاهره. وهذا الحديث معلول لمخالفته لعموم كتاب الله في ضمان العدوان بالمثل، وهذا ما جاء في قوله تعالى (سورة البقرة ٢: ١٩٤): فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ، وفي قوله (سورة النحل ١٦: ١٢٦): وَإنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ. والصاع من التمر ليس بمثل ولا قيمة لما أخذه المشتري من اللبن.

    وكذلك، هذا الحديث مخالف لحديث: «الخراج بالضمان» وهو حديث صححه الترمذي وأخذ به جمهور الفقهاء، فلا يكون اللبن مضمونًا حيث كانت المصراة تحت ضمان المشتري مدة بقائها عنده يُنفق عليها … إلى آخر ما قال رحمه الله تعالى.

والآن نكتفي بهذه المسائل الثمانية؛ ففيها تعريف بوجهة نظر أبي حنيفة حين ترك الأخذ بما جاء فيها وفي أمثالها من أحاديث وآثار. وبعد ذلك نأخذ في بيان رأينا في موقفه هذا. والله يهدي إلى الحق الذي ننشده دائمًا.

رأينا الخاص

والآن، ما هو رأينا الخاص الذي خلُص لنا من التنقيب والبحث والموازنة بين الأقوال والآراء التي اختلفت اختلافًا شديدًا في أبي حنيفة ومذهبه الذي خرج به على الناس؟ لقد كان من الطبيعي أن ينقسم الناس في أبي حنيفة، شأنه في هذا شأن كل عظيم من رجالات الفكر يأتي بجديد، فكان منهم في العراق نفسه، وهو وطنه الخاص — بَلْهَ المدينة مثلًا مهد الحديث والمحدثين — من يعرف له فضله ومنزلته، فهو يُثني عليه ويجلُّه، وربما كان منهم من يبالغ في هذه الناحية فهو يتزَّيد ويغمره بالمناقب، وكان منهم من يتطلب له العثرات، ويراه قد انحرف عن السبيل السَّويِّ، فهو يقدح فيه ويبالغ في ذمه، حتى لينال من دينه. ويرى منهجه ومذهبه في الفقه خطرًا على الدين نفسه، وكان جمهرة هؤلاء من أهل الحديث وملتزمي المأثور.

إن تهمة رده للحديث والآثار وأخذه برأيه، وأن ذلك يعتبر تكذيبًا للحديث والآثار، يردها كثير من الأقوال التي أُثِرت عنه، كما يردها كثير من الآراء التي ترك فيها رأيه، اتِّباعًا لما صح عنده من حديث رسول الله ، بل اتباعًا لبعض الآثار التي رويت عن بعض الصحابة رضوان الله عليهم:
  • (أ)
    فمن الناحية الأولى،٢٦ نجده يقول في كتاب «العالم والمتعلم» وهو ما رواه عنه أبو مقاتل، وعن أبي مقاتل رواه الموفق المكي في «المناقب».٢٧ لأحد سائليه من تلاميذه عن مسألة تتعلق بأصول الدين: «فردِّي على كل رجل يحدِّث عن النبي بخلاف القرآن، ليس ردًّا على النبي ، ولا تكذيبًا له؛ ولكنه رد على من يحدِّث عن النبي بالباطل. والتهمة دخلت عليه ليس على نبي الله عليه السلام، وكذلك كل شيء تكلم به نبي الله عليه الصلاة والسلام، سمعناه أو لم نسمعه، فعلى الرأس والعينين، قد آمنا به ونشهد أنه كما قال نبي الله، ونشهد أيضًا على النبي أنه لم يأمر بشيء نهى الله عنه، ولم يقطع شيئًا وصله الله، ولا وصف أمرًا وصف الله ذلك الأمر بغير ما وصف النبي، ونشهد أنه كان موافقًا لله في جميع الأمور، ولم يبتدع ولم يتقوَّل على الله غير ما قال الله تعالى ولا كان من المتكلفين؛ ولذلك، قال الله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أطَاعَ اللهَ
    ويذكر ابن عبد البر أنه قيل لأبي حنيفة: المُحْرِم لا يجد الإزار يلبس السراويل؟ قال: لا؛ ولكن يلبس الإزار، قيل له: ليس له إزار؟ قال: يبيع السراويل ويشتري بها إزارًا، قيل له: فإن النبي خطب وقال: «المحرم يلبس السراويل إذا لم يجد الإزار.» فقال أبو حنيفة: لم يصح في هذا عندي عن رسول الله شيء فأُفتي به، وينتهي كل امرئ إلى ما سمع، وقد صح عندنا أن رسول الله قال: «لا يُلبس السراويل» فننتهي إلى ما سمعناه. قيل له: أتخالف النبي ؟ فقال: لعن الله من يخالف رسول الله ، به أكرمنا الله، وبه استنقذنا.٢٨
  • (ب)
    وليس هذا قولًا يقوله بلسانه ولا يعمل به؛ بل نرى من آرائه ما يصدقه؛ فإن يحيى بن آدم، وكان من كبار فقهاء المحدثين بالعراق، وأعلم الناس بحديث أهل الكوفة بعد أبي بكر بن عيَّاش، يقول: زعم بعض الطاعنين أن أبا حنيفة رحمه الله تعالى قال بالقياس وترك الأثر، وهذا بَهْتٌ منه وافتراء عليه، فإن كتبه وكتب أصحابه مملوءة من المسائل التي تركوا العمل فيها بالقياس، وأخذوا بالأثر الوارد فيها. ثم ذكر بعد هذا بعض هذه المسائل؛ ومنها انتقاض الطهارة بالضحك في الصلاة، وانتقاض الوضوء بالنوم مضطجعًا، وبقاء الصوم مع الأكل ناسيًا، وأشباه هذا مما يكثر تعداده.٢٩ ولنا أن نضيف إلى هذه المسائل أخرى يتضح فيها شدة حرص أبي حنيفة على الأخذ بالحديث متى صح عنده، ومن هذه مسألة اختلف فيها في الرأي مع معاصريه: ابن أبي ليلى وابن شُبرمة، وكان مستند كلٍّ من الثلاثة حديث مفرد اتصل به ولم يتصل به في المسألة سواه، وقد روى هذه المسألة وملابساتها … ابن السيد البَطَليَوْسي المتوفى عام ٥٢١ﻫ، فنكتفي بالإشارة إليها:٣٠

    وهي أن رجلًا سأل كلًّا من الثلاثة هذا السؤال: ما تقول في رجل باع بيعًا وشرط (أي فيه) شرطًا؟ وكانت إجابة أبي حنيفة: أن البيع باطل والشرط باطل، وإجابة ابن شُبرمة أن كليهما جائز، وإجابة ابن أبي ليلى أن البيع جائز والشرط باطل. وكان من السائل أن عجب من هذا الاختلاف، وقال: سبحان الله! ثلاثة من فقهاء العراق لا يتفقون على مسألة! وحين وقف كلٌّ من الثلاثة على رأي كلٍّ من صاحبيه، لم يجد لأحد منهما مستندًا لرأيه إلا حديثًا عن الرسول يتمسك به إذ لم يعرف حديثًا آخر مما اتصل بمعاصريه الاثنين.

    وعلينا بعد هذه الناحية وتلك، لتقدير موقف أبي حنيفة من الحديث والآثار والرأي، أن نفطن لأمر فطن له المتقدمون، ويجب أن يضعه نصب عينيه كل من يتصدى للفقه وتاريخه وتقدير رجاله.

    وهذا الأمر، هو أن من الحق أن معين الفقه الأول هو كتاب الله وسنة رسوله؛ ولكن هذه المواد الغزيرة لا يُحسن استنباط الأحكام الفقهية منها إلا العارف بعلوم القرآن وعلوم الحديث؛ وذلك ليكون على بينة حين يستند إلى هذه الآية أو هذا الحديث، أو حين يتجاوز تلك الآية أو ذلك الحديث. وبهذا يكون الفقيه مَثَله مَثَل الطبيب الذي يجد أمامه كثيرًا من العقاقير، فيفيد مما ينبغي الإفادة منها عن علمٍ وبيِّنة.

    ولعل هذا الذي نقول هو ما جعل يزيد بن هارون، وقد جاءه مستفتٍ، فسأله عن مسألة، وعنده يحيى بن معين وعلي بن المديني وأحمد بن حنبل وآخرون، فقال له: اذهب إلى أهل العلم، فقال له ابن المديني: أليس أهل العلم والحديث عندك! فقال: أهل العلم أصحاب أبي حنيفة، وأنتم صيادلة.٣١
    وفي هذا يذكر أبو رجاء الهروي أنه سمع أبا حنيفة يقول: مثَل من يطلب الحديث ولا يتفقَّه، مثل الصيدلاني يجمع الأدوية ولا يدري لأي داء هو حتى يجيء الطبيب، هكذا طالب الحديث، لا يعرف وجه حديثه حتى يجيء الفقيه!٣٢ ومن ثَمَّ، يذكر سُويد بن نصر أنه سمع ابن المبارك يقول: لا تقولوا رأي أبي حنيفة، ولكن قولوا تفسير الحديث.٣٣

وأخيرًا فإن النتيجة التي استخلصناها من هذا التنقيب والبحث، أنه ليس لباحث منصف أن يرمي أبا حنيفة بأنه كان يترك عامدًا بعض ما صحَّ عنده من الحديث والآثار ليأخذ بالرأي والقياس، حاشاه أن يكون فعل شيئًا من ذلك؛ وإلا لما كان مؤمنًا حقًّا برسول الله صلى الله وما جاء عنه، بَلْهَ أن يكون إمامًا من أئمة الشريعة الإسلامية الخالدين.

غاية ما في الأمر أنه كان بصيرًا بالأحاديث والآثار، وكان له أصول وقواعد في «فقه الحديث» — إن صح هذا التعبير — وكان يرجع إليها فيما يأخذ ويدع. ولعل من الخير أن ننقل بعض ما ذكره هذا التعبير — وكان يرجع إليها فيما يأخذ ويدع، ولعل من الخير أن ننقل بعض ما ذكره العلامة الشيخ الكوثري في خاتمته لكتابه الذي ذكرناه فيما قبل وأفدنا كثيرًا منه، وذلك إذ يقول:٣٤

قد تبيَّن مما بسطناه في تحقيق أدلة ابن أبي شيبة في تلك المسائل أن أبا حنيفة كان يأخذ بالأحاديث الصحيحة المستجمعة لشروط الصحة المعتبرة عنده في بيان مجمل الكتاب والسنة، وفيما لا معارض له أقوى: كعمومات الكتاب أو ظواهره، أو الخبر الصحيح المحتفِّ بالقرائن، أو الخبر المشهور أو التواتر.

وعند وجود مُعارض كهذه يأخذ بالمعارض الأقوى عملًا بأقوى الدليلين، فيُؤَوِّل الخبر الآخر بوجوه تأويل تظهر له مما يستسيغه أهل الفقه في الدين، ويحتِّم الأخذ بما يبرئ الذمة بيقين عند اختلاف الروايات، ويسعى جهده في عَدم إهدار تصرُّف العاقل بقدر ما يمكن … ويرعى جانب الفقراء والأرقَّاء وسائر الضعفاء في الأحكام المختلف فيها، جريًا على الرفق بالضعيف المطلوب في الشرع، ويفسر الأدلة المحتملة بما هو في مصلحة من تُوقَّع عليه العقوبات أخذًا بقاعدة درء الحدود بالشبهات، ويعتمد على القواعد العامة، باعتبار أن القواعد العامة يقينية في الشرع، وخبر الآحاد الذي له معارض في أدنى درجات النظر. ويميل إلى الأخذ بالدليلين ما أمكن الأخذ بهما، ولا يحمل أحدهما على أنه منسوخ، ما لم يتعذر الجمع بينهما. وعند اضطراره إلى الحكم على أحد الدليلين بأنه منسوخ، يأبى أن يقول بما يستلزم تكرر النسخ حين يرى ذلك خلاف الأصل. وتلك أسس لا غبار عليها في فهم أهل الفقه في الدين.

هذا، وقد بحث الحافظ محمد بن يوسف الصالحي هذا الأمر في كتابه «عقود الجمان في مناقب أبي حنيفة النعمان» ودفع بحق ما اتُّهم به أبو حنيفة من تركه الأخذ ببعض الأحاديث والآثار، وبيَّن أصوله في ذلك، وهو بحث جيد للصالحي، فيحسن الرجوع إليه والإفادة منه.

وبعدُ، لقد طال الكلام على طريقة أبي حنيفة وفقهه، وقد تشعَّب البحث فيه كما رأينا، ثم انتهى بنا إلى النتيجة التي نعتقد فيها أنها الحق. وعلينا بعد ذلك، أن ننتقل إلى البحث الذي يليه، وهو عرض بعض آرائه ومسائله الفقهية، وذلك حتى نتعرف النزعات أو الاتجاهات التي سادت تفكيره الفقهي.

١  نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي، ص٢٢٤ وما بعدها.
٢  ترجم لي عن الألمانية بحث هذين المستشرقين، صديقي العلامة الدكتور عبد الحليم النجار الأستاذ بكلية الآداب جامعة القاهرة.
٣  تاريخ بغداد، ج١٣: ٣٣٦ وما بعدها.
٤  راجع في هذا وما بعده، تاريخ بغداد، ج١٣: ص٣٣٦ وما بعدها.
٥  تاريخ بغداد، ج١٣: ٣٦٩ وما بعدها.
٦  حجة الله البالغة، ج١: ص١٤٦.
٧  راجع صفحات: ٩١، ٩٢، ١٣٢، ١٠٩-١١٠.
٨  ضحى الإسلام، ج٢: ١٩٢-١٩٣.
٩  ج١٣: ٣٨٧ وما بعدها.
١٠  المناقب للمكي، ج١: ٧٧.
١١  المناقب للمكي، ج١: ٧٧-٧٨.
١٢  المناقب للمكي، ج١: ٨٣ وما بعدها، وتاريخ بغداد، ج١٣: ٣٣٩ وما بعدها.
١٣  المقدمة، ص٣٥٢-٣٥٣.
١٤  فتح الباري بشرح صحيح البخاري، ج١٢: ١٣٨.
١٥  راجع أيضًا الرد على سير الأوزاعي، ص١٧ وما بعدها، مع التعليقات القيمة التي عليه.
١٦  هو كتاب: «فقه السنة، والبيوع والمعاملات المالية المعاصرة»، ص٥٦–٦٧ﻫ من الطبعة الثانية، بدار الكتاب العربي بمصر عام ١٩٥٤.
١٧  وراجع اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص١٣٦.
١٨  راجع كتابنا: «فقه الصحابة والتابعين»؛ ففيه نرى كيف كان صنيع هؤلاء رضوان الله عليهم من النصوص.
١٩  ص٩١-٩٢.
٢٠  الموطأ، ج٢: ١٠٨.
٢١  ونرى من الواجب بعد ما تقدم، الرجوع إلى أحكام القرآن للجصاص (ج١: ٦١٢ وما بعدها)؛ ففيه بحث جيد للمسألة، وأن القضاء بشهادة واحد ويمين صاحب الحق، سُنَّة معاوية وعبد الملك بن مروان من بعده، لا سنة رسول الله .
٢٢  السنن الكبرى للبيهقي، ج٦: ٣٩.
٢٣  نيل الأوطار، ج٧: ٢٣٥. ومن تلك الأصول أن يكون ضمان الشيء بمثله أو قيمته، وهنا الضمان بالنفقة، هذا، ومن الخير الرجوع إلى «الروض النضير»، ج٣: ٢٧٥-٣٧٦؛ ففيه بحث المسألة بتمامها، وإلى كتابنا «فقه الصحابة والتابعين» ص٩٤–٩٧ ففيه استقصاء لوجوه النظر والخلاف فيها.
٢٤  هو كتاب «فقه الكتاب والسنة، البيوع والمعاملات المالية المعاصرة» الطبعة الثانية سنة ١٩٥٤م، ص٧٤–٧٨.
٢٥  فقد قدر بالطعام، وبالتمر، وبالقمح، وذلك على الروايات المختلفة.
٢٦  وهذا فضلًا عما سبق نقله عن الإمام نفسه من أخذه بما صح عنده من الحديث والأثر وتقديم ذلك على القياس.
٢٧  كتاب العالم والمتعلم، ص٢٥، المناقب للمكي، ج١: ٩٩-١٠٠.
٢٨  الانتقاء، ص١٤٠-١٤١.
٢٩  المناقب للمكي، ٤٩، ج١: ٩٣، وقد ذكر مسائل أخرى بعد هذه المسائل.
٣٠  راجع كتابنا «عصر نشأة المذاهب»، ص١٨؛ فقد ذكرنا فيه المسألة بتمامها نقلًا عن كتاب الإنصاف لابن السيد ص٧٠-٧١.
٣١  المناقب للمكي، ج٢: ٤٧.
٣٢  المناقب للمكي، ج٢: ٩١.
٣٣  نفسه، ج٢: ٥١.
٣٤  ص٢٥٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤