مقدمة الكتب الأربعة
أهمُّ وأقدمُ تراثٍ مدوَّنٍ في الصين هو التراث الكونفوشي (ولو أنَّه ليس من الصَّحيح نسبةُ الأفكار الفلسفية إلى أسماء روَّادها، فذلك تقليدٌ أوروبيٌّ، وتُعزى هذه التَّسمية إلى الدَّارسين الغربيين) والصَّحيح، أن يُقال: المدرسة الكلاسيكية «الرُّوجية» (نسبةً إلى «روجيا»، أي: الكلاسيكية، بلفظها العلمي الصِّيني) وعلى أيَّة حالٍ، فالتُّراث الكونفوشي المدوَّن بمنزلة الكتب المقدَّسة؛ فهو يتكوَّن من المدوَّنات الأعمق تأثيرًا والأخلد ذكرًا في تاريخ الصين القديم والمعاصر؛ بل لا نبالغ إذا قلنا بأنَّها الأكثر انتشارًا في منطقة شرق آسيا، فيما يتجاوز حدود الصين نفسها؛ فالفكر الكونفوشي (باعتباره اتجاهًا فلسفيًّا أو منهجًا عقائديًّا) منتشرٌ في الكثير من بلاد أقصى الشرق الآسيوي: اليابان، الكوريتَيْن، بورما، فيتنام، لاوس، كمبوديا … إلخ.
ولم يقتصر نطلق التأثير على مناطق الجوار الجغرافي؛ بل امتدَّ، في بعض الأحيان لينشط في حقب مختلفة من الزمان، فهذه أوروبا القرن السابع عشر والثامن عشر تتلقَّى عن كونفوشيوس ومنشيوس بواسطة الترجمات ما دفع في أشرعة الإصلاح برياحٍ حقيقيةٍ.
بل إنَّ الكثير مما روَّجت له وسائط الاتصال المتعددة — ولو بصورةٍ تجاريةٍ فجَّةٍ — من رياضات روحية؛ كاليوغا، أو ممارسات الطب الشعبي، وما تجاوز حد الانبهار برهبان التبت … والولع بفنون القتال الجسدية (الكونغ فو، التايكوندو … إلخ) ليس إلَّا نتاج التقاليد أو الطقوس العقائدية التي وجدت طريقها، بصورةٍ ما، إلى خارج أركان المعابد الصينية والهندية.
«الكتب الأربعة» هي التراث المقدس للمدرسة الكلاسيكية القديمة، وتشتمل على: كتاب المحاورات لكونفوشيوس، وكتابَي المعرفة الكبرى، والاعتدال (أو رسالة مذهب الوسطية) وهما في الأصل أجزاء من كتاب «آداب المعاملات»، ثم كتاب منشيوس ويقع في المرتبة الثانية من الأهمية «والقداسة» بعد كتاب المُعلم الأول «كونفوشيوس».
وكان كونفوشيوس، في حياته قد ذكر لتلاميذه الكثير من أمثلة ومعايير السلوك الأخلاقي، وجاء التابعون من بعده ووضعوا كتاب «المحاورات» على النحو الذي تصوَّروا أنَّه يفي برسالة أستاذهم ويحفظ بقاءها للأجيال، ثم إنَّ تلميذ كونفوشيوس «سنغ زي» أحسَّ بأنَّ أهمَّ نقطةٍ ذكرها أستاذه كانت: الاستقامة، والإخلاص، أو القلب المستقيم بالإخلاص. فكتب كتابًا يشتمل على تلك العناصر التي تَصوَّر أنَّها أساسية، ذلك هو كتاب «المعرفة الكبرى»، وعلى هذا المنوال نفسه، رأى «زيس» تلميذ سنغ زي — وحفيد كونفوشيوس — أنَّ جدَّه وأستاذه لم يشرحا بشكلٍ مستفيضٍ مسائل وأساليب الحياة؛ فوضع نصًّا يتناول عدة مسائل تستكمل شرح ما غفل عنه السابقون، فذلك كتاب «الاعتدال»، وجاء منشيوس — تلميذ زيس — ليُقرِّر أنَّ أهمَّ المسائل جميعًا هو ما يتعلق منها بالطبيعة الإنسانية، وأشكال السلوك الأخلاقي.
وهكذا راح تلاميذ منشيوس، حسب رؤى أستاذهم، يتناولون أشكال السلوك الأخلاقي بالدراسة والتحليل، وهو الجهد الذي أثمر «كتاب منشيوس».
ويُسعدني أن أقدم للقارئ العربي الترجمة الكاملة لهذه الكتب في مجلدٍ واحدٍ، وأتمنى أن أكون بهذه الترجمة، قد أضفت إلى المكتبة العربية واحدًا من أهم كنوز التراث الإنساني، وأقدم الفلسفات التي ما زالت باقيةً بعد عشرات القرون، حتى اليوم (صحيح أنَّ خُطى التقدم في الصين الأم — البر الصيني — كانت وثَّابةً في سعيها نحو المستقبل والإبداع، فتجاوزت — أو بدا لها أنَّها يُمكن أن تتجاوز — بالنقد والإبداع ميراثها القديم؛ ومع ذلك، فالمراقِب لأحوال الصين، يدرك أنَّ فلسفةً إنسانيةً مثل الكونفوشية تشكَّلت وسط حشود الناس وعاشت معهم تلك العصور، ومن ثم فقد اكتسبت قوة بقاء فوق الناس أنفسهم. صحيحٌ أيضًا أنَّ مقدرة البشر على زحزحة الكيانات والرواسب الثقافية القديمة ممكنةٌ بالوعي والعلم، لكن «الثقافة» نفسها كمفهوم وظاهرة ما زالت تتحدَّى التعريف العلمي (مائة تعريف حتى الآن، أشهرها من وضع سير: إدوارد تايلور!)).
الكونفوشية، كتراث ثقافي، من أكثر التقاليد القديمة ثباتًا وتشبثًا بالبقاء، لذلك لا ندهش عندما نكتشف أنَّ رجلًا مثل «بان كي مون» سكرتير عام الأمم المتحدة، وهو على قمة أكبر مؤسسة ذات طابعٍ دوليٍّ، يحتفظ في جيبه بقصاصةٍ ورقيةٍ (مثل تميمةٍ) مكتوب عليها عبارات منقولة عن كتاب منشيوس، أحد أهم النصوص المقدسة بعد المحاورات (كما صرَّح هو بنفسه ذات مرةٍ لمندوب وكالة شينخوا للأنباء الصينية، في حديثٍ صحفيٍّ معه).
ولا نعجب إذا قرأنا في صفحات التاريخ الحديث للصين أنَّ الدكتور صن يات صن، رائد الوطنية الصينية، كان — وهو يضع اللمسات الأخيرة في البناء الدستوري لأول جمهوريةٍ وطنيةٍ للصين الحديثة، في أوائل القرن العشرين — حريصًا على التأكيد بأنَّ الصين ستتطلع إلى تجارب التقدم العلمي (الأوروبي)، عند استلهام النماذج المتطورة في تصوُّر البناء الحضاري للصين، لكنَّه يستثني، من ذلك، الفلسفة السياسية والرؤى النظرية الأساسية التي تقود خطى بلاده نحو آفاق المدنية، لماذا؟ لأنَّ الصين — في رأيه — لم تكن لتأخذ عن أحدٍ شيئًا في ذلك المضمار، ما دامت تملك الرصيد الكونفوشي الهائل (الذي يغنيها عن التطلع إلى ما لدى الآخرين من فلسفات في السياسة ونظرياتٍ في قواعد الحكم الرشيد)!
لذلك فقد رأيت أن تكون نقطة البداية في ترجمة عيون التراث الصيني، هي الأعمال الكونفوشية الكاملة … وأولها، هذه الكتب الأربعة.
وأتمنى أن يُحالفني التوفيق في ترجمة المؤلفات الخمسة، وهي وإن لم تكن كُتبًا مقدسةً إلَّا أنَّها — كالمعلقات في أشعار العرب — ذات قيمةٍ تاريخيةٍ وثقافيةٍ، وهي: كتاب الشِّعر القديم، حوليات الربيع والخريف «مدوَّنة تاريخية»، كتاب الطقوس، كتاب التغيرات، كتاب شوجين «وثائق تاريخية».
ويُقال بأنَّه لا يُمكن لأحدٍ أن يدَّعي معرفةً بالثقافة الصينية دون الاطلاع على الكتب الأربعة والمؤلفات الخمسة، فماذا إذن عن كتاب الطاو، وفن الحرب، وتسوجوان، وأشعار تانغ … إلخ. أليست هذه كُتبًا ذات قيمةٍ أيضًا؟
كلها، بالطبع، ذات أكثر من قيمة، والتراث الصيني لا يقتصر على عددٍ محدودٍ، وربما كان الحصر العددي يقتبس تقليدًا بوذيًّا في استلهام قداسةٍ ما من الأعداد والأرقام (ولنتذكر أيضًا أنَّ عناصر الطبيعة في الفلسفة الصينية خمسة عناصر، وأنَّ مبادئ الأخلاق الكونفوشية أربعة)، ثم إنَّ نصوص التراث القديم تمَّ تدوينها في مراحل زمنية متفاوتة لم تكن تحفل كثيرًا بالتوثيق، فأنت تجد نصوصًا من كتاب فن الحرب مبثوثةً في ثنايا كتاب تسوجوان، ثم تقرأ صفحاتٍ كاملةً من كتاب سياسات الدُّول مكتوبةً في تضاعيف كتابٍ آخر، مثل كوان تسو — مثلًا — حتى كتاب منشيوس، وهو أحد معالم الكتابات المقدسة، تجده يحوي نصوصًا من مذاهب أخرى تختلف عنه مذهبيًّا (من الطاوية والتشريعية!) وكما قلت في مقدمة كتاب سياسات الدُّول المتحاربة، فإنَّ نسبة الكتب إلى أصحابها (أو بمعنًى أدق: توثيق النصوص الصينية) كان يتبع التقاليد أكثر مما يحرص على الدقة، وكثيرًا ما كان يُمكن أن يُنسب إلى مؤلِّفٍ ما كتاباتٌ معينةٌ لمجرد أنَّه من المفروض أن يكون هو قائلها!
ولا أريد — سيدي القارئ — لجهد ترجمة التراث الصيني أن يتقدم بغير خطةٍ أو ترتيبٍ واحدٍ، ولئن كنت استطعت، هذه المرة، تقديم ترجمةً للكتب الكونفوشية الأربعة، فسأحاول فيما بعد استقصاء نسقٍ واحدٍ في تقديم ترجمةٍ وافيةٍ للمؤلفات الخمسة، على أن يتخلل ذلك، بين الحين والآخر، القيام بترجمات لكتبٍ مختلفةٍ من عيون التراث الصيني؛ بحيث يستطيع القارئ (والمترجِم معًا) الوقوف على الصورة الكاملة والواضحة في تصورات الفلسفة الصينية ومذاهبها المختلفة؛ ذلك أنَّ ترجمة كتابٍ مهمٍّ مثل «تشوانغ تسي» قبل قراءة كتاب الطاو، سوف تكون مجرد عبثٍ، لا قيمة له، وربما أوقعت القارئ في دروب الحيرة والغموض أكثر مما أضاءت له من جنبات الفكر الطاوي، وبالمثل أيضًا، فإنَّ قراءة كتاب مشهور جدًّا مثل كتاب «فن الحرب» لن تُسعف القارئ بأفكارٍ واضحةٍ عن معالم الفكر الاستراتيجي في الصين القديمة قبل قراءة كتاب «كوان تسي» (أهم كتابٍ في الفكر السياسي) … إلخ.
وليس من الصواب أن يمدَّ المترجم يده إلى أول كتابٍ يُصادفه فوق أرفف التراث، باعتبار أنَّ المحتويات كلها قديمةٌ بالجملة!
وأود أن أشير، هنا — للتوثيق — إلى أنَّ النسخة التي ترجمت عنها النص الكامل للكتب الأربعة — وهي مُودعةٌ بمكتبة الألسن، قسم اللغة الصينية، بجامعة عين شمس (تحت رقم ٦٩٨٣) — وضعت ترتيب المتون مبتدئةً بكتاب «المعرفة الكبرى»، ﻓ «كتاب الاعتدال»، ثم كتابَيْ: «المحاورات» و«منشيوس»؛ إلَّا أنَّني عدَلت عن ذلك النمط في الترجمة العربية، ووضعت ترتيبًا مغايرًا بدأت فيه بالكتاب الأكثر شهرةً: المحاورات … ثم ثنَّيت بالكتاب التالي من حيث الأهمية في التراث الكونفوشي «منشيوس»، وجعلت الكتابَين الآخرين ملحقين بهما، على النحو الذي يعكس مقدار ما يحظيان به من أهميةٍ في الميراث الكلاسيكي الصيني.
ولا بد أن أذكر، في كل مرةٍ أقدِّم فيها ترجمةً لنصٍّ جديدٍ، أنَّ مشروع نقل التراث الصيني إلى العربية، يتواصل بتكليفٍ أدبيٍّ من الأستاذ جمال الغيطاني، وتلك قيمةٌ يعتز بها المترجِم كثيرًا؛ فليس — فيما أظن — أحسن من أن يحظى جهد نقل التراث الفكري والثقافي القديم للحضارة الصينية بتوجيه وتشجيع مبدعٍ عربيٍّ كبيرٍ، يعرف ما يمثِّله التراث من أهميةٍ ومكانةٍ في الثقافتَيْن العربية والصينية.