الفصل الخامس

غيرة الأنثى

جلست شجرة الدُّرِّ بين يدي ماشطتها تُرَجِّلُ لها شعرها وتُضَمخه بالطيب، وتعقد منه ما تعقد حلقات وتُرسل ما ترسل، وشجرة الدُّرِّ في غفلةٍ عن نفسها وعن ماشطتها وما تفتنُّ فيه من أسباب زينتها، قد سَرَحت خواطرُها هنا وهنالك، تَرُود أقطارًا لم تقع عينها عليها قط، ولم تتمثَّلها في وهمٍ ولا في حقيقةٍ، تُرَى ماذا في القاهرة وعلى النِّيلِ من مغاني الحُسنِ ومجالي الهوى، حتى لتُفعمُ وجدانَ كلِّ من في هذا الحصن حنينًا ولهفةً! فلا تزالُ كلَّما أرهفتْ أُذُنًا سمعتْ مُنشدًا يشدو أو جاريةً تغنِّي:١
حبَّذا دُورٌ على النيل وكاساتٌ تدورُ
ومَسراتٌ تموجُ الأرضُ منها وتمورُ
وقُصورٌ ما لِعيشٍ نلتهُ فيها قصُورُ٢
كم بها قد مرَّ بي — أستغفر الله — سرورُ
كل عيشٍ غير ذاك العيش في العالم زُورُ
منزلٌ ليس على الأرض له عندي نظيرُ!

«دور، وكاسات، ومسرَّات، وقصور، وسرور، وكل عيشٍ غير ذلك زور.»

تلك أغنيةُ الجميع في ذلك الحصن؛ شبابًا وكهولًا ومشيخةً، حتَّى الأمير نفسه — على ما فيه من وقار الإمارة — لا يكاد يخلو إلى نفسه ساعةً حتى يجري على لسانه بيتٌ أو أبيات من مثل ذلك الشعر، فيه الهوى والحنين واللهفة، ولا يزال بهاءُ الدين زهير ذلك الشاعر الوشَّاء٣ ينظم كل يوم جديدًا من الشعر يُذكي٤ به عواطف الشباب والكهول، ويبعث الشوق والحنين.
وهاج بها داءُ الأنثى٥ فتخيلتْ في نَبر كل أغنية من تلك الأغاني نَبضَة قلب عاشقٍ مُفارقٍ، فنهشتها عقاربُ الغيرة، إنها لتريدُ نجم الدِّينِ خالصًا لها من دُونِ النِّساءِ!

وفرغت الماشطة من زينة سيدتها، ولم تَؤُب السيدةُ بعدُ من سَرْحتها في عالم الأوهام، وهتفتْ بها الماشطة: سيدتي!

فانتبهت شجرة الدُّرِّ كأنما آبت من سفرٍ بعيدٍ، واعتدلت لترى صورتها في المرآةِ مُقبلةً ومُدبرةً، ثم ابتسمت فأشرقت ابتسامتها بالنُّورِ على وجهٍ لم ينطبع في المرآة أجملُ منه، فرضيتْ وقرَّت عينًا، وعطفتْ جِيدها إلى الماشطة شاكرة: لله ما صنعتْ يداك يا فتاة!

قالت الجارية: بل سبحان الذي خلق فسوَّى يا مولاتي! لقد آثرَ اللهُ مولاي الأميرَ من هذا الجمال بنعمةٍ لم يظفرْ بمثلها أحدٌ من مُلوكِ الأرض، وإنه لحقيقٌ بما نال!

فانبسطت نفسُ الأميرة بما سمعت من ثناء الجارية، وأنِسَتْ إليها، فأقبلت عليها تُحدِّثُها وتستمعُ إليها، كأنَّما تريدُ أن تَزيدها حديثًا عن جمالها، أو أن تبدأها حديثًا آخر عن الأمير الذي تريدُ أن تستأثر بحبِّهِ فيكونُ قلبه خالصًا لها من دونِ النِّساء.

قالت شجرة الدُّرِّ: مُنذُ كم تعيشين في قصر الأمير يا فتاة؟

قالت الفتاة: منذ نشأتُ يا سيدتي، وكانت أمِّي ماشطةَ السيدة «ورد المنى» والدة الأمير، فاختصَصْتُ بخدمة مولاي منذُ كان نائبًا عن أبيه الملك الكامل في القاهرة.٦

ثم أردفت الفتاة وفي عينيها حنينٌ ولهفة: آه يا سيدتي لو رأيتِ القاهرة! إنها عروس المدائن! ولقد شهدتُ في رحلتي إلى هذا الحصن، دمشقَ وبغداد وكثيرًا من بلاد المشرق، فوالله ما رأيتُ بلدًا كمصر، ولا نهرًا كالنيل!

فأسبلتْ شجرة الدُّرِّ جفنها وقالت وعلى شفتيها ابتسامة: لعلَّ لك هَوًى في القاهرةِ يا جهان!

فاحمرَّ وجه الفتاة من حياءٍ وأغضَتْ ثم قالت: إنَّ هواي يا مولاتي حيث يكون هوى الأمير!

قالت شجرة الدُّرِّ في خبث: وأين هَواه اليوم؟

قالت وفي عينيها إعجاب: إنَّ هواهُ اليوم يا مولاتي حيثُ تَعرفين، وإنه حديثُ كلِّ مَن في الحصن!

وسُمعت خطواتٌ تقترب من باب المخدع، فهمَّتْ الفتاة بمغادرة المكان، وخطفتْ شجرةُ الدُّرِّ نظرةً إلى مرآتها قبل أن تخطوَ إلى الباب لتستقبل مولاها.

وخلا المكان إلا من اثنين، ولكن الأمير ظلَّ صامتًا جامد الوجه، قد سَرَّح فكره وصوَّب نظرَه ثابتًا لا يكاد يَطرف، وتعلقتْ به عينا صاحبته صامتة مثله لا تَجرُؤ على أن تبدأه الحديث، وطالَ بينهما الصمت، فما قَطعه إلا صوتٌ مُطربٌ يغني من وراء الحجرات بشعر زهير:

حبَّذا دُورٌ على النيل وكاساتٌ تدورُ!

وثابت إلى الأمير نفسه فتنفَّسَ نفسًا عميقًا، ثم هزَّ رأسه وهو يُردِّدُ:

حبذا دورٌ على النيل …

وانقبضت نفس صاحبته واعتادها داؤها، وتخيلتْ ما تخيلت من أوهام الأنثى، ولكنها كظمت نفسها، وقالت وهي تصطنع الهدوء: أرى مولاي بحاجة إلى أن يسمع غناء ليتخفَّف من بعض أثقاله ويُزيلَ متاعبه!

قال الأميرُ باسمًا: حَبذا … يا شجرة الدُّرِّ!

فقامت إلى خزانتها فأخرجت عودًا فاحتضنته وَحنَتْ عليه، وراحت أصابعها تَجُسُّ أوتاره، ثم رفعتْ إلى الأمير عينين فاتنتين وهي تقول: أفيريد مولاي أن أغنِّي له ذلك الصوتَ أم يقترح صوتًا غيره؟

قال الأمير: بل تقترحين أنت!

فأنغضَتْ٧ رأسَها ومرَّت أصابعها على العود وارتفع صوتها رُوَيدًا رُويدًا:٨
أغارُ عليك من عَيني ومني
ومنكَ ومن مكانك والزمانِ
ولو أني خَبأتُكَ في جُفوني
إلى يوم القيامة ما كفاني!

قال الأمير وقد استخفَّه الطرب: ولا كفاني!

ثم مدَّ إليها يدًا فأنهضَها، ومضيا يجوسان خلال الغُرُفاتِ سعيدين بما بَلغا من نعمةِ الحبِّ والوفاء.

لقد عرفتْ شجرة الدُّرِّ مكانها من نفس أميرها، وعرف نجم الدين مكانه، وكانت من الغيرة عليه والرغبة في الاستئثار به، في مثل غيرته وأثَرَتِه، فلم تَدعْ له منذ تَوَاثقا على الحبِّ أن يفكر إلا فيها أو معها، ولم يدع لها: لا تريد ولا يريد أن يستأثر أحدُهما دون صاحبه بشيءٍ، ولا أن يُفَكِّر مُنفردًا في أمرٍ؛ فَهُما سواءٌ، وعلى رأيٍ مشتركٍ في الحب وفي الحرب، وفيما يصطنعان من أساليب السياسة لإدراك العرش، وعادت غَيرةُ الأنثى على رَجُلها غَيرةَ مَلِكة على السلطان، تريد أن يمتدَّ ظلها على البسيطة ويدينَ لها الملايينُ بالطاعة والولاء!

١  من شعر البهاء زهير.
٢  قصور الأولى: جمع قصر؛ والثانية بمعنى: تقصير ونقص.
٣  الوشي: التزيين.
٤  يذكي: يلهب.
٥  الغيرة.
٦  كان نجم الدين قبل أن يُغادر القاهرة يقومُ مقام أبيه الملك الكامل في حكم البلاد حين غيابه.
٧  طأطأت.
٨  يُنسب هذا الشعر إلى شاعرة مشهورة من شواعر الأندلس، اسمها «حفصة بنت الحاج الركونية»، وكانت ذات مال وجمال وأدب وحسب!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤