الفصل الثالث عشر

المنطق الحديث

أصبح تكوين المنطق الرمزي سمة من أبرز سمات الفلسفة العلمية؛ فهذا المنطق، الذي كان في الأصل شفرة سرِّية لا تفهمها إلا جماعة صغيرة من الرياضيين، قد أخذ يجذب انتباه دارسي الفلسفة على نحو مُتزايد، لهذا فإن تقديم عرض موجز للتطور الذي أدى إلى ظهور المنطق الرمزي، ولمشكلاته وحلوله، قد يكون أمرًا يُرحِّب به كل من يتوافر لديهم الوقت الكافي للقيام بدراسة متخصِّصة لهذا الفرع الفلسفي الجديد.

إن علم المنطق اكتشاف يوناني. وليس معنى ذلك أنه لم يكن هناك تفكير منطقي قبل اليونانيين، إذ إن التفكير المنطقي قديم قدم التفكير ذاته، وكل فعل فكري ناجح يخضع لقواعد المنطق. غير أن تطبيق هذه القواعد دون وعي في عمليات التفكير العملي شيء، وصياغتها بصورة واضحة من أجل جمعها على شكل نظرية شيء آخر. ولقد كان هذا البحث المخطَّط في القواعد المنطقية هو الذي بدأ على يد أرسطو.

وقد ركز أرسطو أبحاثه في ميدان أصبحنا نعلم اليوم أنه باب خاص جدًّا من أبواب المنطق. فقد صاغ قواعد الاستدلال الخاص بالفئات، أي الاستدلال المتعلق بعضوية الفئات. والمقصود بالفئة كل أنواع المجموعات أو الكليات؛ مثل فئة البشر، أو القطط، فكون سقراط إنسانًا هو بالنسبة إلى المنطق، مثال لعضوية الفئة؛ إذ إن سقراط عضو في فئة الناس، ويُسمى الاستدلال المتعلِّق بعضوية الفئة قياسًا. مثال ذلك أن نستدل من المقدمتين «كل إنسان فانٍ» «وسقراط إنسان» على النتيجة «سقراط فان».

هذا النوع من الاستدلال يبدو لأول وهلة ضئيل القيمة، غير أن مثل هذا الحكم ليس فيه إنصاف لأرسطو. فما كشفه أرسطو هو أن للاستدلال صورة ينبغي التمييز بينها وبين مضمونه. فالعلاقة بين المقدمتَين والنتيجة، كما تتمثَّل في الاستدلال المتعلِّق بسقراط، مستقلة عن الفئات الخاصة المشار إليها، وهي تظل سارية على غيرها من الفئات والأفراد المناسِبين أيضًا، وبفضل دراسة أرسطو للصور المنطقية، اتخذ الخطوة الحاسمة التي أدَّت إلى قيام علم المنطق. وقد صاغ بوضوح بعض المبادئ الرئيسية للمنطق؛ مثل مبدأ الهوية ومبدأ التناقض.

غير أن أرسطو لم يقمْ إلا بالخطوة الأولى؛ فمنطقه لا يسري إلا على بعض الصور الخاصة للعمليات الفكرية. ولكن هناك، إلى جانب الفئات، علاقات. والعلاقة ليس لها أعضاء أفراد، وإنما تشير إلى أزواج من الأعضاء (أو إلى مجموعات ثلاثية، أو إلى مجموعات تضم عددًا أكبر). فكون إبراهيم أبا إسحق هو حقيقة تتعلق بإبراهيم وإسحق، وبالتالي تحتاج للتعبير عنها إلى العلاقة «أبو …» وبالمثل إذا كان زيد أطول من عمرو، فإن علاقة «أطول من» تسري فيما بين هذين الشخصين. فالاستدلالات الخاصة بالعلاقات لا يمكن التعبير عنها في منطق الفئات؛ مثال ذلك أن منطق أرسطو لا يستطيع أن يثبت أنه إذا كان إبراهيم أبا إسحق، فإن إسحاق ابن إبراهيم،١ فمنطقه لا يَملك وسيلة التعبير عن صورة هذا الاستدلال.

وإن المرء ليميل إلى الاعتقاد بأنه لم يكن من العسير على مُكتشِف منطق الفئات أن يمتدَّ بعمله إلى منطق العلاقات، ما دامت اللغة التي كان يتكلمها لم تكن تقلُّ تطورًا عن لغتنا، وكانت لها كل الصور النحوية اللازمة لمعالجة العلاقات. وفضلًا عن ذلك فقد عرف أرسطو بوجود العلاقات، ففي كتابه عن المقولات يشرح بوضوح تام أن علاقة مثل «أكبر من» تقتضي شيئين تسري فيما بينهما. ولكنه لا يمتد بنظريته في الاستدلال بحيث تشمل العلاقات. وقد يكون السبب هو أن اهتمام واضع منطق الفئات بالمسائل الأقرب إلى الطابع الميتافيزيقي كان أعظم من أن يُتيح له الوقت اللازم لإكمال عمله المنطقي. ولكن إذا صح ذلك فقد كان في استطاعة واحد من تلاميذه أن يضع منطقًا للعلاقات. غير أن العجيب أن شيئًا من ذلك لم يحدث، ويبدو أن أرسطو لم يُدرك أبدًا أن لمنطقه حدودًا لم يستطع أن يتعدَّاها. ولم يُضفْ تلاميذه إلا تفصيلات قليلة، ولكنهم لم يتجاوَزوا عمل أستاذهم في أي موضوع أساسي. ولم يطرأ تغيُّر إلى الأحسن في القرون التالية. وهكذا تتمثَّل في تاريخ المنطق صورة عجيبة لعلمٍ ظلَّ طوال أكثر من ألفَي عام في نفس المرحلة الأولية التي تركه فيها مؤسسه.

فما هو تفسير هذه الحقيقة التاريخية؟ إن تاريخ المنطق يبدو، بالقياس إلى التقدم الهائل الذي أحرزته الرياضة وأحرزه العلم خلال هذه الأعوام الألفين، أشبه ببقعة جرداء في بستان المعرفة. فما السبب الذي يُمكننا أن نُعلِّل به هذا الركود؟

إن المنطق يحتاج، أكثر من أي مبحث آخر في الفلسفة، إلى معالجة فنية متخصِّصة لمشكلاته. فالمشكلات المنطقية لا تحل بلغة مجازية، وأيضًا تقتضي دقة الصياغة الرياضية، بل إن مجرَّد التعبير عن المشكلة يكون في كثير من الأحيان مستحيلًا بدون مساعدة لغة تُماثل في دقتها لغة الرياضيات. ولقد كان الفضل الذي ينبغي أن ينسب إلى أرسطو ومدرسته هو أنهم هم الذين وضعوا الأسس الأولى للغة فنية دقيقة للمنطق، وهي لغة أضافت إليها العصور الوسطى بضعة عناصر ضئيلة القيمة. ولكن ذلك كل ما تمَّ في هذا الاتجاه خلال ألفَي عام. وعلى حين أن كبار الرياضيين قد استحدثوا لعلمهم أسلوبًا فنيًّا ذا كفاءة عالية، فإن التجاهل كان من نصيب أسلوب المنطق، بل إن المنطق التقليدي يتمثَّل على الصورة الهزيلة لعلم لم يكن أبدًا مجالًا لعمل رجل عظيم. فيبدو أن أولئك الذين وُهبوا أعظم قدرة على التفكير المجرَّد لم يجذبهم المنطق، وإنما اجتذبهم العلم الرياضي الذي كان يُتيح لهم فرصًا أعظم للنجاح. وهذا الحكم يصدق حتى على عهد أرسطو؛ إذ إن التحليل المنطقي الذي مارَسَه رجال مثل فيثاغورس وإقليدس في ميدان الرياضة يفوق بكثير تلك الكشوف التحليلية التي تمَّ الوصول إليها في منطق أرسطو. ولولا مساعدة العقل الرياضي، لظل المنطق محكومًا عليه بالبقاء في مرحلة الطفولة. وعلى الرغم من أن «كانت» لم يَستطِع أن يستحدث منطقًا أفضل، فإنه قد أصدر حكمًا صحيحًا على الموقف عندما أعرب عن دهشتِه لأن المنطق هو العلم الوحيد الذي لم يُحرز أي تقدُّم منذ بداية عهده.

ولقد كان أول رياضي عظيم اتَّجه اهتمامه صوب المنطق هو ليبنتس. وكانت النتائج التي تَوصَّلَ إليها ثورية؛ إذ كان هو أول من وضع برنامج التدوين الرمزي، ولو كان قد أبدى في تنفيذ هذا البرنامج نفس الجهد والعبقرية اللذَين أبداهما في اختراعه لحساب التفاضل، لعجَّل بظهور المنطق الرمزي قبل مائة وخمسين عامًا من موعد ظهوره الفعلي. غير أن عمله ظل غير مُكتمل، وغير معروف في عصره، وكان لزامًا على كتاب القرن التاسع عشر أن يجمعوه من رسائله ومن مخطوطاته غير المنشورة. وكانت نقطة التحول في تاريخ المنطق هي منتصَف القرن التاسع عشر، عندما شرع رياضيون مثل بول Boole ودي مورجان de Morgan في التعبير عن مبادئ المنطق بلغة رمزية من نوع التدوين الرياضي. واستمر بناء المنطق الرمزي على أيدي رجال مثل بيانو G. Peano وبيرس C. S. Peirce وشرودر E. Schroeder وفريجه G. Frege ورسل B. Russell الذين بدأ بفضلِهم نوع جديد من الفيلسوف، هو المنطقي الرياضي، يدخل ساحة التاريخ.

ويتميَّز المنطق الجديد، شأنه شأن فلسفة المكان والزمان، بأنه لم يُحقق نموه من داخل الفلسفة التقليدية، بل من ميدان الرياضيات؛ فقد اكتشف الرياضيون مجالًا ظلَّ تفكيرهم يتجاهله طويلًا، يتيح فرصًا لمعالجة فنية شبيهة بالمعالجة الفنية للرياضيات. وبفضل بناء المنطِق الرمزي أسهم القرن التاسع عشر بنصيب آخر في الفلسفة. ولو نظرنا إلى موقع القرن التاسع عشر في تاريخ الفكر على النحو الذي أوضحناه من قبل، لبدا مثل هذا التطوُّر طبيعيًّا، فقد طبقت على مجال المنطق تلك المحاوَلة التي ترمي إلى إيجاد أسلوب فني قابل للتطبيق عمليًّا، وهي المحاوَلة التي أحرزت نجاحًا كبيرًا في جميع العلوم. وفي الوقت ذاته تبين أن الأسلوب الفني للمنطق يكون أداة للبحث في أسس المعرفة، وهو بدوره بحث يبدو نتيجة طبيعية لتعقُّد التفكير العلمي وازدياد دقَّته، وهكذا بدأت البقعة الجرداء في بستان المعرفة تُحرث بذلك الأسلوب الرياضي الذي كان قد أحرز تقدُّمًا عظيمًا.

ولكن لماذا يعدُّ إدخال التدوين الرمزي أمرًا له كل هذه الأهمية بالنسبة إلى علم المنطق؟ إن له تقريبًا نفس أهمية التدوين الرياضي الجيد. فلنفرض أن أمامك مسألة مثل: «لو كان زيد أصغر خمس سنوات، لكان سنُّه ضعفَ سنِّ عمرو عندما كان هذا الأخير أصغر بست سنوات، ولو كان زيد أكبر بتسع سنوات، لكان سنه ثلاثة أضعاف سن عمرو عندما كان هذا الأخير أصغر بأربع سنوات» فإذا حاولت أن تحلَّ هذه المسألة مباشرة بإجراء عمليات الجمع والطرح والبحث في كل حالات «لو»، لوصلت بعد فترة قصيرة إلى نوع من الدُّوَار وكأنك تركب أرجوحة. ولكن لتأخذ بعد ذلك قلمًا وورقة، وترمز إلى سن زيد بالحرف «س» وإلى سن عمرو بالحرف «ص»، ولتكتب المعادلات الناتجة وتحلها بالطريقة التي تعلمتها في المدرسة الثانوية، وعندئذٍ ستُدرك قيمة أسلوب التدوين الجيد، وينطوي المنطق بدوره على مشكلات مماثلة. فلنتأمل المثال الآتي: «إن من المؤكَّد أن كليوباترا لم تكن حية في عام ١٩٣٨ ولم تكن متزوِّجة من هتلر ولا من موسوليني.» فما الذي تَعنيه هذه المجموعة من العبارات؟ إن المنطقي الرياضي يُوضِّح لك كيفية كتابتها بالرموز، ثم يحول التعبير عن طريق عمليات مُماثِلة لتلك التي تعلَّمتَ أن تستخدم بها «س» و«ص»، وينبئك أخيرًا بأن الجملة تعني أنه «لو كانت كليوباترا حية في عام ١٩٣٨ لتزوَّجت من هتلر أو موسوليني.» وأنا لا أودُّ أن أقول إن التصريح الذي كشفْنا عنه ذو أهمية سياسية كبرى، غير أن المثل يُوضِّح فائدة الأسلوب الفني الرمزي. وليس في وسعنا أن نوضِّح هنا كيفية تطبيق التدوين على مشكلات لها أهمية أعظم، ومع ذلك فمن الواضِح أن التدوين على مُشكلات لها أهمية أعظم، ومع ذلك فمن الواضح أن التدوين الرمزي يُفيد أيضًا إذا طُبق على صياغة المسائل الفنية في العلوم.

وليس التدوين الرمزي أداةً لحلِّ المُشكلات فحسب، بل إنه أيضًا يُوضِّح المعاني ويزيد من القدرة على ممارسة التفكير المنطقي. وإني لأذكر أن أحد تلاميذي كان قد أصيب في حادث سيارة أثَّر على مخِّه تأثيرًا بسيطًا، فكان يشكو من صعوبة في فهم الجمل المعقَّدة، فأعطيته تمرينات من النوع الذي أشرتُ إليه من قبل، واستطاع أن يحلها بمساعدة التدوين الرمزي، وبعد أسبوع أو اثنين أخبَرَنا أن تفكيره قد طرأ عليه تحسُّن كبير.

وفضلًا عن ذلك فقد وجد المنطق الرمزي ميدانًا هامًّا تُطبَّق نتائجُه عليه، هو التحليل النحوي للغة. ذلك لأن النحو الذي تعلَّمناه في المدارس قد نشأ من المنطق الأرسططالي، وهو لا يصلح للتعبير بدقة عن تركيب اللغة. ولقد أدَّى عجز أرسطو المؤسف عن الانتقال إلى منطق للعلاقات — أدَّى بالنحويين إلى الأخذ بالفكرة القائلة أن كل جملة ينبغي أن يكون لها مبتدأ أو خبر، أو فعل وفاعل، وهو تفسير غير كافٍ بالنسبة إلى عدد كبير من الجُمل. صحيح أن الجملة «زيد طويل» فيها مبتدأ هو «زيد» وخبر هو «طويل». ولكن الجملة «زيد أطول من عمرو» فيها اسمان مُتساويان في أهميتهما، هما «زيد» و«عمرو»، ما دام الخبر، وهو «أطول من» علاقة. وهكذا فإن سوء فهم التراكيب اللغوية، الناشئ عن التمسُّك بالمنطق الأرسططالي، أدى إلى إلحاق ضرر بالغ بعلم اللغة.

والحق أن التعاون بين المنطقي وعالم اللغة يبشر بخير كثير. مثال ذلك أن طبيعة الصفة والحال وإعراب الأسماء والأفعال والجمل الموصولة وكثير غيرها من السمات اللغوية، تظهر في ضوء جديد عندما ينظر إليها بأعين المنطقي.٢ وأن الدراسة المقارنة للغات المختلفة لتُفتَح أمامها آفاق جديدة عندما يُصبح المحور الذي تدور حوله نظامًا محايدًا، هو اللغة الرمزية للمنطق، التي تتيح لنا الحكم على مختلف وسائل التعبير في كل لغة على حدة.

ولقد اقتصر حديثي حتى الآن على الفائدة العملية للتدوين الرمزي. ومع ذلك فإن للتدوين الجيد فائدة نظرية أيضًا، فهو يُتيح للمنطقي كشف وحل مشكلات لم يكن يستطيع أن يدركها من قبل.

لقد أتاح بناء المنطق الرمزي البحث في العلاقات بين المنطق والرياضة من زاوية جديدة. فلماذا يُوجَد لدينا علمان مجردان للبحث في نواتج الفكر؟ قام برتراند رسل وألفرد نورث وايتهد A. N. Whitehead بدراسة هذه المسألة، وتوصَّلا إلى الإجابة القائلة أن الرياضة والمنطق آخر الأمر شيء واحد، وأن الرياضة ليسَت إلا فرعًا للمنطق وجهت فيه عناية خاصة إلى التطبيقات الكمية. وقد عرَضا هذه النتيجة في كتاب ضخم، كُتب بأكمله تقريبًا بطريقة التدوين الرمزي للمنطق. وكانت الخطوة الحاسمة في البرهان على هذا الرأي هي تعريف رسل للعدد، فقد بين رسل أن الأعداد الصحيحة، وهي ١، ٢، ٣ … إلخ، يمكن تعريفها من خلال التصورات الأساسية للمنطق فحسب. ومن الواضح أن مثل هذا البرهان لم يكن من الممكن الإتيان به دون مساعدة من التدوين الرمزي؛ إذ إن لغة الكلمات أشد تشابكًا وتداخلًا من أن تعبر عن علاقات منطقية تتصف بهذا القدر من التعقيد.

وبإرجاع رسل الرياضة إلى المنطق على هذا النحو، فقد أكمل تطورًا بدأ بالتغيير الذي طرأ على الهندسة، وهو التغيير الذي وصفته من قبل بأنه قضاء على المعرفة التركيبية القبلية، ذلك لأن «كانت» كان يعتقد أن الحساب، لا الهندسة فقط، له طبيعة تركيبية قبلية. ولكن رِسل أوضَح، بإثباته أن أساسيات الحساب يُمكن أن تستمد من المنطق الخالص، أن الضرورة الرياضية ذات طبيعة تحليلية. فليس ثمة عنصر تركيبي قبلي في الرياضيات.

ولكن إذا كان المنطق تحليليًّا، فإنه فارغ، أي أنه لا يُعبِّر عن خصائص الموضوعات الفيزيائية. ولقد حاول الفلاسفة العقليون مرارًا أن ينظروا إلى المنطق على أنه علم يصف بعض الخصائص العامة للعالم، أعني علمًا للوجود، أو أنطولوجيا. وهم يعتقدون أن مبادئ مثل «كل شيء في العالم في هوية مع ذاته» تُنبئنا بخصائص عن الأشياء. ولكن فاتهم أن كل المعلومات التي تُمدنا بها هذه الجملة إنما تنحصر في تعريفٍ يُحدد شروط استخدام كلمة «الهوية»، وأن ما نعرفه من الجملة ليس صفة للأشياء، وإنما هو قاعدة لغوية. فالمنطق يصوغ قواعد اللغة ولهذا كان المنطق تحليليًّا وفارغًا.

وأود أن أوضح بمزيد من الدقة تلك الطبيعية التحليلية للمنطق، والسبب الذي يُوصَف المنطق من أجله بأنه فارغ. فالمنطق يربط جملًا على نحو من شأنه أن يكون التجمُّع الناتج صحيحًا على نحو مستقل عن صحة الجمل المُنفردة. مثال ذلك أن التجمُّع الآتي للجمل: «لو أن نابليون أو قيصر لم يَبلُغا سن الستين، فإن نابليون لم يبلغ سن الستين» هذا التجمُّع صحيح سواء أكان نابليون، أو قيصر، قد مات بالفعل قبل سن الستين أم لم يكن، وعلى ذلك فإن هذا التجمُّع لا ينبئنا عن السن الذي بلغه الشخصان المشار إليهما، وهذا هو المقصود بكون المنطق فارغًا، ومن جهة أخرى، فإن المثل يُوضِّح لماذا كانت العلاقات المنطقية صحيحة بالضرورة؛ فهي صحيحة لأن أية ملاحظة تجريبية لا يُمكنها أن تكذبها، فلو رجعنا إلى أحد القواميس ووجدنا أن نابليون مات في سن الرابعة والخمسين، فإن هذه النتيجة لا تكذب التجمُّع السابق للجمل، وكذلك فإننا لو وجدنا أن نابليون مات في سن الخامسة والستين، لما أدَّت هذه النتيجة بدورها إلى تكذيبه. فالضرورة المنطقية والفراغ صفتان متلازمتان، وهما معًا تؤلِّفان الطابع التحليلي للمنطق، أو صفة تحصيل الحاصل فيه. فكل العبارات المنطقية البحتة تحصيل حاصِل، كالمثل الذي أوردناه من قبل، وهي لا تقول شيئًا، وبالتالي فإن ما تُنبئنا به لا يزيد ولا ينقص عما يُنبئنا به تحصيل الحاصل الآتي: «غدًا ستُمطر السماء أو لا تمطر.» ومع ذلك فليس من السهل دائمًا كشف الطابع التحليلي لتجمع من الجمل. فلنتأمل مثلًا التجمُّع الآتي: «إذا كان أي شخصَين يحب كل منهما الآخر أو يَكره كلٌّ منهما الآخر، فإما أن يكون هناك شخص يحبُّ الناس جميعًا، وإما أن يكون لكل شخصٍ شخصٌ آخر يكرهه.» إن المنطق يُثبت أن هذا التجمُّع تحليلي، وإن لم يكن الطابع التحليلي واضحًا على الإطلاق.

ولقد أثار رأي رِسل في الطابع التحليلي للرياضيات اهتمامًا عظيمًا، وأبدى بعض الرياضيين نفورًا من ذلك التفسير الذي يقدمه رسل لعلمهم، والذي لا تختلف فيه النظريات الرياضية، من حيث فراغها، عن مبادئ المنطق. ولكن هذا الحكم يكشف عن سوء فهم لطبيعة المنطق؛ إذ إن وصف الرياضيات بأنها تحليلية لا يَنطوي على أي إقلال من شأنها. بل إن فائدة التفكير الرياضي ذاتها إنما تُستمدُّ من طبيعته التحليلية. فكون النظريات الرياضية فارغة، هو ذاته الذي يجعلها مضمونة على نحو مُطلَق، ويسمح باستخدامها في العلوم الطبيعية. ولكن لا يُمكن تكذيب أية نتيجة علمية باستخدام الرياضة، لأن الرياضة لا تستطيع أن تضيف إلى العلم مضمونًا خفيًّا لم يتم إثباته. ومع ذلك فالقول إن العلاقات الرياضية فارغة لا يعني أن من السهل الاهتداء إليها، فكشف العلاقات الفارغة، كما أوضحنا من قبل، يمكن أن يكون عملًا شديد الصعوبة، وإن مقدار الجهد والبراعة اللازمين في الرياضة لدليل على الأهمية البالغة للبحث الرياضي.

ولقد استخدم المنطق الرمزي على نطاق واسع في وضع مبحث رياضي جديد أُرسيَت دعائمه في القرن التاسع عشر: هو نظرية المجموعات sets. وكلمة «المجموعة» لها نفس معنى كلمة «الفئة Class» الذي أوضحناه من قبل في صدد المنطق الأرسططالي. ولكن ما أعظم الفارق بين نظرية المجموعات كما وضَعها رياضيو القرن التاسع عشر، وبين حساب الفئات في المنطق الأرسططالي! الحق أنه من غير المفهوم أن يظلَّ منطق الفئات يملأ الكتب المدرسية في المنطق، في وقتٍ يَختلف عن عهد أرسطو بقدر ما تختلف القطارات الحديدية عن العربة التي تجرُّها الثيران.

غير أن المنطق الرمزي لم يَجلب النجاح لعالم المنطق على الدوام؛ فقد أوقعه أيضًا في صعوبات كشف عنها رِسل وصاغها في نقائض منطق الفئات. ولنضرب مثلًا نوضح به المشكلة.

إننا نستطيع، عندما نتأمل صفة، أن نتساءل عما إذا كانت هذه الصفة ذاتها لديها نفس الصفة، ولكن الأمر عادةً لا يكون كذلك؛ فالصفة أحمر ليست حمراء. ولكن الأمر يختلف في صفات أخرى: فصفة «القابلية للتخيُّل» يُمكن تخيُّلها، والصفة «محدَّد» هي ذاتها محددة، والصفة «قديم» هي ذاتها قديمة؛ إذ إنَّ من المؤكد أنها موجودة حتى في عصر ما قبل التاريخ. فلنَستخدِم اسم «القابل للحمل Predicable» للدلالة على هذا النوع الثاني من الصفات، أما الصفات الأخرى فسوف نُسميها «غير القابلة للحمل impredicable». وهنا نجد تصنيفًا جامعًا مانعًا؛ فكل صفة إما أن تكون قابلة للحمل وإما ألا تكون. فضِمن أية فئة إذن ينبغي أن نُصنِّف الصفة «غير قابل للحمل»؟

لنفرض أن الصفة «غير قابل للحمل» قابلة للحمل، وعندئذٍ تكون متَّصفه بالصفة التي تدلُّ عليها، مثل «قابل للتخيُّل»، ومن ثم تكون الصفة «غير قابل للحمل» غير قابلة للحمل، ولكن لنفرض أن الصفة «غير قابل للحمل» غير قابلة للحمل. والفرض الذي قلنا به يُقرر أن «غير قابل للحمل» لها نفس الصفة التي تدلُّ عليها، وعلى ذلك فإن «غير قابل للحمل» قابلة للحمل، وهكذا فإننا كيفما صنَّفنا الصفة «غير قابل للحمل»، وصلنا إلى تناقض.

هذا النوع من النقائض يمثل مشكلة خطيرة. ولو شئنا أن يكون المنطق موثوقًا به على نحو مطلق، فلا بد أن يكون لدينا ضمان بأنه لن يؤدِّي إلى متناقِضات. وإنه لمن الحقائق الطريفة أن المناطقة القدماء ذاتهم قد وضعوا نقائض، اشتهرت من بينها مفارقات زينون. ومع ذلك فإن النظرية الحديثة في الفئات تؤدِّي إلى استبعاد معظم هذه المفارقات، وذلك عن طريق تحليل تصور «اللامتناهي» على نحو أدق. أما نقيضة رسل فتحتاج إلى علاج أجرأ. فهي تدلُّ على أنه ليس كل تجمع للكلمات يمكن أن يقبل على أنه عبارة ذات معنى، وتدلُّ على أن بعض التجمُّعات، وإن كانت تتَّخذ صورة جملة، ينبغي أن تعدَّ تجمعات لا معنى لها، مثال ذلك أن الجملة (الصفة «محدَّد» محدَّدة)، وإن كانت تبدو معقولة لأول وهلة، ينبغي أن تستبعد من مجال الجمل التي لها معنى. وقد صاغ رسل قيود اللغة هذه في نظريته في الأنماط theory of types، وبمُقتضاها تكون صفة الصفة من نمط أعلى من صفة الشيء. هذا التمييز يجعل صياغة النقيضة مستحيلًا، وبذلك يخلص المنطق من المتناقضات.
فهل نحن على ثقة من أن المناطقة لن يكتشفوا أبدًا أنواعًا أخرى من النقائض؟ وهل لدينا ضمان بأن المنطق بريء من التناقض؟ هذه المشكلة شغلت الرياضي الألماني «هلبرت Hilbert»، وهو من أعظم الرياضيين في عصرنا. فبدأ سلسلة من الأبحاث التي كانت تهدف إلى إيجاد برهان على أن المنطق والرياضة بريئان من التناقُض. وقد واصَل آخرون عمله، غير أن البرهان لم يُقدم حتى الآن إلا بالنسبة إلى نظم منطقية بسيطة إلى حدٍّ ما. وقد نشأت صعوبات من تطبيق هذا البرهان على ذلك النظام المعقَّد للرياضيات، الذي يستخدمه الرياضي الحديث، وما زال من الأمور غير المؤكدة إن كان البرنامج الذي وضعه هلبرت للبرهنة على الاتساق أمرًا يُمكن تنفيذه أم لا. أما ما سيكونه الجواب، فتلك مشكلة من مشكلات المنطق الحديث التي لم تحل. وقد يكون في وجود أمثال هذه المشكلات دليل على أن المنطق الحديث ما زال في حاجة إلى مزيد من الأبحاث، فما زال من الواجب القيام بقدر هائل من التحليل، من نوع لم يكن يُمكن تصوره في ظل المنطق التقليدي.
ولقد أدَّت دراسة النقائض ونظرية الأنماط إلى تمييز له أهميته العظمى: هو التمييز بين اللغة واللغة البعدية metalanguage (واللفظ meta الذي يسبق الكلمة الإنجليزية من أصلٍ يوناني بمعنى «ما بعد»). فعلى حين أن اللغة المعتادة تتحدَّث عن أشياء، فإن اللغة البعدية تتحدث عن اللغة. وعلى ذلك فإننا عندما نضع نظرية في اللغة فإنما نتحدَّث «لغة بعدية». ومن الوسائل المألوفة في التعبير عن الانتقال إلى اللغة البعدية استخدام علامات الاقتباس quotation marks. فعندما نتحدث عن اللفظ «زيد» نضعه بين هذه العلامات، ونوضِّح بذلك أننا لا نتحدث عن الشخص. فنحن نقول مثلًا إن «زيد» لها ثلاثة حروف على حين أن زيدًا يلعب الكرة. ولو حدَث خلط بين اللغتين، لنتجَت نقائض معيَّنة، ومن هنا كان التمييز بين مستويات اللغة شرطًا ضروريًّا للمنطق. فالجملة «ما أقوله الآن كذب» تؤدي إلى متناقِضات؛ لأنها لو كانت صادقة، لكانت كاذبة، ولو كانت كاذبة، لكانت صادقة، ولكن من الواجب النظر إلى مثل هذه الجمل على أنها لا معنى لها؛ لأنها تتحدَّث عن ذاتها، وتُخالف التمييز بين مستويات اللغة.
ولقد أدَّت دراسة اللغة البعدية إلى نظرية عامة في العلامات، يطلق عليها في كثير من الأحيان اسم «علم المعاني Semantics or Semiotics» وهو مبحث يختص بدراسة خواص جميع أشكال التعبير اللغوي، ويَشتمل هذا اللفظ على علامات مثل علامات المرور، أو على صور، تستخدم كاللغة اللفظ على علامات مثل علامات المرور، أو على صور، تستخدم كاللغة المنطوقة بوصفِها أدوات لتوصيل المعاني إلى أشخاص آخرين. وتقوم نظرية العلامات، مُستعيذة بعلم النفس الحديث، بدراسة الارتباطات الانفعالية الشديدة لأنواع مختلِفة من اللغات، كالشعر أو اللغة الخطابية. فالمنطق لا يبحث إلا في الاستخدام المعرفي للغة، أما البحث في اللغة بوصفِها أداة أو وسيلة، فيقتضى علمًا آخر، هو علم المعاني semantics وهكذا فإن ظهور المنطق الحديث قد أدَّى إلى بعث الحياة في علم آخر، يعالج الخصائص اللغوية التي تَستبعد، وينبغي أن تستبعد، في التحليل المنطقي.
وإلى جانب فائدة المنطق الرمزي في الرياضيات، فقد اكتسب أهمية بالنسبة إلى علوم أخرى. فعندما اكتشف الفيزيائيون أن ميكانيكا الكوانتم تؤدِّي إلى عبارات معيَّنة لا يمكن التحقق من صدقها أو كذبها (انظر الفصل الحادي عشر)، أمكن إدراج أمثال هذه القضايا في إطار منطق ثلاثي القيم، أعني منطقًا يضع. «اللاتحدُّد» بين قيمتي الصدق والكذب، وقد أمكن بناء هذا المنطق بأساليب المنطق الرمزي حتى قبل أن يفكر أي شخص في تطبيقه على الفيزياء. وبالمثل فقد وضعت أشكال أخرى في المنطق المتعدِّد القِيَم multivalued logic وأحد هذه الأشكال يستخدم في تفسير القضايا الاحتمالية، وهو يَستعيض عن قيمتَي الصدق والكذب بسلم متَّصل من الاحتمالات، يَتراوح بين صفر وواحد.
وفضلًا عن ذلك فقد طبق المنطق الرمزي في تحليل البيولوجيا، وهو يُبشِّر بنتائج مثمرة في دراسة العلوم الاجتماعية. بل أن من الممكن استخدامه في صياغة المشكلات المنطقية على نحو من شأنه أن يُتيح «تغذية» آلة حاسبة إلكترونية بها. وقد يتمكَّن عقل آلي حديث كهذا، في يومٍ ما، من حلِّ مشكلات منطقية تتحدَّى قدرات المخ البشري، مثلما يحلُّ هذا العقل الآن بالفعل مُشكلات رياضية. ولقد سبق أن أعرب ليبنتس من الرأي القائل أن المنطق الرمزي لو أحرز تقدُّمًا كافيًا، لزالت الخلافات العلمية؛ إذ إن العلماء، بدلًا من أن يتجادَلوا، سيقولون: «فلنحسِبها» calculamus. أما المنطقي الحديث فليس مُتفائلًا إلى هذا الحد؛ ذلك لأنه يعلم أن عمليات الآلة ستَقتصِر على المنطق الاستنباطي، وبذلك ستكون نتائجها متوقِّفة على نوع المقدمات التي يُغذيها بها الإنسان الذي يستخدمها، بذلك فإن المنطقي المعاصر يشعر بالرضا لو أمكن على الأقل حلُّ بعض خلافات على هذا النحو.

إن المنطق هو الجزء الفني (التكنيكي) في الفلسفة، ولهذا السبب فإنه كان شيئًا لا غناء عنه للفيلسوف. أما فيلسوف الطراز القديم الذي يخشى دقة الأسلوب الفني، فإنه يُؤثر استبعاد المنطق الرمزي من مجال الفلسفة، وتركه للرياضي. غير أنه لا يُحرز في هذا الصدد نجاحًا كبيرًا؛ ذلك لأن الجيل الجديد، بقدر ما تعلَّم التدوين الرمزي في الدروس الأولية للمنطق، يعرف قيمة هذا الشكل الجديد للمنطق، ويصر على تطبيقه وقد يبدو المنطق الرمزي لأول وهلة معقدًا ومحيرًا للطالب، شأنه في ذلك شأن أي أسلوب فني في التدوين، ولا بد من بعض التدريب لكي يُدرك الطالب أن هذا الأسلوب الجديد أداة تُيسِّر الفهم المنطقي وتوضِّح الأفكار. ولقد تبيَّن لي، من تجربتي في تدريس المنطق الرمزي، أن معظم الطلاب يَخافون التدوين الرمزي ويكرهونه في البداية، ولكن بعد تدريب يدوم حوالي أسبوعين. تتغيَّر الصورة، وتنتشر بينهم حماسة عجيبة للرمزية، ولا يتبقى بعد ذلك إلا عدد قليل من الطلاب الذين لا يفهمونه أبدًا فهمًا كاملًا، ويظلُّون كارهين للرمزية على الدوام.

ويبدو أن المنطق الرمزي مكتوب عليه أن يقابل إما بالكراهية وإما بالترحاب الشديد. وعلى أيَّة حال فإن أولئك الذين لا يمكنهم بلوغ المرحلة الثانية، يُمكنهم أن يحققوا المزيد في ميادين أخرى للفلسفة العلمية، ويصلوا إلى النجاح في تطبيقات أقل تجريدًا لقدرات الفكر البشري.

١  أضفْنا الألِف إلى كلمة «ابن» لأنها في هذه الحالة تعبير عن علاقة مقصودة لذاتها، هي علاقة البُنوة، وليست جزءًا مكملًا للاسم. (المترجِم)
٢  يُلاحظ أن رأي المؤلِّف يَنطبِق أصلًا على اللغة الإنجليزية، ولا يمكن تطبيقه حرفيًّا على النحو العربي، ومن هنا كان من الضروري إدخال شيء من التعديل على النص في الفقرتين السابقتين حتى يتسنَّى ترجمتها إلى العربية. (المترجِم)

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤