اتجاهات فقه أبي حنيفة

اتجاهاته العامة

نقلنا عن العالم الأجلِّ المرحوم الشيخ الكوثري، من ختام كتابه «النكت الطريفة في التحدث عن رد أبي شيبة على أبي حنيفة»، أن هذا الإمام الأعظم كان يُحتِّم الأخذ بما يبرئ الذمة بيقين عند اختلاف الروايات، ويسعى جهده في عدم إهدار تصرُّف العاقل بقدر ما يمكن، ويرعى جانب الفقراء والأرقَّاء وسائر الضعفاء في الأحكام المختلف فيها، ويفسر الأدلة المحتملة بما هو في مصلحة من تُوقَّع عليه العقوبات أخذًا بقاعدة درء الحدود بالشبهات.

فهل هذه النزعات، إلى أخرى بجانبها، كانت تقوده في اجتهاده؟ أو أن اجتهاده قاد إليها، من غير أن يكون الإمام قد نظر إليها وصدر عنها؟

نحن نرى أن ترجيح هذا الجانب أو ذاك غير ميسور لنا الآن، ولن يكون ميسورًا إلا إذا استقصينا آراءه في المسائل التي عُني ببيان وجه الحق فيها، وهيهات أن يصل باحث إلى هذا الاستقصاء! فهذه المسائل بلغت من الكثرة حدًّا يكاد يتعذر معه الوقوف عليها جميعها، وحسبنا أن نشير إلى أنها بلغت في رأي بعض من كتبوا عنه مئات الآلاف!١ وذلك فضلًا عن أنها منثورة هنا أو هناك في تضاعيف الكتب التي ليست بين أيدي الباحثين اليوم.
ومع هذا، فإن بين أيدينا من المراجع المعتبرة ما يمدنا بكثير من آراء أبي حنيفة في كثير من الوقائع والمسائل: ومن هذه الآراء ما يجعلنا قادرين على معرفة كيف كان يجتهد، وعلى معرفة ما طَبع آراءه من نزعات مختلفة، نكاد نراها جميعها نزعات اجتماعية تدعو إلى هذه المعاني وما إليها:
  • (أ)

    التيسير في العبادات والمعاملات، وذلك من أسس الشريعة الإسلامية.

  • (ب)

    رعاية جانب الفقير والضعيف، وهذا ما يوصي به القرآن.

  • (جـ)

    تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان.

  • (د)

    رعاية حرية الإنسان وإنسانيته.

  • (هـ)

    رعاية سيادة الدولة ممثلة في الإمام.

على أنه يجب ألا ننسى أن المسألة الواحدة من تلك المسائل قد تتحقق فيها نزعة واحدة أو أكثر، وذلك أمر نراه طبيعيًّا، وحينئذٍ نضعها في الجانب الأظهر فيها.

التيسير في العبادات والمعاملات

من الدعائم التي قام عليها التشريع الإسلامي التيسير، برفع الحرج ودفع المشقة، سواء في هذا ما أتى به من عقائد وعبادات وتشريعات. وفي هذا جاء في القرآن العظيم قوله تعالى (سورة البقرة آية ١٨٥): يُرِيدُ الله بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وقوله (سورة الحج آية ٧٨): وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ، كما جاء في الحديث أن الرسول قال: «يسِّروا ولا تعسِّروا.»٢

لا جرم إذًا، أن يراعي الفقهاء هذا الأساس فيما يذهبون إليه من آراء، وإن كانوا يتفاوتون في التطبيق؛ وذلك بحسب ما يذهب إليه كل منهم من الأدلة والأصول، وبحسب ما يظهر لكل منهم من وجوه التخريج والترجيح.

وهذا الأساس لم يفُت طبعًا أبا حنيفة، ونراه واضحًا في كثير من آرائه التي ذهب إليها في مسائل عديدة مختلفة، ونكتفي هنا بذكر بعض المسائل من العبادات، والبعض من المعاملات:
  • (١)

    ففي باب الطهارة من قسم العبادات. يرى أبو حنيفة أنه إذا أصاب البدن أو الثوب نجاسة جاز غسله بكل مائع طاهر يزيلها، ولا يتعين في ذلك الماء وحده؛ على حين ذهب الشافعي إلى أن الطهارة لا تجوز إلا بالماء، وهذا هو قول محمد بن الحسن أيضًا.

    ومما احتج به أبو حنيفة في هذا، قوله تعالى: وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ، وهذا نص مطلق لا يجوز تقييده من غير دليل، وكذلك أمر الرسول بغسل الإناء إذا ولَغَ فيه الكلب، والغسل غير مختص بالماء، ثم إن المطلوب هو إزالة ما يعلق بالجسم أو الثوب من نجاسة، وهذا كما يكون بالماء يكون بغير الماء كالخل وماء الورد ونحوه؛ بل قد تكون إزالة النجاسة بهذين ونحوهما أبلغ وأتم على ما هو معروف.٣
  • (٢)

    ويحدث علي بن مسهر أنهم كانوا عند أبي حنيفة فأتاه عبد الله بن المبارك، فقال له: ما تقول في رجل كان يطبخ قِدرًا فوقع فيها طائر فمات؟ فقال أبو حنيفة لأصحابه: ما تقولون فيها؟ فرووا له عن ابن عباس أنه قال: يُهراق المرق ويؤكل اللحم بعد غسله. فقال أبو حنيفة: هكذا يقول؛ إلا أن فيه شريطة، إن كان وقع فيها في حال غليانها، أُلقي اللحم وأُريقَ المرق، وإن كان وقع فيها في حال سكونها، غُسل اللحم وأُكل ولم يؤكل المرق.

    وهنا، يقول له ابن المبارك: من أين قلت هذا؟ فيجيء أبو حنيفة بهذا التعليل المقبول المعقول؛ وهو أن اللحم والمرق سيداخلها طبعًا شيء من الطائر متى وقع في القدر، وهي تغلي، ولم يكن اللحم قد نضج بعد، على حين أن الأمر لا يكون كذلك إن وقع الطائر في القدر حال سكونها، وقد نضج اللحم.٤
  • (٣)

    وفي الصلاة، يرى أن من صلى إلى غير القبلة في ليلة مظلمة أو حالة اشتباه الأمر عليه بعد أن تَحرَّى جهده، ثم ظهر أنه أخطأ في اجتهاده، صحت صلاته وليس عليه أن يعيدها؛ على حين يرى الإمام الشافعي أن عليه أن يعيد صلاته متى تبيَّن له بعدُ أن استدبر القبلة فيها.

    ويستدل أبو حنيفة لما ذهب إليه هو وأصحابه بقوله تعالى: فَأيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ، وهذه الآية نزلت إثر حادث يرويه الترمذي عن عامر بن ربيعة إذ يقول: كنا مع رسول الله في سفر في ليلة مظلمة، فلم ندرِ أين القبلة؟ فصلى كل رجل على حياله، فلما أصبحنا إذا نحن على غير القبلة فذكرنا ذلك لرسول الله ، فأنزل الله تعالى: أيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللهِ؛ أي قبلته.
    والمراد بهذا الحكم الذي جاء به هذا النص حالة الاشتباه، وهو نص مطلق فلا يجوز تقييده بغير من صلى مستدبرًا القبلة بغير دليل. ثم إنه في مثل هذه الحالة ليس على الإنسان إلا التحري جهده، فهذا كل ما يستطيعه، ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها، فلا يجب عليه الإعادة، كما لو صلى بالتيمم ثم وجد الماء.٥
  • (٤)

    وهناك هذه المسألة، وهي فيمن له حق استعمال رخصة السفر والإفادة منها في قصر الصلاة وفي الفطر إذا كان صائمًا؛ أهو المسافر في طاعة أو في معصية، أو الأول فقط؟

    يرى أبو حنيفة وأصحابه أن المطيع والعاصي في رخصة السفر سواء. ويرى الشافعي هذه الرخصة لا تكون للمسافر في معصية، كمن سافر لقطع الطريق مثلًا.

    وحجة أبي حنيفة النصوص المطلقة في هذا؛ أي التي لا تُفرق في الرخصة بين سفر المطيع وسفر العاصي؛ وهي قوله تعالى: فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أيَّامٍ أُخَرَ وقوله : «فرض المسافر ركعتان.»

    ومن ناحية أخرى، فإن الله لطيف بعباده جميعًا، حتى إنه ليُمتِّع الكافر بكثير من طيبات هذه الحياة، فكيف يمنع الفاسقَ المسافر لمعصية هذه الرخصة؛ وفي هذا يقول عليه الصلاة والسلام: «إن الله يحب أن يُؤتى برُخَصه كما يجب أن يؤتى بعزائمه، وهذه صدقة تصدَّق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته.»

  • (٥)

    وفي باب الصوم. يرى أبو حنيفة أن من صام يومًا من شهر رمضان وهو شاكٌّ أنه منه أو من شعبان، ثم علم بعد ذلك أنه من رمضان، أجزاه.

    وبهذا الرأي أخذ أصحاب الإمام، على حين رأى ابن أبي ليلى أنه لا يُجزيه ذلك، وعليه قضاء يوم مكانه.٦
  • (٦)
    وفي الزكاة يذكر أبو يوسف أنه إذا كان على رجل ألف درهم، وله على الناس دين ألف درهم، وفي يده ألف درهم، فإن أبا حنيفة كان يقول: ليس عليه زكاة فيما بين يديه حتى يخرج دينه فيزكيه، وكان ابن أبي ليلى يقول: عليه فيما بين يديه زكاة.٧
    وكذلك. يرى ابن أبي ليلى أن زكاة الدين تجب على الذي هو عليه؛ لأنه هو الذي يستعمله وينتفع به. على حين يرى أبو حنيفة أنها على صاحب الدين متى وصل إلى يديه، وحينئذٍ عليه أن يزكيه لما مضى. وبعد أن ذكر أبو يوسف هذين الرأيين قال: كذلك بلغنا عن علي بن أبي طالب، وبه نأخذ.٨
  • (٧)
    وفي الزكاة، يجيز أبو حنيفة إخراج القيمة مكان ما نُصَّ عليه من الشياه والإبل والغنم؛ وذلك لما رُوي عن الرسول من جواز ذلك، ولأن سيدنا معاذ بن جبل قال لأهل اليمن حين ذهب إليهم لأخذ صدقاتهم المفروضة: «ائتوني بخَمِيسٍ أو لَبِيسٍ آخذه منكم في الصدقة؛ فإنه أهون عليكم، وخير للمهاجرين والأنصار بالمدينة.»٩

    ثم إن المقصود — كما يقول صاحب الغرة المنيفة الإمام سراج الدين أبو حفص عمر الغزنوي المتوفى عام ٧٧٣ﻫ — من أخذه الزكاة هو إغناء الفقير، استجابة لقوله «أغنوهم عن المسألة.» وذلك يكون بدفع القيمة، أو إخراج المنصوص عليه، كما قد يكون دفع القيمة أنفع للمحتاج أحيانًا كثيرة.

  • (٨)
    ويتصل بهذا، أن أبا حنيفة رأى أنه إذا كانت أرض خراجية (أي مما فُتح عنوة) في يد مسلم، فإنه ليس عليه فيها عُشر؛ إذ لا يجتمع العُشر والخراج في أرض رجل مسلم، وهذا ما رُوي عن ابن مسعود موقوفًا ومرفوعًا إلى الرسول ، على ما يقوله الإمام السرخسي في مبسوطه.١٠
  • (٩)

    وفي المعاملات، إذا اشترى رجل شيئًا لغيره بأمره فوجد به عيبًا، كان للمشتري أن يخاصم البائع في ذلك، ولا يُكلَّف أن يحضر الآمر الذي اشترى له، كما ليس عليه أن يحلف أن من اشترى له رضي بهذا العيب، إن زعم البائع ذلك.

    هذا رأي أبي حنيفة، ويقول أبو يوسف: «وبه نأخذ.» أما معاصره محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى، فكان يقول: لا يستطيع المشتري أن يرد السلعة التي بها العيب حتى يحضر الآمر فيحلف ما رضي بالعيب، ولو كان غائبًا بغير ذلك البلد.١١
  • (١٠)
    يجوز شراء أي نوع من الثمر قبل أن يبلغ نضجه، إذا لم يشترط على البائع تركه حتى يبلغ؛ وحينئذٍ عليه أن يقطعه إلا إذا أذن له البائع في تركه حتى يدرك. وكان ابن أبي ليلى يقول: لا خير في بيع شيء من ذلك حتى يبلغ.١٢
  • (١١)

    ويجيز أبو حنيفة وأصحابه شراء شيء لم يرَه المشتري، ويكون له حينئذٍ الخيار في إمضاء البيع أو فسخه. ولا يرى الشافعي وغيره من الفقهاء الآخرين صحة هذا العقد أصلًا.

    والأحناف يروون في هذا: أن رسول الله عليه الصلاة والسلام قال: «من اشترى شيئًا لم يره فهو بالخيار إذا رآه؛ إن شاء أخذه، وإن شاء تركه.»

    كما يحتجون أيضًا بما رُوي في ذلك من أن عثمان بن عفان باع أرضًا له بالبصرة من طلحة بن عبيد الله، فقيل لطلحة: إنك قد غُبنت. فقال: لي الخيار لأني اشتريت ما لم أره. وقيل لعثمان: إنك قد غُبنت. فقال: لي الخيار؛ لأني بعت ما لم أره. فحكَّما بينهما جُبير بن مطعم، فقضى بالخيار لطلحة، وكان ذلك بمحضر من الصحابة رضي الله عنهم من غير نكير، فكان إجماعًا.١٣
  • (١٢)

    والفقهاء على اتفاق في عدم جواز أن يبيع من اشترى شيئًا منقولًا ذلك الشيء قبل أن يقبضه ممن اشتراه منه؛ ولكنهم اختلفوا في جواز بيع العقار قبل قبضه من بائعه الأول، فيرى أبو حنيفة جوازه. ويرى الشافعي عدم جوازه.

    والشافعي ومن معه يستدلون بأحاديث وردت في المسألة، ومنها ما وري أن حكيم بن حزام قال للنبي : يا رسول الله إني أشتري بيوعًا فما يحلُّ لي منها، وما يحرم عليَّ؟ قال: «إذا اشتريت شيئًا فلا تبعه حتى تقبضه.»١٤

    وهنا يرى الأحناف أن المراد بهذا الحديث هو السلعة المنقولة لا العقار، بدليل أن ذلك جاء صريحًا في الأحاديث الأخرى التي وردت في المسألة، ومن هذه الأحاديث ما جاء في الصحيحين أن رسول الله قال: «من ابتاع طعامًا فلا يبعه حتى يكتاله.» وما رواه الإمام مالك في موطئه عن عبد الله بن عمر أن الرسول عليه الصلاة والسلام قال: «من ابتاع طعاما فلا يبعه حتى يستوفيه.» وفي رواية أخرى: «حتى يقبضه.»

    ثم إن النهي عن بيع المنقول قبل قبضه، سببه خوف الهلاك قبل تسليمه للمشتري الثاني فينفسخ العقد، والهلاك فيه مقصور في العقار فلا معنى للنهي عن بيعه قبل قبضه.

  • (١٣)

    وأبو حنيفة وأصحابه يجيزون تصرف الفضولي إذا باع شيئًا مملوكًا لغيره، ناظرًا في هذا إلى مصلحة المالك، ثم يكون العقد موقوفًا على إجازة صاحب الشأن، ويرى الشافعي أن تصرفات الفضولي باطلة؛ لأنه لا ولاية له تجيز الإقدام على هذه التصرفات. ويرى أبو حنيفة أن عقده صحيح؛ لأنه صدر ممن له أهلية عقده، وأضيف إلى محله القابل له، وهو موضوع العقد كالمبيع مثلًا.

    والحاجة قد تدعو إلى مثل هذه التصرفات، التي تكون فيها مصلحة يعرفها العاقد الفضولي للمالك، وليس في ذلك أي ضرر بأحد؛ لأن المالك له أن يجيز العقد إن كان في هذا مصلحته، وله أن يبطله إن كان الأمر بخلافه، فلا معنى للتعسير بالذهاب إلى بطلان تصرفات الفضولي من أول الأمر، كما يرى الشافعي وغيره من الفقهاء.١٥
  • (١٤)

    يرى أبو حنيفة أن الوكيل في البيع يجوز بيعه بالقليل والكثير، على حين يرى الشافعي أنه لا يجوز بيعه بنقصان فاحش عن ثمن المثل.

    ويحتجُّ أبو حنيفة بأن التوكيل صدر مطلقًا من الموكل؛ أي لم يقيد الوكيل بالبيع بثمن المثل أو بنقصان يسير، وإذًا فله أن يبيع بما يرى في غير موضع التهمة، فضلًا عن أن البيع بالغبن الفاحش قد يضطر إليه المالك أحيانًا، في حالة حاجته إلى الثمن مهما كان، فيدخل ذلك تحت التوكيل.

  • (١٥)

    وأخيرا، يجيز أبو حنيفة الكفالة بدينٍ غير مسمًّى، كأن يقول الرجل للرجل: أضمن ما قضى لك به القاضي على فلان من شيء، وما كان لك عليه من حق، وما شهد لك به الشهود، وما أشبه هذا. ويرى بعض الفقهاء الذين كانوا معاصرين له أن ضمان هذا لا يجوز؛ لأنه ضمان شيء مجهول (الاختلاف ٥٥).

وهنا نلاحظ أن هذه الجهالة لا تُفضي إلى المنازعة، فلا تمنع من صحة العقد؛ لأن الطالب المكفول له لن يطالب الكفيل إلا بما ثبت من حق قبل خصمه المكفول عنه.

رعاية الفقير والضعيف

في هذه الناحية نجد مسائل كثيرة كان في رأي أبي حنيفة في كلٍّ منها رعاية لجانب الفقير والضعيف على اختلاف أنواعه، سواء أراد الإمام هذه الرعاية أو لم يُردها، والمهم أن أدلته قادته إلى الآراء التي فيها هذه الرعاية، وها نحن أولاء نذكر بعضها:
  • (١)

    اختلف الفقهاء في وجوب الزكاة أو عدم وجوبها في الحليِّ من الذهب والفضة، فذهب الإمام وأصحابه إلى الوجوب، وهو مذهب كثير من الصحابة مثل: عمر بن الخطاب، وابن مسعود، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن عباس، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي موسى الأشعري، وهو أيضًا مذهب جمهور التابعين. ويرى الشافعي في أحد قوليه عدم وجوبها. ومما استدل به أبو حنيفة ما رواه أبو داود والنسائي، وما قال عنه الإمام النووي إن إسناده حسن، من أن امرأةً أتت النبي وفي يد ابنتها سِوَاران غليظان من ذهب، فقال الرسول : «أتعطين زكاة هذا؟» قالت: لا. قال: «أيسرُّك أن يسوِّرك الله بهما يوم القيامة سوارين من نار!» فخلعتهما وألقتهما إلى الرسول ، وقالت: هما لله ورسوله.

    وروى الدارقطني عن علقمة بن مسعود رضي الله عنه أن امرأة أتت الرسول فقالت: إن لي حليًّا، وإن لي ابنَي أخٍ، أفيجزي عني أن أجعل زكاة الحلي فيهم؟ قال: «نعم.»

  • (٢)

    والمَدين إذا كان دينه يستغرق ماله لا زكاة عليه عند أبي حنيفة وأصحابه. وفي هذا، بلا ريب، نظر لحاله؛ إذ يُعتبر حينئذٍ فقيرًا. وعند الشافعي الدين لا يمنع الزكاة؛ مستدلًّا بقول الرسول : «هاتوا ربع عشر أموالكم.» وهو خطابٌ عامٌّ يتناول المَدين وغيره.

    والأحناف يستدلون بأن المدين بدين يستغرق ماله يُعتبر فقيرًا، ويحل له أخذ الصدقة، فكيف تجب عليه الزكاة! ثم إن الرسول قال: «لا صدقة إلا عن ظَهر غِنًى.» وسيدنا عثمان بن عفان رضي الله عنه قال في خطبة له في رمضان: «ألا إن شهر زكاتكم حضر، فمن كان له مال وعليه دين فليحتسب ماله بما عليه، ثم ليُزَكِّ بقية ماله.» ولما قال هذا لم يُنكر عليه أحد من الصحابة، فكان إجماعًا منهم على أنه لا زكاة في المال المشغول بالدين.١٦
  • (٣)
    ويقول الطحاوي بأن من سرق سرقات مختلفة، فرفعه أحد المسروق منهم، فقُطع له، كان ذلك القطع للسرقات كلها، ولم يتضمن شيئًا منها. وهذا قول أبي حنيفة ومحمد رضي الله عنهما. وقد رُوي عن أبي يوسف رضي الله عنه أنه قال: لا ضمان عليه فيما سرق للذي رفعه خاصة حتى قُطع له، وعليه الضمان للآخرين. ثم قال: وبه نأخذ؛ أي برأي أبي يوسف.١٧

    ومن الواضح أن في رأي الإمام رعاية لجانب السارق، وهو حين يسرق وتقام عليه الدعوى يكون ضعيفًا بلا ريب، وضعفه آتٍ من قِبَل نفسه، ومن أنه صار تحت رحمة المسروق منه والقضاء.

  • (٤)

    وفي باب السرقة أيضًا، أن من سرق شيئًا يجب فيه القطع، وحكم عليه القاضي بقطع يده؛ ولكن المسروق منه وهب له ما سرق وسلَّمه إليه، يسقط عنه القطع عند أبي حنيفة ومحمد، وعند أبي يوسف في رواية عنه، وفي رواية أخرى أن القطع لا يسقط عنه ما دام قد قضى عليه، وهذا قول الشافعي.

    يرى أبو حنيفة أن القضاء يحتاج إلى الإمضاء والتنفيذ، وهذا في الحدود من الإنصاف، فيكون ما حدث قبله كالحادث قبل القضاء، ولو أن السارق ملك قبل القضاء بالقطع ما سرق، لا يمكن قطع يده؛ لأن المرء لا يُقطع طبعًا بأخذ ما يملك، وكذلك الأمر إذا ملكه بعد القضاء وقبل التنفيذ.

    ويحتج الشافعي بما روى من أن صفوان كان نائمًا في المسجد متوسدًا رداءه فجاءه سارق بسرقة، فأتى به النبي ، فأمر بقطع يده، فأُخرج ليقطعها فتغير وجه النبي ، فقال له صفوان: كأنه شق عليك يا رسول الله؟ هو له صدقة. وفي رواية: وهبته منه. فقال : «هلَّا قبل أن تأتيني به.» وأمر بقطعه.١٨ وهنا يجيب الأحناف بأن الموهوب له لا يملك الشيء الموهوب إلا بعد قبوله وقبضه، وهذا ما لم يحصل في هذه الحادثة. ثم إنها حكاية جدل فليس حتمًا أن يُعمم الحكم فيها.
  • (٥)

    وقد يحدث أن يسرق إنسان فتُقطع يده اليمنى، ثم يعود فتُقطع رجله اليسرى، ثم يعود مرة ثالثة فما الحكم؟ يرى أبو حنيفة أنه لا يُقطع منه شيء، بل يُعزَّر ويظل في الحبس حتى يتوب. على حين يرى الشافعي أنه تُقطع يده اليسرى في المرة الثالثة، ثم رجله اليمنى في المرة الرابعة.

    بل إن أبا حنيفة ذهب في الرأفة بالسارق إلى القول بأن الرجل اليسرى لو كانت مقطوعة قبل سرقته ثانيًا لم يُقطع منه شيء، ويكون جزاؤه ضمان المسروق والسجن حتى يتوب، وإن كان أشلَّ اليد اليمنى صحيح اليسرى، قُطعت اليد الشلَّاء، وإن كانت اليمنى صحيحة واليسرى هي الشلَّاء، لم يُقطع (أي للمرة الأولى فيما نرى)؛ لأنه لو قُطع صار ذاهب اليدين جميعًا.

    والشافعي يقول بعموم قوله تعالى: وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا وقد أمكن قطع اليد اليسرى في المرة الثالثة فيكون واجبًا، وبقوله : «من سرق فاقطعوه، فإن عاد فاقطعوه، وإن عاد فاقطعوه، فإن عاد فاقتلوه.» ويجيبون عن ذلك بأن الأمر في الآية لا يقتضي التكرار، وبأن الحديث طعن فيه الطحاوي وغيره من رجال الحديث ونقَلتِه، وبأنه على تقدير صحته يكون محمولًا على العقوبة من باب السياسة؛ لأن القتل غير مشروع في السرقة.
    وأما استدلال أبي حنيفة لمذهبه، فهو بما رُوي عن سيدنا علي رضي الله عنه في مثل ذلك، وفيه يقول: «إني لأستحي من الله ألا أدع له يدًا يأكل بها ويستنجي بها، ولا رجلًا يمشي عليها.» وبذلك حاجَّ بقية الصحابة فدرأ عنه الحد؛ كي لا تنقلب العقوبة إهلاكًا بذهاب أطرافه التي يبطش بها ويمشي عليها.١٩
  • (٦)

    من المتفق عليه بين الفقهاء جميعًا أن المرء إذا ملك أباه أو أمه أو ابنه أو بنته يُعتق عليه بمجرد ملكه إياه، رعاية لحق الولادة بينهما، فهل الأمر كذلك إذا ملك أخاه أو أي ذي رحم محرم منه؟

    يرى الإمام الشافعي أن الأمر مختلف، وأن الأخ الرقيق ونحوه إذا ملكه أخوه أو قريبه لا يعتق عليه بمجرد دخوله في ملكه؛ وذلك لقوله تعالى: لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ، وهذا الأخ من كسبه فيكون ملكًا له.

    على حين يرى أبو حنيفة أن في استرقاق الأخ ونحوه لأخيه أو قريبه قطعًا للرحم الجامعة بينهما، هذه الرحم التي يجب وصلها لا قطعها. ثم قد روى ابن عباس رضي الله عنهما أن رجلًا قال يا رسول الله: وجدت أخي يباع في السوق فاشتريته لأعتقه، فقال : «قد أعتقه الله عليك.» وقد رُوي هذا عن عمر وابن مسعود وغيرهما، وهو قول الحسن البصري، والشعبي وغيرهما أيضًا.

    أما الآية التي يستند إليها الشافعي، فمعناها أن للنفس جزاء ما كسبت من أعمال الخير، وعليها ما اكتسبت من سيئ الأعمال، فهي واردة في الأعمال التكليفية بدليل صدرها، وهي هكذا بتمامها: لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ الآية.
  • (٧)

    إذا كان لإنسان غلام مملوك، وكان من ناحية السن يولد لمثله وقال عنه: هذا ابني. عُتق عليه، بلا خلاف بين الفقهاء؛ لأنه يصدق في إثبات أبوته له، وليس للأب أن يملك ابنه كما هو معروف.

    ولكن إذا كان الغلام في سن لا تجعل مثله يولد لمثله. يرى الشافعي وأبو يوسف ومحمد رضي الله عنهم أنه لا يعتق عليه؛ لأن ثبوت البُنوَّة عنا غير ممكن، والملكية ثابتة، والأصل في كل ثابت بقاؤه على ما هو عليه، إلا حين يوجد ما يزيله. وكلام المالك هنا يحتمل أن يكون المراد منه الحُنُوُّ والشفقة على الغلام، فيكون في الإعتاق شك، وهو لا يعارض الملكية الثابتة بيقين.

    ويرى أبو حنيفة أن الغلام يُعتق على مالكه في هذه الحالة؛ لأن العمل بالحقيقة متعذر؛ لأن السن لا تسمح أن يولد مثله لمثله، فوجب العمل بالمجاز المتعين، وهو إرادته تحريره؛ إذ إعمال الكلام أولى من إهماله. وغير محتمل — أو على الأقل هو احتمال بعيد — أن يكون مراده إظهار حنوِّه وشفقته؛ لأنه أورد كلامه في صورة خبر؛ ولهذا لو ناداه بقوله: يا بني! لا يعتق عليه.

  • (٨)

    وإذا قال إنسان لأمَته: أول ولد تلدينه فهو حر، فولدت ولدًا حيًّا صار حرًّا بلا خلاف، وكذلك إذا ولدت ولدًا ميتًا ثم آخر حيًّا عتق الحي عند أبي حنيفة؛ وذلك لأن الحرية لا تصلح إلا في الحي فيتقيد كلامه به، وكأنه قال: أول ولد حي تلدينه فهو حر.

    على حين يرى الشافعي أنه جعل العتق جزاء أول ولد، والذي ولد حيًّا هو مولود ثان، فلا يعتق حينئذٍ.٢٠
  • (٩)

    وأخيرًا، في باب العتق ونحوه، لو أن مملوكًا شركة بين اثنين فدبَّره أحدهما، لم يكن عند أبي حنيفة للشريك الثاني أن يبيعه؛ لأنه دخله نصيب من العتق، وصار له نصيب من الحرية.

    ويرى محمد بن عبد الرحمن بن أبي ليلى أن للشريك أن يبيع حصته من هذا العبد؛ لأنه لم يصدر منه أي شيء يدل على رغبته في تحرير نصيبه؛ ولكن الأحناف يرون أن التدبير يُعتبر سببًا لاستحقاق العبد العتق، حتى إنه ليس للمدبِّر حينئذٍ أن يبيع العبد الذي دبَّره، فيمتنع ذلك على الشريك أيضًا، وبخاصة والإسلام يعمل بكل وسيلة لتحرير العبيد.٢١
  • (١٠)

    إذا زنى رجل مجنون بامرأة عاقلة فلا حدَّ عليه ولا عليها عند أبي حنيفة. وعند الشافعي على المرأة الحد؛ لأنها عاقلة مكلفة بالأوامر والنواهي فلا يسقط عنها.

    وعند أبي حنيفة أن الزنا يكون من الرجل والمرأة فعلًا، إلا أنه يكون حقيقة من الرجل؛ لأنه الأصل، والمرأة ليست إلا محلًّا لفعله؛ فيسقط الحد عنه؛ لأنه غير مخاطب بالتكاليف لجنونه، ويسقط عنها لأنها تبع له.٢٢

تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان

(١) نبدأ هذه الناحية بذكر مسألة طريفة حقًّا وهي إسلام الصبي العاقل قبل بلوغه الرشد؛ هل يصح ويعتبر إسلامًا صحيحًا، أو لا يصح منه هذا الإسلام؟ يرى أبو حنيفة أن إسلامه يصح منه، على حين يرى الشافعي عدم صحته؛ وذلك لأنه إن صح منه إسلامه لكان واجبًا عليه، ولو كان واجبًا عليه لم يكن الشرع يجيز تركه؛ لأن ترك من وجب الإسلام عليه كفر، والشارع لا يجيز تقرير أحد على الكفر.

أما أبو حنيفة فيرى أن الصبي العاقل حين يصدِّق بالله ورسوله وشريعته، يكون قد أتى فعلًا بحقيقة لا يمكن ردها؛ وإذًا يكون إسلامه صحيحًا. ثم إننا نجيز تصرُّف الصبي المميز إذا كان هذا التصرف نافعًا نفعًا محضًا له، مثل قبوله الهبة، فبالأولى نجيز تصرُّفه الذي يحقق له السعادة في الدنيا والأخرى. على أنه من الثابت أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أسلم وهو في سن الثامنة أو العاشرة من عمره؛ أي وهو صبي لم يبلغ، وقد صحح النبي إسلامه، وكان عليٌّ نفسه يفتخر به، حتى رُوي عنه أنه قال:

سبقتكمو إلى الإسلام طرًّا
صغيرًا ما بلغت أوان حلمي٢٣
(٢) يذكر الإمام أبو يوسف أنه إذا أوصى رجل لآخر بسكنى دار، أو غَلة أرض أو بستان، وذلك ثلث تركته أو أقل، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول: ذلك جائز. ثم يقول أبو يوسف: وبه نأخذ. وكان «محمد بن عبد الرحمن» ابن أبي ليلى يقول: لا يجوز ذلك. ويحتج السرخسي في المبسوط لابن أبي ليلى بأن الموصي يملك ذلك بإيجابه للموصى له، وذلك لا يصح فيما لم يكن مملوكًا له، والمنفعة أو الغلة الموصى بها تحدث بعد موته فلا تكون حينئذٍ مملوكة له، فتكون الوصية بها إذًا باطلة.٢٤

ولكن الأحناف يرون أن هذا يجوز في الوصية؛ لأن العين تبقى بعد وفاة المالك مشغولة بما يكون عليه من ديون والتزامات، ومنها الوصية. والأمر في هذا كالإجارة والعارية، فهما عقدان لتمليك المنفعة التي لم تكن موجودة وقت العقد؛ لأنها تحدث آنًا فآنًا، فكما جاز هذان العقدان تجوز الوصية بالمنفعة أو الغلة بعد الموت.

(٣) ويذكر أبو يوسف أيضًا أن أبا حنيفة يجيز للوصي أن يتَّجر بمال الأيتام الذين تحت وصايته، أو يدفعها مضاربة لمن يرى فيه الخير. وأن ابن أبي ليلى يرى أن ذلك لا يجوز عليهم، والوصي ضامن لذلك. وقد أخرج هذا الرأي عن أبي حنيفة محمد بن الحسن في كتاب الآثار، ثم قال: وبه نأخذ.٢٥
ويذكر السرخسي في المبسوط.٢٦ أن ابن أبي ليلى ذهب إلى ما رأى؛ لأن الموصي (أبو الأولاد اليتامى) جعل الوصي قائمًا مقامه في التصرف في أموالهم حفظًا لها، وذلك يحصل إذا كان هو الذي يتصرف فيها، وإذًا ليس له دفعها لغيره ليتصرف فيها.

ثم يقول: ولكننا نذهب إلى ما رأينا؛ لأن الوصيَّ قائم مقام الموصي في ولايته في مال الوُلدْ، وقد كان للموصي أن يفعل هذا كله في ماله، فكذلك الوصي. وهذا لأن المأمور به هو ما يكون أصلح لليتيم وأحسن، فالله تعالى يقول: وَيَسْألُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ، وقد يكون الأحسن في تفويض التصرف إلى غيره، إما لعجزه عن مباشرة ذلك بنفسه، وإما لقلة هدايته في التجارة ونحوها.

(٤) وفي التصرف الوصي أيضًا يذكر أبو يوسف أن الوصي يجوز أن يبيع عقارًا مما تركه المتوفى الذي لا دين عليه، وفي ورثته صغار وكبار، ويكون بيعه عند أبي حنيفة نافذًا على الصغار والكبار جميعًا، وهذا استحسان منه؛ لأنه كما يذكر صاحب المبسوط لمَّا ثبتت له الولاية في بيع البعض الذي يخص الصغار تثبت في الكل؛ لأن الولاية بسبب الوصاية لا تحتمل التجزؤ، ولأن في بيع البعض إضرارًا بالصغير والكبير معًا؛ إذ الثمن يكون أعلى في هذه الحالة، بخلاف حالة التجزئة وبيع البعض. ومع هذا، فللوصي ولاية في مال الكبار فيما فيه منفعة لهم، ألا ترى أنه يملك الحفظ وبيع المنقولات حال غيبة الكبير لما فيه من المنفعة له؟ لكن ابن أبي ليلى يرى أن بيع الوصي العقار في هذه الحالة يجوز على الصغار والكبار إذا كان ذلك مما لا بد منه. ويرى أبو يوسف ومحمد أن بيعه على الصغار جائز في كل شيء، ولو لم يكن منه بد، ولا يجوز على الكبار إلا إذا كان الموصي أوصى ببيعه، أو كان عليه دين يباع العقار فيه.٢٧

(٥ و٦) وهاتان مسألتان تقدمتا عند الكلام على نزعة التيسير، وهما: جواز تصرفات الفضولي، وجواز بيع الوكيل بالثمن القليل والكثير، خلافًا لكثير من الفقهاء، وهما مسألتان تظهر فيهما نزعة تصحيح تصرفات الإنسان بقدر الإمكان أيضًا.

(٧) وهذه مسألة أخرى تظهر فيها أيضًا هاتان النزعتان، وهي مسألة إجازة أبي حنيفة وأصحابه عقدَ الزواج بلفظ تزويج ونكاح وغيرهما مما يشتق من هاتين المادتين، وبكل لفظ آخر وُضع لتمليك العين في الحال كلفظ الهبة والعطية والبيع والشراء، بشرط نية وقرينة تعيِّن أن المراد هو الزواج؛ وبشرط فهم الشروط المقصودة.٢٨
(٨) وأخيرًا في هذه الناحية يرى أبو حنيفة أن الرجل إذا اشترى متاعًا، ثم أفلس وأصبح عاجزًا عن دفع الثمن لا ينفسخ العقد، بل يصبر البائع أسوة الغرماء لآخرين فيه، على حين يرى الشافعي أن العقد يُفسخ، ويأخذ البائع المتاع الذي باعه؛ لأنه أحق به. وأبو حنيفة يرجع إلى قول الرسول : «إذا مات المشتري مفلسًا فوجد البائع متاعه بعينه فهو أسوة الغرماء.» وقوله: «أيما رجل باع سلعة فأدركها عند رجل قد أفلس فهو ماله بين غرمائه.» على حين يستند الشافعي إلى حديث آخر لا يسكت الأحناف عن الإجابة عنه، وإن كانت إجابة لا تُرضي الباحث تمامًا، لكن مهمتنا هنا ليست الترجيح بين الآراء، ولكن بيان النزعات والاتجاهات، وهذا يكفي فيه ذكر الآراء حتى ولو كانت مجردة من الأدلة.٢٩

رعاية حرية الإنسان وإنسانيته

وأخيرًا في هذا البحث الخاص بآراء أبي حنيفة واتجاهاته ونزعاته التي تؤخذ من هذه الآراء، نعرض لصور من تفكيره تجمعها رابطة واحدة، وهي احترامه لحرية الإنسان وإنسانيته:
  • (١)
    يحترم أبو حنيفة في المرأة البالغة إرادتها وحريتها في الزواج بمن ترى الخير في أن تتزوج به، فلا يجعل لوليها سلطانًا عليها، فلها أن تباشر بنفسها عقد زواجها، ما دامت أهليتها كاملة، وما دام من تتزوجه كفئًا لها ولأسرتها، وما دام المهر مهر مثلها. على حين يرى جمهرة الفقهاء الآخرين أن لها أن تتزوج بمن ترى في زواجه خيرًا لها، ولكن يتولى عنها العقدَ أقرب أوليائها إليها. وهم يستندون فيما ذهبوا إليه إلى مثل قوله تعالى في سورة النور: وَأنْكِحُوا الْأيَامَى مِنْكُمْ، فقد أُضيف العقد إلى الأولياء لا إلى نفسها، وإلى مثل قول الرسول : «أيما امرأة زوجت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل باطل باطل.» وإن دخل بها فلها المهر بما أصاب منها، وإن اشتجروا (الأولياء) فالسلطان وليُّ من لا وليَّ له.
    ولكن أبا حنيفة الذي يقدس الحرية يرى أن ولاية إنسان على آخر لا يصح أن تُفرض إلا لضرورة؛ لأنها تنافي الحرية وهي حقٌّ إنسانيٌّ للناس جميعًا؛ ولذلك يُثبت للفتى متى بلغ عاقلًا حقَّ تزويج نفسه بنفسه؛ فلا معنى للتفريق بينه وبين المرأة، وبخاصة أن لها مثله الولاية كاملة على مالها. إن الإمام إذًا يستعمل هنا القياس، ولكنه مع هذا يجد له سندًا من القرآن الكريم الذي يضيف عقد الزواج إلى المرأة حين يقول في سورة البقرة: وَإذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاء فَبَلَغْنَ أجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنَّ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أزْكَى لَكُمْ وَأطْهَرُ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ كما يجد سندًا من الحديث أيضًا، إذ يقول الرسول : «ليس للولي مع السيد أمر.» هذا والمسألة حَرِيَّة بالبيان وتفصيل القول؛ ولهذا، نرى أن نأتي بما ورد فيها عن الإمامين أبي يوسف والسرخسي.٣٠

    يذكر قاضي القضاة أن الرجل إذا تزوج المرأة بشاهدين من غير أن يزوجها وليٌّ، والزوج كفء لها فإن أبا حنيفة كان يقول: النكاح جائز؛ ألا ترى أنها لو رفعت أمرها إلى الحاكم، وأبى وليها أن يزوجها كان للحاكم أن يزوجها، ولا يسعه إلا ذلك ولا ينبغي له غيره، فكيف يكون ذلك من الحاكم والولي جائزًا، ولا يجوز منها وهي قد وضعت نفسها في الكفاءة! بلغنا عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن امرأة زوجت بنتها فجاء أولياؤها فخاصموا الزوج إلى علي رضي الله عنه، فأجاز عليٌّ النكاح.

    وكان ابن أبي ليلى (محمد بن عبد الرحمن) لا يجيز ذلك ويرى أبو يوسف أن الزواج يعتبر صحيحًا موقوفًا على إجازة المولى أو القاضي إن رُفع إليه الأمر، وكان الزوج كفئًا، كأن القاضي هنا وليٌّ بلغه أن ابنته قد تزوجت فأجاز ذلك. ويقول صاحب المبسوط، بعدما ذكر حديث علي رضي الله عنه الآنف الذكر، إن في هذا دليلًا على أن المرأة إذا زوجت نفسها، أو أمرت غير الولي أن يزوجها فزوجها، جاز النكاح في ظاهر الرواية سواء كان الزوج كفئًا لها أو غير كفء، إلا أنه إذا لم يكن كفئًا فللأولياء حق الاعتراض.

    ثم ذكر صاحب المبسوط أقوالًا عدة مختلفة لأبي يوسف، ومنها ما رواه الطحاوي من أن الزوج إن كان كفئًا أمر القاضي الوليَّ بإجازة العقد، فإن أجازه جاز، وإن أبى لم يُفسخ، ولكن القاضي يجيزه. وعلى قول محمد يتوقف نكاحها على إجازة الولي سواء زوجت نفسها من كفء أو من غير كفء، فإن أجازه الولي جاز؛ وإن أبطله بطل، إلا أنه إذا كان الزوج كفئًا لها ينبغي للقاضي أن يجدد العقد إذا أبى الولي أن يزوجها منه.

    وأخيرًا يذكر صاحب المبسوط أن من جوَّز النكاح بغير ولي استدل بقوله تعالى: فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وبقوله: حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ وقوله تعالى: أنْ يَنْكِحْنَ أزْوَاجَهُنَّ فقد أضاف العقد إليهن في هذه الآيات فدلَّ على أنها مباشرته بنفسها، وأيضًا يستدل بالأخبار ومنها قوله : «الأيِّم أحق بنفسها من وليها.» والأيم المرأة التي لا زوج لها بكرًا كانت أو ثيبًا، وقوله عليه الصلاة والسلام: «ليس للولي مع الثيب أمرًا.» وقد ورد عن عمر وعلي وابن عمر جواز النكاح بغير ولي، وإن كان المستحبُّ ألا تباشر المرأة العقد، ولكن الولي الذي يزوجها.
  • (٢)
    ويتصل بذلك أن الرجل إذا زوَّج ابنته وقد بلغت، فإن أبا حنيفة كان يقول إذا كرِهَت ذلك لم يجز النكاح عليها؛ لأنها قد أدركت وملكت أمرها فلا تُكره على ذلك. وكان ابن أبي ليلى يقول: النكاح جائز عليها وإن كرهت، ومما استدل به أبو حنيفة قول الرسول : «البكر تُستأذن في نفسها، وإذنها صماتها.» وقوله: «لا تنكح البكر حتى تُستأمر، ورضاها سكوتها ولا تنكح الثيب حتى تُستأذن.»٣١
    وذكر صاحب المبسوط في ذلك حديثًا عن أبي هريرة، وأبي موسى الأشعري، وفيه: أن الرسول رد نكاح بكر زوَّجها أبوها وهي كارهة. وفي حديث آخر أنه عليه الصلاة والسلام قال في البكر: «يزوجها وليها، فإن سكتت فقد رضيت، وإن أبت لم تُكره.» وفي رواية أخرى: «فلا يجوز عليها.»٣٢
  • (٣)
    ومما هو متصل بذلك أيضًا، أن الأمَة إذا كانت متزوجة من رجل حر، ثم أعتقت، فإن أبا حنيفة رضي الله عنه كان يجعل لها الخيار، إن شاءت اختارت نفسها وإن شاءت اختارت زوجها، وكان ابن أبي ليلى يقول: لا خيار لها.٣٣

    ويحتج أبو حنيفة لما ذهب إليه بأن الرسول ، خيَّر «بريرة» حين أعتقتها السيدة عائشة رضي الله عنها وكان زوجها حرًّا، لكن ابن أبي ليلى يقول بأن زوجها كان عبدًا، على حين يظهر أن الصحيح أنه كان حرًّا؛ فقد سئلت السيدة عائشة عن ذلك فقالت: كان حرًّا، على ما أخرجه البخاري وغيره من الأئمة.

    ونرى الإمام السرخسي يزيد المسألة وضوحًا، فيذكر أنه إذا أُعتقت الأمَة ولها زوج فلها الخيار؛ إن شاءت أقامت معه، وإن شاءت فارقته؛ وذلك لأن الرسول قال لبريرة بعد أن أعتقتها عائشة رضي الله عنها: «ملكْتِ بُضعك فاختاري.» وكان زوجها مغيث يمشي خلفها ويبكي، وهي تأباه. فقال النبي لأصحابه: «أما تعجبون من شدة حبه لها وبغضها له!» ثم قال لها: «اتَّقِ الله! فإنه زوجك وأبو ولدك.» فقالت: أتأمرني؟ فقال: «لا، إنما أنا شافع.» فقالت: إذًا لا حاجة بي إليه.

    ثم بيَّن السرخسي الحكم في إجازة الخيار لها، فيقول بأن ملك الزوج يزداد عليها بالعتق؛ فقد كان قبل العتق يملك عليها تطليقتين، ويملك مراجعتها في قُرْأين، وعدتها حيضتين فقط، وذلك كله يزداد بالعتق إلى ثلاث، فأثبت الشرع لها الخيار لتتوصل إلى دفع هذه الزيادة عنها برفع العقد من أصله؛ ولهذا حين تختار نفسها يكون ذلك منها فسخًا لا طلاقًا.

    وأخيرًا يذكر أن الأمر هكذا إذا أُعتقت الزوجة، وكانت رقيقة، ويستوي إن كان الزوج حرًّا أو عبدًا؛ لأن الرسول قال لبريرة: «ملكْتِ بُضعك فاختاري» فيكون سبب الخيار معنًى في جانبها وهو ملكها أمرَ نفسها، وهذا التعليل لا يجعل فرقًا بأن يكون الزوج حرًّا أو عبدًا.

  • (٤)

    ولا بد في عقد الزواج من الإسلام، وهو يكون بالشهادة عليه، وهذا أمر مُتفق عليه؛ ولكن هل لا بد أن يكون الشهود رجلين، أو يكفي أن يكونا رجلًا وامرأتين؟ قال بالأول الشافعي، وقال أبو حنيفة بالثاني.

    ويحتج أبو حنيفة لمذهبه بقوله تعالى: «وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأتَانِ»؛ فقد جاءت هذه الآية مطلقة، فتشمل الأموال والزواج. كما يحتج أيضًا بما رُوي عن ابن عمر رضي الله عنه أنه أجاز شهادة امرأتين مع شهادة رجل في الزواج والفرقة.٣٤
  • (٥)

    وهذه مسألة، وهي من باب الشهادة أيضًا، تُرينا كذلك مقدار احترام أبي حنيفة لغير المسلمين وحقوقهم، وتقدير ما فيهم من إنسانية، ونعني بها شهادة أهل الذمة بعضهم على بعض؛ إنه يقبل شهادتهم بعضهم على بعض، سواء اتفقت مللهم أو اختلفت، ما داموا عدولًا في دينهم، ولم يقبلها الشافعي أصلًا.

  • (٦)

    والأصل أن الإنسان، بما هو إنسان، حر في تصرفاته في حدود شريعة الله ورسوله، فلا يُمنع من شيء منها إلا بسبب مشروع، وأسباب الحجر عند أبي حنيفة ثلاثة لا رابع لها، وهي: الجنون والصغر والرق، وهذا قول زفر أيضًا. على حين يرى أبو يوسف ومحمد والشافعي وعامة أهل العلم، أن للحجر أسبابًا مشروعة أخرى، منها «السفه»؛ ولهذا يجوز عندهم الحجر على السفيه.

    يرى أبو حنيفة أن أهلية السفيه أهلية كاملة متى كان قد بلغ عاقلًا، إلا أنه لا يسير حسب العقل في تصرفاته المالية مكابرة منه، ثم إن السفيه — باعتباره إنسانًا — حر في تصرفاته، والحجر ينافي الحرية، وفيه إهدار لإنسانيته، وهي أجلُّ خطرًا من المال الذي يراد حفظه له بالحجر عليه. والنتيجة، أنه لا يصح تضييع حريته وإهدار إنسانيته بالحجر عليه، ولتذهب أمواله كلها أو بعضها إلى من يحسن تدبيرها والتصرف فيها، وفي هذا خير للجماعة بعامة.

  • (٧)
    والأمر كذلك بالنسبة للحجر على المدين بسبب الدين، فهو مع الفقهاء الآخرين في جواز حبسه متى كان قادرًا على أداء ما عليه من دين؛ ولكنه يمتنع عن الوفاء مَطْلًا منه وظلمًا للدائن، إلا أن أبا حنيفة يخالفهم فيما ذهبوا إليه من جواز الحجر على المدين دينًا مستغرقًا، ومن جواز بيع ماله جبرًا عنه، وفاءً لما عليه من دين وإن لم يكن مستغرقًا.٣٥
    هذا وقد بحثنا هذه المسألة بحثًا أوفى على الغاية في كتابنا «فقه الكتاب والسنة، البيوع والمعاملات المالية المعاصرة»، وبيَّنَّا وجهة نظر كل فريق من المختلفين فيها ومُسْتَنَده من الكتاب والسنة، فلا نزيد في هذه الناحية على ما كتبناه هناك.٣٦ ولكن يبقى أن نقول هنا: إن الإمام أبا حنيفة في هذه المسألة كما في سابقتها، يقدر الحرية الإنسانية ويرفعها فوق كل اعتبار؛ لأن ذهابها لا يمكن تعويضه بحال، والأمر ليس كذلك في المال وما إليه من عُروض هذه الحياة.
  • (٨)

    ونذكر أخيرًا مسألة أخرى نرى فيها بوضوح تقدير أبي حنيفة للإنسان، بما هو إنسان؛ وهي مسألة نصيب الفارس وفرسه من الغنيمة؛ ففي هذه المسألة نجد الخلاف يشتد بين الفقهاء، والكل يعتمد على أحاديث عن الرسول وآثار عن الصحابة والتابعين رضي الله عنهم جميعًا، ولكل وجهة هو موليها.

    فالإمام مالك بن أنس فقيه دار الهجرة، والإمام الليث بن سعد معاصره وفقيه مصر، يريان أن للفرس سهمين ولصاحبه سهمًا، وللراجل سهمًا واحدًا لنفسه، وفي هذا روى الإمام مالك أن عمر بن عبد العزيز كان يقول: للفرس سهمان وللراجل سهم.٣٧ ومعنى هذا أن من قاتل فارسًا يكون له سهمان لفرسه، وآخر لنفسه. وكذلك يقول فقهاء آخرون، ومنهم الأوزاعي، والثوري، وأبو يوسف من أصحاب أبي حنيفة، والشافعي.
    وهنا يذكر الإمام الشافعي أن الصحيح ما قال الأوزاعي من أن للفارس ثلاثة أسهم، ثم يقول: وأُخْبِرنا عن عبيد الله بن عمر، عن نافع، عن ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله ضرب للفارس بثلاثة أسهم وللراجل بسهم.٣٨

    أما أبو حنيفة فيقول: إن للفارس سهمين فقط؛ سهم له، وآخر لفرسه.

    وقد ذهب إلى هذا الرأي، مخالفًا لغيره ولما رووه من أحاديث وآثار؛ لأنه رأى أن من الآثار ما يشهد لكلا الرأيين، وقال في ذلك: السهم الواحد متيقَّن به لاتفاق الآثار، وما زاد عليه مشكوك فيه لاشتباه الآثار، فلا أُعطينَّه إلا المتيقَّن، ولا أفَضِّل بهيمة على آدمي.٣٩

    وهذا الصنيع من الإمام يُرينا وجهًا من طريقته في استنباط الأحكام؛ فقد رأى الأحاديث والآثار متعارضة، فلم يستطع أن يرجِّح بعضها ويجعله أَولى بالأخذ به من البعض الآخر. ومن ناحية أخرى نراه لا يجد من الكرامة أن يُفضل بهيمة على آدمي؛ لأنه — بإعطاء الفارس ثلاثة أسهم منها اثنان لفرسه وآخر له، على حين لا يعطى من قاتل راجلًا إلا سهمًا واحدًا — يكون الحيوان قد فُضِّل في العطاء على الإنسان، مع أن الإنسان هو الذي يقاتل ويحوز الغنيمة! ونعتقد أن تلك طريقة حكيمة في استنباط الأحكام، وأن هذا منطق مقبول مستقيم.

رعاية سيادة الدولة ممثلة في الإمام

يقوم الإسلام على الشورى، وعلى التساوي بين أبنائه في الحقوق والواجبات؛ ومن ثَمَّ جاء عن النبي أن المسلمين تتكافأ دماؤهم، ويسعى بذمتهم أدناهم، وأنه لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى.

ومع هذا فللخليفة أو السلطان باعتباره «الإمام» حقوق يتولاها هو بنفسه أو بمن ينيبه عنه، وهي حقوق يجب على المسلمين رعايتها، وعدم التعدي على شيء منها، وللفقهاء الذين كتبوا في «الأحكام السلطانية» أو في «الفقه الدستوري» حسب التعبير الحديث، كلام طويل في هذه الحقوق وتعيينها وتعدادها، وكذلك للعلماء في الفروع أو في الفقه الإسلامي آراء يختلف بعضها عن بعض في مواطن كثيرة اختلافًا قليلًا أو كثيرًا، فيما هو من حق الإمام، وفيما هو من حق غيره من سواء المسلمين أو خاصتهم.

وقد رأينا بشيء من الاستقراء أن آراء أبي حنيفة في غير قليل من المسائل تتجه إلى تأكيد سيادة الأمة ممثَّلة في الإمام، وها هي ذي بعض المسائل التي رأينا ذكرها من كثير مما وقفنا عليه:٤٠
  • (١)

    إذا كان لرجل أرض خراج وعجز لسبب ما عن زراعتها، ولم يستطع أداء خراجها، كان للإمام أن يدفع هذا الضرر عن بيت المال بوسيلة من هذه الوسائل؛ أن يدفعها لغيره مزارعة ليأخذ الخراج من نصيب المالك ويمسك الباقي له، أو يؤجرها للغير ويأخذ الخراج من الأجرة، أو يزرعها لحساب بيت المال، فإن لم يتمكن من شيء من ذلك، باعها وأخذ الخراج من ثمنها.

    وقال غير أبي حنيفة: ليس للإمام ذلك. وعن أبي يوسف أنه يجب أن يدفع للعاجز عن زراعة هذه الأرض الخراجية كفايته من بيت المال قرضًا؛ ليستطيع أن يعمل فيها ويستغلها ويؤدي خراجها.٤١
  • (٢)
    وللإمام وحدَه التصرف فيما يغنمه المسلمون من الأرضين، وقد جاء في مختصر الطحاوي وشرحه أنه إذا فتح للإمام أرضًا من أراضي الحرب كان الرأي فيها إليه، يفعل ما فيه خير للمسلمين؛ إن شاء قسمها كسائر الغنائم، وإن شاء أبقاها للمسلمين وقفًا عليهم، ويجعلها أرض خراج فيصرف خراجها إلى المقاتلة … وإن شاء منَّ على أهلها بالحرية، وترك أموالهم وأراضيهم ملكًا لهم، على أن يدفعوا الجزية عن أنفسهم، والخراج عن الأرض.٤٢ وهذا ما فعله عمر بن الخطاب بأرض السواد. فإن أسلموا سقطت الجزية عنهم، ولا يسقط خراج الأرض.٤٣
  • (٣)
    وللإمام أن يحرض المقاتلين على القتال بكل وسيلة، فالله تعالى يقول: يَا أيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ ومن ذلك أن يقول مثلًا: من أصاب شيئًا فله ربعه أو ثلثه، أو من أصاب شيئًا فهو له، أو من قتل قتيلًا فله سَلَبه.٤٤ وهذا كله ما يُسمَّى «التفضيل».
    فإن لم ينفِّل الإمام شيئًا فقتل رجل من الغزاة آخَر من الأعداء، لم يختص بسَلَبه عند الأحناف، وكان سلبه له عند الشافعي إن قتله وهو (أي العدو) مقبل عليه مقاتل له؛ لأنه حينئذٍ يكون قد قتله بقوته وحده، فيختص بسلبه، أما لو قتله مدبرًا منهزمًا عنه، فيكون قد قتله بقوة الجماعة، فيكون سلبه من جملة الغنيمة فلا يختص به.٤٥
  • (٤)
    وإذا أحيا رجل أرضًا مَواتًا، هل يملكها ولو لم يأذن له الإمام، أو لا بد من إذنه؟ هنا يختلف رأي أبي حنيفة عن رأي صاحبيه أبي يوسف ومحمد بن الحسن. يرى هذان أن من أحيا مواتًا من الأرض فقد ملكه بذلك، أذن له الإمام أو لم يأذن؛ على حين يرى أبو حنيفة أنه لا بد في الإحياء من إذن الإمام، فلو فعل ذلك بلا إذنه لم يملك ما أحياه.٤٦
  • (٥)
    والولاية على الطفل اللقيط، في ماله ونفسه، للإمام عند أبي حنيفة؛ لقول رسول الله : «السلطان وليُّ من لا وليَّ له»؛ فهو الذي يزوج اللقيط، ويتصرف في ماله؛ كما له استيفاء القصاص من قاتله. ويرى غيره أنه ليس له هذا، أما الملتقط فليس له شيء من ذلك؛ لأنه لا ولاية له عليه لانعدام سببها وهو القرابة والسلطنة.٤٧
  • (٦)

    والإمام هو أولى الناس بالصلاة على الميت، ويليه في ذلك القاضي ثم إمام الحي، وبعد الثلاثة إن لم يحضر أحد منهم يكون الحق في الصلاة لولي المتوفى؛ وذلك لأن الإمام نائب عن النبي ، والنبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم كما جاء في القرآن الكريم، فكذلك نائبه يكون أولى من غيره فيما تجب الولاية فيه.

    وتقديم الإمام أو الأمير أو النائب من قِبَله على الأقارب هو رأي أكثر أهل العلم، وفي رأي آخرين أن أحق الناس بالصلاة على الميت هو من أوصى له أن يصلي عليه.٤٨
  • (٧)
    وفي الحج نرى أن الحاج يصلي بعرفات الظهر والعصر معًا؛ أي جمع تقديم في وقت الظهر، جماعة عند أبي حنيفة، وهنا يشترط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه، وعند الصاحبين لا يشترط الجماعة لصحة الجمع بين هاتين الصلاتين، وفي الجماعة لا يشترط أن يكون الإمام هو الخليفة أو نائبه.٤٩
    وفي صلاة الجمعة نجد أن أبا حنيفة يشترط لصحتها أن يقوم بها الخليفة، أو من يأذن له بإقامتها من أمير أو والٍ ونحوهما، حتى إن من ينصبه العامة في بلد من البلاد لإقامة الجمعة مع وجود أحد ممن ذكرنا ليس له أن يصلي بهم الجمعة إلا لضرورة، وكذلك الأمر في إقامة الجمعة بمنى أيام الحج، فالخليفة أو نائبه هو الذي له إقامتها، وليس ذلك لأمير الحج، إلا لو كان ذلك مما أُذن له فيه من قِبل الإمام.٥٠
  • (٨)

    وأخيرًا، على المسلم زكاة أمواله على اختلاف صنوفها من باطنة وظاهرة، والأموال الباطنة هي النقود وأموال التجارة إذا كانت في مواضعها، والظاهرة هي المواشي وغيرها من السلع التجارية إذا خرج بها من بلده إلى بلد آخر.

    وله أن يدفع زكاة الأموال الباطنة إلى الفقراء والمستحقين لها بنفسه، ويصَدَّق بيمينه إن ادَّعى ذلك، أما في الأموال الظاهرة، فلا يصدَّق قوله: أديتُ زكاتها للفقراء؛ لأن حق المطالبة بزكاتها وأخذها — لتوزيعها على مصارفها — للسلطان أو من يُنيبه عنه لذلك، وإذًا فللإمام أخذها ثانيًا، عند أبي حنيفة، خلافًا لبعض الفقهاء.٥١

وبعدُ، فتلك هي الاتجاهات الكبرى التي رأيناها تسود تفكير أبي حنيفة الفقهي، ولا نزعم أنها كل ما كان له من اتجاهات، ولا أنه كان يقصد عامدًا إليها؛ ولكن رأينا ظهور كل منها بوضوح في كثير من آرائه وتفكيره، وبذلك فتحنا الباب لأبحاث تظهر منا أو غيرنا في هذه الناحية الهامة التي تساعد إلى حد كبير في تجلية أبي حنيفة ومذهبه الفقهي.

وإذا كان الاستثناء يؤكد القاعدة كما يقولون، فإننا نذكر أن الباحث لا يعسر عليه أن يجد من آراء الإمام ما لا يتفق مع هذا أو ذاك من الاتجاهات التي ذكرناها، وحسبنا هنا أن نشير إلى هذه المسائل:
  • (١)

    يرى أبو حنيفة أن المجنون إذا أفاق من جنونه في بعض شهر رمضان فعليه قضاء ما مضى منه، وليس هذا من التيسير في شيء، وإنما التيسير فيما رُوي عن الشافعي وغيره من أنه لا قضاء عليه؛ لأنه لم يكن عليه أداؤه وهو مجنون، والإنسان يقضي ما كان عليه أداؤه.

  • (٢)
    وكذلك ليس من التيسير في المعاملات ما ذهب إليه من عدم جواز «السَّلَم» في الحيوان، ولا في منقطع الجنس من السلع وقت العقد، ومن عدم جوازه إلا مؤجلًا؛ ولكن التيسير فيما ذهب إليه الشافعي وغيره من الجواز في هذه المسائل الثلاث.٥٢

    ومثل هذا عدم إجازته رهن المشاع، على حين يرى غيره جوازه، وإن كان لأبي حنيفة ما يستدل به، كما لمخالفيه أدلتهم أيضًا.

  • (٣)

    وليس من رعاية الفقير ما يراه أبو حنيفة وأصحابه من أنه لا زكاة في مال الصبي والمجنون؛ لأن كلًّا منهما ليس مخاطبًا بأحكام الشريعة لانعدام الأهلية فيهما، بل تتحقق رعاية الفقير فيما ذهب إليه الفقهاء الآخرون من وجوب الزكاة في مال كلٍّ منهما، ثم على الوصي أو الولي والقيِّم الأداء، وبذلك يصل للفقير حقه من الزكاة، وبخاصة أن كُلًّا من الصبي والمجنون ينتفع بماله، والدولة تحمي هذا المال وتعين على استغلاله، فمن الواجب أداء الزكاة عنه.

هذا وقد آن أن ننتقل إلى البحث التالي، وهو عرض صور من الخلاف بين أبي حنيفة ومخالفيه؛ لنعرف فيمَ كانوا يختلفون، ومناهج كل منهم في الاستدلال لما يذهب إليه؛ ولنلمس أيضًا مقدار ما كان للفقه والفقهاء من حيوية قوية في ذلك الزمان المجيد.

١  انظر، مثلًا، المناقب لابن البزاز الكردي، ج١: ٥٥.
٢  تكلمنا عن هذا الأساس في كتابنا «الفقه الإسلامي»، ص١١٦ وما بعدها من الطبعة الثانية.
٣  الغرة المنيفة، ص١٤.
٤  الانتقاء لابن عبد البر، ص١٥٥-١٥٦.
٥  الانتقاء لابن عبد البر، ص١٥٥-١٥٦.
٦  الاختلاف، ص١٣٢، وراجع المبسوط، ج٣: ٦٠ وما بعدها.
٧  نفسه، ص١٢٢-١٢٣.
٨  اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص١٢٢-١٢٣.
٩  الغرة المنيفة، ص٥٢-٥٣، والخميس: الثوب طوله خمسة أذرع. واللبيس: الثوب الملبوس.
١٠  الاختلاف، ص١٢٤، وراجع المبسوط للسرخسي، ج٢: ٢٠٨.
١١  اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص٢٥، وراجع المبسوط، ج١٣: ١٢٠.
١٢  الاختلاف، ٢٠-٢١.
١٣  راجع الزيلعي، ج٤: ٢٥، البدائع، ج٢: ٢٩٢.
١٤  نيل الأوطار، ج٥: ١٥٧.
١٥  راجع البدائع، ج٥: ١٤٨ أو ١٤٩، مغنى المحتاج، ج٢: ١٥، نهاية المحتاج، ج٣: ٢٣–٢٥، كشاف القناع، ج٢: ١١-١٢.
١٦  راجع في هذه المسألة وما قبلها الغرة المنيفة ص٥٦–٥٩.
١٧  مختصر الطحاوي، ص٢٧٠.
١٨  الغرة المنيفة، ص١٧١-١٧٢، مختصر الطحاوي، ص٢٧١.
١٩  الغرة، ص١٧٢-١٧٣، الطحاوي، ص٢٧٤.
٢٠  يرجع في هذه المسألة واللتين قبلها إلى الغرة المنيفة ص١٩٦ وما بعدها.
٢١  راجع اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ص٩٧.
٢٢  الغرة المنيفة، ص١٦٩.
٢٣  الغرة المنيفة، ص١٢٦.
٢٤  اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص٨١، المبسوط، ج٢٧: ١٨١، البدائع للكاساني، ج٧: ٣٥٤-٣٥٥.
٢٥  الاختلاف، ص٩١.
٢٦  ج٢٨: ٢٨.
٢٧  اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص٩٢-٩٣، المبسوط للسرخس، ٢٨: ٣٤.
٢٨  كتابنا «الفقه الإسلامي»، الطبعة الثانية، عام ١٩٥٦، ص٣٣٠-٣٣١ مع المراجع التي ذكرناها هناك.
٢٩  الغرة المنيفة، ص١٠٠.
٣٠  اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص١٧٥-١٧٦، المبسوط، ج٥: ١٠، وما بعدها.
٣١  اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص١٧٨-١٧٩.
٣٢  المبسوط للسرخسي، ج٥: ٢.
٣٣  اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، ص١٨١-١٨٢، المبسوط، ج٥: ٩٨.
٣٤  البدائع، ج٢: ٢٥، ويراجع في هذا أيضًا ما جاء في باب الشهادات، الغرة المنيفة، ص١٣٦.
٣٥  الدر ومشرحه وابن عابدين، ج٥: ٩٥–٩٧، البدائع، ج٧: ١٦٩-١٧٠، كتابنا: الفقه الإسلامي، ص٢٣٥ وما بعدها.
٣٦  راجع صفحات ٩٥–١٠١.
٣٧  الموطأ، ٣٣، ٢٠.
٣٨  كتاب الأم، ج٧: ٣٠٦.
٣٩  الرد على سير الأوزاعي، ١٩ بالهامش.
٤٠  ذكر جمال الدين يوسف بن فرغل بن عبد الله البغدادي، في رسالته اللطيفة: الانتصار والترجيح للمذهب الصحيح، ص١٧-١٨، بعض هذه المسائل بإيجاز.
٤١  حاشية ابن عابدين، ج٣: ٢٧٢.
٤٢  وعند الشافعي ليس للإمام أن يترك الأراضي في أيديهم بالخراج؛ بل عليه أن يقسمها بين الفاتحين بعد إخراج الخمس لمصاريفه.
٤٣  مختصر الطحاوي، ص١٦٧، البدائع، ج٧: ١١٨-١١٩.
٤٤  والسلب هو ثياب المقتول وسلاحه وماله الذي معه، ودابته التي ركبها بسرجها وآلاتها.
٤٥  الطحاوي، ص٢٨٤، والبدائع، ج٧: ١١٥.
٤٦  الطحاوي، ص١٣٤، الدر وشرحه وحاشية ابن عابدين عليه، ج٥: ٢٨٧.
٤٧  البدائع، ج٦: ١٩٩، الانتصار والترجيح للبغدادي، ص١٨.
٤٨  هداية المهتدي شرح بداية المبتدي، ج١: ٦٩، المغنى لابن قدامة؛ ج٢: ٤٨٠–٤٨٢.
٤٩  البدائع، ج٢: ١٥٢-١٥٣، الهداية، ج١: ٦٢.
٥٠  الدر وشرحه وحاشية ابن عابدين، ج١: ٥٦١ وما بعدها، الهداية، ج١: ٦٢.
٥١  البدائع، ج٢: ٣٥-٣٦، الانتصار والترجيح، ص١٧، الدر وشرحه وابن عابدين، ج٢: ٤٠-٤١.
٥٢  راجع في هذا الكتاب «الأصل» لمحمد بن الحسن الشيباني، ص٣ وما بعدها، الغرة المنيفة، ص٩٣-٩٤.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤