الفصل الثالث والعشرون

لمن الملك؟

وبدا كأنما استقرَّت الأمور في مصر وثبتَ عرشها للتركمانية، لولا انتقاض أمراء الأيوبيين في الشام، واستيلاء الناصر صلاح الدين يوسف بن العزيز صاحب حلب على دمشق،١ وورود الأنباء بحركته إلى مصر.

وكأنما خُيِّلَ إلى المماليك في مصر أنهم يستطيعون أن يسترضوا الأيوبيين في مصر والشام، لو أنهم جعلوا على العرش أميرًا من بني أيوب إلى جانب أيبك.

وكان منهم إلى ذلك جماعةٌ ينفسون على أيبك ما بلغ من المكانة٢ ويأنفون من رياسته، فكأنَّما بدا لهم أن يجعلوا له شريكًا في الملك؛ لينتقصوا مظهره الملوكي ويَكسروا شموخه وكبرياءه.
فأقاموا صبيًّا يتيمًا من بيت المالك الكامل، باسم الملك الأشرف موسى،٣ وقرنُوا اسمه إلى اسم الملك المعز، فكانت المراسيم تصدر وعليها اسم الملكين، وكان خُطباءُ المساجد يدعون على المنابر للمعزِّ والأشرف معًا، على حين لم يكن لواحدٍ منهما على الحقيقة أمرٌ ولا نهيٌ؛ إذ كانت السلطات كلها في يد شخصٍ ثالثٍ يُحسنُ التدبير والسياسة؛ هو شجرة الدُّرِّ.

ولم يتحقَّق للمماليك ما أرادوا بتولية الملك الأشرف؛ فلا الأيوبيون ثابوا إلى الهدوء والطاعة، ولا الملك المعز خفَّف من شموخه؛ فإنَّ الموكب الملكي ليشق شوارع القاهرة لا يكاد الناس يرون إلا الملك المعز قد حجب بجسامته وامتداد فرعه الملكَ الصبي.

وقوي أصحابُ الناصر في الشام وتهيئوا للزحف على مصر، فلم يبق إلا أن تنشب المعركة بين الأيوبيين والمماليك البحرية، فإمَّا عادت الدولة أيوبيةً كما كانت، وإمَّا غلب التركمان فصار عرش البلاد للمماليك يتعاورونه٤ مملوكًا بعد مملوكٍ!
ولم يكن العرب المصريون بمعزلٍ عن هذه الحوادث؛ فقد كانوا يُؤمنون بأنهم أحق بعرش هذه البلاد من الكرد والتركمانية جميعًا، وقد كان لهم الحكم والسلطان في الدولة منذُ انتشر الإسلام في ربوعها حتى انتزعها صلاح الدين من أيدي الفاطمية،٥ فما أجدرَ أن يعودَ إليهم الحكمُ، وقد تقلَّص ظلُّ الكرد عن البلاد وانحسر٦ الخطر الصليبي.
وتهيأ الأمير ثعلب شيخُ أعراب ديروط لاهتبال الفرصة،٧ يُؤيِّدُهُ عشراتُ الآلاف من العرب في الجنوب والشمال.

وأشرفت الدولة على الانحلال وتوزَّعتها المطامع.

وكانت شجرة الدُّرِّ ترقب الحوادث في حَذَرٍ ويقظةٍ، وتُعدُّ لكلِّ أمرٍ عُدَّته.

•••

وخرج جيش المصريين لقتال الناصر الأيوبي، وعلى رأسه الملك المعز، والأمير فارس الدين آق طاي التركماني، وسائر أمراء المماليك؛ ودارت المعركة في غزة من أرض فلسطين، ولكن المماليك لم يستطيعوا وقف الزحف، وتقدمت جيوش الناصر إلى بلبيس من أرض مصر؛ فدارت ثمَّة معركة أُخرى، كادت تدورُ الدَّائرة فيها على التركمانية، لولا كثرةُ من كان في جيش الناصر من مماليك الترك.

واستطاع المماليك المصريون أن يردوا جيش الناصر على أعقابه، ويُذيقوه طعمَ الخذلان؛ وإن كانت بضع فِرقٍ منه قد استطاعت أن تتسرَّبَ إلى القاهرة.

وعاد جيشُ المصريين إلى القاهرة مُظفَّرًا ومعه الأسرى من جيش الناصر، سناجقهم٨ منكسة، وطبولهم مشققة، وقد سبقتهم إلى القاهرة خيولهم وأثقالهم وأموالهم غنيمة للمصريين.

وأُحصي من تسرَّبَ إلى القاهرة من جند الناصر، فإذا هم بضعةُ آلافٍ، فألزمهم المعزُّ أن يعودوا من حيثُ أتوا، راجلين أو على ظهور الحمير من مصر إلى الشام، لا يُؤذَنُ لأحدٍ منهم أن يركب فرسًا.

وشهد المصريون موكبًا هائلًا لم يروا مثله قَط، مشهدٌ يثير السخرية والإشفاقَ جميعًا؛ بضعة آلاف حمار، عليها المرتدون من جيش الناصر، قد نكسوا رءوسهم حتى قاربتْ أن تمسَّ آذان الحمير؛ فلعلَّ حمارًا منها أن ينهق فينهق لنهيقه بضعةُ آلاف حمار يتردَّدُ صداها بين مصر والشام!

وشمخ آق طاي بأنفه؛ إذ كان بجده واستبساله قد أدرك المعز هذا النصر، فوقف بين يدي الملكين يوجِّه حديثه إلى الملك الصبي دُونَ صاحبه: «كلَّ ما حصل بسعادتك يا مولاي، وما سعينا إلا في تقرير ملكك!»

وفهم أيبكُ ما أراده آق طاي، فتغابَى وطوى صدرَه على ما فيه من الغيظ.

•••

ثم دارت الدائرة على العرب كما دارت على الأيوبيين، فأُحصي من قتلاهم بضعة آلاف، ونُصبت المشانق لأمرائهم على امتداد الطريق بين بُلبيس والقاهرة، واعتقل الأميرُ ثعلب، فأُلقي في جُبٍّ من جباب القلعة، وخمدتْ جَمرةُ العرب.

•••

وتوسَّطَ نجمُ الدين البادرائي رسولُ الخليفة في الصلح بين الملك المعز والنَّاصر صلاح الدين صاحب حلب، فتعاهدا على أن يكون للمعز مصرُ إلى حدود الأردن، مُضافًا إلى ذلك غزَّةُ والقدسُ ونابلس والسَّاحلُ كله، وللناصر ما وراء ذلك من بلاد الشام.

وصفا الجو للملك المعز وأُمنَ ظهره، فخلع الأشرف موسى ونفاهُ إلى بلاد الأشكري٩ واستأثر بالملك وحده؛ ولكن شجرة الدُّرِّ ظلَّت قابضةً على السلطان فليس لأحدٍ معها رأيٌ ولا إرادة.

وخَلصت الدولةُ للمماليك.

ولكن مظاهر البذخ والأبهة التي كان يخرج بها أيبك على النَّاسِ، قد أثارت نُفوسَ الأمراء جميعًا؛ كأنما لم يُحسوا بانتقال زميلهم من المملوكية إلى العرش، إلا حين تفانى الأعداءُ والمتنافسون وخَلصت الدولة للتركمانية؛ فأجدَّ ذلك لكلِّ أميرٍ من أُمراءِ المماليك أملًا في اعتلاء العرش يلتمسُ لتحقيقه الأسباب.

•••

– أرأيتَ أيبك في موكبه يا بيبرس، شامخَ الأنفِ مُطبقَ الفكَّينِ ثابتَ النَّظرةِ لا يكادُ يردُّ التحيَّة؛ كأن مصر ضيْعته وكل من فيها عبيده!

– ذلك حقُّ الملوكية يا آق طاي، أم تريده وقد صار إليه عرشُ مصر أن يمشيَ في الأسواق راجلًا يُجيب كلَّ من يسأله، ويقف لكلِّ من يهتفُ باسمه؟

– أتمزح يا بيبرس؟ فبأيِّ حقٍ كانت له الملوكيةُ دُون سائر المماليك الصالحية، وما هو كبيرهم ولا أثبتهم قدمًا في الجهاد، ولا أوسعهم حيلة ولا أقدمهم مملوكية؟!

– بحقِّ شجرة الدُّرِّ.

– ها ها! وما لشجرة الدُّرِّ وهذا كله؟ أصار إليها هذا العرشُ وراثة كبعض ما يرثُ النَّاسُ عن أهليهم من المتاع فتهبَه لمن تشاء، أم أوليناها نحنُ إيَّاهُ يا بيبرس؟

– ولكنها زوجة مولانا الملك الصالح أيوب.

– بلى، قد كان ذلك يومًا، أمَّا اليوم فإنها زوجةُ الجاشنكير؛ فإن كان أيبكُ قد خَيَّلتْ له أوهامه أنه بهذا وحده قد صار له عرشُ مصر من دُوننا فقد ساء رأيًا، وسَيرى عاقبةَ أمره!

– ماذا تعني يا آق طاي؟

– لست أعني شيئًا يا بيبرس؛ وإنما أنا أميرُ المماليك — سادة هذه الدولة — لا يَعرفون لهم أميرًا غيري؛ فإن كان لا بدَّ مع ذلك لإدراك السيادة من أنْ أصلَ حبلي بنسبٍ مُلوكيٍّ، فما أيسرَ أن يكون لي زوجةٌ أعرَقُ أرُومةً وأوثَقُ صلةً بالملوكية من زوجة أيبك الجاشنكير!

– مَن تعني؟

– سأتزوج أميرة من بنات أيوب، وأتَّخِذُ لها بيتًا في القلعةِ مثل شجرة الدُّرِّ!

– وترى ذلك حقيقًا بأن يبلغ بك العرش؟

– سترى!

– لست أريدُ أن أرى!

١  انظر التعليق الثانى [الفصل الخامس عشر: كبير الأمناء].
٢  يرون أنه ليس خيرًا منهم.
٣  هو الملك الأشرف مُوسى بن الناصر يوسف بن المسعود أفسيس بن الكامل بن العادل أيوب أخي صلاح الدين.
٤  يتداولونه.
٥  انظر التمهيد.
٦  زال.
٧  انتهاز الفرصة.
٨  أعلامهم.
٩  بلاد القسطنطينية. وانظر التعليق الثالث [الفصل الرابع: ملوكٌ أربعةٌ!].

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤