الفصل السابع

مَلِك في قفص

لم يجد الملك الكامل ما كان يأملُ من الطمأنينة والسلام، فلم يكد يقضي على أسباب الفتنة التي أشعل نارَها أمراء الأيوبيين في الشام حتى بَغته الموت؛ ثم لم يكد يُوارَى الثرى في دمشق حتى تجدَّدَت مطامع الأمراء في عرش بني أيوب.

وبلغ النعيُ الملك الصالحَ نجم الدين في حصن كيفا، فأعدَّ عُدته للمسير إلى مصر.

واستأثر العادلُ سيفُ الدين بالملك، وتَبَوَّأ عرش أبيه في قلعة الجبل، ووضع يده على خزائنه وما خلف من مال ومتاع، واتَّخَذَ له حاشيةً وبطانةً.

وبدأ زحفُ الصالح نجم الدين أيوب من المشرق ليستخلص لنفسه العرش، وكان على رأس جُنده بيبرس وأيبك وقلاوُون وآق طاي، وإلى يمينه وشماله مُشيران أمينان: شجرةُ الدُّرِّ أم خليل، والصاحبُ بهاءُ الدين زهير.

وتتابعت الرسل من القاهرة تستحثُّهُ على الإسراع، فأغذَّ السير مُغربًا وقد طفحت نفسه بالآمال، ولكن كمينًا كان قد أعدَّهُ بدر الدين لؤلؤ عند سنجار قد برز فجأةً في طريقه، فتبعثر جنده واقتيد أسيرًا إلى قلعة سنجار، ليس معه إلا زوجه وقليل من صحابته وحيل بينه وبين أمانيه.

قال نجم الدين مُستيئسًا: هذا يا شجرة الدُّرِّ آخرُ المطاف؛ فما أظنني أخلص وإيَّاك من هذا المعتقل، وإنَّ لبدر الدين عندي ثأرًا لا ينساه وقد أذللت كبرياءه، وحطَّمتُ جنده وجعلته مثلًا بين الأمراء، وقد أقسم من يومئذٍ إن حَصَلتُ في يده ليحطمن كبريائي، فيقتادني إلى بغداد حبيسًا في قفصٍ مُصفَّدًا بالأغلال!١
قالت شجرة الدُّرِّ: لا عليك يا مولاي من وعيد بدر الدين، فما أراه والله بالغًا من ذلك شيئًا، ولن يحصل في يده نجم الدين، ولا شجرة الدُّرِّ، وسيبوء٢ بالخسران في العاقبة كما باء في الأولى!

فهزَّ نجم الدين رأسه وارتسمت على شفتيه ابتسامة وهو يقول: ومن أين لنا الخلاص ومن دوننا هذه الأسوارُ وهؤلاء الحراس، وليس لنا من الجند قوة تُغني في اقتحام هذا الحصن!

فجاوبته ابتسامةً بابتسامةٍ وقالت: دَعْ تدبير ذلك لي يا مولاي؛ فوالله لا يكون إلا ما تُريد!

فلمَّا كان المساء، كان القاضي بدر الدين السنجاري مرتفقًا٣ إلى نافذةٍ من نوافذِ القَلعة تُشرف على الطريق، يتهيَّأَ لأمرٍ قد أعدت عُدته، فلما تجلببَ الكون بالظلام٤ نهض فانتطق بحبلٍ من كِتَّانٍ٥ ودلاه صاحباه من النافذةِ رُوَيدًا رويدًا حتى لامستْ قدماه الأرض، فحلَّ منطقته ومضى في طريقه مُغرِّبًا لا يلوي على شيءٍ، وطال به السُّرَى والتهجير،٦ لا يَنشدُ الرَّاحة لحظة، حتى بلغ مَضربًا من مضارب الخوارزمية فتمهَّل، ثم سأل عن خيمة الأمير حسام الدين بركة مقدم الخوارزمية، فَدُلَّ عليها؛ فاستأذن ودخل، ثمَّ دَفع إليه رسالة من شجرة الدُّرِّ؛ فما كاد يتلوها حتى أدناها من شفتيه فقبَّلها، ثم رفعها إلى رأسه تكريمًا!

وأصبح منذ الغد على الطريق إلى سنجار جيش من الخوارزمية يقوده حسام الدين، وغبارُه يحجب وجه الشمس!

وكان الخوارزمية — منذ انحلت دولتهم وغلبهم المغول على بلادهم بعد مصرع السلطان جلال الدين — قد تفرَّقوا في البلاد يرتزقون بسيوفهم في جيوش الإمارات المتنافسة، فهم جندُ كل ذي مالٍ من الأُمراء، يَغلبُ بهم ما وَسَّعَ عليهم في الرزق، فإذا قَبض يده انفضوا عنه يلتمسون رزقًا جديدًا في جيشٍ جديدٍ؛٧ على أن بَقيَّة من الحِفاظ٨ والمروءة كان تَحفزُهم أحيانًا إلى ألوانٍ من البطولة والنجدة تُذكِّر ببعض ما كان لهؤلاء الجند أيامَ عز دولتهم من المجد والكرامة؛ وقد جاءهم كتابُ شجرة الدُّرِّ فلم يَسعهم أن يتخلَّوا عن تقاليد الفروسية المجيدة التي ناشدْتهم إيَّاها، فهبوا لنجدة الأسيرين الكريمين في قلعة سنجار.
وكان الملك الصالح نجم الدين قد بلغ منه القلقُ مبلغه، لا يدري أين ينتهي به الأمر وقد أُغلقت من دونه أبوابُ هذه القلعة؛ على أنَّ شرَّ ما كان يخشاهُ أن يفطن آسرُه إلى مكان شجرة الدُّرِّ، فيقتادها إلى الموصل حيث كانت قبل أن تأوي إلى كنَفه، ويثأر ثأرين من عدوه نجم الدين!٩

ومضى نجم الدين يجوس خلال القلعة قَلقًا حيران، فإذا جماعة من صحابته في الأسر قد تحلَّقوا حول شيخٍ مكفوفِ البصر يستمعون إليه خاشعين مُستغرقين في الفِكر، فلم ينتبهوا إلى موقف الأمير منهم على مقربة.

ذلك أبو زهرة المنجِّم، وكان قد خَرَجَ في ركبِ الأمير يقصد مصر، فاقتيد أسيرًا مع الأسرى، وأولئك أصحاب الأمير يستمعون إلى ما يحدِّثهم به من أنباء الغيب؛ ليصرفهم ذلك عن بعض ما يلقَون من الضِّيقِ والقلق والملال.

ووجد الأمير في حديثه ما يصرفه عن بعض ما يلقى، فدعاه إلى خلوته وجلس يستمع إليه.

وكان جُندُ الخوارزمية يقتربونَ من القلعةِ وقد سبقهم الغبار؛ فأسرعت شجرة الدُّرِّ إلى الأمير تُنبئه النبأ، ورأت أبا زهرة في مجلس الأمير فقالت ضاحكة: لعلَّ المنجم يا مولاي قد سبق إليك بالبُشرى!

فرفع الأميرُ إليها رأسه وقال في لهفةٍ: ما وراءك يا شجرة الدُّرِّ؟

قالت: الخير يا مولاي كلُّ الخير.

ثم صحبته إلى حيث يَرَى.

وأطبق الخوارزمية على جند صاحب الموصل، فلم يَدَعوا لهم فرصةً للدفاعِ ولا سبيلًا إلى الفرار، وَغصَّ الميدانُ بأجساد القتلى والجرحى، وتخضَّبت الأرض بالدمِ، ونجا بدرُ الدين لؤلؤٌ برأسِهِ وحيدًا على فرسٍ عاطلٍ١٠ يطلب البيداء.

وانفتح باب القلعة وخرج الملك الصالح وأصحابه يستأنفونَ السَّيرَ إلى مصرَ، ووراءهم من الخوارزمية جيشٌ لَجِب، وانفسح أمامهم المَدى!

١  وقعت تلك الحادثة التي يُشير إليها الأمير نجم الدين، قبل بضعة أشهر من ذلك التاريخ، وسببها أنَّ خلافًا كان قد نشب بين الخوارزمية والأمير نجم الدين، فهموا بالقبض عليه، ففرَّ منهم إلى سنجار، وكان بدر الدين لؤلؤ يكرهه، فانتهزها فرصةً وحاصره في سنجار، فأرسل إليه الأمير نجم الدين يسأله الصلح، ولكن بدر الدين لم يستجب له، وأقسم ليُحطِّمَنَّ كبرياءه ويقوده إلى بغداد حبيسًا في قفصٍ مصفَّدًا بالأغلالِ، فاضطر نجم الدين إلى أن يُصالح الخوارزمية ويجيبهم إلى ما يطلبون منه؛ لينجو بنفسه من ذلك العار الذي يعده له بدر الدين، فاستجاب الخوارزمية لدعوة نجم الدين، وحضروا في جيشٍ لنجدته، وكان لؤلؤ في غفلةٍ عن ذلك التدبير، فنالته الهزيمة وتحطَّم جنده ونهب ماله وخزائنه، وفرَّ وحيدًا لا يكاد يصدق بالنجاة! فلمَّا سمع بعد ذلك بخروج الأمير نجم الدين من حصنه يريد مصر، تربَّصَ له في الطريق واقتاده أسيرًا ليثأر لنفسه!
٢  سيرجع.
٣  معتمدًا بمرفقه.
٤  لبس الكون جلباب الظلام.
٥  انتطق بالحبل: اتخذه نطاقًا: حزامًا.
٦  السُّرى: السير في الليل. والتهجير: المشي في الهاجرة: وقت الظهر.
٧  انظر التعليق الرابع [الفصل الثالث: شجرة الدُّرِّ].
٨  المحافظة على العهد.
٩  انظر [الفصل الثالث: شجرة الدُّرِّ والفصل السابع: مَلِك في قفص].
١٠  بلا سرجٍ ولا زينةٍ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤