الفصل الرابع عشر

هزيمة البطل!

برَّح الداء بلويس التاسع ملك فرنسا حتى أشفى على الموت، وحار الأطباءُ في علاجه؛ فإنَّه لفي غَمرةٍ من غمرات المرض إذ أُلقي إليه أن يُقسم إن بَرئ من دائه ليقومنَّ عن رأس حملةٍ صليبيةٍ عظيمةٍ إلى المشرق؛ قُربانًا إلى ربه وشكرًا لنعمته. ثم لم يلبث أن برئ فأخذ في تنفيذ ما اعتزم،١ فجمع جيشًا لم يجتمع مثله قَط، فأبحر من مرسيليا على ألف وثمانمائة سفينة قد اجتمعت له من بيزا وجنوة والبندقية وغيرها من بلاد الساحل، واتخذ سبيله إلى مصر.

وتلبَّثَ الجيشُ فترةً في قبرص حتى يستكمل أهبته قبل أن يستأنف سيره إلى دمياط، وبلغتْ أنباؤه الملكَ الصالح أيوب، فأسرع عائدًا إلى مصر، واتخذ المنصورة مركزًا للقيادةِ العامَّةِ، وبعث بالأمير فخر الدين بن الشيخ إلى دمياط على رأس جيشٍ كبيرٍ لتدبير أسباب الدفاع.

ولم تكن هذه أولى حملات الصليبيين على دمياط؛ إذ كان موقعها على مصبِّ الفرع الشرقي للنيل، مُغريًا لهؤلاء الغزاة على قصدها، ليركبوا النِّيل منها إلى القاهرة فلا يعترضَ سبيلهم شيءٌ — فيما يزعمون — دون امتلاك البلاد.

على أنَّ دمياط كانت من المناعةِ وعِظمِ الاستعداد بحيثُ لا يسهلُ على العدو أن يقتحمها دون أن يتعرض للهلكة وبعد حصارٍ طويلٍ يستنفدُ قُوَّته وجُهدَه، وقد ثبتت لحصار الصليبيين ذات مرَّةٍ منذ بضعَ عشرةَ سنة،٢ فلم يستطيعوا أن يقتحموا أسوارها إلا بعد سبعة عشر شهرًا؛ ولم يكن بها يومئذٍ من المقاتِلة قوةٌ ذاتُ شأن، فأنَّى للصليبيين ما يأملون منها اليوم، وفيها مَن فيها من الأمراء والجند وأبطال بني كنانة، وعلى رأس قوات الدفاع الأميرُ فخر الدين بن شيخ الشيوخ؟!

•••

كان الأمير فخر الدين هو كل مَن بقي من ذوي الحسب الرفيع من أُمراءِ دولة بني أيوب في مصر، وكان أميرًا مهيبًا له وقارٌ وسَمْتٌ، وفيه أريحيةٌ ونخوةٌ، وله مُشاركة في العلم والأدب، وماضٍ في الجهاد، ووجاهةٌ بين الناس، وكان إلى ذلك كله أثيرًا لدى الملك الصالح؛ إذ كان أخًا بالرضاع لأبيه الملك الكامل، وله عليه يدٌ؛ إذ هيأ له السبيل لاعتلاء العرش بعد خلع أخيه العادل، وقد أدْنَتْهُ مكانته تلك من الملك؛ فلا يُوصَد دونه باب، ولا يعترض سبيله حجاب، وكان يتمتع من الجاه والحظوة لدى شجرة الدُّرِّ بمثل ما يتمتع به لدى مولاها؛ إذ كانت تُقَدِّر له بلاءه في خدمة الدولة وتعرف مكانه، فلمَّا بَرَّحَ الدَّاءُ بالملك الصالح واقترب موعدُه، لم تجد شجرةُ الدُّرِّ حولها من الأمراء من تُؤَهِّلُهُ صفاته لمؤازرتها فيما تَضطلع به من الأعباء غير الأمير فخر الدين، فكأنما أرادت أن تُمهِّدَ له السبيلَ إلى أملٍ تأمُلُ أن يبلغه في يومٍ قريبٍ، فأشارت على الملك أن يُولِّيهِ قيادة الجند.

على أن حُظوة الأمير فخر الدين لدى الشعب، ولدى الملك والملكة، قد أثارت غيظًا كظيمًا لدى أمراء المماليك، فتداعت أمانيهم،٣ ولكنهم كانوا من الولاء والطاعة لمولاهم ومولاتهم بحيث لا يملكون إلا الرضا والتسليم!

وكأنَّما أحسَّ فخرُ الدين بما يصطرعُ حوله من نوازع الخير والشَّرِّ، فامتطى فرسه على رأس الجيش إلى دمياط وفي نفسه قَلقٌ وريبةٌ، لا يدري أين تنتهي به المقاديرُ، ولا كيف تكونُ عاقبةُ أمره وأمر الدولة، وهذه صحة الملك تزدادُ كلَّ يومٍ سُوءًا، فلولا ثباتُ جنانه وقوةُ نفسه لأثبتهُ المرضُ في فراشه لا يملك أمرًا ولا نهيًا، وحقَّت على البلاد الهزيمة!

•••

ونزل العدو على الساحل، فما كانت إلا كرَّةٌ بعد كرَّةٍ حتى تقهقرت قوات الدفاع وأُلقيَ الرعبُ في قلوب الحامية، فلم تَثبت لهجوم الفرنجة وأخلتْ معاقلها!

وجاسَ العدو خلال الديار يهتِكُ ويفتِكُ ويسفِكُ، ومضى الجيش المصري على وجهه موليًّا أدباره لا يقف في سبيله شيء، ووراءه الآلاف من أهل المدينة رجالًا ونساءً وأطفالًا يتخطفهم الموت على الطريق، وقد امتلأت الأرض بجثث القتلى وأجساد الجرحى، تَطؤُها أقدامُ الفارِّين وتحطمها سنابكُ الخيل، واستولى الفرنجةُ على دمياط بلا كبير عناء، لم يحمها بنو كنانة ولا جيش فخر الدين!

وبلغ الفارون المنصورة وشاعت أنباء الهزيمة القاصمة وتناقلتها الطيرُ إلى مُختلف البلاد.

وارتاع الملك ولكنه لم يَفقدْ ثباته، فأمر بأُمراءِ الجندِ فَعُلِّقُوا على الأعواد، وشنق خمسين أميرًا من بني كنانة، وأمر أن يُحمل إليه رأسُ الأمير فخر الدين.

قالت شجرة الدُّرِّ: وماذا كان يملكُ فخرُ الدين أن يفعل يا مولاي وقد انخزل بنو كنانة وانفضَّ عنه عسكره؟

قال الملك: كان يملك أن يثبت على فرسه وحيدًا حتى يُدرِكَهُ الموت!

قالت: ذلك حقٌّ يا مولاي، ولكن مَنْ تُراه يقوم مقامَ فخر الدين من أُمرائِكَ إن هَلك، أفلا يشفع له بلاؤه في خدمة الدولة منذ كان، وما خاضه من المعارك الدَّامية؟

قال الملك: فقد وهبتُ لك دمه يا شجرة الدُّرِّ!

قالت: عَمَّرَك اللهُ يا مولاي حتى تقتضيه ثمنَ هذه المنَّة.

ولكن الملك الصالح لم يُعمَّرْ طويلًا حتى يشهد بلاء فخر الدين في دفاع العدو، فمات في ليلة النصف من شعبان سنة ٦٤٧.

١  كان لويس التاسع مسيحيًّا شديد الإيمان بدينه مُتعصبًا له، فيروى أنَّه رأى في منامه ذات ليلة وهو مريضٌ من يقولُ له: إذا أردت البُرء والسلامة من علتك، فانذر للمسيح نذرًا أن تقود حملة صليبية إلى المشرق؛ لإجلاء المسلمين عن بيت المقدس! فلمَّا استيقظَ من نومه، نذَرَ إن برئ ليفعلنَّ ما أُمر به، ثم لم يلبث أن برئ، فسار على رأس هذه الحملة وفاءً بالنذر!
٢  كان ذلك في الحملة الصليبية الخامسة، في عهد الملك العادل سيف الدين، جَدِّ الملك الصالح نجم الدين، وكان على رأس الجيش الزاحف على دمياط في تلك الحملة القائد «چان دي برين» والأسقف «بلاجبوس»، وقد حاصر هذا الجيش دمياط حصارًا قويًّا حتى عزَّ على أهلها أن يجدوا الطعام، ولكنهم مع ذلك لم يستسلموا، وظلَّ الحصار مضروبًا على المدينة عامًا وبعض عام، ومات في أثناء ذلك الملك العادل، وتولَّى عرش مصر من بعده ولده الملك الكامل، أبو الملك الصالح نجم الدين، وكانت نتيجة هذه الحملة — ككل الحملات الصليبية على مصر — هزيمة الصليبيين!
٣  قدَّر أمراء المماليك أنَّ إسناد قيادة الجند إلى الأمير فخر الدين دونهم معناه أنه هو صاحب المكانة الأولى عند صاحب العرش، وكانوا يعلمون فوق ذلك أنَّ الملك مريضٌ قد دنا أجله، وأنَّ زوجته الشابة الجميلة هي صاحبة الأمر والتدبير، فخشوا أن يكون إسناد القيادة إلى فخر الدين مقدمة لتدبيرٍ يبعدهم عن العرش وعن الملكة جميعًا، فدعا هذا الظنُّ كلًّا منهم إلى أن يُفكِّر في أمر نفسه، ويأمل أملًا في غده، وتتابعت أمانيهم يدعو بعضها بعضًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤