الفصل الحادي والعشرون

دولة تركمانية!

قال بيبرس: لقد كان كل ذلك والله بسعد شجرة الدُّرِّ وإحكام تدبيرها للملك؛ فبرأيها كان إخفاءُ موت مولانا الملك الصالح حتى لا تنشب الفتنة ويطمع العدو، وبحسن توجيهها كانت هزيمة الفرنجة في وقعة المنصورة، ومعركة الإبادة في فارسكور،١ وانقياد الملك لويس للأسر، وجلاءُ الصليبيين عن دمياط وأرض الساحل؛ ثم هذه الفديةُ التي أرهقت العدو وعمرتْ خزانةَ مصر!

قال آق طاي: إنك لتجحدُ قَدْرَ نفسك يا بيبرس، فلولا بَلاؤك في معركة المنصورة، ورُكوبك أقفية المنهزمين في فارسكور، ما كان شيءٌ من ذلك!

فاختلجتْ شَفتا بيبرس وانتفخ منخراه زَهوًا، وقال وهو يصطنع التواضع: وما أنا وأنت وهؤلاء التركمانية جميعًا؟ هل نحن إلا جندُ الدولة وعُدتها إن ألمَّتْ بها كارثة؟ فقد كان كل ذلك حق الدولة علينا.

قال آق طاي مُحنقًا: ومع ذلك فقد أغفلتْ حقي وحقك وآثرتْ علينا أيبكَ الجاشنكير!

قال بيبرس غير مُكتَرِثٍ: أفذلك تَعني يا آق طاي؟ إنَّ الأمر لأهوَنُ مما تُقَدِّرُ؛ وإنَّ أيبكَ لرجلٌ من جلدتنا على كلِّ حالٍ؛ وإنَّه لأسلمُ عاقبة من مثل الأمير فخر الدين!

فاستدرك قلاوُون عابثًا: ولكن نبوءة أبي زهرة المنجم٢ ما تزال تتخايل له أمنيَّةً بالنهار وحلمًا بالليل؛ فلعله وقد صار أدنى إلى العرش أن تُخيِّلَ له أوهامُه أن يستبدَّ.
فضحك بيبرس وقال: وماذا يَكيدك من ذلك يا قلاوُون وقد تنبَّأ أبو زهرة لي ولك بمثل ما تنبَّأ به لأيبك، فدعْهُ يَرودُ لنا الطريق.٣

عضَّ آق طاي على شفتيه ضَجرًا وقال: لا تزالون في هذا العبث أيها الأمراءُ والأمرُ جدٌّ، وإنِّي لأرى ما لا تَرَوْن!

قال حسام الدين بن أبي علي في هدوءٍ: أراكم تستبقون الحوادث أيها الإخوان وتُقدِّرون ما لا يمكن أن يكون، فما أظنُّ الخليفةَ المستعصم يُقِرُّ توليةَ امرأةٍ على عرش مصر، وإن هَزَمت الصليبيين وطَهَّرَتْ منهم بلاد الإسلام؛ وهذا ابن يغمورَ نائبُ دمشق قد خرج على الطَّاعةِ وأبى أن يكون تحت سلطان امرأة، وانضمَّ إلى الثورة أمراءُ بني أيوب في الشَّامِ، وكأنِّي بيومٍ قريب يزحف فيه من المشرق جيشٌ لجبٌ بقيادة الناصر صلاح الدين بن العزيز صاحب حلب،٤ ليستخلص عرش مصر من شجرة الدُّرِّ.

قال قلاوُون: بل قل: ليستخلصه من أيدي التركمانية بزَعْمه!

قال آق طاي في حماسة: والله لا كان ذلك أبدًا وفينا حياة! لقد ضَيع بنو أيوب عرَشهم حين تَفرَّقوا في الأرض يطلبون المنافع الصغيرة العاجلة، وتركوا هذه البلاد تطؤها أقدام الغزاة فلم يُنقذها إلا التركمانية!

قال بيبرس مُعترضًا: ولكنك كنتَ تُنكرُ منذ قريبٍ أن يكون أيبك كبير أمناء الملكة، وتأبى عليه هذه المكانة!

– نعم، ولكن الدولة تُركمانيةٌ يا بيبرسُ منذ استخلصها مماليكُ الترك من أيدي الصليبيين، فلا يمكن أن يعود إليها سلطان الكرد،٥ وسأدفع عنها بسيفي، ولو كان الملك الجالس على العرش هو أيبكَ الجاشنكير!
١  فارسكور: مدينة بين المنصورة ودمياط، على الشاطئ الأيمن للنهر، وقد كان بالقرب منها المعركة التي يُسمونها «معركة الإبادة»؛ إذ قتل فيها عشرات الآلاف من الصليبيين، أثناء فرارهم بعد الهزيمة من المنصورة إلى دمياط، وما يزال الفلاحون في تلك المنطقة حتى اليوم يعثرون حين يحفرون الأرض على أشلاء وجماجم من قتلى الصليبيين في تلك المعركة!
٢  انظر [الفصل الرابع: ملوكٌ أربعةٌ!].
٣  رائد الطريق: هو الذي يسبق القافلة في طريق الصحراء.
٤  هو الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز محمد بن الظاهر غازي بن صلاح الدين الأيوبي مُؤسس الدولة، وجدَّته صفية خاتون بنت الملك العادل الأول أخي صلاح الدين الأيوبي، وانظر التعليق الثانى [الفصل الخامس عشر: كبير الأمناء].
٥  يعني الأيوبيين، وانظر التمهيد.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤