وان جان
الجزء الأول
(٩–١) ذهب وانجان إلى الشيخ الحكيم منشيوس، وسأله: «لما ذهب الإمبراطور شون في زيارة إلى الحقول، والأراضي الزراعية، فقد تطلع مليًّا إلى السماء وأجهش بالبكاء، تُرى ما السبب في تأثره البالغ على هذا النحو؟» فأجاب منشيوس قائلًا: «لا بد أنَّ شعورًا بالندم قد اجتاحه وقتئذٍ؛ «لإحساسه الدقيق بسخط أبيه عليه و …» لشدة شوقه «إلى أن تُصفح عنه روح أبيه».»، فعاد وانجان يقول: «كثيرًا ما سمعت الناس يرددون: «مَن نال رضا والديه غمرته السعادة واستقرت ذكراهما في قلبه، أمَّا مَن حاق به سخطهما فقد طغى عليه الشقاء وانقبض في جوفه لسان الشكوى، فبقي حياتَه مبرَّحًا كظيمًا، تتنازعه مشاعر الألم والمرارة، ولا يقدر على الشكوى» … فهل كان شون حانقًا على أبويه؟»
فأجابه منشيوس: «قيل إنَّ تشانشي (تلميذ كون مينكاو) سأل أستاذه، ذات مرة، قائلًا: «أن يخرج شون إلى الحقول ويتجوَّل بين المزروعات، فهذا أمر مفهوم، أمَّا تَطَلُّعه إلى السماء وبكاؤه «ومشاعره الفياضة تجاه والديه» فهو موضوع يحتاج لمزيد من التوضيح. فقال له أستاذه: «تلك مسألة عويصة، بعيدة الغَور، لا أظنك تبلغ مراميها»، والمعنى الذي قصد إليه كون مينكاو هو أنَّ الطاعة موضوع لا يحتمل الإهمال؛ بل يؤخذ بجدية، «وقد يُسبب للأبناء شيئًا من الارتباك النفسي، وكأنِّي بشون يقول في نفسه:» ها أنا ذا قد فعلت كل ما في وُسعي، ومع ذلك فقد حاق بي غضب والدي، فما حيلتي إذن؟» (وأراد الإمبراطور «ياو» أن يُبدد أحزانه، ويمد يد العون) فأَرسل إليه أولاده التسعة، وبنتَيه الاثنتين، وحشودًا من الجنود يسوقون أمامهم الأبقار والنعاج، ويحملون على ظهورهم أحمال الحبوب عونًا له، ودعمًا لمعنوياته؛ بل إنَّ جماعات من الدارسين وطلاب العلم قصدوا إليه (بأمر الإمبراطور «ياو» الذي) كان يُهيِّئ له الأمر ليخلفه على عرش الممالك.
ومع ذلك، فلم يكن في الدنيا كلها شيء يمكن أن يزيل الكرب من صدر شون، وصار يشعر كمَن سُدَّت أمامه السُّبل، وفرغت من جعبته كل وسيلة؛ وذلك لإحساسه بالعجز عن إرضاء أبويه، ولئن كان مبتغى أي واحد من الناس هو أن يكون موضع تقدير الدارسين وطلاب العلوم، إلا أنَّ إعجاب وتقدير كل الدارسين في أنحاء الممالك لم يكن ليخلِّص شون من همومه.
ثم إنَّ شون تزوج كريمَتَي الملك كلتيهما (وكانتا جميلتين)، والجمال فتنة آسرة لا يفلت من حبائلها بَشَر؛ لما تُشيع في النفوس من بهجة، وبرغم ذلك فلم تعرف البهجة طريقها إلى قلب شون.
الثروة مطمح كل إنسان على وجه الأرض، ولقد صار مُلك شون متراميًا (بطول وعرض الممالك كلها) ومع هذا، فلم يفارقه الحزن. من المعلوم أنَّ الشرف مُبتغًى أصيل، ما من إنسان في الدنيا بأسرها إلا يتُوق للفوز بأعظم دُرره، وقد حظي شون، مبجلًا، بموقعه الأثير، مقربًا من العرش الحاكم، أميرًا فوق الدويلات المترامية، ولما يزايله الانفعال بمأساة عمره.
«ومن ثم» فإنَّ ما أتُيح له أن يفوز به من الحب والتقدير، والجمال، والجاه «كل ذلك» لم يثمر أيَّة نتيجة؛ ذلك أنَّ الأمر الوحيد الذي كان من شأنه أن يمسح عن صدره لواعج الأسى، هو رضا والدَيه.
يتطلع الإنسان، في طفولته، إلى والدَيه تعظيمًا وإكبارًا، فإذا ما بلغ فتوة الشباب صار يتودد إلى أُنثاه ويبحث عن فَتاته؛ فإذا أمست له زوجة تعلَّق بها وأقام معها شطر حياته؛ أمَّا إذا التحق بوظيفة، ذات شأن، راح يتقرب لرئيسه، فإن لم يحظَ بثقته تكالبت عليه ألوان الهموم، واستولى عليه القلق؛ ليس سوى الرجل البار بأبويه هو الذي يظل طوال حياته، محبًّا «ونصيرًا» لوالديه.
أمَّا أن يبلغ المرء الخمسين من عمره، دون أن يخفت صدى الحنين إلى أبويه، فهو الأمر الذي تبدَّى أمامي بوضوح متجسدًا في شخص القديس الحكيم شون.»
(٩–٢) ذهب وانجان إلى منشيوس وقال له: «مما جاء في كتاب الشِّعر القديم «أبياتٌ مطلعها»:
ولم يكن من بين كل الرجال، على الأرض؛ مَن يصدق (ويسير على هُدى) تلك الكلمات، مثل القديس الحكيم شون، وبرغم ذلك، فهو «لم يتصرف حسب تلك الوصية، أي إنَّه قد» تزوج دون مشورة أبويه، فما الحكمة في ذلك؟»، فأجابه منشيوس: «لو كان أبلغهما بهذا الأمر، لما كان قد تزوج على الإطلاق؛ كانت تقاليد الزواج تتبع قواعدَ وأعرافًا استقرت عليهما المفاهيم والعادات؛ فلا بد أنَّه لو استشار والديه — حسب تلك التقاليد المعهودة — لما حظي بموافقتهما؛ مما كان من شأنه أن يُثير المرارة في نفسيهما، فمن ثَم، حسم «شون» أمره بعدم إبلاغهما بما استقر عليه في أمر زواجه.»
وعاد وانجان يقول له: «الآن فهمت لماذا أخفى شون زواجه عنهما، لكن الأمر الذي يحيرني حقًّا هو موافقة الإمبراطور «ياو» على تزويج ابنته له وهو يعلم تمامًا حقيقة إخفاء هذا الخبر عن أهل الرجل، فما الذي دعاه إلى ذلك؟»
فأجابه منشيوس قائلًا: «لأنَّ جلالة الإمبراطور كان يدرك استحالة إتمام الزواج لو عُرِض الأمر على والدَي صِهره»، وعندئذٍ قال له وانجان: «(ثم كان من الوقائع ما قد علمت من أنَّ …) والدَيه طلبا إليه أن يصعد إلى الطابق العُلوي من صومعة الحبوب ليصلح ما تهدَّم منها، فما إن بلغ القمة حتى سحبا السلالم بعيدًا، وقام أبوه (المدعو كوصاو، أي: الرجل الأعمى) بإشعال النار في الصومعة «ونجا شون من الحريق بأعجوبة، وفي محاولة أخرى …» طلب إليه أبوه وأمه أن يغوص في البئر ويزيل كدر مياهه، فما إن نزل فيه حتى ردماه بالتراب «ولم يعلما أنَّه خرج بمعجزة من إحدى الثغرات الجانبية»، وكان أخوه «مِن أبيه، ويُدعى شيانغ» قد قال صراحةً: «أنا صاحب المؤامرات الكثيرة التي استهدفت التخلص من شون، وإليَّ وحدي يعود الفضل في التدابير للخلاص منه؛ إذ عزمت على أن أهب مواشيه ونعاجه وصوامع الغلال التي يملكها لأبيه وأمه، على أن أحتفظ أنا بأسلحته وقيثارته وسيفه الأحمر القاطع (اشتهر السيف تاريخيًّا باسم «ديكون»)، وكذلك زوجتيه الاثنتين، اللتين ستصيران إليَّ، وتبيتان على فراشي»، ثم إنَّه قام وقصد مخدع أخيه (الذي من أبيه) فرآه متكئًا رائق البال يعزف على قيثارته، فتكلم معه قائلًا: «قد اشتقت إليك واشتد بي الحنين.»
وبدا منه الوجهُ وَجِلًا، والروح التي بين جَنبيه انتفضت حيرى، تنزع في كل منزع من الرِّيبة والاضطراب، فقال له شون: «لست أكترث لشيء قدر اهتمامي بمَن ورائي من العاملين والعمال (الوزراء والشعب)، فهل تقوم مقامي وتكفيني مئونتهم؟» ولا أدري — يقول وانجان لمنشيوس — إن كان شون قد تنبَّه، في سياق الأحداث، إلى ما دبَّره شيانغ من خطط للقضاء عليه أم لا.»
فقال منشيوس: «ما كان يخفى عليه ذلك أبدًا؛ إذ عرف دخائل أخيه، وأدرك أفراحه وأتراحه، والحق أنَّه كان قريبًا من مشاعره دائمًا … يضحك لما يسُرُّه، ويبتئس لهمومه وأحزانه.»
وهنالك علَّق وانجان قائلًا: «أوَتظن أنَّ شون، في تلك الساعة، كان يتظاهر بتلك الأحوال؛ «لأمر في نفسه»؟» فأجابه: «لا أظنه كان في حاجة لأن يتظاهر بشيء … «ولْأحكِ لك قصةً، في هذا السياق:» كان رجل، فيما مضى، قد أرسل هديةً لأحد مواطني دولة جنغ … ويُدعى «زيشان»، وهي عبارة عن مجموعة من أسماك الزينة؛ ليتفرج عليها في منزله، فسلمها زيشان لأحد مشرفي المزارع السمكية ليحفظها — فترة من الوقت — في حوض كبير للأسماك، إلَّا أنَّ المشرف وضع السمك على النار حتى نضج، فأكله مريئًا، وراح يقول لزيشان: «كنت لمَّا وضعت السمك في الحوض بدا خامل الحركة، وبعد هنيهة نشطَ وتقافزَ، ثم ما لبث أن غاص في الأعماق حتى لم يعد يُرى له أثر.» فقال له زيشان: «لقد أوى إذن إلى موطنه الآمن … واستقر حيث قُدِّر له أن يستقر»، فلمَّا عاد المشرف إلى بيته قال للناس: «ليس أكذب ممن زعم بأن زيشان على أي قدر من الذكاء، قد أكلت ما أعطانيه من سمك حتى استقر في أعماق بطني، ولما رويت له حكاية الأسماك اللائذة بالأعماق لم يكذِّب شيئًا مما قلت؛ بل زعم أنَّها لاذت بمستقرها الذي قدر لها أن تبقى فيه أبدًا.» فاعلم أنَّ الحصيف العاقل، يمكن أن يتعرض للاحتيال أو الخديعة، لكن مستحيل أن ينطلي عليه، أبدًا، هذيان الخرافة المنافية للمنطق، المجافية للمعقول، ولقد ذهب شيانغ إلى أخيه شون، الذي لم تساوره الشكوك في مشاعر الود الطبيعية بين إخوة البيت الواحد، فما الداعي إذن لأن يتظاهر شون بالبِشْر والتهلُّل في وجه أخيه؟!»
(٩–٣) ذهب وانجان إلى منشيوس، وسأله قائلًا: «كيف يمكن أن نصدق ما قام به شون — وقد ارتقى سُدة الحكم إمبراطورًا (ابن السماء) فوق الممالك — من أنه اكتفى بنفي أخيه شيانغ (أخيه غير الشقيق) خارج البلاد، وهو الذي دأب على تدبير المؤامرات والدسائس للقضاء عليه؟»
فأجابه منشيوس، قائلًا: «الحق أنَّه أقطع أخاه بعض إقطاعات (بوصفه أميرًا تابعًا للقصر الحاكم) برغم ما ردَّده البعض (كذبًا) من أنَّه قام بنفيه خارج الوطن»، فقال وانجان: «قد اتخذ شون «عدة» قرارات تقضي بنفي «كون كونغ» إلى منطقة «يوتشو»، وإبعاد «هواندو» إلى جبل «تشونغ»، وطرد «سان مياو» إلى بلدة سان سوي «النائية»، وإعدام «كون» (يُقال بأنَّه والد الملك ياو من أسرة شيا الملكية) فوق جبال «يو»، وبصدور تلك الأحكام ونفاذها في حق أولئك المذنبين الأربعة، خضعت الممالك وأذعنت لجلالة الملك شون، فاستقرت الأحوال، بعد أن استقر في وعي الناس جميعًا أنَّ العقاب قد طال رءوسًا قاسية ظالمة تناءت عن الإنسانية والرحمة، غير أنَّ شيانغ، وهو أشد الجميع غلظةً وقسوةً ومجافاةً للإنسانية، تم إقطاعه دويلة «يوبي»، فأيُّ ذنبٍ جناه أهل يوبي حتى يصير شيانغ أميرهم؟ أمن المعقول أن يسلك الحكماء القديسون الذين يعرفون الإنسانية والرحمة على هذا النحو «تجاه القضايا الإنسانية الكبرى؟» أمعقول أن تأتي أحكامهم رادعةً حاسمةً على أي فرد من الناس دون إخوتهم [أحكام قاسية ضد الغير؛ إقطاعات وافرة للإخوة والأقارب]؟»
فردَّ عليه منشيوس قائلًا: «إنَّ العاقل الرحيم لا يحمل على أخيه إصرًا، ولا يطوي جوانحه على بغضه والكيد له؛ بل يتودَّد إليه ما أمكن، ويتمنى له الرفعة والمجد، يعطف عليه، ويرجو له الثروة والجاه، «ثم إنَّ الإمبراطور شون قد أقطع أخاه دويلة يوبي» ليمكنه من الفوز بالمال والجاه العريض معًا، إنَّه الحب والمودة بين أفراد العائلة»، [في معنى، ما، هو قرين الطاعة وروح التعاون الأسري].»
وعندئذٍ، قال نانجو: «فمَن ذا الذي أشاع حكاية … «النفي خارج البلاد» … وما مغزى هذه الكلمة «في مثل هذا السياق»؟»
قال منشيوس: «لم يكن لشيانغ أن يتصرف، كما يحلو له في شئون دويلته؛ مما دعا جلالته إلى إيفاد عددٍ من الموظفين الكبار المسئولين عن تصريف شئون البلد وجباية الضرائب إليه، فمن ثم، «راجت مقولة:» النفي خارج البلاد، «ولا أدري» كيف يمكن لشيانغ أن يبطش بالناس «في دويلته» أو أن يستبد بالحكم على هواه؟ ثم، (وبالرغم من كل ما قيل ﻓ…) إنَّ جلالته يحرص على الالتقاء به دائمًا؛ حيث إنَّهما حريصان على المواظبة على اللقاء من آنٍ لآخر؛ حتى تردَّدت عبارة «في القصر الحاكم» مفادها: «لا داعي لانتظار مراسم تقديم الهدايا إلى القصر؛ نظرًا لما تمليه الضرورات السياسية من دعم العلاقة مع دويلة يوبي» (وهي الكلمات التي صيغت، على نحو خاص، لتفيد المعنى المشار إليه فيما سبق).»
(٩–٤) ذهب شيان تشومن (تلميذ منشيوس) إلى أستاذه — الشيخ الحكيم — وسأله قائلًا: «هناك قول دارج مفاده أنَّ: «أعظم الناس خلقًا، لن يحظى لدى ملك الملوك بمنصب ذي شأن، لن يتخذه أبوه ولدًا «يستكثر أبوه على نفسه أن يكون له ولد عظيم الأخلاق»، وسيرى الملك أنَّه أجدر بما هو أرفع، وليس هناك أرفع من الجالس على العرش!» وعندما اعتلى شون سُدة العرش الملكي، وأحضر الملك الأعظم «ياو» كل الأمراء إليه وصار في مقدمتهم وهم يسيرون إليه، فكان الجميع يتقدمون صوب الجهة الشمالية؛ حتى والد الملك شون (المدعو كوصاو) كان يتطلع مثلهم جهة الشمال، فلمَّا وقعت عين ابنه (جلالة الإمبراطور شون) عليه ارتبك وظل حائرا هنيهة، وفي ذلك يقول كونفوشيوس: «كان الخطر يحدق بالممالك كلها … في تلك اللحظة … كان الخطر أقرب إلى الجميع من أي شيء!» ولا أدري يا سيدي إن كانت تلك الأقوال صحيحةً أم لا؟»»
وأجابه أستاذه قائلًا: «كلَّا، ليس في ذلك كله شيء صحيح على الإطلاق؛ فتلك أقوال لا ينبغي للعاقل ترديدها؛ بل هي جديرة بأن تصدر عن القبائل الهمجية الواقعة إلى الشرق من دولة تشي، «فالصحيح …» أنَّ الملك ياو لمَّا بلغ من الكِبر عتيًّا، أسند إلى شون مهمة القيام بالإشراف على شئون الإمبراطورية وكيلًا عنه؛ ليخلفه في أداء ما لم يقدر عليه هو بنفسه، وقد ورد في كتاب «ياوديان» (أي معجم الأباطرة أو «ديوان ياو» وهو يرصد وقائع تنازل الملك ياو عن العرش لخليفته شون، ويُظهِر جانبًا من وقائع فترة مبكرة من تاريخ الصين) ما نصه: «فلما انقضت ثمانية وعشرون عامًا كاملةً، تُوفِّيَ «الملك ياو» فأقام الناس الحداد مدة ثلاث سنوات، مثلما يفعلون في وفاة آبائهم وأمهاتهم، «وخلال تلك الفترة» توقَّف عزف الموسيقى في كل أنحاء الممالك (حرفيًّا: فيما بين البحار الأربعة»)، وكان كونفوشيوس قد قال ذات مرة: «لم تسطع في كبد السماء شمسان، ولا قام على رأس بلد واحد ملكان يحكمان.» … ولئن كان شون قد تولى مهام الحكم ملكًا متوجًا (قبل وفاة الملك ياو) فلا بد أنَّه كان على رأس الأمراء والدويلات التي أقامت حدادًا طوال ثلاث سنوات، وهو ما يعني (ضمنيًّا) قيام حاكمين اثنين على عرش بلد واحد «في وقت واحد».» فقال تشيان تشومن: «قد عرفت السبب — فيما شرحت لي — في عدم إسناد منصب وزاري لياو في البلاط الملكي تحت قيادة شون، وقد جاء في كتاب الشِّعر القديم ما نصه:
فلئن كان الأمر كذلك، فهل لي أن أسألك عن السبب في استبعاد «كوصاو» — وهو أبو الملك — من أي منصب وزاري، بعد اعتلاء شون سدة الحكم؟» فأجابه منشيوس: «إنَّ الأبيات التي استشهدت بها من كتاب الشِّعر لا تُريد المعنى الذي قصدتَ أنت إليه؛ بل يقول الشاعر، من خلالها: إنَّه يبذل جهده وطاقته كلها في خدمة جلالة الملك، حتى لم يعد لديه ما يقوم به من واجب العمل على راحة أبويه، فكأني بالشاعر يريد أن يقول: «صارت كل المهام والواجبات تتعلق بمصلحة القصر الحاكم، حتى لم يعد للفرد، أي فرد (بما فيهم أنا نفسي — الشاعر نفسه —) أية طاقة مدخرة لتصريف الشئون الفردية.»
ومن هنا، فلا بد أن يعيَ مفسرو الشِّعر بأنَّه لا يحق لهم تحميل العبارة الشِّعرية ما لا تحتمل بسبب فهمٍ مغلوط للفظة أو كلمة، ولا يجب إغفال القصد العام للمقولة الشِّعرية كلها جريًا وراء تأويل متكلف لعدة أبيات قليلة، فلا بد من الاستدلال على المعنى العام من روح النص التام ومغزاه الأصيل؛ حتى تثبت أركان التفسير الصحيح؛ أما التفرغ و«التحذلق» والتدقيق المتكلف، فلا يُثمر إلا ما يمكن أن نفهمه — مثلًا — من أحد أبيات قصيدة «يون هان» «نهر المجرة»، حيث يقول القائل:
مما يرد في التأويل الحرفي لظاهر معنى الكلمات، أنَّ آل جو قد فنَوا عن آخرهم [والمقصود تشتت جماعاتهم وتبعثرها وليس فَنَاءها].
إنَّ أعظم البر احترامُ الوالدين، وأرفع درجة من احترام الآباء تسييدهم فوق الممالك، وقد قام كوصاو والد الملك نفسه، الذي بادر إلى تقديم أسمى آيات الاحترام والتبجيل، بمنحه موقع السيادة فوق الممالك التي تحت السماء.
وقد ورد من أبيات الشِّعر القديم ما معناه:
«استقبل الملك شون أباه «كوصاو» بكل حفاوة وتبجيل، وقد أكبر والده وبالغ في الحفاوة به وتقديره «حتى كاد ينحني كل جزء في جسده إكرامًا لأبيه، الذي بدا هادئًا راضيًا لا يكدر صفو حياته شيء …» فكيف لنا أن ننكر ما أظهره الأب بنفسه، من رضًا وتقدير لولده وما قام به من أجله؟»
(٩–٥) ذهب وانجان إلى منشيوس، وسأله قائلًا: «هل كان الإمبراطور الحكيم ياو، هو الذي أهدى عرش الممالك لشون؟ هل وقعت تلك الحادثة حقًّا؟» فأجابه منشيوس، قائلًا: «لم يحدث شيء من ذلك قط، فليس للملك أن يهب العرش لأحد.»
وعاد وانجان يسأله: «إذن، فمَن الذي أهدى العرش إلى شون؟» فأجابه:
«كانت السماء هي التي منحته الملك»، فسأله: «هل كانت السماء، وهي تخلع عليه وشاح الملك، قد حدثته بوصاياها؟» فأجابه: «كلَّا، لم تتحدث السماء بكلام؛ بل كان في عظيم خُلقه وحميد سجاياه ما يُشير إليه بأنَّه موضع تقدير سماوي»، فسأل السائل: «كيف يكون في كرم أخلاقه وحُسن سجاياه ما يُشير نحوه بقبول السماء له؟» فقال: «قد يُفضِّل الملك شخصًا محددًا ويرجو من السماء أن تؤيد اختياره، لكنه لا يملك أن يملي على الإرادة السماوية اختيار مَن يخلفه في الحكم؛ وقد يرشح الأمير «للملك» رجلًا ما، يراه «لمنصب» ويراه الأنسب، لكنه لا يمكن أن يُرغم جلالته على تعيينه، وقد يرى كبار رجال الدولة أنَّ امرأً «من بينهم» هو الأكفأ، لكنهم لا يستطيعون أن يجبروا الأمير على ترقيته.
فيما مضى، كان الإمبراطور الحكيم ياو قد اختار شون لخلافته واستشار السماء، فأجابته إلى ما أراد، فأعلن على الناس ترشيحه فقبلوا.
فالسماء لم تقل شيئًا؛ بل كانت أخلاق شون وأدبه وخصاله الكريمة هي التي أوعزت بأن السماء تقبل بمنحة سلطة الحكم فوق الممالك.»
فسأله وانجان: «أريد أن توضح لي المُلابسات التي اكتنفت ترشيح شون للعرش الملكي، وموافقة إرادة السماء لذلك الترشيح، ثم إعلانه على الناس فقَبولهم له … إلخ»، فقال منشيوس: ««كانت البداية» بتكليفه مهمة الإشراف على طقوس القرابين، فكانت الأجزاء الروحانية «الأرواح» مواتية وموافقة تمامًا لقيامة بهذا الدور؛ فلذلك قيل إنَّ السماء أيدت ترشيحه، فلمَّا أُسندت إليه مهمة الشئون الحكومية، فقد أظهر السداد في عمله، مما أثلج صدور الناس بقضاء حوائجهم؛ فلهذا قلتُ بأنَّ الناس قد رضيت به «حاكمًا»، فلمَّا كانت السماء قد أبدت رضاها باعتلائه سُدة الحكم، بالإضافة إلى موافقة الإرادة العامة لأهل الممالك، قلت بأنَّه لا يجوز لحاكم أن يمنح عرش الملك لكائنٍ مَن كان.
كان شون قد ساند الحكيم ياو، في حكم البلاد مدة بلغت ثمانية وعشرين عامًا، ولم تكُ تلك إرادة بشر؛ بل كان قضاءً من السماء. وكان لما مات ياو وانقضت بعد موته مدة الحداد المقررة، قام شون واعتزل الناس؛ حيث أقام «في مكان قصيٍّ» جنوب نهر «نانجه»؛ وذلك ليعطي الفرصة لولد ياو أن يرث حكم البلاد بغير نزاع، غير أنَّ أمراء الدويلات «القادمين إلى عاصمة الممالك» كانوا يقصدون إليه دون ابن الإمبراطور الراحل، وكذلك فعل المتقاضون إلى المحاكم «إذ وفدوا عليه ليقضي بينهم في نزاعاتهم»، وكثيرًا ما تردد عليه المغنُّون والمدَّاحون (شعراء المديح) دون أبناء الملك المتوفَّى؛ فمن ثم قلت بأنَّه: «اعتلاء العرش» قرار من السماء.
ثم إنَّ شون عاد إلى العاصمة، وقام حاكمًا فوق عرش الممالك (برغبة الناس وإرادة السماء)، ولو كان قد انتزع الحكم عنوةً، ودخل إلى القصر الملكي بالقهر، وخلع الأمير عن الحكم بغيًا واعتداءً بغير سند من رضا السماء، لعُدَّ قيامه على منصة الحكم اغتصابًا للعرش.
وقد ورد في كتاب «تايشي» «البيان الأعظم»: «قد نظرت السماء بعيون الناس على الأرض، وسمعت بآذانهم، فوافقتهم فيما رأوا وسمعوا» … وهو المعنى الذي يُلخص الأمر كله.»
(٩–٦) ذهب وانجان إلى منشيوس، وسأله قائلًا: «كثيرًا ما يرد في الأقوال الشائعة بين الناس أنَّه: «ما كاد يأتي زمان حكم الإمبراطور «يو» حتى كانت الأخلاق قد انحطت، ولم يعُد يقوم على عرش الممالك الحكماء؛ بل الأمراء من أبناء الملوك»، فهل كان الأمر على هذا النحو حقًّا؟»
أجابه منشيوس، قائلًا: «غير صحيح على الإطلاق، لم يكن الأمر كذلك، فالإرادة السماوية «لا تُخطئ التقدير؛ فهي» إذا أرادت أن يكون الحكم للحكماء، فسيصير الأمر إليهم، وإذا أرادت أن يكون للأمراء، فلن يكون لغيرهم.
كان الحكيم القديس شون — فيما سلف من الزمان — قد استشار السماء في أن يخلفه «يو» على العرش، ثم مات شون بعد سبعة عشر عامًا، فلما انتهت سنوات الحداد الثلاث، ذهب يو إلى مدينة يان تشن معتزلًا شئون الحكم؛ وذلك ليتسنَّى لابن الإمبراطور شون أن يرث عرش أبيه؛ إلا أنَّ قلوب الناس كانت تميل إليه، فحدث معه مثلما حدث بعد وفاة الملك ياو من إغفاء الطرف عن الأمير «الوريث الشرعي» والإقبال على الملك شون؛ وبدوره، فقد استشار الإمبراطور «يو» أمر السماء في تنصيب «إي» (تُنطق كما في كلمة «إيزيس»)، وحدث أن قضى «يو» نحبه بعد سبع سنوات، فلمَّا انقضت مدة الحداد المعهودة (ثلاث سنوات)، ذهب «إي» ليقيم في العزلة شمالي جبل «جي» ليتيح الفرصة للأمير، وُلد «يو» ليقوم على عرش الحكم خلفًا لأبيه الملك الراحل، إلا أنَّ الوفود الرسمية وجماعات المتقاضين أمام المحاكم لم تُلقِ بالًا (هذه المرة) إلى الرجل المعتزل وراء الجبل «إي»؛ بل قصدت جميعها إلى تشي (ولد «يو») وهم يهتفون تأييدًا له بوصفه «ابن مليكنا وسيدنا» … (على حد تعبيرهم)، ولم يكن المدَّاحون والشُّعراء يتغنون بالمعتزل «إي»؛ بل طافوا «في الأنحاء» يهتفون للأمير «تشي» قائلين عنه «إنَّه أميرنا وابن مليكنا!»
ولم يكن للأمير دانشو (ولد «ياو») أن يحظى بالملك، ولا كان ابن الملك شون ليقدر على أن ينال المجد، ولئن كان الملك شون خيرَ سندٍ لسلفه «ياو»، وكان «يو» خير معين للملك شون على مدى السنوات الطوال، حتى كانت العامة تلهج بذكرهم؛ لما نالوا من الخير والنعمة إبان حكمهم؛ فقد كان الأمير تشي رجلًا فاضلًا عاقلًا، وقد أخذ على عاتقه أن يواصل ما بدأه الحكيم القديس شون من سياسة رشيدة.
وقد كان «إي» خير أعوان الملك «يو»، غير أنَّه لم يمكث زمانًا طويلًا، ولا كانت له على الناس أيادي الفضل الكثيرة «التي كانت للسابقين».
قد تفاوتت الأزمان بين الملوك: شون – يو – إي، وتراوحت الأيام فيما بين سِني حكمهم، وكان من نسلهم أمراء تفاوتت أقدارهم في الحكمة والفضل، فكان ذلك كله تدبير السماء، إذ لم يكن باستطاعة بشر، مهما أوتي من طاقةٍ، أن يبلغ في ذلك مبلغًا ذا شأن.
أما وقد بلغَت الأمور حدودًا لم يكن في طاقة أي تصوُّرٍ أو خيالٍ أن يبلغها، فهذا أمر من تدبير السماء، وأن تصل الغايات إلى مصائر لم تخطر على بالٍ فتلك هي إرادة الأقدار.
ولم يكن لشخص عادي، من العامة، من أوساط البسطاء أن يصل إلى مقام الحكم الملكي الرفيع، إلا بما حاز من أخلاق وفضائل تُضارع ما حازه الحكيم شون، وتزكية أبناء السماء (الأباطرة الحكماء) له [لم يكن لرجل بسيط أن يعتلي الحُكم حقًّا إلا بما زكَّاه به الملوك، فمثلًا:] لم يتمكَّن كونفوشيوس — وهو المهذب الحكيم الفاضل — من أن يبلغ تلك الدرجة العالية (العرش الحاكم) «للسبب الذي سقناه آنفًا»، وعندما يصبح تعاقب اعتلاء العروش الحاكمة صيرورةً طبيعيةً، فإنَّ السماء تُقصي عن الحكم «أولئك الطغاة الجبارين من أمثال:» الطاغية جيه (أسرة شيا الملكية)، تشو (أسرة شانغ)؛ بل آخرين لم يبلغوا أصلًا سُدة الحكم من أمثال: «الأمراء»: «إي»، «إيين»، «جوكون» (برغم أنَّه كان فاضلًا حكيمًا). ولم يبخل إيين على الملك «طانغ» بالمؤازرة والدعم المطلوب، حتى دانت له الممالك بالخضوع وتمكَّن من توحيدها تحت رايته، فلما توفِّي الملك «طانغ» لم يُقدَّر ﻟ «تاي دينغ» أن يخلفه على العرش، «ثم لم يلبث أن» مات، ثم جاء «واي يين» فتولى مقاليد الحكم لمدة سنتين، وخلفه «جون ون» ليبقى في الحكم أربع سنوات، «ثم جاء» «تايجيا» الذي أطاح بالقوانين واللوائح والمبادئ التشريعية التي أقرها الملك «طانغ»، فقام إيين بإقصائه فورًا عن العرش ونفاه إلى بلدة «تونغ»، فما هي إلا ثلاث سنوات حتى أقر «تايجيا» بذنبه، واعترف بخطئه، ثم أعلن ندمه والرجوع عما اقترفه؛ بل يذكر له أنَّه، أثناء إقامته ببلدة تونغ، كان حريصًا على أن يسلك «مع الجميع» على أساس من العدل والإنسانية، فلمَّا مرت ثلاث سنوات «أخرى»، كانت لديه الشجاعة في أن يدرس الانتقادات التي كان يوجهها إليه إيين، وكان من الحكمة بحيث استطاع أن يتعلم دروسًا كثيرةً ويستفيد منها، وتمكَّن أخيرًا من أن يعود إلى العاصمة «بو» ليصبح حاكمًا «لإحدى الدويلات»؛ أما جوكون، فلم يتيسر له أن يصل إلى سُدة العرش الملكي، فكان يشبه في ذلك «حال» «إي» في أسرة شيا الملكية، و«إيين» إبان عهد شانغ.
وقد قال كونفوشيوس (في هذا الشأن): «إذا كان الحكم في أسرتَي «طانغ» (الملك ياو) و«يو» (يقصد الملك شون) قائمًا على اختيار الحكماء والفضلاء، فإنَّه في الأسر الثلاث: شيا، شانغ، جو، وأحفادها كان وراثيًّا، والأمر بين هؤلاء وأولئك سيانِ؛ فلم يكن ثمة فرق».»
(٩–٧) ذهب وانجان إلى منشيوس، وسأله: «يقول الناس «في أحاديثهم العابرة» إنَّ «إيين» قد سعى في أن يجد حظوة لدى الملك «طانغ» متنكرًا في زي طبَّاخ، فهل هذا صحيح؟» فأجابه منشيوس: «كلَّا، لم يكن الأمر هكذا؛ إذ كان إيين يعمل مزارعًا على حدود دولة تشين (دويلة قديمة) وكان محبًّا لسيرة وسياسة كلٍّ من الحكيمين «ياو» و«شون»، وإلى جانب ذلك فقد كان له اعتقاد عظيم في التمسك بالعدل والمبادئ «الأخلاقية»؛ حتى إنَّه ما كان يلتفت بطرف عينه إلى أموال الممالك كلها، حتى لو صارت بين يديه، ما دامت متحصلة بطريق يُنافي صحيح العدل وثوابت الإنسانية، وما كان ليمُد يده إلى آلاف الجياد الأصيلة لو سيقت إليه «موثوقة الأعناق جنبًا إلى جنب»، ما كانت بغير الطريق الأخلاقي الذي آمن به، والمبدأ الذي أخذ به نفسه، حتى إنَّه ما كان ليأخذ من أحد أو يعطيه مثقال ذرةٍ، إلا إذا كان بوسيلة تتفق مع ما اعتقد بصحته.
وأرسل إليه الملك طانغ الرسل يحملون إليه الهدايا الثمينة «تشجيعًا له على المُضي إليه والعمل عنده»، فما كان منه إلا أن قابل ذلك بغير اكتراث قائلًا: «ما الذي يدعوني إلى قبول هدية الملك؟ وأين هي من هدوء النفس ورخاء البال الذي أجده وسط المزارع؛ أهنأ بتأمل مبادئ «ياو» و«شون» وسيرتهما العطرة؟» وألحَّ الملك في إرسال الهدايا إليه يستميله بشتى الطرق، وما زال به حتى عدل عن موقفه، قائلًا في نفسه: «بدلًا من القعود عند أطراف المزارع، أتأمَّل سيرة البطلين القديسين «ياو» و«شون»، فلماذا لا أحاول أن أحثَّ رجال هذا الزمان على التأسي بسيرة الشيخين الحكيمين، لماذا لا أجرِّب أن أجعلهما المثل الأعلى الذي يَقتدي به الناس في كل الممالك؟ لماذا لا أُعطي نفسي فرصةً أن ألمس مباشرةً، تجسيد تلك الأفكار في السلوك الواقعي؟
لقد أوجَدَت السماء كل هؤلاء البشر؛ كي يهدي السابق منهم اللاحق، ويحرك الأول منهم وعي وإدراك الآخر.
فلمَّا كنتُ قد سبقتُ بالوعي «كل الناس في أنحاء الممالك» فلا بد من أن أجعل ذلك المنهاج، الذي وعيته (سياسة ومبادئ ياو، شون) هو الوسيلة التي أدفع بها وعي الناس، فما النفع إن لم أبُث فيهم روح ذلك المنهاج إذن؟ «ومَن يفعل ذلك غيري؟».» ورأى إيين، بعينَي الفكر أنَّه إذا تقاعس عن إرشاد الناس إلى المغنم الأخلاقي الكامن في المبادئ المقررة على يد «ياو، وشون»، فكأنه يدفع الناس دفعًا إلى هاوية لا قرار لها، فأخذ على عاتقه تلك المهمة الكبرى، وهو الأمر الذي جعله يذهب، من تلقاء نفسه إلى جلالة الملك طانغ، ليقنعه بضرورة غزو الطاغية «جيه» (آخر ملوك أسرة شيا)؛ ليخلِّص الناس من بين براثن حكمه الجائر.
«أمَّا بخصوص أنَّه تنكر في زي طبَّاخ ليُقابل الملك ويقنعه بآرائه … إلخ» فلم أسمع قط عن إنسان اتخذ من الأساليب الملتوية طريقًا للإرشاد والتقويم وتبيان وجهة النظر «الأخلاقية»، ناهيك عن أن يتنكر «بطريقة مهينة» ليستطيع إقناع الممالك بآرائه «الإصلاحية» الفاضلة. «أعرف أنَّ» لكل قديس طريقته الفريدة وأسلوبه المميز؛ فمنهم مَن يؤثر أن ينأى بنفسه عن دائرة النفوذ الكبرى (الملك الحاكم)، ومنهم مَن يفضِّل التقرُّب إليه، وهناك مَن يهجرون وظائفهم الرسمية، والبعض الآخر — على العكس من ذلك تمامًا — يُحاول التشبث بعمله الوظيفي بكل جهده. فالعنصر الثابت في ذلك كله (القاسم المشترك) يتمثل في محاولة التمسك بعفة الناس ونقاء الضمير. «أمَّا بخصوص سؤالك الأساسي، فإجابتي …» هي: «إنَّ كل ما سمعته هو أنَّه حاول أن يقنع الملك طانغ بتطبيق منهج «ياو» و«شون»، لكن لم يبلغني أي شيء بخصوص اشتغاله بالطهي وتنكره في زي طبَّاخ … إلخ.»
وقد جاء في كتاب «يين شوين» [مواعظ إيين]، ما معناه: «أول عقاب نزل من السماء حاق بقصر «الملك» جيه من أسرة شيا، وكان الحاكم المذكور هو الجاني على نفسه؛ فلم يقع في التهلكة إلَّا بيده هو نفسه؛ أمَّا بالنسبة لي أنا «إيين» فلست إلَّا مجرد رجل بسيط، قمت ذات يوم، فخطوت بضع خطوات على الطريق قادمًا من بلدة «بو» عاصمة أسرة شانغ.»
(٩–٨) ذهب وانجان إلى الشيخ الحكيم منشيوس، وسألته: «قيل إنَّ كونفوشيوس أقام عند أحد الأطباء المتخصصين في علاج الأورام (وهو في الوقت نفسه أحد كبار الموظفين المقربين من حاكم دولة وي)، وذلك أثناء إقامته في دولة وي، وقيل إنَّه لما ذهب لزيارة دولة تشي، أقام في المنزل أحد خصيان القصر الملكي (واسمه، «جيهوان») فهل هذا صحيح؟»
أجابه منشيوس قائلًا: «كل هذا غير صحيح؛ بل هي محض أقاويل ليس وراءها إلَّا إثارة التشكيك بغير طائل، «والحق» أنَّ كونفوشيوس كان يقيم في دار «يان تشويو» أثناء زيارته لدولة وي، وكانت زوجة هذا المضيف هي شقيقة امرأة السيد المهذب «زيلو» (أحد تلاميذ كونفوشيوس)، ثم إنَّ «يان تشويو» قال لزيلو: «إنَّ إقامة كونفوشيوس في بيتي، تُعزِّز من فرصة حصولي على منصب حكومي بارز في دولة وي» … فنقل زيلو هذا القول إلى كونفوشيوس، فقال له:
«فليكن ما يشاؤه القَدر!» وبالفعل فقد التحق كونفوشيوس بالوظيفة عارفًا بقواعد الآداب وملتزمًا بالأصول الأخلاقية، ثم إنَّه خرج منها — مثلما دخل في بادئ الأمر — دون أن يُضيِّع مبادئه أو أن يفقد اقتناعه بصحة منهاجه، وكان يردد باستمرار — في الفوز أو الخسارة — عبارته المأثورة: «فليكن ما تقضي به الأقدار.» ولو «صحَّ أنَّه» أقام بمنزل كبير المتخصصين في أمراض الأورام، لكان في ذلك أكبر انتهاك لأصول المعاملات والقواعد الإنسانية، وتجاوز «لما عُرِف عنه من إيمانٍ ﺑ» أحكام القدر.
ولم تكن حال كونفوشيوس في كل من دولتَي «لو» و«وي» على خير ما يرام؛ بل قطعت به السبل، ولقي الحظ العاثر وكانت له الدنيا بالمرصاد؛ إذ تعرَّض (بالإضافة لكل ذلك) إلى محاولة اغتيالٍ، دبَّرها له هوان توي (أحد سائسي الخيل)، فاضطر إلى التنكر ومغادرة دولة سونغ خفيةً تحت جنح الظلام، ولمَّا كانت أحواله قد اضطربت للغاية، فلم يكن أمامه إلَّا أن يقيم في دار حارس المدينة «المدعو جنزي، وقيل إنَّه اشتغل بالتدريس في فصول خاصة لبعض الوقت» وعمل لفترة، وزيرًا لوالي دولة تشين.
ولطالما قيل إنَّ مَن أراد أن يعرف سمات شخصية السياسيين أو رجال القصر، فلينظر إلى ضيوفه الدائمين، وإذا أراد المرء أن يعرف خبيئة المسئولين السياسيين «فيما وراء حدود الأوطان» فليراقب حال مضيفيه؛ «فبالضيف يُعرف المُضيف، والعكس صحيح!».
لو كان كونفوشيوس قد أقام حقًّا لدى معالج القروح والخصِي التابع للقصر (جيهوان) لما استحق أن يحظى بالمكانة اللائقة والشهرة الذائعة، والاحترام الهائل الذي اقترن به وصار علامة عليه.»
(٩–٩) ذهب وانجان إلى منشيوس، وقال له: «بلغني، فيما يقول الناس، أنَّ «باي ليشي» (أحد كبار رجال دولة يو) أُخِذَ أسيرًا في دولة تشو، عندما سقطت بلاده، فافتداه «موكون» (حاكم تشين) لما عرف عنه من فضله وحكمته، وولاه منصبًا بارزًا عنده، فمهَّد له ليؤسس إمبراطورية عظمى فوق «الدويلات». قيل إنَّ باي ليشي هذا قد باع نفسه بخمس قطع من جلود الماعز عند أحد تجار المواشي في دولة تشين؛ بل «وصل به الهوان أن» يعمل راعي أبقار؛ وذلك ليتحين فرصة مقابلة موكون (حاكم تشين) فهل لهذه الرواية سند من الحقيقة؟»
قال منشيوس في ردِّه عليه: «ليس هناك أدنى قدر من الصحة لهذه الأقوال؛ بل هي أراجيف أذاعها المضللون. وقد علمت أنَّ باي ليشي، وهو من كبار رجال دولة يو، رأى — مثل كل الناس حوله — أهالي دولة جين يأتون إلى البلاط الملكي في دولة يو بالهدايا الثمينة؛ من يشب (أحجار كريمة) وجياد أصيلة، يرجون السماح لقواتهم بالعبور من أراضي يو للهجوم على دولة «قوا»، فقام الوزير الأعظم في يو (المدعو … كونغ جيتشي) ونصح للحاكم بعدم الموافقة على ذلك الطلب، لكن باي ليشي لم يكن يرى هذا الرأي، وكان يعلم تمام العلم أنَّ حاكم دولة يو لن يقبل النصح — في هذا الموقف — فغادر «باي ليشي» البلاد قاصدًا إلى دولة تشين، وكان عمره وقتئذٍ قد تجاوز السبعين، وهل يُعقل أن يُفكِّر رجل قد بلغ ذلك السن، وهو معروف بالحكمة، في أن تكون وسيلته المناسبة — للالتقاء بحاكم تشين — أن يتحايل على ذلك برعي الأبقار، وهو يعرف أنَّ مثل هذا التصرف مشين للغاية ويحط من قدره، وهل من الممكن أن نتهم رجلًا بالغفلة لأنَّه آثر الابتعاد والصمت ولم يحاول أن يثني الحاكم عن قراره، وهو يعرف أنَّ مثل ذلك الحاكم ليس ممن ينصاعون للنصح؟ أيمكن أن نتهم امرأً بعدم التبصُّر والتحوُّط؛ لأنَّه بادر إلى الخروج من مواطن التهلكة والابتعاد إلى أقصى الأرض، وقد عرف أنَّ الرأس المدبِّر للأمور في دولة يو (حاكم البلاد) في طريقه المحتوم للهلاك؟ وقد آواه حاكم تشين — وقتئذٍ — وهو الرجل المشهود له بالمكانة والاقتدار، فلم يبخل باي ليشي عليه بما في جعبته من أفكار؛ بل شدَّ من أزره، وصار له عونًا على قضاء أموره؛ فهل نعدُّ ذلك جهلًا منه وغباوةً؟ ثم إنَّه لم يقصر في خدمة سيده حتى صارت دولة تشين أقوى الممالك، وأصبح حاكمها [موكون] سيد البلاد التي تحت السماء، فانتشر ذكره في الآفاق، وطبقت شهرته الخافقين، وتناقل ذكره الأبناء والأحفاد. فهل يمكن أن نصف صاحب الفضل في هذا كله بأنَّه فطير الرأي خامل الفكر؟
أما مسألة أن يبيع المرء نفسه من أجل تحقيق آمال مولاه وطموحاته وآرائه «العنيدة» فهو ما لا يمكن أن يُقدم عليه رجل ساذج، فما بالك بالعاقل الفطِن الكريم؟»
الجزء الثاني
(١٠–١) قال منشيوس: «كان بويي «حكيمًا فاضلًا» يغضُّ بصره عن مشهد السوء، ويعف أذنه عمَّا يتأذى منه السمع، يأنف من أن يخدم حاكمًا غادرًا غشومًا لا يوثق به، ويستغني عمَّن لا يؤتمن من عامة الناس، ينزل إلى ساحة العمل إذا ما استتبت أركان الحكم الرشيد، ويعتزل منصرِفًا عن الانغماس في الشئون العامة، إذا ما عمَّت الفوضى وساد الارتباك. ولم يكن يرضى لنفسه أن يُقيم في ظلال حكومة غاشمة «مع المسئولين المتنفذين»، ولا في موطن يضرب فيه الظلم بأطنابه «مع عامة الشعب»، وكان يتصوَّر أنَّ أيَّة محاولة للاقتراب، أو العيش مع البسطاء تُشبه محاولة الجلوس وسط أكداس من الوحل والطين والحجارة (حرفيًّا: أحجار الفحم)، مع الحرص على ارتداء الزي الرسمي المهيب والقبعة وكل لوازم المكانة الوظيفية المهيبة.
وكان عندما حلَّ زمن حكم الإمبراطور تشو [الطاغية، آخر حاكم في أسرة شانغ الملكية]، ارتحل وأقام وحده على شاطئ بحر بيهاي [يعني: بحر الشمال]، منتظرًا عودة الأحوال إلى الاستقرار والهدوء.
إنَّ سيرة بويي، وذكريات أيامه، ومشاهد التزامه الخلقي، إذا ما تُليت على الأسماع جرَّدت النفوس المتوثبة إلى الاستبداد من الصلف والجور، فعادت نقية شهباء، وانتزعت من بواطن الضعف والتخاذل كوامن الذل والاسترابة، فأصبحت الإرادة أمضى عزمًا، والإقدام الجريء والمبادأة ثقةً وشجاعةً.»
قد تحدَّث إيين فقال: «لا بد من خدمة وطاعة الملك، فما من حاكم إلَّا وجب له ذلك، والعمل فرض على العاملين (كل أهالي الممالك)، فما من أحد إلَّا قام بنصيب من الواجب عليه أداؤه.» «وكان اقتناع إيين تامًّا وكاملًا؛ حتى إنَّه …» كان يحرص على بقائه في وظيفته الرسمية، سواء صَلح الحكم واستقام، أو فسد ودبَّت في أركانه الفوضى، وكان يقول أيضًا: «ما وهبت السماء للبشر الحياة، إلَّا ليُعلِّم الأولون «ممن أوتوا حظًّا من العلم» الآخرين، ويُحرك السابقون «ممن استفاق لديهم الوعي» وعي اللاحقين. ولئن كنتُ قد أوتيت من الوعي ما سبقت به الأهل والعشيرة، فلن أتوانى عن أن أقوم بينهم مرشدًا لمبادئ «القديسَين الحكيمَين: ياو، وشون».» … وحجته في ذلك أنَّ أي تقصير منه في توجيههم نحو استلهام أفكار ومبادئ ياو، وشون، سيكون بمثابة دفعهم للسقوط في الهاوية؛ فمن ثَم أراد لنفسه أن يتحمَّل أعباء تلك المهمة على عاتقه.
ولم يكن «ليو شيا هوي» يستشعر الحرج في أن يكون عاملًا لدى ملك فاسد، ولا كان يرى في الوظيفة الرسمية المتواضعة ما يُمكن أن يمس كرامته أو يُلحق الإهانة؛ «فلم يُغادر وظيفة عَمِل بها طوال حياته»؛ بل ظلَّ حريصًا، أثناء عمله بالقصر الملكي، على إبراز جدارته والتفاني بكل طاقته، والعمل طبقًا للقواعد (المبادئ الأخلاقية)، ولم يكن يضجُّ بالشكوى إذا أُهمل شأنه، ولا يُساوره القلق إذا ما ألمَّت به المحن، لم يكن يضيق صدره بصحبة البسطاء من الناس؛ بل كان يتحمَّس لمودتهم، ولم يُغادر لهم مجلسًا إذا ما التأم وإياهم مجلسه، ولطالما ظلَّ يُردد مقولة «أصبحتْ مثلًا سائرًا من بعده»: «لكلٍّ شأنٌ، ولي شأني [حرفيًّا: أنت هو أنت، وأنا هو أنا]، ولن يشينني عيب صاحبي، ولن يمس نقائي ما شاب الناس أو ضار.»
لذلك؛ فقد صار «ليو شيا هوي» نموذجًا تنشرح به الصدور الضيقة، وتقرُّ به العيون والنفوس التي أضنتها غمرات الأحوال.
عندما كان كونفوشيوس في طريق الرحيل عن دولة لو «وقد استقرَّ عزمه على السفر، وأراد أن يحمل معه زادًا يكفيه، فقد …» أسرع إلى حفنات من الأرز المبلل بالماء، فانتزع لنفسه شيئًا منه، ولم ينتظر حتى يحين إنضاجه «فقام ومشى، فلمَّا أوشك على عبور حدود دولة لو — مسقط رأسه — قال:» «مهلًا أيها المسافر … اتَّئد في خطوك، واعبر على رِسْلك، فذلك ما ينبغي لك أيها الراحل عن وطنك!»
وهكذا، فقد أسرع عندما كانت السرعة واجبةً، وأبطأ وقتما كان الإبطاء ضرورةً، وكان — قبلها — قد تنحَّى عن منصبه؛ إذ كان التنحي لازمًا. والتحق، بعد ذلك، بالعمل عندما آذن الوقت بذلك … ذلك هو كونفوشيوس، وتلك هي طبيعته!».
وأضاف منشيوس، قائلًا: «كان بويي من أشد القديسين عفةً، وترفعًا «عن الحاجات الأنانية المادية» وكان إيين، أكثر الجميع التفاتًا إلى «إقامة المبادئ العليا عبر» العمل الوظيفي؛ أما «ليو شيا هوي» فقد كان أعظم القديسين بساطة، في حين كان كونفوشيوس — من بينهم جميعًا — هو أعظم مَن كان يدرك أحوال زمانه وطبيعة ظروفه الماثلة في عصره، ويُمكن القول بأنَّه كان التجسيد الكامل «للأفكار كلها» [وإذا استعملنا تشبيهًا من الموسيقى، لقلنا:] إنَّ دوره أشبه ما يكون باللحن الموسيقي الجميل؛ إذ تبدأ أول نغماته بعد صوت دقَّات الطبول، وتختتم أصواته برنَّات الأوتار [حرفيًّا: بعزف وتري على آلة تشينغ]، فلطالما كانت دقَّات الطبول هي مفتتح الألحان، ورنات الوتريات هي خاتمتها، فأول النغمات يتمثَّل في إيقاع «الحكمة» ونهاية الألحان تتجسَّد (تتبلور) في القداسة.
فالحكمة أشبه ما تكون بالمهارة؛ والقداسة مثلها كمثل القوة.
وإذا ضربنا مثلًا لتبيان المعنى «قلنا»: إنَّ الأمر أقرب ما يكون إلى التدرب على فن الرماية بمسافة تبعد عن الهدف مائة خطوة، فالقدرة على الرمي من مسافة مائة خطوة يتوقَّف على مقدار ما يملكه المرء من قوة، أمَّا التمكن من التسديد في قلب الهدف، فلا يُمكن أن يتوقَّف على القوة وحدها.»
(١٠–٢) ذهب بيكون تشي إلى منشيوس، وسأله قائلًا: «ترى كيف كانت الدرجات المالية والاجتماعية المقررة في عصر أسرة جو؟ هلَّا تفضلت بأن تذكر لي نظامها المقرر آنذاك؟»
فأجابه منشيوس قائلًا: «كان من الصعب جدًّا أن تلهج الألسنة بذكر تفاصيل تلك المسائل؛ لذلك فلم يصِل إلى أسماعنا شيء منها، ثم إنَّ أمراء الأقاليم كانوا يسخرون من نظام الدرجات المالية والاجتماعية، ويعدونه ضارًّا «بمصالحهم»، فقاموا بإتلاف كل السجلات والمدونات الخاصة به، إلَّا أنَّ «ذاكرتي» ما زالت تحتفظ بالصورة العامة (الخطوط الرئيسية التقريبية) لنظام الدرجات القديم، «وبيانه كالتالي»:
«تيان تشي» ابن السماء (الإمبراطور الأعظم) الدرجة «الاجتماعية» الأولى؛ «كونغ» الوالي — أو المحافظ — [الحاكم العام] الدرجة الأولى؛ «خو» النبيل، الدرجة الأولى؛ «بو» الشيخ، الدرجة الأولى؛ «تسي» و«ناث» (الوجيه)، [الأمجد]، الدرجة الأولى، ومجموعها خمس درجات.
«جون تسي» الحاكم، الدرجة الأولى؛ «تشينغ» الوزير الأعظم، الدرجة الأولى؛ «شانغ شي» النابه [أو «الدارس»] من المستوى الأعلى، الدرجة الأولى؛ «جون شي» النابه من المستوى الأوسط، الدرجة الأولى؛ «شيا شي» النابه من المستوى الأدنى، الدرجة الأولى؛ ومجموعها ست درجات اجتماعية.
الأراضي المقررة لابن السماء (الإمبراطور الأعظم) تبلغ ألف لي مربع؛ أمَّا المخصصة للوالي والنبيل — كليهما على حدة — فتبلغ مائة لي مربع؛ أمَّا أراضي الشيخ فتبلغ سبعين لي مربعًا؛ وتبلغ الأراضي المقررة للوجيه والسيد المهذَّب — كليهما على حدة — خمسين لي مربعًا، ومجموعها أربع درجات.
فإذا كان مجموع مساحة الأراضي لا يكاد يبلغ خمسين لي من الإقليم، فلا يحق أن يُصبح إقليمًا تابعًا لجلالة الإمبراطور مباشرةً؛ بل يلحق بأمراء الدويلات، ويُسمى فويونغ [إقليم تابع].
يبلغ إقطاع الوزير الأعظم (لجلالة الإمبراطور) من الأراضي مثل ما يملكه النبيل سواءً بسواء، أمَّا إقطاع الموظف العظيم من الأرض فيُساوي ما يوزَّع على الشيخ سواء بسواء، ونصيب الدارس من المستوى الأول يتساوى مع ما يملكه الوجيه والسيد الأمثل.
يبلغ راتب الحاكم العام في الولاية التي تبلغ مساحتها مائة لي مربع، عشرة أضعاف راتب الوزير الأعظم، ويبلغ راتب الوزير الأعظم أربعة أضعاف راتب الموظف العظيم [كبير رجال الحكومة]، أمَّا راتب الموظف العظيم، فيبلغ ضعفي دخل الدارس من المستوى الأعلى، والنابه من المستوى الأعلى يحصل على راتب يُماثل ضعفَي مثيله من المستوى الأوسط، ودارس المستوى الأوسط يحصل على ما يُساوي ضعفَي دخل الدارس من المستوى الأدنى، وراتب الدارس من المستوى الأدنى يتساوى مع ما يحصل عليه الموظف العادي من العامة؛ أي إنَّه يحصل على دخل هو في الأساس بدلٌ وتعويض عن العمل في زراعة الأراضي.
وراتب الحاكم العام في دويلة متوسطة، تصل مساحتها إلى سبعين لي مربعًا، يبلغ عشرة أضعاف راتب الوزير الأعظم، وراتب الوزير الأعظم ثلاثة أضعاف راتب الموظف الكبير، وراتب الموظف الكبير ضعفا راتب الدارس من المستوى الأعلى، وراتب الدارس من المستوى الأعلى ضعفا راتب الدارس من المستوى الأوسط، وراتب الدارس من المستوى الأوسط ضعفا راتب الدارس من المستوى الأدنى، وراتب الدارس من المستوى الأدنى يتساوى مع ما يحصل عليه الموظف البسيط من العامة، وهو دخل يُكافئ بدلَ زراعة الأراضي.
أما راتب الحاكم العام في بلد صغير، لا تزيد مساحته على خمسين لي مربعًا، فيبلغ عشرة أضعاف راتب الوزير الأعظم، وراتب الوزير الأعظم يبلغ ضعفَي راتب الموظف العظيم، وراتب الموظف العظيم يُساوي ضعفَي راتب الدارس من المستوى الأعلى، وراتب الدارس من المستوى الأعلى يُساوي ضعفَي دخل الدارس من المستوى المتوسط، وراتب الدارس من المستوى المتوسط يبلغ ضعفَي راتب الدارس من المستوى الأدنى، وراتب الدارس من المستوى الأدنى يتساوى مع ما يحصل عليه الموظف البسيط من العامة، وهو الدخل الذي يُحسب بدلًا من دخل زراعة الأراضي؛ أمَّا بالنسبة للمزارعين، فقد كان كل مزارع يحصل على مائة «مو» من الأراضي، فإذا ما تمَّ استصلاحها وتسميدها، فقد كان المزارع من الدرجة الممتازة يعول تسعة أفراد، والأقل منه مرتبةً يعول ثمانيةً، والمزارع من الدرجة الثانية يعول سبعة أفراد، والأقل يعول ستة أفراد، والمزارع من المستوى الأدنى يعول خمسة أفراد.
أمَّا بالنسبة للموظف البسيط فقد كان راتبه يتحدَّد وَفقًا لأقسام تلك الدرجات».»
(١٠–٣) ذهب وانجان إلى الشيخ الحكيم وسأله: «هل تأذن يا سيدي بأن تحدثني عن القواعد التي تقوم عليها أُسس الصداقة؟» فأجابه منشيوس: «لا يعتد في الصداقة بالسن، ولا بالمنصب والمكانة، أو الثروة والجاه؛ فالصداقة الصحيحة تستند إلى الأساس الأخلاقي وحده، لا شيء غير ذلك. «ولنضرب أمثلة معروفة في هذا الصدد»، فهذا منغ شيانزي [أحد كبار دولة لو … وهو الوجيه الأمثل، ابن الجاه والشرف] يملك مائة مركبةٍ مجهزة بخيولها، وقد جمعته الظروف بخمسةٍ من أعز الأصدقاء، «من بينهم:» «يوجن تشيو»، و«موجون» وثلاثة آخرون، لا أذكر أسماءهم، وقد كان حريصًا، في علاقته بهؤلاء، ألَّا يظهر بهيئة الرجل صاحب الجاه والمال، سليل الأسر والبيوتات العريقة، ولا كانوا من ناحيتهم ينظرون إلى علاقتهم بصاحبهم من زاوية ما يتفوق به اجتماعيًّا؛ بل كثيرًا ما قامت الصداقة على هذا المنوال بين حكام الأقاليم «حتى الأقاليم الصغيرة». وقد قال «هويكون» (حاكم دويلة «في»، إحدى الدويلات الضئيلة في عصر الدول المتحاربة): «من بين كثيرين صادقتهم، فإنِّي أنظر إلى زيك (تلميذ كونفوشيوس) بوصفه أكثر من صديق، فهو أستاذي ومُعلمي؛ أمَّا «يان بان» فهو أوفى الأصدقاء، وبالنسبة لكلٍّ من «وانغ شون» و«تشان شي» فهما أخلص أتباعي «برغم أنَّهم من الخدم إلَّا أنِّي أصادقهم!».»
ولم يقتصر ذلك الحال على حكام الأقاليم الصغيرة؛ بل إنَّا نجد مثيل ذلك لدى حكام الولايات الكبرى؛ فهذا «بيكون»، حاكم دويلة «جين» الذي قرَّب إليه صديقَ عمره «هاينان»، وربطت بينهما عُرى الود والصداقة؛ لدرجة أنَّ هاينان هذا كان يدعوه إلى منزله، فيذهب إليه ويُجالسه ويأكل معه من طعامه «برغم أنَّ الطعام لم يكن دسمًا، ومع ذلك فقد …» كان يأكل حتى يشبع، ويشرب «الخمر»، فلا يدع في الكأس بقيةً، كما يليق برجل مهذب نحو صاحبه، لتستوفي الصداقة حقها بينهما، لكن الأمر لم يكن ليتجاوز الحدود — على أيَّة حال — فمع كل تلك المشاعر الودية، لم يكن الحاكم العام يُشرك صاحبه في أيَّة موضوعات تتصل بمهام الإدارة الحكومية السيادية، ولم يكن الحاكم العام يدعوه للاشتراك معه فيما يتعلق بحُكم المملكة، ولا في ضبط أحوال البلاد، ولا في الاستئثار بالمخصصات المالية؛ «فقد كان الأساس الذي قامت عليه هذه العلاقة هو أنَّ:» الحاكم يتصرف مثل أي واحد من الدارسين تجاه رجل كلُّ رصيده الأخلاق والمبادئ الإنسانية، ولم يتصرف — هنا — بوصفه المسئول الأكبر الذي يتوجَّب عليه إبداء الاحترام والتقدير لرجل فاضل كريم.
وقد التقى [قديمًا] شون، بالإمبراطور الحكيم «ياو» فدعاه [وكان شون في تلك الأثناء، صهره، زوج ابنته] إلى الإقامة في أحد دور الضيافة التابعة للقصر الملكي، وأقام له وليمة، وأكرم ضيافته للغاية، وتوثَّقت بينهما العلاقة — يومئذٍ — كأحسن ما تكون بين ضيف ومضيف، وصارت بعدها مثالًا لما يُمكن أن يقوم من مودة وعلاقة حميمة بين ابن السماء [الإمبراطور] ورجل من العامة.
إنَّ ما يُبديه الوضيع من احترام لصاحب المكانة المرموقة يُسمَّى احترامَ ذي الوجاهة والشرف الأسمى؛ أمَّا تبجيل ذي الوجاهة للرجل الوضيع، فيُسمى التقدير اللائق لذي الفضل والحكمة والخلق الكريم. «فكلاهما (كلا النمطين من الاحترام) يقومان على مبدأ واحد، فليس ثمة أدنى فرقٍ.»
(١٠–٤) ذهب وانجان إلى منشيوس وسأله: «ائذن لي أن أسألك عمَّا ينبغي مراعاته عند تبادل الهدايا «بين الأصدقاء».» فأجابه: «أشد ما ينبغي مراعاته عندئذٍ، هو الاحترام»، فقال وانجان: ««لطالما سمعت بأنَّ» كثرة التعفف عن قبول الهدية ليس من قبيل الاحترام، فما السبب في رأيك؟»
فقال منشيوس: «عندما يُقدِّم امرؤ فاضل «من مرتبة اجتماعية ذات شأن» هديةً لواحد من الناس، فهو غالبًا ما يظل يفكر بينه وبين نفسه عمَّا إذا كانت الهدية جاءت بوسائل نزيهة تتفق مع قواعد الأخلاق الإنسانية أم لا؛ وذلك قبل أن يوافق على قبوله إياها. فلمَّا عُدَّ ذلك التفكير «على هذا النحو» منافيًا لأبسط قواعد الاحترام، صار رفض الهدية «سلوكًا لا أخلاقيًّا»، ولم يعد الرفض مقبولًا.»
وسأله وانجان قائلًا: «فماذا إذا كان المرء رافضًا قبول الهدية من أعماقه، مع أنَّه لم يقل بفَمِه صراحةً — وإن كان بأسلوب غير مباشر — إنَّه يرفضها، فقد يصوِّر له تفكيره أنَّه لولا البطش والاستيلاء على أموال الناس ظلمًا وعدوانًا لما أمكن تقديم مثل تلك الهدية، ألا يحسن بالمرء حينئذٍ أن يتخذ من هذا الاحتمال تَكِئَةً للرفض؟»
فأجابه منشيوس: «ما دامت العلاقات — بين الناس بعضهم وبعض — قائمةً على أصول الآداب المتعارف عليها، مثلما تلتزم المعاملات الجارية بينهم قواعد السلوك القويم، فإنَّ كونفوشيوس نفسه، «لو كان مخيَّرًا في موضوع الهدايا» لما كان وسعه إلَّا قبول الهدية»، وعاد وانجان يسأله: «فماذا لو قام أحدهم بالسطو على المناطق النائية، فسرق وسلب أمتعة الناس وأموالهم، فلمَّا اجتمع لديه من المال الشيء الكثير راح يغدق الهدايا على أصحابه، فهل يصح قبول هدية من هذا النمط «وهي في الأصل عبارة عن مسروقات» ما دامت تتوسل بالمعاني الطيبة وتسلك قواعد المعاملات؟»
أجابه منشيوس قائلًا: «بل لا يصح قبولها أبدًا، وقد جاء في «كانغ كاو» [لوائح كانغ الرسمية] ما يلي: «إنَّ القتلة والسفاحين، واللصوص، والمعتدين على الناس الذين لا يرهبون الموت ولا رادع يردعهم، أولئك حقَّت عليهم كراهية الناس أجمعين، لا ينبو عنهم واحدٌ أبدًا» … فمثل هؤلاء لا يُجدي معهم نصح ولا هداية، وليس أجدى من إنقاذ القضاء بإزهاق أرواحهم، وهو التشريع القانوني الذي توارثته العروش الملكية المختلفة [ورثته شانغ عن شيا، ثم أخذته دولة جو عن شانغ لاحقًا عن سابق] حُكمًا لا يتبدَّل أبد الدهر؛ فهو باقٍ حتى اليوم بغير أدنى تهاون؛ لذلك أقول بأنَّه من المستحيل قبول «تلك الهدية».»
وقال له وانجان: «لكن الأمراء صاروا يسرقون الناس، في هذا الزمان، ويتسلطون عليهم بالنهب والسلب، مثل أي قاطع طريق، فإذا ما أُقيمت أصول المعاملات (مجرد واجهة برَّاقة تخفي وراءها ما تخفيه) صارت الهدايا محل تقدير الجميع، بما فيهم السادة المهذبون، فما قولك في ذلك؟» فأجابه منشيوس قائلًا: «أتظن لو قام حاكم ملكي رشيد، يُبادر إلى وضع كل الأمراء في صعيد واحد، ثم يُعمل في رقابهم السيف جميعًا؟ أم أنَّه يأمرهم بالتزام جادة الصواب، ثم يمهلهم فلا يقتل إلَّا مَن أفرط وتمادى في غيِّه؟
إنَّ الزعم بأنَّ كل محاولة للاستيلاء على ممتلكات الغير تعد من قبيل السرقة والنهب واللصوصية، لهو زعم كفيل بأن يُقيم من المعايير سيوفًا مسلطة، ويشحذ من المبادئ نصالًا حادةً، وقد عمل كونفوشيوس — لفترة — في دولة لو، بوظيفة رسمية، وكان أهل الإقليم يُقيمون «حفلات» للصيد والقنص، ويتصارعون للاستيلاء على الفرائس، وكان كونفوشيوس يُشاركهم في ذلك ويقلدهم فيما يفعلون (يستولي على الغنائم مثلهم!) فإذا كان هذا التصرف (على همجيته) جائزًا، فما بالك بقبول الهدايا؟»
وهنالك قال له وانجان: «إذا كان الأمر هكذا، فلم يكن قبول كونفوشيوس بوظيفته الحكومية قائمًا على أساس «ما كان يزعمه دائمًا من أنَّه يريد بذلك أن يجد الوسيلة إلى …» تطبيق المبادئ الأخلاقية»، وردَّ عليه منشيوس بقوله: «كلَّا؛ بل كان هدفه من وظيفته أن يُطبق المبادئ التي طالما دعا إليها وآمن بها.»
فقال وانجان: «فكيف يرضى لنفسه أن يُشارك في حفلات صيد يستولي فيها على الغنائم والفرائس؟» فأجاب الشيخ: «لأنَّه اعتمد في إرساء قواعد القرابين على المدوَّنات والسجلات «الصحيحة المثبتة»، بديلًا عن فتات القرابين والأضاحي التي كان يتم تجميعها من بقايا الطعام المتناثر في بقاع مختلفة [وهو ما كان يُمثل ضربةً قاضيةً لنظام التنازع والصراع حول فرائس الصيد].»
وسأله وانجان: «ولماذا لم يُحاول كونفوشيوس الاستقالة من وظيفته والرحيل إلى بلاد أخرى؟» فأجابه: «كان يقول أن يُجرب، فإذا ما جاءت النتائج لتؤيد وجهة نظره وتنتصر لمبادئه الأخلاقية، مع تحفظ الحاكم على إقرارها، صار مقتنعًا بالسفر «ليجرب في مكان آخر»، وهو الأمر الذي لم يمكِّن كونفوشيوس من البقاء أكثر من ثلاث سنوات في بلد واحد. (كانت دواعي كونفوشيوس للالتحاق بوظيفة رسمية متعددة، فمنها:) أنَّه كان يقبل، أحيانًا، بأداء عمل حكومي ما؛ لأنَّ فرص تطبيق القواعد الأخلاقية كثيرة ومواتية، أو، لِمَا كان «يبديه بعض المسئولين» من استقبال حافل، وروح ودية وحفاوة بالغة، أو لِما كان يُبديه حاكم الإقليم من رعاية للحكماء والنابهين.
«ومثلًا فبالنسبة لواحد مثل …» جيهوان، فقد رضي العمل بوظيفة رسمية؛ إذ كانت تلك وسيلته لتطبيق المبادئ النظرية؛ أمَّا وي لينكونغ، فقد كان سبب قبوله العمل الحفاوة والاهتمام والرعاية التي أبداها له المسئولون، وما كان «وي شياوكون» ليرضى أن يلتحق بوظيفة عامة، إلَّا لِما أدركه بصورة واضحة من اهتمام الدوائر الحاكمة بأمره، ورعايتها وتشجيعها لأفكاره.»
(١٠–٥) قال منشيوس: ««لا ينبغي أن يكون» الفقر هو السبب الأساسي في البحث عن وظيفة رسمية، ولو أنَّه كثيرًا ما كان هو السبب الوحيد في ذلك؛ ولا يجب أن يكون الزواج وسيلة للبر بالوالدين، وضمانًا للرعاية الأسرية، ولو أنَّه طالما كان الزواج يقوم أساسًا لهذا الغرض.
إذا كان الفقر هو الدافع للبحث عن وظيفة رسمية، فلا ينبغي التطلع إلى منصب راقٍ؛ بل يكتفي بموقع في أدنى السلم الوظيفي ذي راتب محدود، وأن ينبذ المرء ما يفوق ذلك.
لكن ما هي الوظيفة التي تردُّ الطمع في منصب أرقى، ويقنع بها المرء براتب ضئيل وموقع «ذليل»؟ … ربما لم تكن تزيد هذه الوظيفة إلَّا على أن يعمل العامل ملاحظًا لبوابات القصور (بوابًا) أو خفيرًا، يتوكأ على عصاه في الطرقات، وقد سبق أن عمل كونفوشيوس مراقبًا بسيطًا لمخازن الغلال، وكان يقول: «أهم شيء «في هذه الوظيفة» هو أن أتحرَّى الدقة في مراجعة الحسابات»، … ثم عمل ملاحظًا في أحد مزارع تسمين الماشية، وكان يُكرر دائمًا قوله: «يجب أن يلتفت المرء «في هذا العمل» إلى بذل كل جهد من شأنه إطراء نمو الأبقار وتقوية أبدانها.»
أمَّا أن يقبع القابع في أدنى مرتبة وأحقر وظيفة ثم يتشدَّق بالحديث حول شئون الدول وسياسات الممالك، فذلك إثم يصل إلى حد الجريمة. «ومن ناحية أخرى، ﻓ…» أن يتبوأ المرء منصبًا متنفذًا لدى القصر الملكي، ثم يعجز عن تطبيق مبادئ الحكم الرشيد، فذلك هو العار، وتلك هي المهانة بعينها.»
(١٠–٦) تساءل وانجان: «لماذا ينبغي دائمًا على الدارس «المثقف» النابه أن يستقل «في احتياجاته الضرورية» عن الأمير، بحيث يترفع عن سؤاله أن يقضي له حوائجه؟» أجاب منشيوس قائلًا: ««تلك قاعدةٌ أخلاقيةٌ ملزمةٌ» لا يستطيع الدارس أن يتجاوزها.
إنَّ الأمير إذا ضاعت منه أرضه، يستطيع أن يلجأ إلى كنف جيرانه من الأمراء والحكام الآخرين، ويصير تصرفه موافقًا للمبادئ «الأخلاقية» المقررة؛ أمَّا لجوء الدارس المثقف إلى الأمير طلبًا للمساعدة، فليس من المبادئ في شيء.»
فقال وانجان: «فهل للمتعلم النابه أن يقبل عطاء الأمير إذا أعطاه «ما يُقيم أودَه من» محاصيل غذائية [حرفيًّا: حبوب الذرة الصفراء]؟»
– نعم، له أن يقبل عطاءه.
– فما الحكمة من قبوله مثل هذا العطاء؟
– من حق الأمير أن يُقدِّم المساعدة والغوث والرعاية لضيوف بلاده واللاجئين إلى أرضه.
– أيقبل المتعلم النابه عون الأمير، ويرفض — في إباءٍ — مكافأته له؟
– أجل، هو ذاك.
– اسمح لي أن أسألك عن السبب في عدم قبوله مكافأة الأمير.
– إنَّ البواب الذي يراقب مداخل الدور والقصور له وظيفة معروفة محدودة، يتلقَّى للقيام بها عونَ ورعاية السلطة الحاكمة، وبالتالي فليس من اللائق، ولا من الاحترام، أن يقبل المرء أي عون أو مساعدة من جانب المسئولين ما دام لا يعمل في نطاق وظيفة رسمية مُحددة.
– ألا يُمكن إذن «على سبيل إيجاد حل مناسب لهذه المسألة» أن يُداوم الأمير على مكافأة النابهين، ويواظب هؤلاء على قبول مِنَح الأمير ومكافآته؟
– كان [المدعو] «لو ميو كون» يُداوم السؤال عن أحوال «زيس» ويرسل له، بين الحين والآخر، وجبات من اللحم المطهو الطازج؛ لكن زيس لم يشعر بالارتياح لهذا «الكرم غير العادي»، وهكذا، فقد اعتذر — ذات مرة — لرسول الأمير، وقال له، وهو يرد إليه عطاء الأمير ويودعه عند الباب وينحني له أدبًا وتبجيلًا: «قلْ لسمو الأمير إنِّي أشكر له اهتمامه بي، وكأنِّي مجرد كلب أو بقرة في حظائر حيواناته.» وقد أحجم الأمير، بعد ذلك، عن إرسال عطاياه، منذ ذلك الحين، واكتفى بالتعبير عن حبه وإعجابه بالحكماء والفضلاء دون إسناد أي عمل مناسب لهم أو تكريم وفادتهم، فهل يُمكن أن يكون في هذا التصرف أي تبجيل، أو تقدير للحكماء وذوي الفضل؟
– قل لي إذن يا سيدي، كيف يُمكن أن تكون حفاوة الملك بالحكماء جديرةً بمكانتهم وما يستحقونه من توقير؟
– عندما يجري منح الهدايا الملكية [باسم جلالته] لواحد من أولئك النابهين، لأول مرة، فينبغي على المستلم أن ينحني مرتين، ثم يستلم ما يُقدَّم له، وتُصرف له حصص دائمة من الحبوب واللحوم، دون أن يتطلب الأمر، في كل مرة، التفضل بالتكرم عليهم بهذه المقررات باسم جلالة الملك؛ فقد ظنَّ زيس أن سيكون مُطالبًا بالركوع والسجود لاسم الملك في كل مرة يتم إرسال حصة اللحم المطهو إليه، وهو الأمر الذي بدا له مُهينًا.
كان الإمبراطور الحكيم ياو يأمر أولاده التسعة بالقيام على خدمة تلميذه (وخليفته فيما بعد) شون، وقام بتزويج ابنتَيه له، وأصدر أوامره بأن يكون السعاة والموظفون والدواب ومخازن الغلال في خدمته وطوع إرادته، وجعل له الكلمة العليا فوق كل الأرض؛ بمزارعها وحدائقها، ثم رفعه — فيما بعد — إلى أعلى المناصب السيادية؛ لذلك يُضرب المثل بجلالته في احترام وتقدير ذوي الحكمة.»
(١٠–٧) ذهب وانجان إلى منشيوس، وسأله: «أود أن أسألك يا سيدي عن سبب امتناع «النابهين … المتعلمين» عن مقابلة الأمراء؟» فأجابه الشيخ: «إنَّ مَن يُدعَون وزراء الأحياء والآبار الجوفية من سكان المدن، ومَن يُقال لهم «وزراء الأعشاب والنباتات» من أهل القرى، كل أولئك وهؤلاء «ليسوا وزراء حقيقيين؛ بل هم …» مجرد أفراد بسطاء من أبناء الشعب، ولأنَّهم لم يقوموا بالطقوس الواجبة التي تقضي بتقديم «هدايا التعارف الرسمية «لأمراء الأقاليم» فلا يحق لهم، حسب القواعد والأصول المقررة، مقابلة أمراء الولايات».»
وسأله وانجان: ««لكن الغريب في أمر أبناء الشعب هؤلاء هو أنَّهم …» إذا صدرت إليهم الأوامر بأداء الخدمة العسكرية استجابوا على الفور؛ أمَّا إذا صدر إليهم طلب الحضور لمقابلة الحاكم العام امتنعوا عن الاستجابة، فما السبب في ذلك؟» فأجابه: «الخدمة العسكرية، واجبٌ ومهمةٌ إلزاميةٌ؛ أمَّا لقاء الحاكم العام فليس أمرًا ملزمًا، وإنِّي لأتساءل عمَّا يدعو الأمير إلى الإلحاح في طلب الالتقاء بواحد من العامة؟ «هل يُمكن أن يكون الحاكم في حاجة ماسة لمقابلة واحد من العامة إلى هذا الحد؟!» فقال وانجان: «ربما أراد الحاكم أن يستزيد من سعة معلومات ضيفه، أو لعلَّه أراد «بهذه المقابلة» تقدير نبوغه أو أدبه وكريم صفاته الأخلاقية»»، فقال منشيوس: ««أمَّا فيما يتعلق بالاستزادة من المعرفة» فإنَّ جلالة الإمبراطور — ابن السماء — لا يملك أن يُرغم متعلمًا على المثول بين يديه، فما بالك بأمراء المقاطعات؟ «وبخصوص تقدير الأمير للنبوغ والأدب والصفات الخُلقية الجليلة»، فلم أسمع طوال حياتي، أنَّ حاكمًا استدعى رجلًا فاضلًا إلى مقر الحكم لمجرد الرغبة في اللقاء به ومجالسته!
ولطالما التقى «لو ميو كون» بزيس، وكان يقول له … «قد جاء حين من الدهر على الحكام [حكام الدويلات] الذين يحوزون القوة والمنعة والجاه [حرفيًّا: يحوز الواحد منهم ألف مركبة عسكرية] كانوا يعقدون فيه صلات ودية مع الدارسين النبهاء، ويتخذونهم أصدقاء، فما ظنك بأحوال تلك العلاقات، وعلى أي نحو سارت، وإلى أي مصير انتهت؟» … وهنالك ابتأس زيس وقال: «بل يُؤْثر عن القدماء قولهم إنَّ ولاة الأقاليم كانوا يتخذون من النابهين مؤدبين ومعلمين، «ودرجة العلاقة — هنا — تختلف كثيرًا عمَّا بين الأصدقاء»، فمن أين لك بذلك القول؟» … وأضاف زيس، وقد بلغ به الحزن مبلغه: «أليس غريبًا أن تقوم الصداقة بين اثنين لكلٍّ منهُما مكانته المختلفة؛ فهذا حاكم إقليم، وذاك مجرد مسئول عامٍّ من ذوي الرتب والألقاب، فكيف يتأتَّى للصداقة أن تنشأ بينهما؟ «هذا من ناحية و …» من الناحية الأخلاقية … فالأمير هو الذي يتلقى العلم على يدي المتعلم «فإذا كان أحد طرفي العلاقة تلميذًا والآخر مؤدبه» فكيف يُمكن للصداقة (التي تنشأ بين طرفين متكافئين … مكانةً، وقدرًا) أن تكون هي طابع مثل تلك العلاقة؟»
فإذا كان حاكم الإقليم ذو المركبات العسكرية الألف — يقول منشيوس — لا يستطيع أن يضمن قيام علاقة صداقة بينه وبين المتعلمين، فهل يملك أن يدعوهم فيجيبونه؟
حدث، ذات مرة، أنَّ «تشي جين كون» كان في رحلة صيد، فرفع رايته وأشار ناحية أحد الجنود يأمُره بالذهاب إليه، فلم يمتثل، فهمَّ بقتله.
«وقد قال كونفوشيوس:» «إنَّ المتعلم ذا القلب الذكي لا يأبَه للموت بين شقوق الجبال أو في مسارب الوديان، وكذلك لا يخشى الشجاع أن تسقط رأسه من فوق كتفيه.» … فما الذي يريد كونفوشيوس التأكيد عليه هنا؟ إنَّه التأكيد على «شجاعة الحارس البسيط» برفضه الامتثال لدى الملك الذي أخطأ استخدام الراية الصحيحة، واستعمل أسلوبًا لا يليق متنافيًا تمامًا مع قواعد المعاملات.»
وسأله وانجان: «فما هي الإشارة الصحيحة التي كان يتوجَّب على الحاكم استخدامها؟» أجابه منشيوس: «كان من المفروض أن يستخدم قبعةً من الجلد، «وحسب الأصول المستقرة في مثل تلك الأحوال …» فقد كانت الراية الحمراء تُستخدم لاستدعاء الأفراد العاديين (من العامة)، والراية التي تُسمى [«تشي»، وهي المزيَّنة بصورة التنينَين] هي التي تُستعمل لاستدعاء المتعلمين من رجال القصر، أمَّا كبار رجال الدولة فيتم استدعاؤهم بواسطة الراية التي يُطلق عليها [«جي» وهي المُعلَّمة بريشة تتدلَّى من رأسها]؛ فإذا استخدمت تلك الراية، مثلًا، لاستدعاء أحد حراس ميدان الصيد فلن يمتثل للأمر أبدًا … «ولو كان السيف على رقبته، فلن يستجيب للأمر، وكذلك …» إذا استخدمت الراية المخصصة لاستدعاء المثقفين بالإيماء ناحية واحد من العامة، فكيف يُمكن لرجل بسيط أن يصدع لهذا الأمر؟ فما بالك إذا استخدمت إشارة لواحد من النكرات في استدعاء ذوي الحلم والكرم والمكانة الشريفة؟
إنَّ «الأمير إذا طلب» الالتقاء بذوي الحكمة دون إعمال القواعد والأصول المناسبة، فهذا أشبه ما يكون بإغلاق الأبواب في وجه الضيف المدعو للزيارة. إنَّ الاستقامة هي الطريق، وقواعد المعاملات هي البوابة الكبرى؛ فالعاقل الحكيم، وحده، هو القادر على التزام جادة الطريق، والدخول عبر الباب الكبير؛ وقد ورد في كتاب الشِّعر القديم «ما نصه»:
ثم عاد وانجان يسأل منشيوس: «كان كونفوشيوس قد استجاب لأمر استدعاء ملكي، «ومن شدة استعجاله للمثول بين يدي جلالته» استبطأ المركبة المخصصة لتنقلاته، فذهب يعدو إليه، ماشيًا على قدميه، ألَّا يُعَد مثل هذا التصرف — من كونفوشيوس — معيبًا؟» فأجاب الشيخ: «كان كونفوشيوس، يومئذٍ، يتولَّى منصبًا حكوميًّا متنفذًا؛ ومن ثمَّ فقد استدعاه الملك بصفته مسئولًا رسميًّا.»
(١٠–٨) قال منشيوس موجهًا حديثه إلى وانجان: «كثيرًا ما يُحاول المثقفون، من الطبقة العالية الشريفة، في بلدٍ ما، إقامة علاقات من المودة والصداقة مع مثقفي بلدٍ آخر.
وقد تجد مثقفي إقليم ما، يُحاولون عقد أواصر الصداقة مع نظرائهم في إقليم ثانٍ؛ بل إنَّك لتجد مثقفي الممالك كلها، أولئك الذين بلغوا أعظم مراتب الامتياز والحكمة والمكانة، يُحاولون التواصل والتآخي مع باقي المتعلمين والمثقفين في كل الممالك والدوَيلات التي تحت السماء، ثم إنَّ منهم مَن يجد تلك الصداقة غير كافيةٍ (لا تُشبع نهمهم المعرفي) فيعودون إلى صفحات التاريخ، يُقلبون أوراق «الشخصيات» القديمة، ينشدون أشعارهم ويُطالعون أفكارهم ومدوناتهم، يتداولون النظر في شتى أمورهم «دون أن يدركوا حقيقة ما كان في ماضي زمانهم»، ويتعمَّقون، من ثم، في درس وتمحيص أحوال الماضي والزمان الغابر؛ فتلك هي الطريقة (طريقتهم المعهودة) في عقد أواصر الصداقة مع القدماء.»
(١٠–٩) كان لدى الملك شيوان الكثير من الأسئلة المتعلقة بالوزراء والنبلاء. «فتكلَّم في ذلك مع منشيوس»، فقال له الشيخ: «أي نوع من الوزراء والنبلاء تقصد بكلامك يا مولاي؟» فقال الملك: «أهناك فرق بين الوزراء والنبلاء بعضهم وبعض؟» فأجابه منشيوس: «أجل، هناك فرقٌ كبير؛ فليس الوزراء والنبلاء من الأسرة الملكية، عشيرة الملك الأقربين؛ مثل الوزراء وكبار رجال الدولة «من ذوي الألقاب غير الملكية».»
قال الملك: «فاذكر لي — إذن — أحوال الوزراء والنبلاء من أفراد الأسرة الملكية»، قال منشيوس: «هؤلاء مُطالبون — إذا ما وقع الملك في خطأ بالغ — أن يقدموا له النصح، فإذا ما عاندهم وأصرَّ على موقفه عزلوه وأقاموا على العرش ملكًا آخر بدلًا منه.»
وهنالك امتقع وجه الملك فجأةً، فواصل منشيوس كلامه قائلًا: «على رِسْلك، يا مولاي، ولئن قلت لجلالتك ما قلت، فلأنِّي وزيرك الذي لن يتوانى عن أن يَصْدُقَك القول ما دمتَ قد سألتني الرأي والمشورة.»
فبدت أمارات الارتياح على وجه جلالته، وراح يسأل منشيوس عن طبيعة وأحوال الوزراء والنبلاء من غير ذوي اللقب الملكي، فأجابه منشيوس بقوله:
«أمَّا أولئك، فلهم أن يوجهوا النصح للملك المرة تلو الأخرى، إذا ما بدا لهم أنَّ الملك قد جانبه الصواب في أحد شئون الحكم، فإذا ضرب جلالته صفحًا عن الأخذ بآرائهم، صار لهم الحق في أن يُقدِّموا استقالاتهم من مناصبهم.»