الفصل الخامس والعشرون

أشجان الملِك!

– إنِّي لأحملُ والله يا قُطزُ١ من الهمِّ لذلك ما لا يكادُ يُحتَمل، والنَّاسُ يظنُّون بي السعادة!

– وماذا يمنع يا مولاي أن تجتمع لك أسباب السعادة، وأنت ولي الأمر في هذه البلاد، لا يملك أحد إلا طاعتك فيما تأمر وتنهى؟

– أكذلك تظنُّ يا قطز؟ فكيف لو علمتَ أنَّني لا أكادُ أنعمُ برؤية ولدي «علي» إلا مُستخفيًا وعلى حَذرٍ ورقبة، وقد تقطعت بيني وبين أُمِّهِ الأواصر فليست مني ولست منها؟!

– كيف يا مولاي وإنَّه لولدُك، وإنَّ أُمَّه لزوجك، وقد فرضَ عليك دينك أن تقسم بالسويَّةِ بين زوجتيك، وفرضتْ عليك المروءة أن تحتضن ولدك البكرَ لينشأ على عينك!

– وشجرةُ الدُّرِّ يا قُطز؟

– ما لشجرة الدُّرِّ ولهذا؟ أتُحرِّمُ عليك أن ترى زوجتك وولدك؟ فما هي إذن ذاتُ دينٍ ولا لها عليك حقُّ الزَّوجةِ!

– لا حقَّ الزَّوجة ولا حق الرعية يا قطز، إنَّ شجرة الدُّرِّ هي الملكة الحاكمة؛ وما زاد الملكُ المعز باعتلائه العرش شيئًا على ما كان أيبكُ الجاشنكير، على ذلك اتفقنا يوم خلعتْ نفسها وألبستني التَّاج والحُلَّة طاعةً لأمرِ الخليفة، وعلى ذلك عاهدتُها ولا زلتُ وفيًّا بما عاهدت!

– فليكن مكانها منك حيث شئتَ وشاءتْ مُقتضياتُ الحكم والسياسة؛ ولكنْ ما شأنُها بزوجتك وولدك؟ وكيف تَحولُ بينك وبينهما؟

– على ذلك اتَّفقنا أيضًا يوم رضيتني زوجًا ملكًا!

– على المعصية؟

– لا يا قطز، فقد اتفقنا يومئذٍ على أن أُطَلِّقَ أُمَّ ولدي لأخلص لها، ولكني لم أقوَ على ذلك، وتحسبني شجرة الدُّرِّ قد وفَّيتُ، فليستْ أم ولدي فيما تظن شجرةُ الدُّرِّ إلا مُطلقةً لا حقَّ لها.

– وولدُكَ علي؟

– كنتُ آمُلُ أن يكون لي ولدٌ من شجرة الدُّرِّ أتعوَّضُ به من علي وأوليه عهدي، ولكنها لم تَحبلْ ولم تلد!

– وحُرمتَ سُلطة الملك وسلطة الزوج وسلطة الأب، وحُرمتَ زوجتك وولدَك، ووأَدْتَ بنيك في صُلبِكَ حين ارتبطتَ إلى هذه المرأة العقيم لا تَخلصُ إلى غيرها من النِّساءِ والجواري، وكنتَ حَرِيًّا أن تتكثَّرَ من الأبناء ليكون لك عزوةٌ تسند عرشك وأنت على رأس دولةٍ يُرجى أن تتسلسل في الأبناء والحَفدَة على امتداد التاريخ!

– ولكنَّنِي أكرهُ أن أنكثَ بما عاهدتُها يا قطز.

– وعلامَ عاهدتَها؟

– أن أقطعَ ما بيني وبين أمِّ عليٍّ.

– فَلكَ مناصٌ يا مولاي من هذا العهد بزواجٍ جديدٍ!

– زواجٌ جديدٌ؟

– نعم، ولعلَّكَ أن تجد في الصهر الجديد جاهًا يَدْعَمُ عرَشك ويَشدُّ عزَمك؛ ولعلَّ زوجةً جديدةً أن تُنجِبَ لك وتُكثر ولدَك، ولعلَّ شجرة الدُّرِّ حين ترى لها ضَرةً أن تتنبَّهَ الأنثى فيها فتُعطيك مقادتَها لتكسبَ وُدِّكَ؛ فتعود لك بذلك سلطةُ الملك وسلطةُ الزوج وسلطة الأب وتسعد!

أطرق الملك المعز برهةً مُفكِّرًا، وأمسك غُلامه قطز وقد تعلَّقت عيناه بسيده، لا يعرف أين ينتهي به الفكر فيما عَرض عليه من مَشورةٍ.

ثم رفع أيبكُ رأسه إلى غُلامه قائلًا: ومَن تراه أهلًا لأن أصهر إليه يا قطزُ من ملوك المشرق؟

– إن شئتَ يا مولاي فاخطب إلى الملك الرحيم بدر الدين لؤلؤ صاحب الموصل٢ ابنته لؤلؤة، وإنه لذو جاهٍ وكرامةٍ، وحبله موصولٌ بدار الخلافة في بغداد، فما أحراه إن أصهرتَ إليه أن يحمل الخليفةَ على تشريفك بالخلعةِ واللواءِ، ويُقِرَّكَ على عرش مصر،٣ وإن شئتَ يا مولاي فاخطب إلى الملك المنصور بن المظفر الأيوبي صاحب حماة ابنته؛٤ ليتَّصِلَ سببك ببني أيوب، فلا ينتقضَ عليك منهم مُنتقضٌ.

قال الملك المعز: كلتيهما يا قُطز! وقد رَخَّصَ اللهُ للمسلم في أربع حرائر!

وبعث الملك المعز منذ الغد رسولين إلى حماة والموصل.

•••

قال الشيخ بدر الدين السنجاري قاضي قضاة مصر:٥ احذر يا مولاي أن تمضيَ فيما اعتزمت، وإنِّي لأرجو أن تقبل مَشورتي؛ برًّا بنفسك وبالدولة وبشجرة الدُّرِّ!

– وما لك أنت ولهذا يا بدر الدين؟ أفذلك من عِلم الحلال والحرام تريدُ أن تُبصِّرني به، أم هو قضاءٌ قضيته وما وليتُكَ قضاءَ مصر لتدخل بين الأزواج وزوجاتهم وتقتحمَ على سرائر الملوك!

– حقُّ المسلمِ على المسلم يا مولاي أن ينصح له ويُشير عليه، وقد رأيتك واقفًا على شفيرٍ هارٍ٦ فأردتُ أن أُبصِّرَكَ بما تحت قدميك من أسباب الهلكة؛ وقد علمتَ ما كان لي من الرَّأيِ في دولة الملك الصالح، وقد كان — على علمه ودينه — أوسعَ بي ذَرْعًا.

– وَيْ! وتراني أيضًا لا علمَ لي ولا دين ولا سَعةَ ذرْعٍ!

– معذرةً يا مولاي، فما قصدتُ إلى هذا؛ ولكنِّي أقولُ إنني عاصرتُ أحداثَ هذه الدولة وتَمرَّستُ بسياستها منذ بعيدٍ، فما أجدَر أن تستمع إلى رأيي؛ وقد رأيتك تخطب إلى صاحبي الموصل وحماة ابنتيهما؛ أمَّا أولهما فإن له بعرش مصر سببًا منذ كان بينه وبين الملك الصالح ما كان،٧ وإن بينه وبين المغول أسبابًا وقد غلبوا على المشرق كله، ويُوشكون أن يدخلوا بغداد لينسابوا منها إلى مصر والشام؛٨ فكيف تصنع إذا كان صهرُك بدر الدين لهم حليفًا؟ وأمَّا الآخر فأميرٌ من أمراء بني أيوب، لا يزالُ يَرَى ويَرى له مَن حَوله أنه أحق منك بعرش مصر؛ فكيف تصنع إذا استيقظت الفتنة ونشبت حربٌ بين مصر والأيوبيين، وفي دارك بنتُ أميرٍ منهم؟ ثم إنك يا مولاي أبٌ وزوجٌ وقد أَشْرَفْتَ على الستين، وليس من البرِّ بنفسك أن تُعرِّس بفتاتين دون العشرين. وإنَّ لشجرة الدُّرِّ عليك — إلى ذلك — حقًّا لا يَجملُ معه أن تُضارَّها باثنتين وقد وطَّأَتْ لك السبيلَ إلى العرش والسيادة؛ فهذا ما أردتُ أن أقوله لأُبرِّئ ذمتي وأؤديَ حق النصيحة.

قال الملك المعز مُحنقًا: ثمَّ ماذا يا شيخ؟

– ثم يكون ما تراه يا مولاي.

– فقد رأيتُ عَزْلكَ من قضاءِ مصر يا بدر الدين، فليس لك منذ اليوم رأيٌ ولا نصيحة!

١  قطز: مملوكٌ من مماليك أيبك، وكان في تلك الأيام من أدنى مماليكه إليه وأحظاهم عنده، وقد علا شأن قطز بعد ذلك حتى صار له عرش مصر، وتَسمَّى باسم «الملك المظفر»، وعلى يده كان انهزام المغول في موقعة «عين جالوت»، فلم تقم لهم بعده قائمة.
٢  انظر التعليق الرابع [الفصل الثالث: شجرة الدُّرِّ].
٣  كان الخليفة العباسي إلى ذلك الوقت لم يرسل لأيبك مرسوم الولاية، ولا الخلعة والرَّاية.
٤  انظر التعليق الثانى [الفصل الرابع والعشرون: سباقٌ إلى الموتِ].
٥  انظر [الفصل السابع: مَلِك في قفص].
٦  على حافة الهاوية.
٧  انظر [الفصل السابع: مَلِك في قفص].
٨  كان غزو المغول قد امتدَّ نحو الغرب حتى بلغوا حدود العراق، وغلبوا بدر الدين صاحب الموصل على رأيه فحالفهم خوفًا منهم!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤