الفصل الثامن

طبيعة الهندسة

مر العلم، منذ موت «كانت» في عام ١٨٠٤م، بتطور كان تدريجيًّا في البداية، ثم ازداد مُعدَّله سرعةً بالتدريج، وفي هذا التطور تخلَّى العلم عن كل الحقائق المُطلَقة والأفكار المُسبَقة؛ فقد اتضح أن تلك المبادئ التي كان «كانت» يعدُّها مبادئ ذات طبيعة غير تحليلية، ولا غناء عنها للعلم، إنما هي مبادئ لا تصح إلا بقدر محدود فحسب، وتبيَّن أن القوانين الهامة للفيزياء الكلاسيكية لا تنطبق إلا على الظواهر التي تحدث في بيئتنا العادية. أما بالنسبة إلى الأبعاد الفلكية وما دون المجهرية، فقد كان لا بد من الاستعاضة عن هذه القوانين الكلاسيكية بقوانين للفيزياء الجديدة. وهذه الحقيقة وحدها تكفي لإثبات أنها قوانين تجريبية، وليست قوانين يفرضها علينا العقل ذاته. وسأوضِّح الآن انحلال المعرفة التركيبية القبلية هذا من خلال تتبُّع تطور الهندسة.

إن الأصل التاريخي للهندسة، الذي يرجع إلى أيام المصريين القدماء، إنما هو واحد من الأمثلة العديدة لكشوف عقلية نشأت عن حاجات مادية؛ فقد كانت الفيضانات السنوية لنهر النيل، الذي يروي تربة مصر، تجلب المتاعب لمُلاك الأرض؛ إذ كانت حدود أراضيهم الزراعية تضيع معالمها كل عام، وكان لا بد من إقامتها من جديد بواسطة قياسات هندسية؛ ولذلك اضطرَّ المصريون، نتيجةً لظروف بلادهم الجغرافية والاجتماعية، إلى اختراع فن المساحة. وهكذا نشأت الهندسة بوصفها علمًا تجريبيًّا، كانت قوانينه نتائج لملاحظات. مثال ذلك أن المصريين عرفوا بالخبرة العملية أنهم لو صنعوا مثلثًا تُساوي أضلاعه ثلاث وأربع وخمس وحدات على التوالي، لكان ذلك مثلثًا قائم الزاوية. أما البرهان الاستنباطي على هذه النتيجة فلم يُكتشف إلا في وقت متأخِّر على يد فيثاغورس، الذي تفسِّر نظريته المشهورة كشوف المصريين على أساس أن مجموع مربعَي ٣ و٤ يُساوي مربع ٥.١

وتوضِّح نظرية فيثاغورس طبيعة الدور الذي أسهم به اليونانيون في الهندسة، وأعني به اكتشاف إمكان بناء الهندسة على نسق استنباطي، يكون من الممكن استخلاص كل نظرية فيه، بطريقة دقيقة، من مجموعة البديهيات (انظر الفصل الخامس). وسوف يظل بناء الهندسة في صورة نسق للبديهيات يرتبط إلى الأبد باسم إقليدس، وقد ظل عرضه المُنظَّم منطقيًّا للهندسة، هو موضوع كل برنامج دراسي في الهندسة، واستمر حتى عهد قريب يُدرَّس كما هو في مدارسنا.

ولقد بدت بديهيات نسق إقليدس طبيعية وواضحة إلى حدٍّ بدت معه حقيقتها أمرًا لا يتطرق إليه الشك. وفي هذا الصدد كان نسق إقليدس مؤيِّدًا لمفاهيم سابقة قبل أن تتخذ مبادئ الهندسة صورةَ نسق منظَّم؛ ذلك لأن الوضوح الذاتي الظاهر للمبادئ الهندسية أدَّى بأفلاطون، الذي عاش قبل جيل من عصر إقليدس، إلى القول بنظرية المُثل. وقد أوضحنا في الفصل الثاني أنه كان يعتقد أن بديهيات الهندسة تتكشف لنا في فعل رؤية يُبيِّن لنا أن العلاقات الهندسية إنما هي خواص لموضوعات مثالية، وقد انتهى ذلك التطور الطويل الذي بدأ بأفلاطون، والذي لم يُدخِل على هذا الفهم تغييرًا جوهريًّا، إلى نظرية «كانت» التي تتميز بأنها أدق، وإن كانت أقل شاعرية، والتي ترى أن البديهيات تركيبية قبلية. وكمان الرياضيون يشاركون في هذا الرأي بدرجات متفاوتة، ولكن اهتمامهم لم يكن ينصبُّ على المناقشة الفلسفية للبديهيات، بقدر ما كان ينصبُّ على تحليل العلاقات الرياضية التي تسري بينها؛ فقد حاولوا رد البديهيات إلى حدٍّ أدنى، عن طريق إيضاح أن بعضها يمكن استخلاصه من البعض الآخر.

ولقد كانت هناك بديهية واحدة، هي بديهية التوازي. لم تكن تروق لهم، وكانوا يحاولون استبعادها. وتنصُّ هذه البديهية على أن من الممكن، من نقطة معيَّنة، رسمُ مُوازٍ واحد، وواحد فقط، لمستقيم معيَّن؛ أي إن هناك خطًّا مستقيمًا واحدًا، وواحدًا فقط، لا يتقاطع آخرَ الأمر مع خط معيَّن، وإن ظل معه على نفس المُسطَّح. ولسنا ندري لماذا لم ترُق هذه البديهية للرياضيين، ولكن الذي نعلمه أن محاولات متعددة، ترجع في بدايتها إلى العصور القديمة، قد بُذلت لتحويل هذه البديهية إلى نظرية؛ أي لاستخلاصها من بديهيات أخرى. وقد اعتقد الرياضيون مرارًا أنهم اهتدوا إلى طريقة لاستخلاص القضية المتعلقة بالتوازي من بديهيات أخرى. ومع ذلك فقد كان يتضح فيما بعد، في كل الأحوال، أن براهينهم باطلة؛ إذ كان هؤلاء الرياضيون يُقحِمون دون وعي منهم مُسلَّمةً معيَّنة لم تكن متضمَّنة في البديهيات الأخرى، ولكن كانت لها فعالية مساوية لبديهية التوازي. وإذن فقد كانت نتيجة هذا التطور هي أن هناك مُسلَّمات مكافئة لهذه البديهية، غير أن الرياضي لم يكن له الحق في قبول هذه المُسلَّمات أكثر مما له في قبول بديهية إقليدس. فمِن الأمثلة المكافئة لبديهية التوازي، المبدأ القائل إن مجموع زوايا المثلث يُساوي قائمتَين، وكان إقليدس قد استخلص هذا المبدأ من بديهيته، ولكن اتضح أن مبدأ التوازي، بدوره، يمكن استخلاصه إذا ما اتُّخذ المبدأ المتعلق بمجموع زوايا المثلث بديهية. وهكذا فإن ما هو بديهية في نسق، يصبح نظرية في نسق آخر، والعكس بالعكس.

ولقد ظلت مشكلة التوازي تشغل الرياضيات طوال ما يزيد على ألفَي عام قبل أن يتم التوصل إلى حل لها؛ فبعد حوالَي عشرين عامًا من وفاة «كانت»، اكتشف رياضيٌّ مَجريٌّ شابٌّ، هو جون بولياي Bolyai (١٨٠٢–١٨٦٠م)، أن بديهية التوازي ليست عنصرًا ضروريًّا في الهندسة، فشيَّد هندسة تخلَّى فيها عن بديهية التوازي، وأحل محلَّها مُسلَّمة جديدة هي القائلة إن هناك أكثر من مُوازٍ واحد لمستقيم معيَّن من نقطة معيَّنة. وقد تم نفس الكشف في نفس الوقت تقريبًا على يد الرياضي الروسي ن. إ. لوباتشفسكي N. I. Lobachevski (١٧٩–١٨٥٦م) والرياضي الألماني ك. ف. جاوس K. F. Gauss (١٧٧٧–١٨٥٥م). وسُمِّيت الهندسات التي وُضعت على هذا النحو باسم الهندسات اللاإقليدية. وفيما بعدُ وضع الرياضي الألماني ب. ريمان B. Riemann (١٨٢٦–١٨٦٦م) نوعًا أعم من الهندسة اللاإقليدية، يشمل نسقًا لا توجد فيها خطوط متوازية على الإطلاق.

والهندسة اللاإقليدية تُناقض الهندسة الإقليدية. مثال ذلك أن مجموع زوايا المثلث، في الهندسة اللاإقليدية، يختلف عن ١٨٠ درجة. ومع ذلك فكل هندسة لا إقليدية لا تنطوي على تناقض داخلي، وإنما هي نظام مُتَّسق بنفس المعنى الذي تكون به هندسة إقليدس مُتَّسقة. وهكذا تحلُّ كثرة مِن الهندسات محلَّ النسق الإقليدي الواحد. وصحيحٌ أن الهندسة الإقليدية تتميز عن الأخريات جميعًا بأن من السهل تصوُّرها بصريًّا، على حين يكاد يبدو من المستحيل أن نتخيل بالبصر هندسة يكون فيها أكثر مِن مُوازٍ واحد لمستقيم معيَّن من نقطة بالتصور البصري، ونظروا إلى مختلف النُّسق الرياضية على أنها متساوية في صحتها الرياضية. وتمشيًا مع هذه النظرة المنزَّهة إلى حدٍّ ما، التي يتأمل بها الرياضي هذا الموضوع، فسوف أُرجِئ مناقشة موضوع التصور البصري حتى الانتهاء من مناقشة بعض المشكلات الأخرى.

كان وجود كثرة من الهندسات يقتضي نظرة جديدة إلى مشكلة هندسة العالم الفيزيائي. فطالما كانت هناك هندسة واحدة فقط، هي الهندسة الإقليدية، لم تكن هناك مشكلة متعلقة بهندسة المكان الفيزيائي؛ فقد كان من الطبيعي أن تُعَد هندسة إقليدس منطبقة على الواقع الفيزيائي؛ لعدم وجود هندسة أخرى. ولقد كان الفضل يرجع إلى «كانت» في أنه أكَّد، أكثر من غيره، أن تطابُق الهندسة الرياضية والهندسة الفيزيائية يحتاج إلى تفسير، وينبغي أن تُعَد نظريته في المعرفة التركيبية القبلية محاولة عظيمة من فيلسوف لتعليل هذا التطابق، غير أن الموقف تغيَّر تمامًا باكتشاف كثرة من الهندسات. فعندما يصبح للرياضي الخيار بين هندسات كثيرة، تُثار مشكلة: أي هذه الهندسات هي هندسة العالم الفيزيائي؟ وكان من الواضح أن العقل لا يستطيع الإجابة عن هذا السؤال، وإن هذه الإجابة متروكة للملاحظة التجريبية.

ولقد كان أول مَن لفت الأنظار إلى ذلك هو «جاوس»؛ فبعد كشفه للهندسة اللاإقليدية حاول القيام باختيار تجريبي يتأكد بواسطته من هندسة العالم الفيزيائي. وقد قاس جاوس لهذا الغرض زوايا مثلث حدَّد أركانه بقِمَم ثلاثة جبال، وصاغ نتيجة قياساته في عبارة دقيقة، فقال: إن المبدأ الإقليدي صحيح في حدود الأخطاء المحتملة للملاحظة؛ أي إنه إذا كان هناك انحراف لمجموع الزوايا عن ١٨٠ درجة، فإن الأخطاء الحتمية للملاحظة تجعل من المستحيل إثبات وجوده؛ فإذا كان العالم لا إقليديًّا، فإنه خاضع لنوعٍ من الهندسة اللاإقليدية يبلغ اختلافه عن الهندسة الإقليدية حدًّا من الضآلة يستحيل معه التمييز بين الاثنين.

غير أن قياس جاوس يحتاج إلى بعض المناقشة؛ فمشكلة هندسة العالم الفيزيائي أعقَدُ مما افترض جاوس، ولا يمكن حلها بمثل هذه البساطة.

فلنفترض مؤقَّتًا أن نتيجة جاوس كانت إيجابية، وأن مجموع زوايا المثلث الذي قاسه كان مختلفًا عن ١٨٠ درجة، فهل يترتب على ذلك أن هندسة العالم لا إقليدية؟

إن ثمة سبيلًا إلى تجنُّب هذه النتيجة؛ فقياس الزوايا الواقعة بين أشياء بعيدة يتم عن طريق رؤية الأشياء من خلال عدسات مُثبَّتة في آلة السدس أو أداة مشابهة. وهكذا فإن الأشعة الضوئية التي تمرُّ من الأشياء إلى الأداة البصرية تُستخدم على أساس أنها هي التي تحدِّد أضلاع المثلث، فكيف نعرف أن الأشعة الضوئية تتحرك في خطوط مستقيمة؟ إن من الممكن القول إنها لا تفعل ذلك، وإن مَسارها مُنحنٍ، وإن قياس «جاوس» لم يكن يتعلق بمثلث أضلاعه خطوط مستقيمة؛ وعلى أساس هذا الافتراض لا يكون القياس قاطعًا.

فهل هناك وسيلة لاختبار هذا الافتراض الجديد؟ إن الخط المستقيم هو أقصر مسافة بين نقطتَين؛ فإذا كان مسار الشعاع الضوئي مُنحنيًا، فلا بد أن يكون من الممكن ربط نقطة البداية بنقطة النهاية بواسطة خط آخر، يكون أقصر مِن مسار شعاع الضوء. مثل هذا القياس يمكن القيام به، من حيث المبدأ على الأقل، بواسطة قضبان قياسية؛ ففي هذه الحالة تُوضَع القضبان على طول مسار الشعاع الضوئي، ثم توضع على طول خطوط اتصال أخرى. فإذا كان هناك خط اتصال أقصر، لأمكن الاهتداء إليه بتكرار المحاولات.

فلنفرض أننا قمنا بهذا الاختبار وكانت نتيجته سلبية؛ أي إننا وجدنا أن مسار الشعاع الضوئي هو أقصر ارتباط بين النقطتَين، فهل تؤدي هذه النتيجة، مقترنةً بالقياس السابق لزوايا المثلث، إلى إثبات أن الهندسة إقليدية؟

مِن السهل أن نرى أن الموقف يظل غير مقطوع به، تمامًا كما كان من قبل؛ فقد تشكَّكنا في مسار الأشعة الضوئية، واختبرناه بقياسات استخدمنا فيها قضبانا صلبة، غيرَ أن قياسَ مسافةٍ ما لا يكون أمرًا موثوقًا منه، إلا إذا لم يكن طول القضيب يتغير حين يُنقَل، ولكننا نستطيع أن نفترض أن القضيب الذي نُقل على طول مسار الشعاع الضوئي قد تمدَّد بفعل قوة مجهولة، وعندئذٍ يكون عدد القضبان التي يمكن وضعها على طول المسار أقل، وتكون القيمة العددية التي نصل إليها بشأن هذه المسافة أقل بدورها. وهكذا نتصور أن مسار الشعاع الضوئي أقصر مِن المسارات الأخرى، على حين أنه أطول في الواقع. وإذن فالبحث فيما إذا كان المستقيم أقصر مسافة يتوقف على مسلك قضبان القياس، فكيف إذن نعلم إن كان القضيب الصلب صلبًا بحق؛ أي إنه لا يتمدد ولا ينكمش؟

في هذه الحالة ننقل القضيب الصلب من مكان إلى مكان بعيد، فهل يظل على طوله السابق؟ إن علينا، لكي نختبر طوله، أن نستخدم قضيبًا ثانيًا. ولنفرض أن طول القضيبَين كان متساويًا في المكان الأول عندما وُضع أحدهما فوق الآخر، ثم نُقل أحدهما إلى مكان مختلف، فهل يظل طول القضيبَين متساويًا؟ إننا لا نستطيع الإجابة عن هذا السؤال. فلِكَي نُقارن بين القضيبَين، ينبغي إما أن ننقل القضيب الأول ثانيةً إلى المكان الأول، أو القضيب الثاني إلى المكان الثاني، ما دامت المقارنة بين الطولَين لا تكون ممكنة إلا عندما يكون أحد القضيبَين فوق الآخر. وعلى هذا النحو نجد أن طولهما مُتساوٍ أيضًا عندما يكونان معًا في المكان الثاني، ولكن لا سبيل إلى معرفة ما إذا كان القضيبان متساويَين عندما يكونان في مكانَين مختلفَين.

وقد يُعترَض على ذلك بأن هناك وسائل أخرى للمقارنة. مثال ذلك أنه إذا كان طول القضيب يتغير عند نقله، فلا بد أن نكتشف التغير إذا قارنَّا القضيب بطول أذرعتنا، ولكنا نستطيع أن نفترض، من أجل استبعاد هذا الاعتراض، أن القُوى التي تؤدي إلى تمدُّد الأجسام المنقولة أو انكماشها قُوًى شاملة؛ أي إن كل الأجسام المادية، وضِمنها الأجسام البشرية، يتغير طولها على نفس النحو. ومن الواضح أن أي تغيُّر كهذا لا يمكن ملاحظته.

إن المشكلة موضوع البحث هي مشكلة التطابق congruence؛ فينبغي أن ندرك أنه لا سبيل إلى اختبار التطابق والتحقق منه. فلنفرض أن كل الأشياء المادية، وضِمنها أجسامنا، قد تضاعَف حجمها عشر مرات أثناء نومنا في الليل؛ فعندما نستيقظ في الصباح لا نكون في وضع يسمح لنا باختبار هذا الافتراض، بل إننا لن نتمكن أبدًا من التحقق منه؛ فنتائج هذا التغير لا يمكن ملاحظتها، بناءً على الشروط الموضوعة. ومن هنا فليس في وسعنا الاهتداء إلى أدلة تؤيِّدها أو تفنِّدها، فمِن الجائز أننا جميعًا أطول عشر مرات مما كنا بالأمس.
وليس هناك إلا مخرج واحد من هذه الإشكالات، هو أن ننظر إلى مسألة التطابق، لا على أنها مسألة ملاحظة، بل على أنها مسألة تعريف؛ فينبغي ألا نقول «إن القضيبَين الموضوعَين في مكانَين مختلفَين هما بالفعل متساويان»، وإنما الواجب أن تقول إننا نسمِّيهما قضيبَين متساويَين، ونقل القضبان الصلبة هو الذي يحدِّد تعريف التطابق. هذا التفسير يؤدي إلى استبعاد المشكلات غير المعقولة التي ذُكرت مِن قبل؛ إذ لا يعود السؤال عما إذا كنا اليوم أطول مما كنا بالأمس عشر مرات سؤالًا ذا معنًى؛ فنحن نسمِّي طولنا اليوم مساويًا لطولنا بالأمس، ولا معنى للسؤال عما إذا كان هو في الواقع نفس الطول. ويُسمَّى هذا النوع من التعريفات ﺑ «التعريفات الإحداثية coordinative definitions»، وهي تربط (أو تكوِّن إحداثيًّا) بين موضوع فيزيائي كالقضيب الصلب، وبين تصوُّر «الطول المتساوي»؛ وبذلك تحدَّد مفهومه، وهذه الصفة هي التي تفسِّر الاسم.

وعلى ذلك فإن القضايا المتعلقة بهندسة العالم الفيزيائي لا يكون لها معنًى إلا بعد وضع تعريف إحداثي للتطابق؛ فإذا غيَّرنا التعريف الإحداثي للتطابق نتجت هندسة جديدة. هذه الحقيقة يُطلَق عليها اسم: نسبية الهندسة. ولكي نوضِّح معنى هذه النتيجة، فلنفرض مرةً أخرى أن قياس جاوس أثبت وجود انحراف لمجموع الزوايا عن ١٨٠ درجة، وأن القياسات التي تمَّت بقضبان صلبة أيَّدت أن الأشعة الضوئية هي أقصر مسافة، ومع ذلك فلن يظل شيء يحول بيننا وبين النظر إلى هندسة المكان على أنها إقليدية. فلنقُل بعد ذلك إن الأشعة الضوئية مُنحنية، وإن القضبان تتمدد، وعندئذٍ نستطيع أن نحسب مقدار هذه الانحرافات على نحوٍ مِن شأنه أن يؤدي التطابق «المصحح» إلى هندسة إقليدية. فمِن الممكن النظر إلى الانحرافات على أنها نتيجة لقُوًى تتفاوت من مكان إلى آخر، ولكنها متماثلة بالنسبة إلى جميع الأجسام والأشعة الضوئية، وهي بالتالي قُوًى كونية؛ أي إن كل ما يعنيه افتراض هذه القوى هو تغيُّر في التعريف الإحداثي للتطابق. هذه الفكرة تدل على أنه لا يوجد وصف هندسي واحد للعالم الفيزيائي، وإنما توجد فئة من الأوصاف المتكافئة، وكلٌّ من هذه الأوصاف صحيح، أما الفروق الظاهرة بينها فلا تتعلق بمضمونها، وإنما باللغة التي تُصاغ بها فحسب.

هذه النتيجة تبدو لأول وهلة كأنها تأييد لنظرية «كانت» في المكان. فإذا أمكن تطبيق كل هندسة على العالم الفيزيائي، فيبدو عندئذٍ أن الهندسة لا تعبِّر عن صفة في العالم الفيزيائي، وما هي إلا إضافة ذاتية صادرة عن الملاحظ البشري، الذي يضع على هذا النحو نظامًا بين موضوعات إدراكه الحسى. وقد استخدم الكانتيون الجُدد هذه الحجة في الدفاع عن فلسفتهم، كما أنها استُخدمت في موقف فلسفي يُسمَّى ﺑ «المذهب الاصطلاحي conventionalism»، استحدثه الرياضي الفرنسي هنري بوانكاريه Henri Poincaré، وبمقتضاه تكون الهندسة مسألة اصطلاحية، ولا يكون هناك معنًى لقضية تزعم أنها تصف هندسة العالم الفيزيائي.
على أن اختبار هذه الحجة بمزيد من الدقة كفيلٌ بأن يُثبِت أنها غير مقبولة؛ فعلى الرغم من أن من الممكن استخدام كل نسق هندسي في وصف تركيب العالم الفيزيائي، فإن النسق الهندسي إذا ما أُخذ وحده لا يصف ذلك التركيب وصفًا كاملًا، ولن يكون الوصف كاملًا إلا إذا اشتمل على قضية عن مسلك الأجسام الصلبة والأشعة الضوئية. وعندما نسمِّي الوصفَين متساويَين، أو صحيحَين بقدرٍ مُتساوٍ، فإننا نشير إلى الأوصاف الكاملة بهذا المعنى، ومِن بين هذه الأوصاف الكاملة، سيكون هناك وصف واحد، وواحد فقط، لا يقال فيه عن الأجسام الصلبة والأشعة الضوئية إنها «انحرفت أو شُوِّهت» بفعل القوى الكونية. وسوف أستخدم للدلالة على هذا الوصف اسم النسق السوي normal system. والآن يمكننا أن نتساءل عن أي الهندسيات تؤدي إلى النسق السوي، وهذه الهندسة يمكن تسميتها ﺑ «الهندسة الطبيعية natural geomefty». ومِن الواضح أن السؤال المتعلق بالهندسة الطبيعية، أي بالهندسة التي لا تكون الأجسام الصلبة والأشعة الضوئية مُنحرِفة أو مُشوَّهة بالنسبة إليها، لا يمكن الإجابة عنه إلا بالبحث التجريبي؛ وبهذا المعنى يكون السؤال عند هندسة المكان الفيزيائي سؤالًا تجريبيًّا.
وفي استطاعتنا أن نضرب مثالًا للمعنى التجريبي للهندسة بالإشارة إلى مفاهيم نسبية أخرى. فإذا قال أحد سكان نيويورك «إن الشارع الخامس على يسار الشارع الرابع»، فإن هذه العبارة لا تكون صحيحة ولا باطلة ما لم يحدِّد الاتجاه الذي ينظر منه إلى هذَين الشارعَين؛ أي إن العبارة الكاملة «الشارع الخامس على يسار الشارع الرابع منظورًا إليهما من الجنوب» هي وحدها القابلة للتحقيق، وهي مُعادِلة للعبارة «الشارع الخامس على يمين الشارع الرابع منظورًا إليهما من الشمال». وهكذا فإن المفاهيم النسبية، مثل «على يسار» و«على يمين» تصلح تمامًا للاستخدام في صياغة المعرفة التجريبية، ولكن من الواجب الحرص على أن تكون الصياغة مشتملة على نقطة الإشارة؛ وبهذا المعنى نفسه تكون الهندسة تصورًا نسبيًّا. فنحن لا نستطيع الكلام عن هندسة العالم الفيزيائي إلا بعد أن نكون قد قدَّمنا تعريفًا إحداثيًّا للتطابق. وعلى هذا الشرط يمكن إصدار قضية تجريبية عن هندسة العالم الفيزيائي. وعلى ذلك فعندما نتحدث عن الهندسة الفيزيائية، يكون مِن المفهوم أننا وضعنا تعريفًا إحداثيًّا معيَّنًا. ولو كان ما أراد بوانكاريه أن يقوله هو أن اختيار وصف واحد من مجموعة الأوصاف المتكافئة مسألةٌ اصطلاحية، لكان في ذلك على حق. أما إذا كان قد اعتقد أن تحديد الهندسة الطبيعية، بالمعنى الذي عرفناها به، هو مسألةٌ اصطلاحية، فإنه يكون في ذلك مُخطئًا؛ إذ إن من المستحيل التحققُ من هذه الهندسة إلا بطريقة تجريبية. ويبدو أن بوانكاريه كان يعتقد خطأً أن القضيب «الصلب»، وبالتالي التطابق، لا يمكن أن يُعرَف إلا على أساس اشتراط أن تكون الهندسة الناتجة إقليدية. وهكذا ذهب إلى أنه لو أدَّت قياسات مثلت إلى أن يكون مجموع الزوايا مختلفًا عن ١٨٠ درجة، لكان من الضروري أن يصحِّح الفيزيائي مسارات الأشعة الضوئية وأطوال القضبان الصلبة، وإلا لما أمكنه أن يقول ما يعنيه بالأطوال المتساوية. غير أن بوانكاريه أغفل أن هذا الاشتراط قد يدفع الفيزيائي إلى افتراض قُوًى كونية،٢ وأن تعريف التطابق يمكن، على العكس من ذلك، أن يُقدَّم على أساس اشتراط استبعاد القُوى الكونية، وعن طريق استخدام تعريف التطابق هذا يمكن إصدار قضايا تجريبية متعلقة بالهندسة.
وإني لأودُّ أن أعرض النقد الذي أوجِّهه إلى بوانكاريه بمزيد من الإسهاب؛ إذ إن العلامة أينشتين قام في الآونة الأخيرة بالدفاع عن المذهب الاصطلاحي بطريقة ذكية، فوصف محادثة خيالية بين بوانكاريه وبيني.٣ ولما كنت أعتقد أنه لا يمكن أن تقوم خلافات في الرأي بين الفلاسفة الرياضيين إذا ما عرضت الآراء بوضوح، فإني أودُّ أن أعرض رأيي على نحوٍ مِن شأنه، إذا لم يُقنِع بوانكاريه، أن يُقنِع العلامة أينشتين، الذي أُكنُّ لأعماله العلمية من الإعجاب ما يُعادِل إعجابه بأعمال بوانكاريه، وهو الإعجاب الذي أعرب عنه بطريقة رائعة.
فلنفرض أن الملاحظات التجريبية تتمشى مع الوصفَين الآتيَين:

الفئة ١

  • (أ)

    الهندسة إقليدية، غير أن هناك قُوًى كونية تحرف الأشعة الضوئية، وتشوِّه قضبان القياس.

  • (ب)

    الهندسة لا إقليدية، ولا توجد قُوًى كونية.

إن بوانكاريه على صواب حين يرى أن من الممكن افتراض صحة كل مِن هذين الوصفَين، وأن من الخطأ التمييز بينهما، فهما مجرد لغتَين مختلفتَين تصفان حالة واحدة.

ولكن لنفرض أنه أُجريَت ملاحظات تجريبية في عالم مختلف، أو في جزء مختلف من عالمنا، تتمشى مع الوصفَين الآتيَين:

الفئة ٢

  • (أ)

    الهندسة إقليدية، ولا توجد قُوًى كونية.

  • (ب)

    الهندسة لا إقليدية، ولكن هناك قُوًى كونية تحرف الأشعة الضوئية، وتشوِّه القضبان القياسية.

وفي هذه المرة بدورها نجد أن بوانكاريه على حق حين يقول إن كلًّا من هذين الوصفَين صحيح، فهما وصفان متكافئان.

غير أن بوانكاريه يُخطئ لو قال إن العالمَين ١ و٢ متماثلان؛ فهما من الوجهة الموضوعية مختلفان. وعلى الرغم من أنه توجد في كل عالم فئةٌ من الأوصاف المتكافئة، فإن الفئتَين المختلفتين ليستا متساويتَين من حيث قيمة الصواب، فلا يمكن أن تكون هناك إلا فئةٌ صائبة واحدة بالنسبة إلى نوع معيَّن من العالم، ولا يمكن أن يتحدد أي هاتَين الفئتين هي الصائبة إلا بالملاحظة التجريبية. فالمذهب الاصطلاحي لا يُدرِك إلا تكافؤ الأوصاف في داخل الفئة الواحدة، ويعجز عن إدراك الفوارق بين الفئتَين، ومع ذلك فإن نظرية الأوصاف المتكافئة تُتيح لنا أن نصف العالم موضوعيًّا بأن ننسب حقيقةً تجريبية إلى فئة واحدة من الأوصاف فحسب، وأن تكون لكل الأوصاف في داخل كل فئة قيمةٌ متساوية من حيث الصواب.

ولكن الأنسب، بدلًا من أن نستخدم فئات من الأوصاف، أن نخصِّص في كل فئة وصفًا واحدًا على أنه هو النسق السوي، ونستخدمه ممثِّلًا للفئة بأكملها؛ وبهذا المعنى يمكننا أن نختار الوصف الذي تختفي فيه القُوى الكونية على أساس أنه النسق السوي، ونسمِّيه بالهندسة الطبيعية. وبهذه المناسبة، فليس في وسعنا حتى أن نُثبِت أن من الضروري وجود نسق سوي، أما أن هناك نسقًا واحدًا، وواحدًا فقط، من هذا النوع في عالمنا، فلا بد أن تُعَد هذه واقعة تجريبية (مثال ذلك أن هندسة الأشعة الضوئية قد تكون مختلفة عن هندسة الأجسام الصلبة).

وهكذا فإن نظرية الأوصاف المتكافئة لا تؤدي إلى استبعاد المعنى التجريبي للهندسة، وإنما هي تقتضي فقط أن نعبِّر عن التركيب الهندسي للعالم الفيزيائي بإضافة شروط معيَّنة؛ أي في صورة قضية عن الهندسة الطبيعية. وبهذا المعنى تُعَد تجربة «جاوس» دليلًا تجريبيًّا؛ فالهندسة الطبيعية للمكان الموجود في بيئتنا هي إقليدية، وذلك في حدود الدقة التي يمكننا التوصل إليها، أو بعبارة أخرى فإن الأجسام الصلبة والأشعة الضوئية في بيئتنا تسلك وفقًا لقوانين إقليدس. ولو كانت تجربة جاوس قد أفضت إلى نتيجة مختلفة، أي لو كانت قد كشفت عن انحراف عن العلاقات الإقليدية يمكن قياسه، لكانت الهندسة الطبيعية لبيئتنا الأرضية مختلفة؛ وعندئذٍ كان يتعيَّن علينا، لكي نطبِّق هندسة إقليدية، أن نفترض قُوًى كونية تحرف الأشعة الضوئية، وتشوِّه الأجسام المنقولة بطريقة خاصة؛ وإذن فكون الهندسة الطبيعية في بيئتنا في هذا العالم إقليدية، ينبغي أن يُعَد واقعة تجريبية ترجع إلى حسن الحظ.

هذه الصياغات تُتيح لنا التعبير عن الإضافات التي قام بها أينشتين بالنسبة إلى مشكلة المكان؛ فقد توصَّل من نظريته النسبية العامة إلى النتيجة القائلة إن الهندسة الطبيعية للمكان في الأبعاد الفلكية هندسة لا إقليدية. وهذه النتيجة لا تتناقض مع قياس «جاوس» الذي يؤدي إلى القول إن هندسة الأبعاد الأرضية إقليدية؛ إذ إن من الصفات العامة للهندسة اللاإقليدية أنها تكاد تكون مماثلة للهندسة الإقليدية بالنسبة إلى المساحات الصغيرة، والأبعاد الأرضية صغيرة بالقياس إلى الأبعاد الفلكية. فنحن لا نستطيع ملاحظة ما يحدث من انحرافات عن الهندسة الإقليدية عن طريق الملاحظات الأرضية؛ لأن الانحرافات في هذه الأبعاد ضئيلةٌ إلى أبعد حد. ولكي نُثبِت وجود انحراف عن الدرجات المائة والثمانين التي تمثِّل مجموع الزوايا، فلا بد من القيام بقياس جاوس بقدرٍ من الدقة يفوق ما قام به هو ذاته عدة آلاف من المرات، غير أن مثل هذه الدقة بعيدةٌ كل البعد عن متناول أيدينا، وأغلب الظن أنها ستظل كذلك إلى الأبد؛ وإذن فلا يمكن قياس الطابع اللاإقليدي إلا بالنسبة إلى مثلثات أكبر، ما دام انحراف مجموع الزوايا عن ١٨٠ درجة يزداد بازدياد حجم المثلث. ولو أمكننا أن نقيس زوايا مثلث تكون أركانه هي النجوم الثوابت الثلاثة، أو المجرات الثلاث — وهو الأفضل — للاحظنا بالفعل أن مجموع زوايا المثلث يزيد على ١٨٠درجة، ولكن لا بد لنا من الانتظار حتى يتحقق السفر الكوني في الفضاء قبل أن يتسنَّى القيام بمثل هذا الاختبار المباشر، ما دام سيكون علينا أن نزور كلًّا من النجوم الثلاثة على حدة لكي نتمكن من قياس الزوايا الثلاث؛ وعلى ذلك فلا بد لنا من الاكتفاء بالطرق غير المباشرة في الاستدلال، التي تدل، حتى في المرحلة الراهنة لمعرفتنا، على أن الهندسة النجمية لا إقليدية.

وهناك إضافة أخرى قام بها أينشتين؛ فسبب الانحراف عن الهندسة الإقليدية هو في رأيه قُوى الجاذبية التي يرجع أصلها إلى كتل النجوم؛ فعلى مقربة من النجم تكون الانحرافات أقوى مما هي في الفضاء الواقع بين النجوم. وهكذا أثبت أينشتين وجود علاقة بين الهندسة والجاذبية. والحق أن هذا الكشف العجيب، الذي أيَّدته قياسات أُجريَت خلال كسوف الشمس، والذي لم يسبقه إلى توقُّعه أحد من قبله، إنما هو تأييد جديد للطابع التجريبي للمكان الفيزيائي.

إن المكان ليس نوعًا من النظام يشيِّد به المُلاحِظ البشري عالمه، وإنما هو نسقٌ يحدِّد صيغة علاقات النظام التي تسري بين الأجسام الصلبة المتحرِّكة والأشعة الضوئية؛ وبالتالي يعبِّر عن سمة عامة جدًّا للعالم الفيزيائي، تكون أساس كل القياسات الفيزيائية الأخرى؛ فالمكان ليس ذاتيًّا، وإنما هو واقعي. تلك هي النتيجة التي يؤدي إليها تطوُّر الرياضة والفيزياء الحديثتَين. وإنه لمن العجيب حقًّا أن يؤدي هذا التطور التاريخي الطويل آخرَ الأمر إلى العودة مرةً أخرى إلى الموقف الذي كان سائدًا في بدايته؛ فقد بدأت الهندسة بوصفها علمًا تجريبيًّا عند المصريين القدماء، ثم أصبحت علمًا استنباطيًّا عند اليونانيين، وأخيرًا عادت لتصبح علمًا تجريبيًّا مرةً أخرى، بعد أن كشفت تحليلات منطقية على أعلى درجة من الكمال، عن كثرة من الهندسات، لا بد أن تكون واحدة منها، وواحدة فقط، هي هندسة العالم الفيزيائي.

هذه الفكرة تدل على أن من الواجب التمييزَ بين الهندسة الرياضية والهندسة الفيزيائية؛ فهناك، من وجهة النظر الرياضية، كثرة من النُّسق الهندسية، وكلٌّ منها مُتَّسق منطقيًّا، وهذا كل ما يطلبه الرياضي؛ فهو لا يهتم بحقيقة البديهيات، وإنما بعلاقات اللزوم بين البديهيات والنظرية، فالقضايا الهندسية التي يقول بها الرياضي تتخذ صورة «إذا كانت البديهيات صحيحة، كانت النظريات صحيحة»، غير أن علاقات اللزوم هذه تحليلية، تتحقق صحتها بواسطة المنطق الاستنباطي؛ وعلى ذلك فإن هندسة الرياضي ذات طبيعة تحليلية. ولا تؤدي الهندسة إلى قضايا تركيبية إلا عندما تُفكَّك علاقات اللزوم، وتُؤكَّد البديهيات والنظريات على حدة؛ وعندئذٍ تقتضي البديهيات تفسيرًا بواسطة تعريفات إحداثية، وبذلك تصبح قضايا عن موضوعات فيزيائية، وعلى هذا النحو تصبح الهندسة نسقًا يصف العالم الفيزيائي، غير أنها في هذا المعنى لا تكون قبلية، بل تكون طبيعتها تجريبية، فليس ثمةَ عنصرٌ تركيبي قبلي في الهندسة؛ إذ إن الهندسة إما أن تكون قبلية، وعندئذٍ تكون هندسة رياضية وتحليلية، وإما أن تكون تركيبية، وعندئذٍ تكون هندسة فيزيائية وتجريبية. وهكذا تؤدي أعلى درجات تطور الهندسة إلى انحلال المعرفة التركيبية القبلية.

ولكن ما زال أمامنا سؤال ينبغي الإجابة عنه، وهو السؤال عن التصور البصري visualization. فكيف نستطيع أن نتصور العلاقات اللإقليدية بصريًّا بالطريقة التي يمكننا بها رؤية العلاقات الإقليدية؟ قد يكون من الصحيح أن في استطاعتنا، بواسطة صِيَغ رياضية، أن نتعامل مع الهندسات في أي وقت قادرة على أن تُعرَض علينا مثلما تُعرَض الهندسة الإقليدية؛ أعني هل سنتمكن من أن نرى قواعدها في خيالنا مثلما نرى القواعد الإقليدية؟
إن التحليل السابق يُتيح لنا أن نقدِّم إجابةً مُرضية عن هذا السؤال؛ فالهندسة الإقليدية هي هندسة بيئتنا الفيزيائية، فلا عجب إذن إن أصبحت تصوراتنا البصرية مُكيَّفة مع هذه البيئة، ومُتبِعة بالتالي للقواعد الإقليدية. ولو تسنَّى لنا أن نعيش في بيئة يكون تركيبها الهندسي مختلفًا إلى حد ملحوظ عن الهندسة الإقليدية، لتكيَّفنا مع البيئة الجديدة، وتعلَّمنا كيف نرى مثلثات وقوانين لا إقليدية بنفس الطريقة التي نرى بها الآن تركيبات إقليدية؛ وعندئذٍ نجد من الطبيعي أن يكون مجموع زوايا المثلث أكبر من ١٨٠ درجة، ونتعلم تقدير المسافات على أساس التطابق الذي تحدِّده الأجسام الصلبة في ذلك العالم؛ ذلك لأن تخيُّل العلاقات الهندسية بصريًّا يعني تخيُّل التجارب التي نمرُّ بها لو كنا نعيش في عالم تسري عليه هذه العلاقات. ولقد كان الفيزيائي هلمولتس Helmholz هو الذي قدَّم هذا التفسير للتخيل البصري، وكان الفيلسوف مِن قبله قد ارتكب خطأ النظر إلى ما هو في واقع الأمر نتاج للتعود، على أنه رؤية للأفكار (المُثل) أو قوانين للعقل، واستغرق الكشف عن هذه الحقيقة أكثر من ألفَي عام، ولولا جهد العالم الرياضي بكل ما لديه من أساليب فنية مُعقَّدة، لما أمكننا أبدًا أن نتخلص من العادات المتأصِّلة فينا، وأن نحرِّر أذهاننا من قوانين العقل المزعومة.

إن التطور التاريخي لمشكلة الهندسة إنما هو مَثلٌ بارز للإمكانات الفلسفية التي ينطوي عليها تطور العلم. فالفيلسوف الذي زعم أنه كشف قوانين العقل قد أضر بنظرية المعرفة؛ إذ إن ما رآه قوانين للعقل، كان في واقع الأمر تكيفًا للخيال البشري مع البناء الفيزيائي للبيئة التي يحيا فيها البشر، ولا بد لنا من البحث عن قدرة العقل، لا في قواعد يُمليها العقل على خيالنا، بل في القدرة على تحرير أنفسنا من أي نوع من القواعد تَكيَّفنا معه عن طريق التجربة والتراث. والحق أن التأمل الفلسفي وحده كان سيظل على الدوام عاجزًا عن التغلب على طغيان العادات المتأصلة؛ فلم يكن من الممكن أن تتضح مقدرة الذهن البشري إلا بعد أن أوضح العالم وسائل معالجة تركيبات تختلف عن تلك التي تدرَّبت عليها أذهاننا طوال تراث قديم العهد. فالعالم إذن هو المُرشِد والدليل في مسيرة الاستبصار الفلسفي.

ولقد ظل الطابع الفلسفي للهندسة ينعكس في كل الأوقات على الاتجاه الأساسي للفلسفة؛ وبذلك كان للتطور التاريخي للهندسة تأثير قوي في تطور الفلسفة. فالمذهب العقلي الفلسفي، من أفلاطون إلى كانت، كان قد أكَّد ضرورة بناء كل معرفة على أنموذج الهندسة، وكان الفيلسوف العقلي قد بنى حجته على تفسير للهندسة، ظل بمنأًى عن الشك طوال ما يربو على ألفَي عام؛ هذا التفسير هو القائل إن الهندسة نتاج للعقل، يصف العالم الفيزيائي. وعبثًا حاول الفلاسفة التجريبيون أن يُكافحوا ضد هذه الحجة؛ فقد كان الرياضي واقفًا في صف الفيلسوف العقلي، وبدت المعركة ضد منطقه ميئوسًا منها. غير أن الآية انعكست بعد كشف الهندسة اللاإقليدية؛ فقد اكتشف الرياضي أن ما كان يستطيع إثباته لا يعدو أن يكون نسق علاقات اللزوم الرياضية؛ أي علاقات «إذا كان … فإن»، التي تؤدي من البديهيات إلى النظريات الهندسية، ولم يعُد يرى أن من حقه تأكيد صحة البديهيات، وترك مهمة إصدار هذا التأكيد للعالم الفيزيائي. وهكذا أصبحت الهندسة الرياضية مجرد حقيقة تحليلية، واستسلم الجزء التركيبي من الهندسة للعلم التجريبي، وفقد الفيلسوف العقلي أقوى حليف له، وأصبح الطريق خاليًا للتجريبي.

ولو كانت هذه التطورات الرياضية قد حدثت قبل حدوثها الفعلي بألفَي سنة، لاختلفت صورة تاريخ الفلسفة؛ فقد كان من الممكن جدًّا أن يكون أحد تلاميذ إقليدس رياضيًّا، مثل «بولياي Bolyai»، وأن يكتشف الهندسة اللاإقليدية؛ إذ إن من الممكن الوصولَ إلى مبادئ هذه الهندسة بوسائل بسيطة إلى حدٍّ ما من النوع الذي كان متوافرًا في عصر إقليدس. ولنذكُر في هذا الصدد أن النظام الفلكي القائل بمركزية الشمس قد كُشف في ذلك الحين، وأن الحضارة اليونانية الرومانية وصلت إلى ضروب من التفكير المجرد تقِف في مَصافِّ تفكير العصور الحديثة. ولو كان مثل هذا التطور الرياضي قد حدث، لأدَّى إلى تغيير هائل في مذاهب الفلاسفة؛ فعندئذٍ كان أفلاطون سيتخلَّى عن نظرية المُثل لافتقارها إلى أساس في المعرفة الهندسية، ولم يكن الشُّكاك ليجدوا ما يشجِّعهم على الشك في المعرفة التجريبية أكثر مما يجدونه بالنسبة إلى الهندسة، ولكان من الجائز أن تُواتيهم الشجاعة فيدعون إلى مذهب تجريبي إيجابي؛ وعندئذٍ ما كانت العصور الوسطى لتجد مذهبًا عقليًّا مُتَّسقًا يمكن إدماجه في اللاهوت، ولما ألَّف اسبينوزا كتابه «الأخلاق مُبرهَنًا عليها بالطريقة الهندسية»، ولما كتب «كانت» «نقد العقل الخالص».

أكان ذلك كله خليقًا بأن يحدث، أم إنني مُسرِف في التفاؤل؟ أيمكن استئصال الخطأ بتعليم الصواب؟ إن الدوافع النفسية التي أدَّت إلى ظهور المذهب العقلي الفلسفي قويةٌ إلى حدٍّ يحقُّ معه للمرء أن يفترض أنها كانت ستجد لنفسها عندئذٍ طرقًا أخرى للتعبير؛ فقد كان من الممكن أن ترتكز على نواتج أخرى للعالم الرياضي، وتحوِّلها إلى دليل مزعوم على التفسير العقلي للعالم. والواقع أنه قد انقضى على كشف «بولياي» أكثر من مائة عام، ولم يندثر المذهب العقلي بعد؛ فليست الحقيقة سلاحًا كافيًا لحظر الخطأ، أو بعبارة أدق، فإن الاعتراف العقلي بالحقيقة لا يُكسِب الذهن البشري دائمًا تلك القوة التي تمكِّنه من مقاومة الجاذبية الانفعالية المتأصِّلة في السعي إلى اليقين.

غير أن الحقيقة سلاحٌ فعَّال، وقد تمكَّنت في كل الأزمان مِن حشد أتباع مِن أفضل الناس، وهناك دلائل لا بأس بها على أن حلقة أتباعها تزداد اتساعًا بالتدريج، وربما كان هذا كل ما يمكننا أن نؤمِّله.

١  أعتقد أن المؤلف لم يعبِّر بما فيه الكفاية عن طريقة فيثاغورس في البرهنة على نظريته المشهورة؛ لأن البرهان على هذه النظرية لا يتعلق بالمثلثات التي تبلغ أبعادها ٣، ٤، ٥ فقط، بل بالمثلثات القائمة الزاوية أيًّا كانت أبعادها. والواقع أن البرهان الذي ينسبه المؤلف في هذا الصدد إلى فيثاغورس تجريبي، وليس استنباطيًّا على الإطلاق. (المترجِم)
٢  في كتاب: «ألبرت أينشتين، الفيلسوف العالم Albert Einstein, Philosopher-Scientist».
٣  نشره «شليب» P. A. Schilip، إيفانستون ١٩٤٩م، ص٦٧٧–٦٧٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤