الفصل التاسع

أشواك على الطريق

وبلغ الملك الصالح بجيشه دمشق، فتلبَّث ينتظر ما يكون من أمْرِه وأمْرِ أمراء الأيوبيين في الشَّام، وما يأتيه من أنباء القاهرة.

وكان العادل في مصر قد ساء سيرةً وفسدَ سريرةً، وأسرف في بذل المال حتى أوشكت أن تنفد خزائنه، وقد غلبه أصحابه على رأيه، فأعطاهم مقادته يُصرِّفون الأمر في الدولة كيف يحلو لهم؛ ليفرُغ لشهواته ومباذله، واطَّرح أمراء أبيه وأقصاهم عن السلطة، وأمعن في مطاردتهم والميل عليهم.

وترامت إليه الأنباء بحركة أخيه الملك الصالح نجم الدين، فقبض على أصحابه واستصفى أموالهم، وألزمهم دورَهم أو ساقهم إلى معاقل الأسر، وقبض على الأمير فخر الدين بن الشيخ، وإنه وإخوته يومئذٍ لأعظمُ أمراء الدولة حُرمة وأرفعهم منزلة؛ إذ كانوا — فوق مكانتهم في العلم والدين وماضيهم المجيد في خدمة الدولة — إخوةَ أبيه الملك الكامل بالرضاع، وكان أحظَى لديه من سائر أمرائه وأدناهم إلى الشعب منزلة.

وضاق الناس بالعادل وثَقلتْ عليهم أيامه، فتوجَّهُوا بقلوبِهِم إلى المشرق يُؤَمِّلُونَ أن يطلعَ عليهم من هُناك من يُخَلِّصُهُم من بَغي ذلك الملك الصبي!

وترادفت الرسل على الملك الصالح نجم الدين أيوب.

•••

على أنَّ طائفةً من أُمراء الأيوبيين بالشام كانوا يطمعون في عرش مصر؛ منهم من يستعلن بنيَّته، ومنهم من يستخفي، وكان أكثرهم سعيًا إلى تلك الغاية هو النَّاصر داوُد — ابن عم نجم الدين — أمير الكَرَك والشَّوْبك وما يليهما من أرض الأردن١ — وكانت زوجه «عاشورا خاتون» بنتَ الملك الكامل، وأخت الملك الصالح نجم الدين — فاصطنع الناصرُ أسلوبًا من السياسة بين الأخوين المتنافسين على عرش الأيوبية، إن لم يبلغ به ما يُؤمل من الوصول إلى العرش، فحسبه أن يبلغ به عرش الشام خالصًا له وحده.

فراح يتودَّدُ إلى الملك الصالح نجم الدين، وإنَّ رُسُله ورسائله لتتردَّدُ في الوقتِ نفسه بينه وبين العادل في مصر.

وانحاز إليه طائفة من أمراء الشام، وبقي على الولاء للعادل أو للصالح طائفة، وآثرت طائفة ثالثة أن تعمل لنفسها أو تعتزل الطائفتين جميعًا، وغَصَّ الميدانُ الشاميُّ بأصحاب المطامع.

•••

كان الملك الصالح بنابلس٢ ليس بينه وبين الظفر إلا مرحلة، ولم يكن معه ثمَّة إلا طائفةٌ قليلة من عسكره، على حين كان سائر جنده منبثين في مدائن الشام يُوطِّئون لمولاهم سبيل الوصول إلى غايته.

وكان القمر يسطع في السَّماءِ قد أوشكَ أن يصيرَ بدرًا، وقد عكف المؤمنون على صَلوَاتهم، طَيِّبة نفوسُهم قريرةً أعينهم، قد امتلأت قلوبهم بِشرًا ومَسرَّة؛ فقد كانت تلك ليلةَ الثانيَ عشرَ من ربيع الأول، ذكرى مولد النبي الأعظم .

وعلى حينِ غفلةٍ دوَّى نفير الحرب، فهبَّ الملك الصالح وأصحابه إلى آلة حربهم يظنون أنْ قد طرقتهم خيلُ الصليبيين،٣ ولم تكن إلا مكيدةً مبيَّتة من النَّاصر للإيقاع بالملك الصالح نجم الدين، فما كاد يبرز من خيمته إلى العَراء حتى أحاط به طائفةٌ من جند الناصر، فاقتادوه على بغلةٍ بلا سرجٍ ولا رِكابٍ، يُغذُّون به السير في البادية إلى قلعة الكرك، واقتيدت معه امرأته وولده وقليلٌ من صحابته، فألقى بهم في غيابة القلعة أسارى لا حول لهم ولا حيلة، وأبلغ النبأ إلى العادل في مصر، وكتب إليه الناصرُ يقتضيه الثمن!٤

وأقيمت الزينات الملوكية في القاهرة؛ فرحًا بخذلان عدو السلطان العادل وذهابِ أمره.

على أنَّ العادل لم يكن ليطمئن ويهدأ باله، وعدوُّه ما يزال حيًّا ولا سبيل له عليه، فبعث إلى الناصر بمالٍ جمٍّ على أنْ يسلم إليه أخاه ليقتله فيتخلَّص منه إلى الأبد!

ولكن النَّاصر لم يكن ليخدعه المالُ عن الأمل الكبير الذي يأمله، فبعث إلى العادل يطلب إليه أن يدع له عرش الشام خالصًا قبل أن يُسلم إليه أخاه!

وتردَّدَت بينهما الرُّسُلُ والرَّسائلُ أشهرًا، والملك الصالح في مُعتقله لا يكادُ يجدُ كفاية من الطعام والشراب وراحةِ الجنب، ولا يكاد يَخلص إليه شيءٌ من أنباءِ ما يجري وراء أسوار القلعة؛ فلولا ما تحاول شجرة الدُّرِّ أن تقدم إليه من أسباب التسرية والمسرَّةِ، ولولا ما يسمع من حديث صاحبه البهاء زهير، وما يرى من مظاهر إخلاص الطائفة القليلة من المماليك الذين صحبوه إلى معتقله٥ لضاق بحياته فَزَهقتْ نفسه.
١  الأردن: نهرٌ بفلسطين، يُسمَّى عند العرب «الشريعة الكبرى»، يخرجُ من جبال لبنان الشرقية، ويمرُّ ببحيرة طبرية، ويصبُّ في بحر لوط؛ البحر الميت. والكرك والشوبك: قلعتان تقعان إلى الجنوب الشرقي من نهر الأردن، وكانت هذه الأرض في القديم تُسمَّى أرض البلقاء، واسمها اليوم «شرق الأردن»، ولهذه البلاد في تاريخ الفتن حديثٌ طويلٌ منذ كان الإسلام!
٢  مدينة بفلسطين، في الغرب من نهر الأردن.
٣  كانت غارات الصليبيين على تلك البلاد مُتوالية في تلك السنين، فلا يكادون يذهبون حتى يعودوا.
٤  كان الثمن المأمول هو أن يكون عرش الشام كلها للناصر.
٥  كان بين الأسرى الذين اقتيدوا إلى قلعة الكرك مع الملك الصالح وزوجته وزيرُه وشاعره البهاء زهير، وطائفةٌ من مماليكه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤