الفصل العاشر

قوانين الطبيعة

كانت فكرة السببية تحتلُّ موقع الصدارة في كل نظرية للمعرفة في العصر الحديث؛ ذلك لأن إمكان تفسير الطبيعة على أساس القوانين السببية يُوحي بالفكرة القائلة إن العقل يتحكم في أحداث الطبيعة، كما أن العرض السابق لتأثير ميكانيكا نيوتن في المذاهب الفلسفية (الفصل السادس) يُظهِر بوضوحٍ أن جذور المعرفة التركيبية القبلية ترجع إلى تفسيرٍ ذي طابع حتمي للعالم الفيزيائي. ولما كانت الفيزياء السائدة في عصرٍ ما تؤثِّر تأثيرًا عميقًا في نظرية المعرفة في ذلك العصر، فسيكون من الضروري دراسة التطور الذي طرأ على مفهوم السببية في فيزياء القرنَين التاسع عشر والعشرين، وهو التطور الذي أدَّى إلى إعادة النظر في فكرة القوانين الطبيعية، وانتهى بفلسفة جديدة للسببية.

ومما يزيد في سهولة عرض هذا التطور التاريخي إلى حدٍّ بعيد، أن يسبقه تحليل لمعنى السببية، وهذا التحليل يمكن أن يرتبط بالبحث في معنى التفسير (الذي ورد في الفصل الثاني)، وهو البحث الذي انتهى إلى أن التفسير تعميم. ولما كان التفسير إرجاعًا إلى الأسباب، فإن العلاقة السببية ينبغي أن تُفهَم على نفس النحو. والواقع أن العالم يعني بالقانون السببي علاقةً من نوع «إذا كان … فإن …»، مع إضافة أن نفس العلاقة تسري في كل الأحوال. فالقول إن التيار الكهربائي يسبِّب انحرافًا لإبرة المغناطيس، يعني أنه كلما كان هناك تيار كهربائي كان هناك دائمًا انحراف لإبرة المغناطيس. وإضافة لفظ «دائمًا» تؤدي إلى تمييز القانون السببي من الاتفاق الذي يحدث بالصدفة؛ فقد حدث مرة، أثناء ظهور منظر تفجير صخور على شاشة سينما، أن اهتزَّت الصالة نتيجةً لزلزال خفيف، وانتاب المتفرِّجين شعورٌ مُؤقَّت بأن الانفجار الذي شاهدوه على الشاشة هو الذي سبَّب اهتزازًا في صالة العرض. فإذا رفضنا قبول هذا التفسير، فنحن إنما نُشير في هذا الرفض إلى أن الاتفاق الذي لُوحِظ ليس قابلًا للتكرار.

ولما كان التكرار هو كل ما يميِّز القانون السببي من الاتفاق المحض، فإن معنى العلاقة السببية ينحصر في التعبير عن تكرارٍ لا يقبل استثناءً، ولا ضرورة لأن نفترض له معنًى يزيد على ذلك. الفكرة القائلة إن السبب يرتبط بنتيجته بنوع من الخيط الخفي، وإن النتيجة مُضطرَّة إلى أن تتلو السبب، هي فكرة يرجع أصلها إلى التشبيه بالإنسان، ومن الممكن الاستغناء عنها؛ فكل ما تعنيه العلاقة السببية هو «إذا كان كذا … حدث كذا دائمًا». ولو كانت صالة السينما تهتزُّ دائمًا عندما يظهر انفجار على الشاشة لكانت هناك علاقة سببية؛ فنحن إذن لا نعني أي شيء أكثر من ذلك عندما نتحدث عن السببية.

صحيحٌ أننا في بعض الأحيان لا نقِف عند حد تأكيد اتفاق لا يقبل استثناءً، وإنما نبحث عن مزيد من التفسير؛ فالضغط على زرار معيَّن يُصاحِبه دائمًا رنين جرس. هذا التطابق المنتظم يُفسَّر بقوانين الكهرباء، التي تُنبِئنا بأن رنين الجرس نتيجة للعلاقة بين التيار الكهربي والمغناطيسية، ولكننا إذا انتقلنا إلى صياغة هذه القوانين، وجدنا أنها بدورها تنحصر في التعبير عن علاقة من نوع «إذا حدث كذا … حدث كذا دائمًا». والعنصر الوحيد الذي تمتاز به قوانين الطبيعة على حالات الانتظام البسيطة التي يمثِّلها نمط ضغط الأزرار، هو أن الأولى تتصف بمزيد من العمومية؛ فهي تصوغ علاقات تتمثل في تطبيقات فردية مُتبايِنة لها أنواع شديدة الاختلاف؛ فقوانين الكهرباء مثلًا تعبِّر عن علاقات اتفاق دائمة، تُلاحَظ في الأجراس ذات الأزرار المضغوطة، وفي المحرِّكات الكهربائية، وفي أجهزة الراديو والسيكلوترون.

ويقبَل العلماء عامة، في أيامنا هذه، تفسير السببية على أساس العمومية، وهو التفسير الذي صِيغَ بوضوح في كتابات ديفيد هيوم؛ فهو يرى أن القوانين الطبيعية لا تعدو أن تكون تعبيرًا عن تكرارٍ لا يقبل استثناءً. وهذا التحليل لا يوضِّح السببية فحسب، وإنما يمهِّد الطريق أيضًا لتوسيع نطاق السببية على نحوٍ تبيَّن أنه لا غناء عنه لفهم العلم الحديث.

وسرعان ما اتَّضح أن قوانين الإحصاء، التي لُوحِظت في الأصل بالنسبة إلى نتائج ألعاب الحظ، تنطبق أيضًا على كثير من المجالات الأخرى. وكانت أولى الإحصاءات الاجتماعية قد جُمعت في القرن السابع عشر. وفي القرن التاسع عشر أُدخلت المناهج الإحصائية في الفيزياء. فبفضل الحسابات الإحصائية وُضعت النظرية الحركية في الغازات، وهي النظرية القائلة إن الغاز يتألف من عدد هائل من الجزيئات الصغيرة، التي تُسمَّى بالجسيمات، تتحرك في كل الاتجاهات مُصطدِمة بعضها ببعض، وترسم مسارات متعرِّجة بسرعة هائلة. وبلغ المنهج الإحصائي أوج نجاحه عندما نجح في تفسير ظاهرة «عدم القابلية للانعكاس» التي تميِّز كل العمليات الحرارية، والتي ترتبط ارتباطًا وثيقًا باتجاه الزمان.

إن كل شخص يعلم أن الحرارة تنتقل من الجسم الحار إلى الجسم البارد، لا العكس؛ فعندما نُلقي بمكعب من الثلج في كوب من الماء، فإن الماء يصبح أبرد؛ لأن حرارته انتقلت إلى الثلج وأذابته. هذه الحقيقة لا يمكن أن تُستخلص من قانون بقاء الطاقة؛ فمكعب الثلج ليس باردًا كل البرودة، وهو ينطوي في داخله على كمية كبيرة من الحرارة، وإذن فمن الممكن جدًّا أن يُعطي جزءًا من حرارته إلى الماء المحيط به فيجعله أسخن، على حين يصبح الثلج ذاته أبرد. مثل هذه العملية لا تتعارض مع قانون بقاء الطاقة، إذا كانت كمية الحرارة التي تنطلق من الثلج تُساوي الكمية التي يتلقَّاها الماء، ولكن عدم حدوث مثل هذه العملية، وانتقال طاقة الحرارة في اتجاه واحد فقط، ينبغي أن يُصاغ بوصفه قانونًا مستقلًّا. هذا القانون هو الذي نسمِّيه بقانون «عدم القابلية للانعكاس»، وكثيرًا ما يُطلِق عالم الفيزياء عليه «المبدأ الثاني للديناميكا الحرارية»، على حين أن المبدأ الأول في نظره هو قانون «بقاء الطاقة».

ومن الضروري صياغة مبدأ عدم القابلية للانعكاس بدقة كبيرة؛ فليس صحيحًا أن الحرارة تنساب دائمًا من الحرارة الأعلى إلى الحرارة الأدنى؛ إذ إن كل ثلاجة كهربائية إنما هي مثال للحالة العكسية. فالآلة تُخرِج الحرارة من داخل الثلاجة إلى خارجها؛ وبذلك تجعل الداخل أبرد والجو المحيط بها أسخن، ولكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك إلا لأنها تستخدم كمية معيَّنة من الطاقة الميكانيكية التي يأتي بها المحرِّك الكهربائي، وهذه الطاقة تتحول إلى حرارة في نفس درجة الحرارة المتوسطة للغرفة. وقد أثبت الفيزيائي أن كمية الطاقة الميكانيكية التي تحوَّلت إلى حرارة أعظمُ من كمية الطاقة الحرارية التي تُسحَب من داخل الثلاجة. فإذا نظرنا إلى الحرارة ذات الدرجة الأعلى، أو الطاقة الميكانيكية أو الكهربائية، على أنها طاقة من مستوًى أعلى، كانت الطاقة التي تهبط أكثر من الطاقة التي تعلو في الثلاجة. فمِن الواجب صياغة مبدأ عدم القابلية للانعكاس على أنه قضية تقول إننا إذا أخذنا في اعتبارنا كل العمليات التي لها علاقة بالموضوع، كان مجموع الطاقة هابطًا، بحيث يكون هناك على وجه العموم اتجاه إلى التعويض.

ولقد كان الفيزيائي بولتزمان Boltzman، من فيينا، هو الذي اكتشف أن من الممكن تفسير مبدأ عدم القابلية للانعكاس بطريقة إحصائية؛ فكمية الحرارة في جسمٍ ما تتحدد حسب حركة جزيئاته، فكلما ازداد متوسط سرعة الجزيء، ارتفعت الحرارة. وينبغي أن نُدرِك أن هذه العبارة لا تُشير إلا إلى متوسط سرعة الجزيء؛ لأن الجزيئات المنفردة قد تكون لها سرعات متباينة تمامًا. فإذا حدث اتصال مباشر بين جسم ساخن وجسم بارد، اصطدمت جزيئاتهما، وقد يحدث من آنٍ لآخر أن يصطدم جزيء بطيء بجزيء سريع فيفقد كل سرعته، وتزداد سرعة الجزيء السريع. غير أن هذه حالة استثنائية، والذي يحدث على وجه الإجمال هو تعادُل للسرعات عن طريق الصدمات. وهكذا يُفسَّر عدم قابلية العمليات الحرارية للانعكاس بأنه ظاهرة امتزاج، تُشبِه تقليب أوراق اللعب، أو خلط الغازات والسوائل.

وعلى الرغم من أن هذا التفسير يجعل قانون عدم القابلية للانعكاس يبدو معقولًا، فإنه يؤدي أيضًا إلى نتيجة خطيرة غير مُتوقَّعة؛ إذ ينزع عن القانون صرامته، ويجعله قانونًا احتماليًّا؛ فعندما تُقلَب أوراق اللعب لا نقول إن من المستحيل أن يؤدي تقليبنا للأوراق بمُضيِّ الوقت إلى ترتيب يكون فيه النصف الأول من المجموعة مشتملًا على أوراق حمراء، والنصف الثاني على أوراق سوداء، وكل ما يمكن أن يقال عن الوصول إلى هذا الترتيب هو أنه أمرٌ بعيد الاحتمال جدًّا. والواقع أن جميع القوانين الإحصائية من هذا النوع؛ فهي تجعل للترتيبات غير المنظمة درجةً عالية من الاحتمال، بينما تترك للترتيبات المنظمة درجةً منخفضة من الاحتمال. وكلما ازداد العدد الذي تنطوي عليه الظاهرة، كان احتمال الترتيبات المنظمة أقل، غير أن درجة الاحتمال هذه لا تصل أبدًا إلى الصفر. ومن المعروف أن ظواهر الديناميكا الحرارية تشير إلى أعداد هائلة جدًّا من الحوادث المنفردة، ما دام عدد الجزيئات كبيرًا جدًّا؛ وبالتالي فهي تنطوي على درجات عالية جدًّا من الاحتمال بالنسبة إلى العمليات التي تسير في اتجاه التعويض، ولكن ليس من الممكن، إذا شئنا الدقة، أن نصف العملية التي تسير في الاتجاه المضاد بأنها مستحيلة. فنحن مثلًا لا نستطيع استبعاد إمكان مجيء يوم تصل فيه جزيئات الهواء في غرفتنا، بالصدفة المحضة، إلى حالة مُنظَّمة من شأنها أن تتجمع جزيئات الأكسجين في جانب من الغرفة وجزيئات النيتروجين في الجانب الآخر. وعلى الرغم من أن التفكير في الجلوس في جانب الغرفة المليء بالنيتروجين هو أمرٌ لا يبعث على الارتياح، فإن إمكان وقوع مثل هذا الحادث لا يمكن أن يُستبعد استبعادًا مُطلَقًا. وبالمِثل لا يستطيع الفيزيائي استبعاد احتمال أن يجيء وقتٌ يُغلى فيه الماء عندما نضع مكعبًا ثلجيًّا في كوب من الماء، ويصبح مكعب الثلج من البرودة مثل غرفة التجميد، ولكن لعله مما يعزِّينا أن نعرف أن هذا الاحتمال أضعف كثيرًا من احتمال شبوب النار في كل بيت من بيوت مدينةٍ ما في وقت واحد ولأسباب مستقلة.

وعلى حين أن النتائج العملية للتفسير الإحصائي لقانون عدم القابلية للانعكاس لا قيمة لها نظرًا إلى ضعف احتمال سير العمليات في الاتجاه المضاد، فإن لنتائجه النظرية أهمية كبيرة؛ فقد اتضح أن ما كان من قبلُ قانونًا طبيعيًّا دقيقًا، هو مجرد قانون إحصائي، واستُعيض عن يقين القانون الطبيعي بدرجة عالية من الاحتمال؛ وبهذه النتيجة دخلت نظرية السببية مرحلة جديدة، وكان من الطبيعي أن يُثار السؤال عما إذا كانت بقية قوانين الطبيعة ستنتهي إلى نفس المصير، وعما إذا كانت ستبقى أية قوانين سببية بالمعنى الدقيق.

إن مناقشة هذه المشكلة تؤدي إلى رأيَين متعارضَين؛ فتبعًا للرأي الأول يكون استخدام القوانين الإحصائية مجرد تعبير عن الجهل؛ فلو كان في استطاعة عالم الفيزياء أن يلاحظ ويحسب الحركة المنفردة لكل جزيء على حدة، لما اضطر إلى استخدام القوانين الإحصائية، ولقدَّم تفسيرًا سببيًّا دقيقًا للعمليات الديناميكية الحرارية. ففي استطاعة «الإنسان الأرقى» الذي افترضه لابلاس Laplace١ أن يفعل ذلك؛ إذ إن مسار كل جزيء يمكن، في نظره، التنبؤ به مثل مسار النجوم، ولا حاجة به إلى أية قوانين إحصائية. فهذا الفهم لا يتخلى عن فكرة السببية الدقيقة، وإنما هو يقتصر على القول إن العملية الدقيقة بعيدة عن متناول المعرفة البشرية، التي تضطر، نتيجةً لنقصها، إلى الالتجاء إلى قوانين الاحتمال.

أما الرأي الثاني فيمثِّل وجهة النظر المضادة؛ فأنصار هذا الرأي لا يُؤمِنون بالسببية الدقيقة في حركة الجزيء المنفرد، وإنما يرون أن ما نُلاحِظه على أنه قانون سببي للطبيعة هو دائمًا نتيجة لعدد كبير من الحوادث الذرية؛ وعلى ذلك فمن الممكن النظرُ إلى فكرة السببية الدقيقة على أنها تعبير مثالي عن النظام المطرد المُشاهَد في بيئة العالم الكبير الذي نحيا فيه، أو تبسيط نضطر إليه نظرًا إلى أن العدد الهائل من العمليات الأولية التي ينطوي عليها الموضوع يجعلنا ننظر إلى ما هو في الواقع قانون إحصائي، على أنه قانون دقيق. وتبعًا لهذا الرأي لا يكون من حقنا نقلُ فكرة السببية الدقيقة إلى مجال العالم الأصغر؛ فليس هناك سبب يدعونا إلى افتراض أن الجزيئات تخضع لقوانين صارمة، بل إن الجزيئات التي تبدأ من مواقع متساوية قد تنتهي في المستقبل إلى مواقع مختلفة، وليس في استطاعة إنسان «لابلاس» الأرقى ذاته أن يتنبَّأ بمسار أي جزيء.

إن الخلاف إنما ينصبُّ حول مسألةٍ ما إذا كانت السببية مبدأً نهائيًّا أم مجرد بديل للانتظام الإحصائي، ينطبق على العالم الكبير أو الخشن، ولكن لا يمكن قبوله بالنسبة إلى عالم الذرات. فعلى أساس فيزياء القرن التاسع عشر لم يكن من الممكن الإجابة على هذا السؤال، وإنما جاءت هذه الإجابة من فيزياء القرن العشرين، التي حلَّلت الحوادث الذرية على أساس مفهوم الكم (الكوانتم) عند بلانك. فنحن نعلم من أبحاث ميكانيكا الكم الحديثة أن الحوادث الذرية المنفردة لا تقبل تفسيرًا سببيًّا، بل تحكمها قوانين الاحتمال فحسب. هذه النتيجة، التي صِيغَت في مبدأ اللاتحدُّد المشهور عند هيزنبرج Heisenberg، هي الدليل على أن الرأي الثاني هو الصحيح، وعلى أن من الواجب التخلي عن فكرة السببية الدقيقة، وأن قوانين الاحتمال أصبحت تشغل المكان الذي كان يحتله من قبلُ قانون السببية.
فإذا ما تذكَّرنا التحليل المنطقي للسببية، كما عرضناه في مستهلِّ هذا الفصل، لبدت هذه النتيجة امتدادًا طبيعيًّا للآراء القديمة؛ فقد أدَّى ذلك التحليل إلى القول بضرورة التعبير عن السببية على أنها قانون للانتظام الذي لا يعرف استثناءً؛ أي على أنها علاقة من نوع «إذا حدث كذا … حدث كذا دائمًا». أما قوانين الاحتمال فهي قوانين لها استثناءات، ولكنها استثناءات تحدث في نسبة مئوية مُنتظِمة من الحالات؛ فقانون الاحتمال هو علاقة من نوع «إذا حدث كذا … حدث كذا في نسبة مئوية معيَّنة». ويقدِّم إلينا المنطق الحديث وسيلةً معالجة مثل هذه العلاقة، التي يُطلَق عليها اسم «اللزوم الاحتمالي Probability implication»؛ تمييزًا لها من اللزوم المعروف في المنطق المعتاد. وهكذا يحلُّ التركيب الاحتمالي محلَّ التركيب السببي للعالم الفيزيائي، ويحتاج فهم العالم الفيزيائي إلى وضع نظرية في الاحتمالات.

وينبغي أن نُدرِك أن تحليل فكرة السببية يكشف عن ضرورة فكرة الاحتمال، حتى بدون نتائج ميكانيكا الكم؛ ففي الفيزياء الكلاسيكية يُعَد القانون السببي تعبيرًا مثاليًّا، وتكون الحوادث الفعلية أعقد مما يُفترَض بالنسبة إلى الوصف السببي. فعندما يحسب عالم فيزياء مسارَ رصاصة أُطلقت من بندقية، فإنه يحسبه على أساس بعض العوامل الرئيسية، مثل شحنة البارود واتجاه الماسورة، ولكن نظرًا إلى أنه لا يستطيع أن يأخذ في اعتباره كل العوامل الثانوية، كاتجاه الرياح ورطوبة الهواء؛ فإن دقة حسابه تكون محدودة. ومعنى ذلك أنه لا يستطيع التنبؤ بالنقطة التي ستُصيبها الرصاصة إلا في حدود درجة احتمال معيَّنة. وكذلك فإن المهندس حين يُشيِّد جسرًا، لا يستطيع التنبؤ بقوة تحمُّله إلا في حدود درجة احتمال معيَّنة؛ فقد تحدث ظروف لا يتوقعها، تجعل الجسر ينهار تحت حمل أقل. وإذن فقانون السببية، حتى لو كان صحيحًا، لا يسري إلا على موضوعات مثالية. أما الموضوعات الفعلية التي نتعامل معها فلا يمكن التحكم فيها إلا في حدود درجة عالية من الاحتمال؛ لأننا لا نستطيع تقديم وصف شامل لتركيبها السببي. ولمثل هذه الأسباب اتَّضحت أهمية مفهوم الاحتمال حتى قبل كشوف ميكانيكا الكم. وبعد هذه الكشوف أصبح من الواضح أن أي فيلسوف لا يستطيع إغفال مفهوم الاحتمال، إذا ما أراد أن يفهم تركيب المعرفة.

لقد كانت فلسفة المذهب العقلي تستشهد على الدوام بالسببية بوصفها دليلًا على الطابع المعقول لهذا العالم؛ ففكرة اسبينوزا عن تحدُّد مسار الكون مقدمًا، لا يمكن تصوُّرها دون اعتقاد بالسببية. وفكرة ليبنتس عن الضرورة المنطقية، التي تعمل من وراء الحوادث الفيزيائية، تتوقف على افتراض وجود ارتباط سببي بين كل الظواهر. ونظرية «كانت» في المعرفة التركيبية القبلية للطبيعة تستشهد بمبدأ السببية، إلى جانب قوانين المكان والزمان، بوصفه أبرز أمثلة هذه المعرفة. وهكذا فإن تطور مبدأ السببية، شأنه شأن تطوُّر مشكلتَي المكان والزمان، قد أدَّى منذ وفاة «كانت» إلى انهيار المعرفة التركيبية القبلية. وتزعزعت أسس المذهب العقلي على يد نفس العلوم التي كانت تُقدَّم — بتفسيرها الرياضي للطبيعة — أقوى دعامة يرتكز عليها فيلسوف هذا المذهب، وأصبح الفيلسوف التجريبي في العصر الحديث يستمدُّ أقوى حججه من الفيزياء الرياضية.

١  يُشير المؤلف هنا إلى رأي العالم الفرنسي لابلاس (١٧٤٩–١٨٢٧م) الذي يمثِّل قمة مبدأ الحتمية والسببية الدقيقة؛ وتبعًا لهذا الرأي فإنه إذا وُجد كائن يعلو على الإنسان، ويستطيع تكوين معرفة كاملة بحالة الكون في لحظة معيَّنة، فإنه يستطيع أن يتنبَّأ بكل التفاصيل المُقبِلة للحوادث الكونية من أكبرها إلى أصغرها، ولكن لما كان العقل البشري عاجزًا عن بلوغ هذه المرحلة، فإن الحتمية الدقيقة للظواهر تفوته، ويعجز عن التنبؤ الكامل بالمستقبل، ويلجأ إلى فكرة الاحتمال. (المترجِم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤