الفصل الثاني والعشرون

البحث عن رجلٍ!

– مولاتي.

– ما وراءك يا عزَّ الدين؟

– قد جاء رسول الخليفة أمس بكتابٍ.

– ماذا فيه يا عزَّ الدين؟

– إنني لم أفُضَّ غلافه يا مولاتي، ولكنه هو الذي فضَّ الغلاف وأقرأنيه.

– وَيْ! ذلك شيءٌ لم تجرِ به عادةُ الملوك يا أيبك!

– نعم يا مولاتي، وإنما فعلها — بأمر مولاه — الشيخُ نجمُ الدين البادرائي رسول المستعصم.

– لأمرٍ ما يُغفلُ المستعصمُ ما بين بغداد والقاهرة من تقاليد السياسة؛ فماذا في تلك الرسالة يا أيبك؟

– ها هي ذي الرسالة يا مولاتي:

إن كانت الرجال قد عدمت عندكم، فأعلمونا حتى نُسيِّرَ إليكم رجلًا … أما سمعتم في الحديث عن رسول الله أنه قال: لا أفلحَ قومٌ ولوُّا أمرهم امرأة؟ …

طوت شجرة الدُّرِّ الرسالة ودفعتها إلى أيبك وهي تقول: ومَن صاحب الرأي في قصر الخلافة ببغداد اليومَ يا عز الدين؟

– المستعصم بن المستنصر يا مولاتي.

– آلمستعصم، أمْ جَوَاريه وخصيانه ووزيره الرَّافضي يا أيبك؟١

– أنت أعلى عينًا يا مولاتي.

– وامرأةٌ على العرش كشجرة الدُّرِّ — يَحكم باسمها ويصونُ حجابها أميرٌ مثلُ عز الدين — خيرٌ حُكمًا، أم صبيٌ وجاريةٌ ووزيرٌ رافضيٌّ لا حكم له؟

– أنت أحكمُ سياسةً يا مولاتي وأسَدُّ رأيًا، وإنَّ للمستعصم علينا ولاءَ التطوع لا ولاءَ التابع، فإن شئت يا مولاتي ردَدْتُ رسوله بلا جواب!

– صبرَكَ يا أيبك، فما يطيبُ لي أن أشقَّ عصا الطَّاعةِ على الخليفة وأُجاهر بالعصيان له، فهل تراه يعني حقيقةَ الحكم أو مظهره حين يشترط الرجولة؟ فإنِّي لأستطيع أن أترضَّاه فأجعلَ له على العرش واحدًا من أُمرائي ويبقى في يدي السلطانُ والصولجان.

غَصَّ أيبكُ بريقه ولم يجد جوابًا، واستطردتْ شجرة الدُّرِّ في صوتٍ خافتٍ كأنما تتحدَّثُ إلى نفسها: ولكن امرأةَ الملك الصالح لا يجمُلُ بها أن يكون لها شريكٌ في الحكم تخلو إليه للرأي والمشورة، إلا بعين الله وعلى دينٍ ومُرُوءةٍ.٢

ورفع أيبك إليها عينيه، فكأنْ لم يَرَها من قبلُ ولم يستمع إلى نبر حديثها؛ ورأى بإزائه امرأةً في الشباب ذاتَ جمالٍ وفتنةٍ، ولم تكن من قبلُ إلا ملكةً ذاتَ مَهابة.

واختلج ووجد في صوته حُبسةً وفي أطرافه خَدَرًا، فلم يستطع إلا أن يهتف: «مولاتي …» ثم أمسك.

قالت شجرة الدُّرِّ: قد فهمت ما تعنيه يا عز الدين، ولكنَّ لك امرأةً وولدًا!

وانحلَّتْ عُقدةُ لسانه، فقال في طلاقةٍ: هل هي وولدُها يا مولاتي إلا جاريةٌ من جواريك ذاتُ ولدٍ؟

قالت باسمة: أشريكٌ في الحكم وشريكةٌ في الزوْج؟

فاندفع متحمسًا: بل لك الحكمُ والزَّوج والولاء كله يا سيدتي!

– وتُطلِّقها يا أيبك؟

– وأطلقها فلا تمتُّ إليَّ بسببٍ ولا وَشيجةٍ!٣

– وتهجر دارها فلا تراها ولا تراك ولا تتحدَّثُ إلى ولدها حديثًا ولا يتحدَّثُ إليك؟

– وأقطعها قَطيعةً بائنةً فليس بيني وبينها آصرة، لأخلصَ لشجرة الدُّرِّ فليس لغيرها في القلبِ مكانٌ ولا في النفس ذكرى!

ولمعت عينا المرأة واختلج بدنُها، فقالت وقد مدَّت إليه يدًا: فليهنك الملكُ يا أيبك!

قال وقد شدَّ على يدها بأصابع مُتشنجَّة: وليهنني رضاك يا مولاتي!

وغادر مجلسها وقد اتَّسع صدره، وشمخ أنفه، وانطبق فكَّاهُ ولمعت في عينيه نظرةُ مَلك!

•••

ونُوديَ بالملك المعزِّ، عز الدين أيبك التركماني، ملكًا على البلاد، في آخر ربيع الآخر سنة ٦٤٨، ونزلت له شجرة الدُّرِّ عن العرش الذي وَليتهُ مُستقلةً به منذ مصرع توران شاه.

وحَمل نجمُ الدين البادرائي رسول الخليفة جوابَ الملك المعزِّ إلى المستعصم في بغداد، يعبِّرُ له فيه عن ولائه وطاعته، ويسأله أن يُقرَّهُ على العرش ويبعث إليه بالخلعة ومرسوم التولية.

ومضت أيَّام، ثم دُعيَ الفقهاء والقضاة وأُمراءُ المماليك ورؤساء الجند إلى قصر القلعة، ليشهدوا عقد الملك على شجرة الدُّرِّ.

وكانت ملكةً أرملةً، فعادت ملكةً وزوجًا، وإنها لتأمُلُ إلى ذلك أن تصيرَ أمًّا تُهيِّئُ ولدها للعرش بعد أبيه المعز وتتعوَّضُ به من ولدها الذي مات منذ سنين!

١  كان المستعصم مُتهما بأنَّه لا رأي له ولا سلطة؛ إذ كانت السلطة كلها لعهده في أيدي جواريه وغلمانه، وكان وزيره مُتَّهمًا بأنه رافضي يُنكرُ المسلمون دينه!
٢  انظر [الفصل الخامس عشر: كبير الأمناء].
٣  صلة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤