الفصل السادس

طفل ملك

اطمأنَّ الملكُ الكاملُ إلى عاقبة أمرِهِ وسلامة تدبيرِهِ حين استخلف ولده العادلَ سيفَ الدين على عرش مصر، وجعل ولده الصالح نجم الدين على عرش المشرق، وخُيِّل إليه أنه مستطيعٌ أن يخلد إلى الرَّاحة والسلام ما بقي من أيَّامه، وقد بلغ الستين من عمره، جلس منها على عرش مصر أربعين عامًا، نائبًا عن أبيه عشرين منها، ومُستقلًّا بالحكم عشرين.

على أنَّ الملك الكامل — على حُنكته١ وأصالة رأيه وطول تمرُّسه٢ بالحكم — لم يُلقِ بالًا إلى ما قد يجد تدبيره ذاك من مُعارضة الأمراء العظام من آل أيوب، ومنهم إخوته وأبناء عمه أمراءُ الشام، وكلهم يرى نفسه أحقَّ بعرش مصر من ذلك الصبي، كما غَفل عمَّا قد يلقى ذلك التدبيرُ من مُقاومة ولده الصالح نجم الدين نفسه، وهو أرشد بنيه وأحقُّهم بخلافته على عرش بني أيوب.

فلم تكد تذيع تلك الأنباء من القاهرة حتى تمرَّد أمراء الشام وشقُّوا عصا الطاعة؛ فنشبتْ سلسلة من المعارك بينهم وبين الكامل لم تَدعْ له فرصةً لما كان يأمل من الطمأنينة والسلام، على حين كان ولده الآخر في حصن كيفا يدبِّر تدبيره في صمتٍ، ويتحيَّنَ السَّاعة التي ينقضُّ فيها على عرش القاهرة فيستخلصُه لنفسه، وكانت تُؤازره في التدبير زوجه الشابةُ الطموح شجرةُ الدُّرِّ، وقد ارتفعت منزلتها عند الأمير منذ وَلَدتْ له، فلم تَعدْ كما كانت منذ قريبٍ جاريةً مُحْتظاة، ولكنها زوجهُ وأم ولده وصاحبةُ تدبيره وشريكته في الجهاد، وقد أجدَّ لها هذا المولود أماني واسعة؛ فهي اليوم زوجة الأمير الذي يهيئ نفسه لعرش مصر والشام والجزيرة وما يليها من البلاد، وهي في غدٍ أمُّ السلطان خليل ابن السلطان نجم الدين وخليفته على عرش بني أيوب، وتجتمع في يديها كل السلطات!

•••

قال الأمير وقد تناول الطفل بين يديه وتمثَّل في نظرة عينيه كلَّ حنان الأبوة: هذا يومك يا بني، فليتَ لي علمًا عن غَدِكَ!

فبرقت عينا أُمِّهِ وسرحت بخواطرها تتخطَّى الزمان والمكان وثبًا، فكأنْ قد رأت نفسها على عرش مصر سلطانة ورأت فتاها، فلم يردَّها من سَرْحتها إلا حاضنةُ الصبي قد افترَّ ثغرها عن ابتسامة الأمل وهي تقول: سيبلغ حيثُ أردتَ يا مولاي بتوفيقِ الله، وتهتف باسمه الخلائقُ في شرق الأرض وغربها، ويُفيضُ المجدَ على كل مَن حوله من آل بيته!

قالت شجرة الدُّرِّ وقد اتسعت نفسها حتى شَملتْ كلَّ ما حولها بِرًّا ورحمةً: ويُفيض برَّه على حاضنته خاتون التي بَشرتْ بما يبلغه من المجد قبل أن يَدْرُجَ من مهده!

قالت الحاضنة: وتكون كل سعادتي يومئذٍ يا مولاتي أن أُباهي بأنني حاضنةُ السلطان خليل وصفيَّةُ أُمِّه، إن راقك يا مولاتي أن تصطفي مثلَ جاريتك خاتون!

فرَبتتْ الأميرةُ كتفها قائلة: بل إن أمه يومئذٍ لتُباهي بأنَّكِ حاضنةُ ولدها!

ودسَّ الأميرُ يده في جيبه ونثر كيسًا من ذهب في حجرِ الجاريةِ، ثم انصرف لشأنه وخلَّى المرأتين تتحاوران إلى جانب مهد الصبي.

•••

قالت خاتون: إنَّ لأبي زُهرة المنجم يا مولاتي أسبابًا وثيقة إلى الغيب، وإنه لشيخٌ قَد عَميَ وكُفَّ بصرُه، ولكنه فيما يَروي من أنباء الغد كأنما يقرأُ في لوحٍ مسطورٍ!

قالت شجرة الدُّرِّ: وتؤمنين بما يَهرِفُ به هؤلاء المشعوذون يا خاتون؟

قالت: إنه إلا يَصْدُقْ يا مولاتي فيما يُحدِّثُ به من أنباء الغيب، فحسبهُ أن يبذُرَ بذورَ الأمل وينشر السلام والطمأنينة، وقد استمعتُ إليه منذُ أيَّامٍ يتحدَّثُ إلى جهان ماشطة مولاتي حديثًا ما يزال له حمرةٌ في وجنتيها وبريقٌ في عينيها، كأنْ قد بلغتْ كلَّ المنى، وما زاد الأمرُ على حديثٍ سمعتْه!

قالت شجرة الدُّرِّ جادة: ماشطتي جهان؟ فادْعيها إليَّ لأسمع حديثها!

فعضَّت خاتون على شفتها وقالت: معذرةً يا مولاتي، فما قصدتُ أن أُفشيَ سرَّ جاريةٍ من جواري مولاتي تُخلِصُ لها الحب، وإنما استرسل بي الحديثُ وأغراني عطفُ مولاتي!

قالت: لا عليك من ذلك يا خاتون، وإنما يشوقني حديثُ تلك الجارية، فنهضت خاتون لأمر سيدتها، ومالت شجرة الدُّرِّ على مهد الطفل النائم تَنشقُ من عَبق أنفاسه رَوْحَ الأمل.

•••

وكانت جهانُ فتاةً مشبوبة العاطفة مُرْهَفةَ الحسِّ، وقد نشأتْ جارية في بيت بني أيوب بالقاهرة، ولكن مكانة أُمِّها من «ورد المنى» أمِّ الأمير نجم الدين قد هيَّأت لها بين جواري الأمير منزلةً خاصَّةً فَرَضَتْ عليها نوعًا من الوقار والتزمُّت٣ حالَ بينها وبين كثير من مَسرات الشباب، فظلَّت عذراءَ القلب، إلى عاطفة مشبوبة وحسٍّ مُرْهَف، ثُمَّ تهيأت لها الفُرصة ذات يوم للحديث إلى المملوك بيبرس، فسرى بينهما تيارُ الحبِّ، وما كشف لها عن ذات صدره ولا كشفتْ له، ثم أُغلقَ مِن دُونهما الباب فما رأته ولا رآها من بَعد، ووقع في شرك الحب قلبان لا يجدان وسيلة إلى اللقاء ولا سبيلًا إلى السلوان!

ولم تكن الفتاة تدري بما يعتلجُ في نفس صاحبها من الهوى ولا كان هو؛ ولكنها من الوحدة والكتمان كانت أشبَّ عاطفةً وأشدَّ قلقًا، فالتمست أبا زُهرة المنجم تستعينه على أمرها وتستنبئهُ أنباء الغد، فأنبأها ولم يزل لحديثه منذ ذلك اليوم حُمرةٌ في وجنتيها وبريقٌ في عينيها، وعرفت خاتون من خبرها على لسان المنجم ما عرفتْ، فتحدثت به إلى مولاتها شجرة الدُّرِّ.

•••

قالت الأميرة: وإذن؛ فأنت على ثقة من حُبِّه يا جهان!

فأنْغضَتْ رأسَها وتَضرجتْ وجنتاها من حياء ولم تُجِب.

قالت شجرة الدُّرِّ: لا تُراعي يا فتاة! إن بيبرس جندي من جند الأمير يُرْجَى غدُه، وإنك لتعرفين مكانك من نفسي ومن نفس الأمير، فسيجتمع شملك ببيبرس وتكونين له ويكون لك، ولكن عليه قبل أن يظفر بهذه الأمنية أن يؤدِّي ثمنها!

ثم استضحكتْ وقالت: وفي دارٍ على النيل يا جهان ليس مثلها في الأرض، يكون اجتماعُ شملك بمن تُحبين، وتُغنين له ويستمع إليك:

حبذا دارٌ على النيل …

أما هُنا فلا، إن عليه سفرًا طويلًا قبل أن يبلغ منزلك!

قالت الفتاة ولم تَزَلْ في إطراقها: شكرًا يا مولاتي.

فمدت الأميرة إليها يدًا فأنهضتها وهي تقول: لا شُكر اليوم يا بُنية، فانتظري حتى تَرَيْ ونَرَى ما يكون غدُك!

ودرَى بيبرس بكلِّ ما كان من خبره وخبر صاحبته، فاعتقدها يدًا للأميرة عنده تقتضيه الوفاء، فكان همُّه منذ اليوم أن يلتمس أسباب رضاها، وأفعم قلبه الأمل!

١  تجربته.
٢  تجربته.
٣  شدة الوقار.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤