الفصل العاشر

تدبيرٌ وكيدٌ

افتقد مماليكُ الأمير في الحصن ذات صباح صاحبهم بيبرس فلم يجدوه، فانتابهم القلقُ وظنُّوا الظنون، ودَرَى بمغيبه الملك الصالح فزاد قلقًا وهمًّا، وكانت جهان ماشطةُ الأميرة شجرة الدُّرِّ أشدَّ الجميع قلقًا وأكثرَهم همًّا، فلم تَطعمْ شيئًا منذ بلغها النبأ، وانطوت على نفسها حزينة دامعة العين، لا تخفُّ إلى خدمةٍ ولا تُجيبُ نداءً!

فردٌ واحدٌ من هذه الأسرة الملوكية التي أحيطَ بها في هذا المعتقل كان يبدو هادئ النفس مُطمئنًا، كأنما لا يعنيه شيءٌ من غياب ذلك المملوك الباسل، ولا يفكر من أمره في شيءٍ؛ تلك هي شجرة الدُّرِّ!

ورفعت جهان عينيها إلى مولاتها وهمَّتْ أن تقول شيئًا، ثم أمسكت وطأطأت رأسها في انكسارٍ وحزنٍ، وأحسَّت الأميرة بما يعتلجُ في نفس جاريتها، فأدركتها رِقَّةٌ وهمَّت أن تقول لها شيئًا، ثم أمسكت كذلك، وتَدَابَرَتَا فمضت كل منهما إلى طريق وعلى شفتيها كلام لم تسمعه أذنان!

ومضت أيَّام قبل أن يعود بيبرس، فتطمئنَّ الخواطر وتهدأ الظنون، ولكن بيبرس منذ عاد من غيبته تلك لم يتحدَّث إلى أحدٍ، ولم يحاول أحد أن يتحدث إليه أو يعرفَ فيمَ كان غيابه ولِمَ عاد!

وهدأ وجيبُ القلوب إلا قلبًا واحدًا كانت تتوزَّعهُ الظنونُ والأوهام؛ ذلك قلبُ جهان ماشطة الأميرة، فلم تكد تطمئن على سلامة صاحبها حتى أجَدَّ لها الفكرُ مذاهبَ أُخرى من القلقِ والرِّيبةِ، وظنَّت به ظنونَ كلِّ أنثى بمن تُحبَّ.

وكأنما أحسَّت شجرة الدُّرِّ بما يَعتملُ في نفس جاريتها، فقالت باسمة: لِيَهْنِكِ يا جهانُ عودةُ بيبرس موفقًا من سَفارته، وإنه لحقيقٌ بأن يؤديَ عاجلًا ما عليه من الثمن قبل أن يظفر بأمنيته الغالية، ويجتمعَ شمله بمن يحب، في دارٍ على النيل!

قالت جهان وقد سُرِّي عنها ما بها ورَفَّتْ على شفتيها ابتسامة رضا واطمئنان: شكرًا يا مولاتي، إنني وبيبرس لخليقان بأن نبذلَ دَمنا في سبيل مَرْضَاتك ومَرضاة مولانا الملك الصالح.

•••

في مساء ذلك اليوم كانت امرأتان جالستين وجهًا لوجهٍ في غُرفةٍ قد خَلتْ إلا منهما، يتبادلان الحديث في همسٍ.

قالت إحداهما: قد جاءني النبأُ يا خاتونُ بما تمَّ عليه العهدُ بين زوجك الناصر والعادل سيف الدين، وإنَّ نجمَ الدين أخوك يا عاشورا، وما أظن نفسك تطيبُ بأن يُسلِّمه زوجك إلى أخيه العادل فيسفكَ دمه أو يُلقيَ به في جُبِّ القلعة حتى يموت صَبْرًا.

قالت صاحبتها: نعم، ولكنْ من أين لي أن يقتنع الناصر بما أدعوه إليه، وقد وعده العادل بأن يكون له عرش الشام إذا أسلم إليه أخاه، وإنَّ الناصر — كما تعلمين — لحريصٌ على أن يبلغ هذه المنزلة!

قالت شجرة الدُّرِّ: وتَرَيْنَ العادلَ أهلًا لأن يفيَ له بما وعد؛ فأنَّى له ذلك وليس له سلطانٌ على الشام، وإنما هي تحت يد الصالح إسماعيل، فليستخلصْها العادل من يد صاحبها قبل أن يَعِدَ بها الناصر، وإلا فإنها مَوْعِدةٌ إلى غير وفاءٍ!

فأمسكتْ عاشورا خاتونُ زوجةُ الناصر لحظةً تُفكِّرُ، ثمَّ قالت: وماذا يُغري الناصرَ بإطلاق سراح نجم الدين، وليس في يده ما يُؤدِّيه إليه ثمنًا لحريته؟

قالت شجرة الدُّرِّ: وهل رأيتِ أخاك الصالحَ أهلًا لأن ينكثَ بما وَعَدَ؟ فيستخلصُ الشامَ من يد الصالح إسماعيل، وسيكون له عرشُ مصر، وتجتمع في يديه السلطات، وإنَّهُ حينئذٍ لخليقٌ بأن يحقِّقَ للناصر مأملهُ ويُقاسمَه الغنيمة؛ فتكون لنا قلعةُ الجبل،١ ويجلس الناصرُ على عرش بني أُميَّةَ في دمشقٍ.

سَرَحت خواطرُ عاشورا خاتون، وغلبتها على رأيها أمانيُّ الملك والسلطان، واطمأنت إلى ما وعدتها شجرةُ الدُّرِّ، فنهضتْ تُحاول مع زوجها الناصر تدبيرًا لإطلاق سراح أخيها الملك الصالح نجم الدين.

•••

وانتصف رمضانُ ولم يزل نجم الدين حبيسًا في قلعة الكرك، لا يكاد يَنشقُ رَوْحَ النسيم أو يرى وجه السَّماء، إلا أن يأذن له زُرَيْقٌ حارسُ الباب، فلولا ما يُسرِّي عنه من حديث زوجه شجرة الدُّرِّ، ومن ألطاف أخته عاشورا خاتون زوجة الناصر، لَهلكَ غَمًّا.

ونهض الأمير ذات مساء لصلاة العشاء، فلمَّا أدَّى الفريضةَ وصلَّى التراويح، جلس في مُصَلاهُ يذكر الله ويدعو، وعلى مَقربةٍ منه جلست شجرة الدُّرِّ صامتةً وقد تعلَّقَت به عيناها لا تكاد تَطرف، وإنَّ رأسها ليموجُ بما فيه من خواطر.

وكان الأمير يتلو: قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَىٰ إِبْرَاهِيمَ. فابتسمت شجرة الدُّرِّ وقالت: بردٌ وسلامٌ، ورَوحٌ وريحانٌ، وجنةُ نعيم!

كفَّ الأمير عن التلاوة ورفع إليها عينيه، واستطردت شجرة الدُّرِّ: فهل ذكرتَ يا أميري أننا من هذه القلعة في البلد الذي أُعدتْ فيه النارُ لإبراهيم فلم تكن عليه إلَّا بردًا وسلامًا، وباء أعداؤه بالخذلان!٢

فاستبشر الأمير وقال باسمًا: نعم، فليت كل نار تُشبُّ للعدوان في هذا البلد تَحورُ بردًا وسلامًا، ويبوءُ المعتدون بالخذلان.

قالت: لعلَّ الله أن يستجيب لك، فهل ذكرتَ إلى ذلك أنها ليلة القدر: سلامٌ هي حتى مَطلع الفجر؛ لأنها ليلةُ السابع عشر من رمضان؟٣

فانبسطت نفسُ الأمير وقال في بِشرٍ واطمئنانٍ: لك الله يا أميرتي، فلولاك …

وسَمع طرقًا على الباب فأمسك، ودخل حاجبه يُؤذنه بمقدم ابن عمه وآسرِه الناصر داود.

•••

وأُطلق سَرَاحُ الأمير منذ الليلة، ليأخذ طريقه إلى مصر فيستخلصَ عرش الأيوبيين من يد العادل، وَيدَع للناصر عرش الشام ونصفَ الخراج.٤

والتأَمَ جيشُ الملك الصالح نجم الدين بعد شَتات، وسارَعَ إليه جنده من كلِّ صَوْبٍ، ومَضى في طريقه فلم يتوقَّف حتى بلغ العريش، فأقام قليلًا يتأهَّبُ للمرحلةِ التاليةِ، ثمَّ استأنَفَ مَسيره إلى بُلبيس.

وحُقتْ الهزيمة على العادل فاقتيد أسيرًا إلى قلعة الجبل، وجلس الملك الصالح نجم الدين أيوب على عرش أبيه، ودانت له البلاد.

وبلغت شجرة الدُّرِّ ما كانت تأملُ، وقاسمتْ زوجها المجدَ والسلطان، وهتفت الملايينُ باسم أمِّ خليل زوجة الملك الصالح أيوب.

ثمَّ لم يلبث أن فسد ما بين النَّاصر والملك الصالح بعد أن بلغ العرش، فخرج الناصر مُغاضبًا له وهو يَعضُّ بنانَ الندم، وعاد إلى إمارته الصغيرة في أرض البلقاء، لم يَظفرْ بعرشِ الشَّام ولا بعرش اليمن!

١  قلعة القاهرة التي بناها صلاح الدين على جبل المقطم.
٢  تشيرُ إلى قصة إبراهيم — عليه السلام — مع النمروذ، حين أعدَّ له الحطب وأشعل فيه النار ليحرقه، فجعلها الله بردًا وسلامًا عليه، وكانت هذه الحادثة في «البلقاء»، حيث تقوم قلعة الكرك التي اعتقل فيها الملك الصالح نجم الدين!
٣  في تحديدِ ليلة القدر خلاف كبير؛ فبعضهم يقول: إنها في ليلة السابع عشر من رمضان. وبعضهم يقول: إنها في ليلة السابع والعشرين. وبعضهم يقول: إنها في الثلث الأخير من رمضان بلا تحديد.
٤  على هذا تمَّ الاتفاق في تلك الليلة بين الملك الصالح وابن عمه الناصر داود.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤