كاوتزي
الجزء الأول
(١١–١) قال كاوتزي (وهو فيلسوفٌ سياسيٌّ عاش في زمن الدول المتحاربة): «إنَّ الطبيعة الإنسانية تُشبه شجر الصفصاف، أمَّا المبادئ الإنسانية فهي مثل الأكواب والأواني؛ ومن ثم يصبح تطويع الطبيعة الإنسانية لمقتضيات الاستقامة والمبادئ الأخلاقية، أشبه ما يكون باستخدام خشب الصفصاف في صنع الأواني الخشبية.»
فقال له منشيوس: «أتستطيع أن تصنع آنيةً خشبيةً حسب ما تُمليه عليك طبيعة الشجرة، أم تضطر إلى تشويه وتفتيت سيقانها وزروعها قبل أن تشرع في تشكيل مادة صناعتك؟ فإذا كنت ستعمد إلى تشويه جسد الصفصاف لتصنع الآنية المطلوبة، فلا بد أنَّك «بالمِثل» ستكون مُطالبًا بتبديل الطبيعة الإنسانية كي تتفق مع ضرورات تطبيق مبادئ الاستقامة والأخلاق. ولا أرى إلَّا أنَّك تريد أن تقود البشرية في طريق تدمير مبادئ الاستقامة والإحسان.»
(١١–٢) قال كاوتزي: «الطبيعة الإنسانية مثل تيار الماء المتدفق، إذا شققت له قناةً جهة الشرق، جرى في ذلك الاتجاه بكل قوته، وإذا فتحت أمامه ممرًّا صوب الغرب تدفَّق في الممر بكل العنفوان، الطبيعة الإنسانية لا تفرِّق بين الخير والشر، تمامًا مثل نهر جارٍ صوب الشرق أو الغرب، كيفما سبح التيار.»
فقال منشيوس: «صحيح أنَّ الماء يمكن أن ينساب إلى الشرق أو الغرب كيفما كان اتجاه المجرى، لكن هل يمكن للمياه أن تتدفق إلى أعلى أو أسفل حسبما اتفق لها أن تنساب مع التيار؟ إنَّ الطبيعة الإنسانية الطيبة مثل ماءٍ ينحدر إلى أسفل، وما من طبعٍ إنسانيٍّ إلَّا وهو مائلٌ إلى الخير، مثلما تميل مياه النهر في مصب جريانها، لكن للماء أيضًا طبعًا آخر لا يتبدَّى لك، إلَّا حين تضرب صفحة الماء بيديك فتتطاير دفقات الماء إلى أعلى، إلى فوق قمة رأسك، أو تنزح الماء بدلو إلى مجرًى آخر، فيرتد التيار على أعقابه، أو أن ترفعه إلى حيث تسيل به الجداول في قمم الجبال، فهل يمكن أن يكون للماء طبعٌ واحدٌ لا يتبدل؟ إنَّها الأحوال المتغيرة التي تتلبس به، فتبدل طبائعه وتسيل به في غير مجراه. «وكذلك الإنسان»؛ إذ يُمكن «بفعل التحريض» أن يرتكب أفظع الشرور والآثام؛ فقد يتبدل الطبع هنا مثلما تغيِّر الأنهار هناك — مجراها.»
(١١–٣) قال كاوتزي: «إنَّ الطبع الغريزي هو الطبيعة نفسها»، فسأله منشيوس: «إذا كان الطبع الغريزي هو الطبيعة نفسها، فهل يمكننا أيضًا القول بأنَّ اللون الأبيض هو البياض نفسه؟» فأجابه: «نعم، هو ذاك»، فسأله منشيوس: ««ولا بد، بالتالي، أن يكون» بياض ريش الطائر الأبيض مثل بياض الثلج الأبيض، ويكون بياض الثلج الأبيض مثل بياض اليشب (حجر كريم) الأبيض، أليس كذلك؟» فأجابه: «بلى، هو ذاك!»، فقال منشيوس: «إنَّ الإقرار بهذا يعني (يحتِّم علينا) أن نتساءل عمَّا إذا كانت طبيعة الكلب الغريزية تماثل الطبيعة الغريزية للثور، وهل طبيعة الثور، من ثم، تشبه طبيعة الإنسان!»
(١١–٤) قال كاوتزي: «إنَّ الطعام والشراب والجنس طبائع غريزية في الإنسان. إنَّ الرحمة خصلةٌ باطنيةٌ وليست ظاهريةً مشهودةً؛ أمَّا الاستقامة فلسوكٌ ظاهرٌ ملموسٌ غير باطنيٍّ»، فقال منشيوس: «بأي معيارٍ عرفت أنَّ الرحمة باطنيةٌ والاستقامة ظاهرية؟» فأجابه: «يتضح ذلك بما أُوقِّر به كبير السن؛ فتوقيري إياه واحترامي له «سلوك ظاهر ملموس»، ولم يكن ذلك طبع أصيل موجود من قبل؛ فهذا أشبه ما يكون بشيء متلوِّن باللون الأبيض، فنحن نراه أبيض، فذلك البياض الظاهر أوجد الانطباع بكونه لونًا أبيضَ؛ لذلك أقول بأنَّه عنصر خارجي في ظاهر الأشياء»، فقال منشيوس: «قد يكون البياض مشتركًا في لون الحصان والإنسان، فهو لون واحد في كليهما، لكن السؤال هو: هل يتماثل — بِناءً على ذلك — توقيري وإشفاقي بالرجل العجوز مع شفقتي بالحصان؟ وهل تقول بأنَّ الاحترام «عنصر ظاهر» في الكهل كبير السن وجزء من تكوينه الأخلاقي (الاستقامة والرحمة)، أو هو خصلة مركوزة في طباع الفرد الذي يوقِّر ويبجِّل كبار السن؟» فأجابه كاوتزي قائلًا:
«هذا أخي الصغير، أحبه وأترفَّق به، أمَّا الأخ الأصغر لأي واحد من الناس، فليس بيني وبينه أية مودة، «فحبي لأخي» ناتج عن العلاقة التي تربطني به؛ لذلك أقول بأنَّ الرحمة طبيعةٌ باطنية؛ أمَّا احترامي لواحد من كبار السن في دولة تشين «مثلًا» فهو كاحترامي (أيضًا) لكبار السنِّ «في عائلتي»، وكلاهما نابع من سلوكي مع كبار السنِّ عامةً؛ فلذلك أزعم بأنَّ الاستقامة مظهر سلوكي ملموس»، وردَّ عليه منشيوس، قائلًا: «وما الفرق — إذن — بين أن تحب أكل اللحم المشوي في دولة تشين أو أن تأكله في بيتك، والأشياء الأخرى كافةً على هذا النحو أيضًا؛ فهل تكون الذائقة أو الرغبة في أكل اللحم المشوي سلوكًا خارجيًّا «وليست طبعًا أصيلًا في النفس»؟»
(١١–٥) ذهب منغ جيتسي (الأخ الأصغر لحاكم دويلة «رن»، حكم الدويلة في غياب أخيه) إلى كونتوس وسأله: «على أي أساس تقول بأنَّ الاستقامة صفة باطنية؟» فأجابه: «على أساس أنَّ الاحترام نابع من باطن النفس»، فعاد منغ جيتسي يسأله: «هبْ أن أحد أهل بلدتك كان أسنَّ من أخيك الأكبر بعام واحد، فمَن منهما جديرٌ باحترامك؟»
– أخي الأكبر.
– فكيف إذا صببت الخمر في كأسيهما، فبأيِّهما تبدأ؟
– أصب الخمر في كأس الرجل الذي من بلدتي أولًا.
فقال منغ جيتسي: «ها أنت تبجل أخاك الأكبر في البدء، لكنك عند صب الخمر أوليت احترامك لشخص آخر، مما يدل على أنَّ «الاستقامة» عرَض ظاهري، وليست خصلة أصيلة في الطبع.» فبُهِت كونتوس، ولم يجب بشيء، ثم قصد إلى منشيوس وأخبره بما دار بينهما، فقال له: «كان أحرى بك أن تسأله قائلًا: «أتحترم عمَّك أكثر أم أخاك الأصغر؟» ولا بد أنَّه كان سيرد عليك بقوله: «أحترم عمِّي الأكبر بالطبع»، فتقول له: «فماذا لو أقام أخوك الأصغر في طقوس القرابين محل آبائك وأجدادك واكتسب صفة التقديس لهم، فمَن تحترم أكثر؟» ولا بد أنَّه كان سيجيب بقوله: «أحترم أخي الأصغر»، فتقول له: «فلماذا اخترت عمَّك أول الأمر؟» وعندئذٍ كان سيرد قائلًا: «إنَّ ما يمثلانه من مكانة قد تغيَّر كثيرًا (بسبب قيام الأخ باكتساب صفة الأجداد في طقوس القرابين»)، وهنالك كنتَ ستقول له على الفور: «لو كان الأمر متعلقًا بما يمثله المرء من مكانة لكان أخوك الأكبر أولى بالاحترام، لكنك في ظروفٍ طارئةٍ أوليت احترامك للرجل الآخر!»»
فلما بلغ هذا القول مسامع «منغ جيتسي»، قال: «سواء أكان الاحترام للعمِّ أم للأخ الأصغر فالأمر سيانِ، لأنَّ الاحترام يتحدد وفق أسبابٍ ظاهريةٍ وليس لموجباتٍ باطنيةٍ.» … فأجابه كونتوس قائلًا: «في الشتاء نشرب الماء الساخن، وفي الصيف نشربه باردًا، فهل في رأيك يتحدد الأكل والشرب حسب عوارض خارجية، «إذ لو كان الأمر كذلك لرغبنا في شرب الماء الساخن صيفًا والبارد شتاءً!».»
(١١–٦) قال كونتوس: «يُؤْثر عن كاوتزي قوله: «ليس في طبيعة الإنسان — أصلًا — ما هو طيب أو خبيث» … ويقول بعض الناس: «من الممكن أن تتسم طبيعة الإنسان بالخير أو بالشر، على السواء، ومن الممكن توجيهها في هذا الاتجاه أو ذاك، «ومثلًا» فعندما اعتلى العرش «ملوكٌ قدماء، مثل:» الملك «أون»، والإمبراطور «أو»، كانت طبائع الناس تميل إلى الجانب الطيب، أمَّا في عهد الملك «يو» والحاكم «لي» فقد غلب على الناس المرارة والكراهية»، وهناك مَن يقولون: «من الناس مَن يتسمون بالخير عمومًا، ومنهم مَن يوصمون بالخبث والسوء»، وهكذا نجد في عهد حاكم طيب، مثل الملك الحكيم «ياو»، أُناسًا موصوفين بالشر، منهم «مثلًا» شيانغ (أخو الملك)، وعندما كان هناك خبثاء فاسدو الطوية مثل كوصاو (ذلك الأب اللئيم) ظهر رجل فاضل طيب هو الملك شون (الابن الذكي الطيب)، ولمَّا كان هناك حكَّام فاسدون، مثل ولد الطاغية الشهير تشو، الذي تولى العرش «في وقت من الأوقات»، ظهر رجال صالحون طيبون، مثل «وي تزي شي» و«بيكان» (الأعمام الطيبين)، فما بال هؤلاء الذين ذكرتُ لك؟» فأجاب منشيوس بقوله: «يمكن تطويع الطبع الإنساني لكي يصير خيِّرًا، ذلك هو ما قصدته من أنَّ الإنسان مجبول على الخير، فإذا كان هناك البعض ممن يحيدون عن النهج الطيب، «فيمكنك أن ترد ذلك إلى أيَّة أسباب»، لكن ليس من بينها ما يمكن أن يُلقى بالتبِعة فيه على الطبع الأصيل؛ فالتراحم «إحساس» مشترك بين الجميع، وكذلك الحياء، والتبجيل، والتمييز بين الخطأ والصواب.
فالتراحم من الإنسانية، والحياء من الاستقامة، والتبجيل من التأدب، والتمييز بين الخطأ والصواب من الحكمة. ثم إنَّ الإنسانية والاستقامة والتأدب والحكمة جميعًا، ليست عوامل خارجية مضافةً للمرء، وإنَّما هي صفات باطنية قائمة في طبيعته، كل ما في الأمر أنَّ المرء لم يسعَ إلى طلبها بالتأمل الذهني؛ لذلك يُقال بأنَّ: «المرء إذا سعى في طلب «تلك الصفات الجوهرية» فسوف يجدها، أمَّا إذا أهملها فستنأى عنه أبد الآبدين.» ولئن كان حظ الناس منها يتفاوت؛ إذ ينقص ما لدى البعض عمَّا يملكه البعض الآخر والسبب في ذلك يرجع إلى عجزهم عن استنهاض كوامن الطبع في أعماق نفوسهم.
وقد ورد في كتاب الشِّعر القديم «ما نصه»:
وقال كونفوشيوس: «لقد فهم صاحب تلك الأبيات الواردة في كتاب الشِّعر جوهر الطبيعة الإنسانية؛ إذ أدرك أنَّ لكل شيء نظامًا وقانونًا محددًا، وهو ما يشرح صدور الناس، إذا ما فقهوا تلك النُّظم والقواعد الراسخة، للتأدُّب بالخُلق الجميل».»
(١١–٧) قال منشيوس: «في مواسم الحصاد الوافر يجد الناس ما يقيم أَودهم «فيعم الخير»؛ أمَّا في أيام القحط فتغلظ القلوب وتسوء الطباع «فيسود الشر»، فلا تقولن إنَّ الطبائع قد تبدلت، «بل قلْ» إنَّ الظروف المحيطة «بالناس» قد أفسدت باطنهم.
ولننظر — مثلًا — إلى «ما يحدث عند زراعة» الشعير؛ إذ تُبذر البذور، وتفلح الأرض. ولما كانت الحقول كلها تُربةً واحدةً «خصبة» ألقيت فيها الحبوب في موسم زراعة واحد، فقد حقَّ أن يكون النماء وفيرًا، فإذا حلَّ الصيف، وأزف تمام النضج، ظهرت فوارق في ناتج الإنبات «ولم يكن الثمر كله تام الخصوبة»، وذلك للفارق في باطن التربة «بين خصوبة كاملة وجدب مهلك»، ومطر وافر «هنا» وندى شحيح «هناك»، أو يكون الفارق راجعًا لمقدار الجهد المتفاوت، وقت الزرع، فمن ثم كانت الأشياء ذات الطبيعة الواحدة تتماثل أحوالها؛ «غير أنَّ المرء يتساءل، برغم ذلك:» لماذا، حينما يتعلق الأمر بالإنسان، تثور الشكوك «حول تماثُل أحوال الطبيعة الواحدة تلك؟ … مع أنَّ الواقع يؤكد بأنَّ» القديسين الحكماء هم أيضًا بشر مثلنا؟
وقد قال «الحكيم» لونزي: «حتى لو لم ينتبه صانع الأحذية إلى مقاس القدم بدقةٍ كافيةٍ، فهو سيُنتج «في كل الأحوال» حذاءً للقدم، وليس سلة للفاكهة»، فكل الأحذية تتشابه على نمط واحد؛ لأنَّ أقدام البشر على شاكلةٍ واحدة. وكذلك حاسة التذوق متماثلة «بين البشر جميعًا»، وقد سبق للوزير «إيَّا» (تنطق كما في «إيَّاك»، الوزير المقرَّب من الملك هوانكون، حاكم تشي) أن تأمَّل بعمق، في مسألة حاسة التذوق عند البشر.» «ولا بد أنَّ عنصرًا مشتركًا قد لوحظ في هذا الشأن»؛ ذلك أنَّ اشتراك البشر في تلك الحاسة (على النحو الذي يمكن تأكيده) إذا ما تأمَّلنا الفارق بين التذوق عند الكلاب والحمير، وبين بني الإنسان، يدعونا للتساؤل عن العنصر المشترك في التذوق البشري الذي أتاح ﻟ «إيَّا» ضمَّ الصفات الإنسانية المتجانسة لهذه الحاسة في بند واحد. ففيما يتعلق بالتذوق، فإنَّ كل البشر يطمحون — لا بد — إلى أن تتحد حاستهم مع التعريف البشري لها عند إيَّا، وهو ما يؤكد وجود السمات المشتركة لحاسة التذوق البشري.
وكذلك يصح الموقف بالنسبة لحاسة السمع، التي لن يتوانى إنسان عن أن يطلب لأذنه رهافة السمع التي استطاع «شيكون» (أحد خبراء الأصوات في العصر القديم) قياسها بدقة، وهو ما يثبت الصفات الإنسانية المتماثلة لتلك الحاسة بين الناس جميعًا.
والأمر نفسه يسري على حاسة النظر؛ ذلك أنَّنا إذا تطرقنا إلى الحديث عن «زيدو» (رجل اشتهر بالجمال البارع في الزمن القديم) فلن نجد أحدًا من الناس يجهل ما اشتهر به ذلك الرجل من جمال ووسامة وملاحة قَسَمات، ليس سوى العميان فقط هم الذين احتجب دونهم ذلك الحسن الفتَّان.
فلذلك أقول: إنَّ هناك وجهًا مشتركًا في التذوق بين الفم والمذاق؛ «وكذلك …» بين الأذن والصوت طبيعة واحدة في الأسماع، وبين العين والألوان عنصر مشترك في إدراك الجمال «بالنظر»، فماذا عن العقول والقلوب؟ أيمكن ألَّا تشهد، هي أيضًا، عناصر مشتركة «بين البشر»؟ وإذا وجدت تلك العناصر المشتركة، فأين؟ وما هي؟ «وبالتأكيد فتلك العناصر توجد في» الطبيعة «الإنسانية» وفي الاستقامة «الحق والعدل؛ فذلك هو ما اهتدى إليه القديسون من مشترك جامع بين الناس كلهم، فبهاتين الصفتين تعرف القلوب البُشرى، وتنتشي «بالحياة» تمامًا، مثلما تجد الأفواه المذاق (مذاق لحوم الماشية!)، فتتجدد به شهية كل ذي فمٍ يطعم الطعام.»
(١١–٨) قال منشيوس: «قد مضى على أشجار جبل «نيوشان» زمانٌ كانت تزهو فيه بالنضرة والنماء؛ إذ كان موقعها عند حافة ضواحي المدينة الكبرى، فلمَّا نكبت بالفئوس القاطعة «التي انهالت على جذوعها ضربًا وتكسيرًا» عجزت عن أن تحتفظ بنضارة نمائها ووفرة الأغصان والأوراق، كم مضى عليها دهر، كانت تتفتح فيه البراعم كل صباح ورواح، وكم هطلت فوق روابيها الأمطار وتعلَّق بأهدابها الندى. ثم ها هي ذي ما عادت تُنبت برعمًا أخضر، ولا فروعًا ولا أوراقًا، بعد إذ صارت مرعًى للماعز والأبقار، فيبست غياضها وذبلت أوراقها وأقحلت ساحتها، وبدت لعين الرائي كأنَّها لم تعمر أبدًا بوافر الخضرة والشجر، حتى تساءل المتسائل: أيمكن أن تكون تلك هي طبيعة الجبل في البدء والمنتهى؟
«ونتساءل نحن»: أيمكن أن تخلو طبيعة الإنسان من الرحمة والاستقامة؟ أتكون الرحمة والاستقامة قد استُؤصِلَتا من جوفه مثلما استُؤصِلَت أشجار الغاب؟ ولَعَمري، كيف يُثمر غاب تسلطت على شجره شفرات المعاول؟ إنَّ ما يعتمل في نفوس الناس في كل صباح ومساء من نوايا طيبة تنشط وتستيقظ من غفوة، كيقظة نهار طالع بدأب وحماس، ويصير الحب والكراهية «في النفس العامرة بالخير» مماثلًا لما في كل النفوس من حب وكراهية، ولو بقدر زهيد، ثم يطلع نهار يوم آخر، تتبدد فيه كل الأعمال الطيبة (حرفيًّا: تتقيد بأغلالٍ ثقيلةٍ)، ثم ترزح كل النسمات الطيبة تحت جنح ليلٍ وأغلال مصفدة، وتصير إلى الفناء، تحتبس نسمات الخير تحت إسار الليل فتصير إلى العدم، وتمسي «نفوس البشر» أقرب ما تكون إلى «نزعات» الطير والوحش، فيبدو للناس كأنَّها لم تَتَحَلَّ، يومًا، بالفضيلة. أفتكون تلك، يومئذٍ، هي طبيعة تلك النفوس وأولئك البشر؟
لذلك «أقول»: إنَّه لا ضياع لما أوجدت، ولا هلاك لما أرشدت، ولا بقاء لما لم تتوسل إليه بالهداية والإرشاد. وقد قال كونفوشيوس: «لا خسارة مع الحرص، ولا بقاء مع التهاون، وإنَّ ما لا ينضبط أداؤه بميقات «معلوم»، لا تعرف لاتجاهه غايات «مفهومة».» … فأظن أنَّ هذا القول كان بصدد التعليق على «مسائل تتعلق ﺑ» النفس الإنسانية.»
(١١–٩) قال منشيوس: «لا ينبغي أن نندهش إذا عرفنا أنَّ جلالة الملك يفتقد أدنى قدر من الحكمة، فحتى أكثر النباتات نضارةً وأشدها نموًّا وأصلبها عودًا لن تحتمل حرارة القيظ يومًا واحدًا، ولا زمهرير الشتاء عشرة أيام؛ «إذ سرعان ما تجف، أو تذوي تلك الظروف بالغة القسوة»، ولطالما كنتُ مقتصدًا في زيارتي لجلالته؛ فلم أزُره سوى عدة مرات، فلمَّا اعتكفتُ في داري قام بيننا جدار من جليد. ولست أجد أي نفع في براعم الخير التي تنبت في قلبه «والأمر يبدو لي أشبه ما يكون بقول القائل: «إنَّها لعبة شطرنج» — أو قلْ — إنَّها مجرد حيلة بسيطة من مئات الحيل في تلك اللعبة، التي إن لم تصرف انتباهك بالكامل في تعلُّمها، فلن تجيد منها قيد أنملةٍ.
إنَّنا لو طلبنا إلى «إيتشيو» (أبرع لاعب شطرنج في الممالك كلها) تعليم اثنين من الدارسين لمهارات اللعبة، وكان أحدهما مكبًّا على العلم بشغفٍ، صارفًا كل انتباهه لما يتلقاه عن أستاذه «إيتشيو» من علم ومعرفة؛ بينما راح الآخر — وهو ينصت بانتباه إلى شرح الأستاذ — يتخيل في رؤى خياله الواسع منظر طيور سابحات في أجواز الفضاء وهو يصوِّب إليها السهام المشرعة ويسدد إليها الضربات القاتلة، فستجد أن مستوى هذا الدارس الأخير يكاد لا يلحق بصاحبه. فالسؤال إذن، هل يعود هذا الفارق في المستوى بين الدارسين إلى تدني مستوى ثانيهما في الذكاء؟ والإجابة الواضحة هي: كلا، ليس ذلك هو السبب بالقطع!»»
(١١–١٠) قال منشيوس: «أحب الأسماك، وأحب أيضًا مخالب الدِّبَبة، فإذا تعذر الحصول عليهما معًا، فيمكنني التنازل بسهولة عن طلب الأسماك تفضيلًا لمخالب الدب. والحياة، كذلك، جميلة في عيني، وأحبها مثلما أحب الاستقامة، ولو ضحيت بحياتي، وبرغم ذلك فهناك ما هو أحبُّ إليَّ من الحياة؛ لهذا فلستُ أرضى لنفسي القبول بحياة زرية بائسة.
وبرغم أنَّ الموت بغيض إلى نفسي، إلا أنَّ هناك ما هو أبغض من الموت؛ ولهذا لا أجتهد كثيرًا في تجنب بعض ما قد يودي بي إلى التهلكة.
فإذا كانت الحياة هي أبقى ما يحرص عليه الناس، فلماذا يقعدون عن تلمس كل الوسائل التي تحقق لهم تلك الغاية؟
وإذا كان الموت هو أكثر ما تبغضه نفوسهم، فلماذا لا ينتهجون كل السُّبل التي تجنبهم مخاطر الهلاك؛ فمن شأن هذا السلوك أن يُبقي على الناس حياتَهم وهو ما يأنف منه «ذوو الخُلق النبيل».
وقد يكون «فيما أشرتُ إليه آنفَّا» ما يضمن تجنب الوقوع في الخطر الوبيل، إلَّا أنَّ الرجل الكريم لن يتخذ هذا المسلك. «فاعلم» أنَّ هناك ما هو أغلى من الحياة، وما هو أبغض من الموت، وهو «القول» الذي لا يقتصر ترديده على الحكماء وحدهم؛ بل إنَّ كل الناس تردد تلك المقولة، غير أنَّ الحكماء فقط هم الذين يحفظونه في طيَّات قلوبهم، ولا يغفلون عنه لحظة واحدة.
«هَبْ» أنَّ هناك طبقًا من الأرز وآخر من الحساء، و«هب» أنَّك إذا تناولتَهما حفِظَت عليك حياتك، وإذا عففتَ النفس عنهما ذُقتَ الموت جوعًا. «أما كنت ترى بأنَّ» الإحسان المقترن بالسب والشتائم والإهانات لن يرضى به إنسان، حتى لو عابر طريق يتضور جوعًا! وأنَّ الصدقة التي تعطيها من تحت قدميك «بعد أن تدوسها بنعليك»، لن يقبلها حتى أكثر الشحاذين إلحاحًا في السؤال، «ومع ذلك ﻓ» هناك مَن يمد يد القبول إلى عشرة آلاف كيلة من الحبوب، يتلقَّفها «بغير تردد» دون أن يتأكد مما إذا كان الحصول عليها موافقًا لآداب الاستقامة وأصول الأخلاق، فما يجديك نفعًا عشرة آلاف وزنة من الحبوب؟
أمن المعقول أن «يقترف المرء ذلك الجُرم» رغبةً في الإقامة بمسكن فاخر، والتمتع بالنساء والمحظيات، واستجداء مشاعر الامتنان من المساكين والفقراء؟ «والغريب» أنَّ مَن كانوا يُفضِّلون الموت على أن يرضوا لأنفسهم «بالوقوف ذلك الموقف»، قد صاروا الآن يقبلون «بما رفضوه آنفًا» سعيًا لسكنى بالقصور، والتمتع بألوان من الرفاهية. «نعم إنَّ أولئك الذين كانوا يقبلون بالموت دون أن يسمحوا لأنفسهم بالانغماس في تلك الأوحال» قد أصبحوا الآن يقبلون «بما كانوا قد ردوا أنفسهم عنه»؛ رغبةً في اللهو في خدور النساء والمحظيات. أجل، إنَّ الذين كانوا يرضون بالموت دون أن يقبلوا بالانزلاق فيما كانوا يتعففون عنه، صاروا الآن يقبلونه بكل رضا ابتغاء المنِّ على الفقراء بما أوتوا من النعيم؛ رياءً ومباهاةً. أما كان أجدر بهم ألَّا يُلقوا بالًا إلى تلك الأمور؟ قد كان أولى بهم التنائي عما يُقال له خسران المرء لنفسه «لطبيعته».»
(١١–١١) قال منشيوس: «الإنسانية هي روح المرء وعقله؛ والاستقامة هي طريق حياته. فما أتعس أن يحيد المرء عن الدرب، وليس أضل ممن تعامى عن العقل وتقاعس عن الاجتهاد في التماس الطريق إليه!
إنَّ مَن تاهت حيواناته الأليفة وشردت بعيدًا عن مسكنه، سيُبادر إلى البحث عنها بكل جد؛ «أمَّا» مَن ضل عقله وتاهت روحه، فسيقعد عن البحث مكتوف اليدين، فارغ الحيلة.
إنَّ طريق العلم لا يهدف إلَّا إلى غايةٍ واحدةٍ، هي استعادة العقل (الروح الطيب) الشريد.»
(١١–١٢) قال منشيوس: «هناك رجل ذو أصبعٍ ملتوٍ (الإصبع البنصر)، وكلما حاول أن يبسطه مثل باقي أصابع كفِّه امتنع عليه ذلك، «وعلى أيَّة حالٍ» فهذا الأصبع «غير الطبيعي» لا يسبب له أيَّة متاعب ولا يعوقه عن العمل. «لكن الحق يقتضي منَّا أن نقرر بجلاء» أن لو حانت لهذا الرجل فرصة ليبسط أصبعه ولو عن طريق عملية جراحية في بلد بعيد، مثل دولة تشين أو دولة تشو، فلن يتوانى عن الذهاب «حتى آخر الدنيا»؛ أملًا في أن يعود أصبعه البنصر إلى الحالة الطبيعية مثل كل الناس.
«وهكذا نلاحظ» أنَّ أصبعًا ضئيلًا مختلفًا — في هيئته — عن الحالة الطبيعية عند الناس، يثير في نفس صاحبه الشعور بالضيق والأسى، أمَّا من كان قلبه وروحه مختلفَيْن عمَّا خُلق به الناس جميعًا، فلن يُساوره أدنى شعور بالاضطراب؛ فذلك ما يُقال له تقديم الاهتمام بتوافه الأمور، وتجاهل الموضوعات ذات الشأن.»
(١١–١٣) قال منشيوس: «إذا أراد أحدهم زراعة شجرة «تونشو»، أو زيشو (نوعان من الأشجار، يبلغ محيط جذع الشجرة الواحدة ذراعًا أو ذراعين)، فلن يعجز عن أن يجد إلى ذلك وسيلة «مما خبره الناس من معرفة واسعة في هذا المجال»؛ أمَّا مَن أراد تهذيب النفس، «وتنشئة» الذات على أساس من السلوك القويم، فلن يجد كثيرًا من المعرفة. فهل يعني ذلك أنَّ غرس أشجار تونشو وزيشو أهم كثيرًا من اعتناء المرء بغرس الفضائل في نفسه التي بين جنبيه؟ كلَّا؛ بل هو العجز عن تأمُّل الأمور بما تستحق من الجدية!»
(١١–١٤) قال منشيوس: «إنَّ الناس يصرفون جُلَّ انتباههم لأجسادهم؛ بل لكل جزء منها مهما بدا ضئيلًا؛ لهذا يهتم الناس بكل موضع من الجسم بغير استثناء، والوسيلة المعهودة في ملاحظة اهتمام الناس المفرط بأجسادهم لا تتجاوز مجرد الانتباه إلى ما يركزون عليه بشدة، في العناية الزائدة بمواضع محددة.
والجسم الإنساني «ينقسم إلى جزأين»؛ أحدهما ذو مرتبة عُظمى في الأهمية، والآخر ذو أهمية ثانوية، «أي:» إلى ما هو عظيم وما هو ضئيل، فليس ينبغي أن يهتم المرء بالجانب الضئيل على حساب الآخر العظيم، ولا بالجزء ذي الأهمية الفائقة على حساب الآخر الأقل أهمية.
ولا يصرف انتباهه للجانب الضئيل، إلَّا «الشخص» الدنيء، ومَن يكترث للجزء العظيم من جسده، هو «الإنسان» العاقل الحكيم.
لو أنَّ واحدًا من البستانيين تغافل عن «رعاية» أشجار «أوتون» و«جياشو»؛ لانشغاله الزائد بأشجار الشوك والسنط والعناب البري (ذي الثمار مُرة المذاق) لعدَّه الناس واحدًا من أغبى العاملين في حقل البَسْتَنة. إنَّ مَن يتكلف عناء الاهتمام الفائق بأصبع يده «المصاب» دون الالتفات إلى «آلام» الظهر والعمود الفقري، لهو امرؤ جاهلٌ أصابه الخبال في عقله.
إنَّ المنهوم الذي لا يفتأ يملأ بطنه بالطعام والشراب، يصير مرذولًا في عين الناس؛ لأنَّه بذل حرصه لأحقر الأمور متغافلًا عن أعظمها خطرًا، وأشرفها حظًّا من الأهمية.
«هَبْ» أنَّ منهومًا لم يفقد شيئًا ذا شأن، ولم يضيِّع أمرًا ذا بال «من الأشياء والأمور، البسيطة العادية الساذجة»، فهل كان اهتمامه الزائد بالطعام والشراب يهدف، فقط، إلى إشباع ذلك الجزء الضئيل جدًّا من فراغ المعدة؟ «أكان ذلك هو اهتمامه، حين أراد أن يهتم بأمور ذات شأن؟!».»
(١١–١٥) ذهب كونتوس إلى منشيوس وسأله: «لماذا يكون هناك إنسان كريم وآخر لئيم. مع أنَّ الكل أَنَاسِيُّ، والكل بشر؟» فردَّ قائلًا: «مَن انشغل بتلبية حاجات النفس الكريمة (النبيلة) فهو الكريم؛ أمَّا مَن اهتم بإشباع غرائزه الوضعية فهو الدنيء اللئيم.»
وعاد كونتوس يسأله: «فلماذا أيضًا يكون هناك، من الناس، مَن يسعى إلى إشباع حاجات النفس الكريمة، ومَن يجتهد في تلبية رغباته الدنيئة، مع أنَّ الكل إنسان والكل بشر؟» فأجاب عليه بقوله: «إنَّ أعضاء الجسد الإنساني، مثل: الأذن، والعين لا تقوم بالتفكير؛ ولهذا فهي «كثيرًا» ما تتعرض للتضليل والخداع؛ إذ إنَّها تطالع الموجودات من حولها فتسقط في حبائل غوايتها. «أمَّا» القلب (العقل)، فهو ذلك «الموضع» المسئول عن التفكير؛ هو الجزء الذي إذا أطلقتَ له العنان، وحركتَ كوامن طاقاته، «عرف كل موضع في الجسد محله ﻓ…» ارتدعت أعضاء الجسم «المنفعلة» عن أن تكون لها اليد العليا (حرفيًّا: امتنعت أعضاء الجسم الثانوية عن أن تسلك على نحو ما يسود به المضيف الضيف!)؛ فبذلك يصير المرء نبيلًا عاقلًا كريمًا.»
(١١–١٦) قال منشيوس: ««هناك مرتبتان للشرف والمجد:» مرتبة الشرف الطبيعية، ودرجة النبالة الاجتماعية؛ فالإقبال على الإنسانية والاستقامة والإخلاص والأمانة، وغيرها من الفضائل، بروح لا يخامرها اليأس، وإرادة لا يدانيها الملل، هو ما يُشار إليه «بتعبير» مرتبة الشرف الطبيعية؛ أمَّا المكانة الاجتماعية التي تتسم بها وظيفة الوزير الأعظم، «أو» القيمة التي تحوزها وظيفة «كبير رجال القصر»، فتلك كلها مما يُشار إليه ﺑ «درجة النبالة الاجتماعية»؛ ولقد كان الأقدمون يولون اهتمامًا بالغًا بمراتب الشرف الطبيعي، «وهو الأمر الذي أدى فيما بعدُ إلى أن:» ظهرت درجة النبالة الاجتماعية.
وإذا كان الناس يهتمون، في زماننا الحالي بالتخلق بسلوك «الشرف الطبيعي»، فإنَّهم ما فعلوا ذلك إلا ابتغاء الحصول على «درجة النبالة الاجتماعية»، فإذا ما تحقق لهم ذلك انصرفوا عن سلوكهم الأول، وألقوا عن كاهلهم مسئولية الشرف الأولى، وهو مما ينذر، في المحصلة الأخيرة، بانهيار كلتا المنزلتَين في وقتٍ واحدٍ.»
(١١–١٧) قال منشيوس: «إنَّ الرغبة في الصعود إلى مرتبة النبلاء، طموح إنساني يشترك فيه كل الناس، «ومع أنَّ» لكل واحد سماته الجديرة بالتقدير والتي تؤهله لأرقى مراتب الوجاهة والشرف، إلا أنَّ أحدًا لا يجيد الانتباه الكافي إلى ذلك الجانب. إنَّ درجات الشرف والنبالة التي تمنح للناس، لا تحمل مضمونًا حقيقيًّا لأيَّة وجاهة أو أي شرف. إنَّ ما يمنحه «جاومن» بيده اليمنى من درجات النبالة، يستطيع أن يسحبه بيده اليسرى بكل سهولة [جاومن، وزير أعظم بدولة جين تولى قيادة الجيش، ثم خلع الحاكم عن العرش ونصب نفسه حاكمًا بديلًا له].
قد جاء في كتاب الشِّعر القديم:
ويريد القائل بهذا المعنى أن يعرب عن استيفاء صفات الأخلاق والسجايا الكريمة لكل حظوظ المرء في حياته، حتى إنَّ الكريم «الذي انعقدت له ناصية الأمر» صار كمَن أسكرته نشوة الأخلاق، فما عاد يطمع فيما يغوي نهمة الأكل من الطعام والشراب، وما عاد يطمح إلى أوسمة أو نياشين الشرف وأردية الجاه المميزة لحاملي مراتب الشرف الاجتماعي؛ إذ قد نال مما تلهج الأفواه بحسن سيرته وذيوع ما طاب به الذكر له بين الناس، ما قد أغناه وأوفى له حقَّه.»
(١١–١٨) قال منشيوس: «إنَّ الرحمة تقهر أضدادها، مثلما يقهر الماء النار، إلا أنَّ أولئك السالكين بمبدأ الرحمة والإنسانية، في أيامنا هذه، يتصرفون على شاكلة مَن يريد إطفاء حقل من البارود بكوب من الماء، فإذا لم تخمد ألسنة اللهب، زعموا بأنَّ الماء أعجز من أن يطفئ جوف النار «غافلين عن أنَّ …» ذلك هو ما يدفع غائلة التجبر والقسوة إلى أقصى حدود الوحشية؛ مما يودي، في آخر المطاف، بذلك القدْر «الضئيل» من الإنسانية، فيضيع بددًا.»
(١١–١٩) قال منشيوس: «إنَّ الحبوب الخمسة [بذور الكتان، الأرز، القمح، الشعير، اللوبياء] هي أفضل الحبوب جميعًا، فإذا لم يتم لها النضج الكافي صارت أسوأ من الدخن، واﻟ «باي» (نوع من الأرز يُستخدم علفًا للماشية)، وكذلك الإنسانية (الرحمة) لا بد من أن تستوفي تمام النضج.»
(١١–٢٠) قال منشيوس: «كان «المدعو» «إيَّا» (أمهر الرماة في العصر القديم) وهو يُعلِّم تلاميذه دروس الرماية، يطلب إليهم أن يمدوا القوس عن آخره، فكان على كل راغب في العلم أن يشبع مد القوس كما بيَّن له. «وكذلك ﻓ …» النجار البارع يجعل من أدواته [الزاوية والفرجار] الأساس اللازم لتدريس فنونه ومهاراته، فلا غنى لطالب العلم على يديه من اتخاذهما أساسًا ومقياسًا.»
الجزء الثاني
(١٢–١) ذهب رجل من دولة «رن» إلى أولوتس (تلميذ منشيوس) وسألته، قائلًا: «ما الأهم، في رأيك، الأدب أم الطعام؟» فأجابه: «الأدب هو الأهم»، فسأله الرجل: «ترى الأدب أفضل أم النساء؟» فأجابه: «الأدب أفضل»، فسأله: «فماذا إذا كانت وسيلتي المهذبة للحصول على الطعام هي السبب في هلاكي جوعًا، بينما كان الطريق غير الأخلاقي هو الذي أعطاني كفايتي مما أطعم وأشرب، أيجب عليَّ، حينئذٍ، الالتزام بأصول الآداب والأخلاق؟ ثم ماذا إذا كان سلوكي الطريق للزواج لم يهدني إلى الزيجة المطلوبة؛ بينما كانت وسيلتي غير المهذبة هي التي جاءت بالنتيجة المرغوبة؛ أينبغي عليَّ بعد ذلك أن ألتزم بتقاليد الأخلاق «فيما يتصل بمراسم وتقاليد التعرف إلى الزوجة المناسبة»؟»
فلما لم يحر أولوتس جوابًا، قصد في اليوم التالي إلى دولة «تسو» وأبلغ منشيوس بكل ما دار بينه وبين السائل، فقال له الشيخ الحكيم: «ما أيسر الإجابة على السؤال، «تأمَّل معي فن المعمار وانظر …» إذا لم يستطع المرء تقدير ارتفاع الأرضية، وانصرف إلى قياس ارتفاع قمة الأسطح، فلا بد أن خشبة لا يتجاوز محيطها شبرًا واحدًا (توضع في قمة البناء) يمكن أن تفوق في الارتفاع أعلى النباتات «بطريقة تنافي الذوق السليم».
«ومن المعلوم» أنَّ الذهب أثقل من ريشة الطائر، لكن أيمكن القول بأن دبوسًا صغيرًا من الذهب أثقل من حمولة عربة بريش الطيور؟ ثم إذا عقدنا مقارنة بين أهمية «تناول الإنسان» للطعام، والمقدار الأدنى من الاهتمام الذي نُولِيه للمراسم الأخلاقية وأصول المعاملات، فهل يمكننا القول بأنَّ الطعام أكثر أهميةً؟ ولنأخذ موضوع العلاقة الجنسية، ولنقل — مثلًا — إنَّ الجنس مهمٌّ جدًّا للإنسان، بالمقارنة مع أصول المعاملات وقواعد الأخلاق، لكن هل يعني ذلك القول بأنَّ «إقامة» العلاقات الجنسية أكثر أهميةً من «الالتزام» بقواعد الآداب والأخلاق؟ اذهب «إلى صاحبك»، وقل له: «يمكنك يا سيدي أن تقصد إلى بيت أخيك الأكبر، وتقبض على ذراعه، فتشل حركته ثم تستولي على طعامه «قهرًا» فيصير لك أن تأكل مريئًا، فإن لم تفعل، تعذر عليك أن تأكل شيئًا. فهلَّا أخذت أهبة الهجوم على أخيك؟ ولك أن تتسوَّر حائط جارك؛ فتهبط في بيته، وتعانق امرأته وتدلف إلى خدرها، فتصير لك امرأة تقضي منها وطرك، وإلَّا بقيت في فراشك بغير امرأة، فهلَّا أعددت العدة لتسلق الجدران ومغافلة الجيران؟»»
(١٢–٢) ذهب «تساوجياو» إلى منشيوس، وسأله: «أصحيح ما قيل من أنَّه يمكن لأي فرد من الناس أن يصبح مثل الإمبراطورين الحكيمين «ياو» و«شون»؟» فأجابه الشيخ: «نعم، قد قيل ذلك»، فسأله السائل: «قد بلغني أنَّ الملك أون كان طوله يصل إلى عشرة «تشي» [أذرع، تقريبًا]، وأنَّ طول الملك طانغ كان يبلغ تسعة «تشي»، أما أنا فأبلغ من الطول أكثر من تسعة أذرع وأربعين تسون [بوصةً تقريبًا]، وها أنا ذا أقبع مكاني لا أفعل شيئًا «ذا قيمة» سوى تناول الطعام، فكيف لي أن أبلغ مثل ذلك (مثل مكانة الأباطرة الحكماء)؟ فأجابه منشيوس قائلًا: «فما علاقة هذا بذلك «ما علاقة طول الجسم بما ذكرت من طموحك المذكور؟» فالمهم هو الكيفية التي تسلك بها؛ فإذا افترضنا أن بيننا الآن رجلًا لا يقدر على رفع دجاجة بكلتا يديه، فسنعده خائر القوى؛ أما إذا استطاع رفع ما مثقاله ثلاثة آلاف جين [ألفي كيلوجرام، تقريبًا] فهو القوي الشديد، «وبالمثل» فإنَّ مَن يقدر على أن يرفع أثقالًا في وزن وحجم ما كان يرفعه البطل «أوهو» (رافع أثقال مشهور، في العصر القديم) فهو إذن نسخة مكررة من أوهو (نموذج متكرر للبطل نفسه)، فما الذي يجعل المرء حزينًا كاسفًا لمجرد أنَّه يعجز عن مجاراة الآخرين فيما يستطيعونه؟ ليس للإنسان أن يحفل بشيء من ذلك.
إنَّ إبطاء الخطو خلف مسيرة الإخوة الكبار من حُسن الخُلق، أما التكالب على مزاحمتهم وتخطيهم فليس من الحكمة في شيء.
فلتسلك على مهل، ولا أظن أنَّ ذلك بالشيء الصعب، «في الحق، لم يكن ذلك صعبًا أبدًا»؛ فالمشكلة أن أحدًا لم يحاول قط أن يتمهل.
ليس في دعوة القديسين الحكيمين «ياو» و«شون» شيء أكثر من مجرد الدعوة إلى البر بالوالدين وتبجيل الإخوة الأكبر سنًّا؛ فإذا ارتديت قميص ياو وتحدثت بكلامه، وتأسَّيت بسيرته فسوف تصبح أنت القديس الحكيم «ياو»، أما إذا ارتديت ملابس «جيه» (الطاغية) وتكلَّمت بلسانه، وانتهجت منهاجه، فسوف تصير «جيه»، بلحمه ودمه»، وهنالك قال له «تساوجياو»: «أود أن أَشْرُف بمقابلة حاكم دولة «تشو»، وأن يتكرم عليَّ بأن ينزلني منزلًا كريمًا في بلده؛ كي أبقى عندك تلميذًا وتابعًا، أتلقى العلم على يديك»، فقال منشيوس: «إنَّ الحكمة كالطريق، فهل يصعب عليك المسير؟ ليس لطالب «العلم» إلَّا أن يواصل السعي والدأب، فعُد إلى بلدك وابحث وتأمل، ففي كل مكان قاعة درس ومعلم.»
(١٢–٣) ذهب كونسون شو إلى منشيوس، وقال له: «بلغَني ما قاله كاوتسي من أنَّ قصيدة «شياوبيان» (إحدى القصائد المشهورة بكتاب الشِّعر القديم) لم ينظمها إلَّا شاعر متحذلق، ليس على شيء من سجايا الحكماء [حرفيًّا: شاعر دنيء النفس مرذول العبارة]»، فسأله منشيوس: «فما علة قوله هذا؟» فأجابه: «لأنَّ القصيدة (حسب زعمه) لا تحمل إلا لواعج الأنين والشكوى.»
فأجابه منشيوس: «يا له من مكابر عنيد، كيف يزعم مثل هذا، وكيف يُفسِّر الشِّعر على هذا النحو؟ «إنَّ المعنى الذي تشتمل عليه الأبيات يحتمل تأويلات عديدة، فمثلًا …» لو كان معنا الآن أحد الرجال ممن تترصدهم دولة يوي، ثم إذا هو وجهًا لوجه مع أحد الرماة، وقد جذب سيَّة قوسه يريد أن يسدد السهم إلى قلبه، فسوف يسارع «صاحبنا المطلوب حيًّا أو ميتًا» إلى إنشاد تلك الأبيات الواردة في قصيدة «شياوبيان»، مستشهدًا بمعانيها على الجفاء والكراهية والغلظة التي يلقاها على يد أهل دولة «يوي»، فإذا كان الرجل المصوِّب بالسهم إلى قلبه هو أخاه الأكبر، فسوف ينطلق «المطلوب القبض عليه» في إلقاء كلمات القصيدة نفسها، باكيًا منتحبًا، لا لشيء إلَّا لأنَّ قاتله هو أخوه ابن أمه وأبيه.
إنَّ الشكوى التي يبثها الشاعر من خلال أبيات «شياوبيان» تنطق بشجونه وتعبر عن رغبته الدفينة في التودد إلى أهله، والتودد إلى الأهل فرع من الأخلاق الكريمة، وأحد مظاهر الرحمة والإنسانية. يا له من أحمق ذلك المدعو كاوتسي … يا له من ظالم عنيد؛ «إذ يُقحم تلك المعاني الغريبة على القصيدة وهي أبعد ما تكون عن مراميها».
ثم قال كونسون شو: «فلماذا خلت قصيدة «كاي فنغ» (إحدى قصائد كتاب الشِّعر القديم) من مشاعر الألم والشكوى إذن؟» فأجابه: «كانت الهفوات التي وقعت فيها الأم، في تلك القصيدة، قليلة وبسيطة؛ «لذلك لم يتألم الشاعر على نحو ما نجد في القصيدة الأخرى»؛ أمَّا في قصيدة «شياوبيان»، فقد كانت أخطاء الأب شنيعةً؛ «فلذلك لمسنا دلالات الشكوى».
«ولنعلم جميعًا» أنَّ عدم الشكوى مما يجده المرء من هفوات كبيرة من والديه «ليس من المرغوب فيه»؛ فذلك دليل على «النية المبيتة» للشروع في المجافاة والابتعاد عن الأهل «وكذلك»، فإنَّ الشكوى المريرة مما يُعانيه أحدهم بسبب أخطاء بسيطة يقع فيها آباؤه دليل على السخط والتأثر السريع بشحنات الغضب ودواعي الانفعال. «والحق: إنَّ …» الجفاء من العقوق، والغضب أيضًا من أبغض ما يعقُّ به الولد أبويه، «ولذلك» فقد قال كونفوشيوس: «كان «القديس الحكيم» ياو من أكثر الأبناء برًّا بوالديه؛ إذ بقي محافظًا على مودتهما حتى بعد أن تجاوز الخمسين من عمره».»
(١٢–٤) كان سونكين (أحد دعاة نبذ الحرب لإقامة السلام العادل بين الممالك) قاصدًا دولة تشو، فالتقى في طريقه، بالحكيم منشيوس، وذلك عند منطقة «شي تشيو»، فابتدره الشيخ بسؤاله عن الجهة التي يتوجَّه إليها في سفره، فأجابه: «قد بلغني أنَّ القتال قد نشب بين دولتَي تشين وتشو، فأردت الذهاب لمقابلة ملك تشو؛ لحثه على إيقاف القتال، فإذا لم أجد لديه آذانًا صاغيةً، فسأسرع للقاء ملك تشين؛ كي أستحثه على الغرض نفسه، عسى أن أجد في أحدهما أو كليهما مَن يتفق معي في الرأي!»
فقال منشيوس: «لا أريد أن تقص عليَّ تفاصيل خطتك؛ بل اشرح لي المبادئ العامة؛ فحدثني عن الفكرة الرئيسية التي تحاول أن تقنعهما بها.»
فأوضح له قائلًا: «أفكر في أن أبيِّن لهما الأضرار الفادحة التي ستعود عليهما من جرَّاء القتال»، فقال منشيوس: «الهدف سامٍ وعظيم، لكن الفكرة «العامة» سقيمة جدًّا؛ ذلك أنَّ سيادتكم ما دمتم تهدفون إلى حث حاكمي البلدين تشين وتشو «باتخاذ ذلك المنهج لإيقاف القتال» فقد تروق لهما الفكرة وينظران إلى فض الاشتباك من باب النفع وتحقيق المصالح، وهو ما يعني أنَّ قادة وجنود الجيوش المتحاربة سيجدون في إيقاف العمليات ما يعود عليهم بالنفع والفائدة، فإذا «صارت تلك الفكرة هي المحرك الرئيسي للحياة، فإنَّ …» الوزراء وكبار رجال الدولة «أيضًا» لن يتعاونوا في خدمة جلالته إلَّا بمعيار ما يُحقق لهم النفع؛ بل إنَّ الأبناء سينظرون إلى حق رعاية الأبوين من زاوية الفكرة القائلة بالبحث عن النفع وما تتحقق به المصالح، وعندما يتعامل الإخوة الصغار مع الأكبر سنًّا على أساس مراعاة النفع والمصلحة، فسوف يتَّجه الجميع: الملك ووزراؤه، الآباء والأبناء، الإخوة الكبار والصغار؛ وجهةً يدوسون فيها بأقدامهم على مبادئ الإنسانية والاستقامة؛ حيث يتخذون من فكرة «ما يُحقق المنفعة» أساسًا لعلاقتهم المتبادلة بينهم، وهو ما يجعل من ضياع وتفكك الوطن أمرًا واردَ الاحتمال.
«أمَّا إذا» حاولت الدعاية لأفكارك على أساس مبادئ الإنسانية والاستقامة، فإنَّ استجابة حاكمَي الدولتين المذكورتين لنداء إيقاف القتال بين القوات المتحاربة سيكون قائمًا على اقتناعها بتحقيق المبدأ الأخلاقي، وهو ما يعني أنَّ قادة وجنود الجيوش سيتوقفون عن القتال استجابةً لمبادئ الإنسانية والاستقامة، وعندما يخدم الوزراء في دولة جلالته على أساس من تلك المبادئ، «وكذلك» يبرُّ الأبناء آبائهم وَفق متطلبات إنسانية وأخلاقية، وتقوم العلاقة بين الإخوة على هدى المبادئ الإنسانية، تسود العلاقات بين الكافة: الملك ووزرائه، والآباء وأبنائهم، الإخوة بعضهم وبعض، في ظل المبدأ الإنساني والاستقامة؛ وهو ما يعني أنَّ نهضة البلاد حدث تؤكده أقوى الاحتمالات، فما الذي يغريك بالاستناد إلى فكرة «تحقيق المنافع»؟»
(١٢–٥) عندما كان منشيوس مقيمًا بدولة «تسو»، كان «جي رن» قد قرَّر أن يبقى بدولة «رن»؛ ليتولى شئون الحكم هناك (نائبًا عن الحاكم الأصلي)، وحدث أنَّه أرسل هديةً قيِّمةً إلى منشيوس، على سبيل المجاملة لتقوية أواصر الصداقة معه، وقبِل الشيخ هديته دون أن يرد عليها بالمقابل.
«وفي مناسبة أخرى، عندما» كان منشيوس مقيمًا بمنطقة «بينلو»، أرسل إليه «تشوزي» — الوزير الأعظم بدولة تشي — بهدية ثمينة؛ استجلابًا للود والصداقة معه، وقبلها منشيوس دون أن يبادل الرجل التحية المناسبة.
«إنَّ تقديم الهدايا يتطلب العديد من المراسم «المعقدة»، فإذا لم تتم هذه المراسم على النحو الكافي بطلت قيمة الهدية، مهما تضاعفت»، «وردًّا على سؤالك … أقول: إنَّ السبب فيما بدر عنِّي هو أنَّه …» لم يستكمل مراسم تقديم الهدية بالطريقة التي تقتضيها الأصول.»
وقد سعد أولوتسي بهذا الرد كثيرًا، فلما سأله أحدهم «عن حقيقة ما حدث» أجابه قائلًا: «لما كان جي رن متوليًا مسئولية الإشراف على الشئون السياسية لم يستطع مغادرة البلاد «من تلقاء نفسه» للحضور إلى دولة تسو، أما تشوزي فقد كان يملك حرية التنقل والحضور شخصيًّا إلى منطقة بينلو «إلا أنَّه لم يفعل»؟»
(١٢–٦) ذهب «تشون يوكون» إلى منشيوس، وقال له: «إنَّ مَن يضعون أهمية كبرى على السمعة الطيبة والإنجازات الهائلة، هم وحدهم الذين يستطيعون تقديم المساعدات والخدمات للناس من حولهم؛ أمَّا أولئك الذين ينظرون بعين الازدراء إلى تحقيق الإنجازات والطموح إلى السمعة والشهرة، فهم الذين ينحصر تفكيرهم في ذواتهم، ولا يقصدون بالخير إلَّا وجه مصالحهم الذاتية، وأنت يا سيدي واحد من أعظم ثلاثة رجال في الدولة، ثم ها أنت تغادر منصبك دون أن تقوم بما ينبغي عليك من التعاون مع جلالة الملك، ولا المساندة لبني وطنك؛ «لا مَلِكًا ساندت، ولا رعيةً آويت» أهذا هو سلوك الحكماء؟»
فأجابه منشيوس: «لا يُمكن لمَن كان يشغل منصبًا وضيعًا أن يسلك بالحكمة الواجبة والخُلق الحسن لخدمة رجال لا طائل من نصحهم، ولا يُرجى لهم صلاح، فهذا هو «بويي» «خير مثال على ذلك … ولنأخذ مثالًا لرجل آخر حاول بكل جهده أن يساند رؤساءه؛ إذ …» راح يلهث في خدمة الملك طانغ خمس مرات متوالية، «وفي مناسبة أخرى» كان يهرع إلى خدمة الحاكم جيه خمس مرات أيضًا، فذلك هو «آيين».
«أمَّا النموذج الثالث فقد كان خير مَن يُمثِّله:» «ليو شيا هوي»، ذلك الذي لم يأنف من خدمة سيده (الملك) الأحمق، ولم يكن «قبل ذلك» قد أبدى أدنى اعتراض على العمل بوظيفة بسيطة (من الدرجة الوضيعة)، فهؤلاء الثلاثة يمثلون أساليب متباينة، وإن كان الهدف واحدًا، فما هو هذا الهدف إذن؟ إنَّه العمل بالمبدأ الإنساني؛ إذ لا يكترث الحكيم الفاضل إلَّا بقواعد الأخلاق لا أكثر من ذلك ولا أقل، «وما دام ذلك هو الهدف» فما الذي يدعوه إلى التقييد بأسلوب واحد»؟»
وهنالك قال له «تشون يوكون»: «عندما كان موكون قائمًا على عرش دولة «لو»، كان «كون إيتس» (كبير العلماء) يتولى إدارة شئون الحكم الرئيسية، أما «شيلو» و«زيس» (أحد تلاميذ كونفوشيوس) فقد كانا وزيرين — وقتئذٍ — في البلاط الحاكم، ومع ذلك «وبرغم وجود هؤلاء العباقرة في مواقع السلطة» فقد سقطت دولة «لو» سقوطًا مروعًا وانهدمت أركانها، ولم ينفعها وجود أولئك الحكماء في شيء؛ إذ لم يحولوا دون بلوغ الأحزان فيها حدًّا لا مثيل له (في بشاعته).»، فقال الشيخ: ««لكن في التاريخ أمثلة أخرى تثبت العكس» فهذا حاكم دولة «يو» يصدر قرارًا بالاستغناء عن خدمات «باي شيلي» (أحد حكماء الزمان)، فيكون ذلك سببًا في سقوط بلاده بين براثن الاحتلال، ويسارع الملك «مو»، حاكم تشين، في تعيينه بالبلاط الحاكم لديه «فترتفع مكانة الملك فوق الجميع …» وتبسط دولة تشين سيطرتها فوق الممالك.
إنَّ الاستغناء عن الحكماء يودي بالأوطان إلى التهلكة، فلا تقوم لها من بعد ذلك قائمة»، فردَّ عليه تشون يوكون بقوله: «كان في قديم الزمان رجل يدعى «وانباو» (اشتهر بجمال صوته)، وقد اتخذ مسكنه على ضفاف نهر تشي «فما هي إلَّا أيام انقضت بعد إقامته بهذا المكان، حتى …» كان كل المقيمين على الضفة الأخرى من النهر يرفعون أصواتهم بالغناء. وقيل أيضًا: إنَّ رجلًا يُدعى «ميانجي» (أحد أشهر المغنين في العصر القديم) لمَّا أقام في بلدة «كاوتان» (فترة من الزمن) صار أهالي المناطق الغربية بدولة تشي يجيدون الغناء. «ومن المرويات الشعبية ما يؤكد …» أنَّ ما قامت به زوجات كل من السيدَين «هواجو» و«تشينيان» من البكاء عليهما، إثر وفاتهما، ما أذاع شهرتهما بوصفهما أشهر النائحات على طول الزمان؛ حتى لقد أحدثن تأثيرًا بالغًا في العادات والتقاليد الشعبية.
إنَّ عناصر القوة الموجودة على نحو مضمر وعميق لا بد أن تعلن عن وجودها وتفرض أحكامها على ظاهر الأشياء، «كل ما هو موجود بالقوة، لا بد سيظهر بالفعل …» فلم أشهد في حياتي قط أحدًا بادر إلى الاجتهاد والدأب دون إحراز النجاح؛ لذلك فربما كان من المعقول الإقرار بأنَّه لم يعد يوجد على الأرض حكماء فضلاء؛ إذ لو كانوا موجودين حقًّا، لكنتُ رأيتهم وتعرفتُ إليهم»، فأسرع منشيوس بالرد عليه، قائلًا: «عندما كان كونفوشيوس يشغل منصب وزير العدل في دولة «لو»، لم يكن محل ثقة وتقدير أحد هناك، فلما كان ذات يوم وقد ذهب لإقامة طقوس القرابين، حدث أنَّ اللحوم المخصصة لإقامة الطقوس لم تُسلَّم إليه «على النحو الصحيح» فقام غاضبًا، وغادر قاعة الطقوس على الفور، دون أن يخلع عن رأسه التاج المخصص للقرابين (وهو تصرف مخل بالقوانين يجعله موضع مساءلة)، وقال الذين يجهلونه إنَّه ما قام غاضبًا إلَّا لأنَّه لم يحصل على حصته من لحوم القرابين؛ أمَّا الذين يعرفونه تمام المعرفة فقالوا: إنَّه ما غادر الحفل المقدس إلا بسبب «أنَّ دولة لو، ومسئوليها قد ارتكبوا …» الإهمال والخرق المتعمد للقواعد الأخلاقية المعهودة.
أمَّا كونفوشيوس نفسه فقد قرر أن يرحل عن البلاد متحملًا المسئولية «فيما صدر عنه». حتى العقلاء والحكماء، قد تبدر منهم تصرفات يحار الناس كثيرًا في تعليلها وفهْم أسبابها.»
(١٢–٧) قال منشيوس: «كان الأباطرة العظماء الخمسة مُذنبين في حق الملوك الثلاثة (الأباطرة الخمسة، حكموا في فترة الدول المتحاربة، وفي تحديدهم أقوال شتى؛ فمَن قائل بأنَّهم: هوان كون، (حاكم تشي)، أونكون (حاكم جين)، جوان (حاكم تشو)، هيلو (حاكم «أو»)، كوجيان (حاكم يوي). وآخر يقول بأنَّهم: هوان كون (حاكم تشي)، أونكون (حاكم جين)، موكون (حاكم تشين)، جوان (حاكم تشو)، هيلو (حاكم أو). أيًّا ما كانوا، فلا بد أن يكون من بينهم: موكون (حاكم تشين).) (لقب «كون» … يعني: حاكم، ملك)، هوان كون (حاكم تشي)، «الملوك الثلاثة: يو أسرة شيا، طانغ (أسرة شانغ)، أو «أسرة جو» …» وبالمِثل أيضًا، فالأمراء في زماننا مذنبون في حق الأباطرة العظماء الخمسة، وكذلك الوزراء العظام القائمون على شئون الحكم هم أيضًا بدورهم مخطئون في حق الأمراء.
كان الإمبراطور الأعظم (ابن السماء) يجوب الأقاليم متفقدًا أحوال الدويلات التابعة له فيما يُسمى ﺑ «الجولة التفقُّدية»، وكان الأمراء يذهبون إلى القصر الحاكم «في طقس رسمي دائم» بما يطلق عليه «رفع تقارير الإحاطة».
وقد اعتاد الإمبراطور الأعظم أن يذهب في جولة استطلاعية يتفقد فيها أحوال المناطق الزراعية أثناء الربيع؛ حيث يُقدِّم المعونات للمعسرين الفقراء. أمَّا في الخريف، وعندما كان يخرج لمتابعة أحوال الحصاد، فقد كان يُقدَّم الدعم والمساعدة للمناطق التي نكبت بحصاد ضئيل، ثم كان يسافر إلى المناطق الحدودية النائية، فإذا وجد الأرض ممهدةً والحقول مستصلحةً، والناس (كبار السن بخاصةٍ) في رغد العيش؛ حيث يجد الكبار مَن يعولهم، ويلقى الحكماء كل تبجيل وتقدير، ويذهب النجباء منهم للعمل في الدوائر الرسمية، فقد كان جلالته يمنح «للأمراء» الهبات والإقطاعات والأراضي الزراعية. أمَّا إذا اكتشف، في زياراته إلى المناطق النائية، عكس ذلك؛ من أرض خربة، ومساحات من الخلاء المجدب، وأحوال «اجتماعية وأخلاقية سيئة»؛ يلقى فيها كبار السن الإهمال والمجافاة، ويُقصى الحكماء عن مواقع الاستفادة منهم، وتمتلئ الدوائر الحكومية والرسمية باللصوص والناهبين؛ فقد كان يقرر «على تلك المناطق» العقوبة وينزل بها المخالفات.
«وكان من بين النُّظم المعمول بها آنذاك أنَّ …» الأمير الذي يتأخر عن الذهاب إلى البلاط الحاكم مرةً واحدةً يُعاقب بتخفيض رتبته الاجتماعية، فإذا بلغ التأخير مرتين يعاقب بتخفيض مقدار الأراضي «التي تحت يده»، فإذا تأخر ثلاث مرات عن الذهاب إلى القصر الحاكم أُرسلت إليه قوات تأديبية خاصة.
ومن ثمَّ، فقد كان من سلطة الإمبراطور استخدام قوات تأديبية «في هذه الحالة» وليس قوات هجومية، أمَّا الأمراء فهم ضمن القوات الهجومية وليسوا من القوات التأديبية.
وكان الأباطرة العظماء الخمسة هم الذين أجبروا فريقًا من الأمراء على مهاجمة فريق آخر منهم، وهو الأمر المشار إليه في التنديد بارتكابهم خطأ فادحًا في حق الملوك «القديسين» الثلاثة.
ومن بين أولئك الأباطرة الخمسة، كان هوانكون (حاكم تشي) الأكثر قوة ونفوذًا، حتى لقد عقد «مع باقي الأباطرة» اجتماعًا للأمراء في بلدة «كويتشيو» (بدولة سونغ)، وذبحوا أضحية وطرحوها ثم كتبوا عهدًا وميثاقًا فيما بينهم ووضعوه فوق الأضحية، دون أن يلطخوا أفواههم بدمها (مثلما جرت العادة، من قديم، في عهد المواثيق بين الأمراء والملوك)، وورد في البند الأول من الميثاق أن يصدر حكم الإعدام ضد عاقِّ أبويه، وأن تُعد أيَّة محاولة لتغيير الموصَى له بوراثة العرش باطلة بطلانًا تامًّا، وألَّا تعامله المحظية معاملة الزوجة. ونص البند الثاني على ضرورة تبجيل الحكماء، ورعاية النابغين والنجباء، وتشجيع ذوي الخلق الكريم. وفي البند الثالث تم التأكيد على وجوب توقير كبار السن، والرفق بالأطفال، وعدم السخرية من الضيف والمسافر ابن الطريق. واشتمل الميثاق في البند الرابع على «أحكام تقضي ﺑ …» ألَّا تكون وظيفة العلماء وراثية، وألَّا يتم الجمع بين وظيفتين رسميتين (حرفيًّا: لا يجوز التكليف بوظيفتين عموميتين في آنٍ واحد)، وأن يجري ترشيح العلماء بما يتفق مع الشروط، وألَّا يكون من صلاحيات الملك «منفردًا» الحكم بإعدام السادة الوزراء (يصدر الحكم بإجماع الآراء). أمَّا البند الخامس فقد نصَّ على: حظر إقامة السدود على نحو عشوائي، ورفع أي قيد على بيع الحبوب، وضرورة إبلاغ الجهات العليا بما يتم منحه من هدايا ومكافآتٍ ومِنحٍ.
ثم إنَّ الجميع حلفوا اليمين، وهذا نصه: «نقسم نحن المتعاقدين في هذا الحلف على استعادة علاقات الود والاستقرار مع بعضنا البعض حال سريان العمل بنصوص هذا الميثاق.»
إلَّا أنَّ الأمراء، في وقتنا الحالي، يُخالفون نصوص تلك البنود؛ ولذلك نقول: إنَّ أمراءنا الآن مذنبون في حق الأباطرة الخمسة، ومَن يتواطأ منهم مع الملك في تجاوزاته [حرفيًّا: جرائمه] لا يُؤاخذ إلَّا على نحو يسير، ولا يعد مقترفًا إلَّا أحقر الآثام، أمَّا مَن يضارع الملك في مخالفاته الجسيمة للقانون، فذنبه أكبر وجريمته أشنع.
ثم إنَّ كبار المسئولين، في الوقت الحالي، يرتكبون ما يضارع أفدح مخالفات جلالته، فمن ثم يمكن القول بأنَّ كبار المسئولين، الآن، مذنبون في حق الأمراء أنفسهم.»
(١٢–٨) أرادت دولة «لُو» [كما تنطقها في «لوبياء»] تعيين «شن تسي» في منصب القائد العام للجيش، فقال منشيوس: «إنَّ دفع الناس إلى ساحات القتال دون تعليمهم وتوعيتهم يعني توريطهم فيما لا قِبَل لهم به، وهو ما لم يكن يُسمح به أبدًا في زمن الأباطرة ياو، شون. وحتى لو لم تتجاوز العمليات مجرد القيام بضربةٍ واحدة تقضي على دولة تشي، وتستولي على مدينة «نانيانغ» فلا ينبغي أن … «يتم هذا الأمر».»
وهنالك امتقع وجه «شن تسي» من الغضب وقال: «هذا كلام غير مفهوم»، فقال له منشيوس: «إذن، أقول لك الحق على نحو مفهوم: إنَّ الأرض التابعة لجلالة الإمبراطور الأعظم تبلغ ألف «لي» مربع، فإذا نقصت مساحة الأرض عن هذا، عجز جلالته عن أن يُكرم وِفادة الأمراء، ثم إنَّ الأراضي التي تحت يد أمراء الأقاليم تبلغ (فيما يخص كل أمير على حدة) مائة لي مربع، فإذا نقصت عن هذا تعذَّر على الأمير الوفاء بمتطلبات إقامة الطقوس [الكهنوتية] المخصصة للمعابد، وقد أُقطعت للأمير «جوكون» ولاية «لو» التي كان ينبغي ألا تقل أرضها عن مائة لي، إلا أنَّها كانت دون ذلك، ثم مُنح الأمير «تايكون» إقطاعًا بدولة تشي على ألا تقل مساحته عمَّا هو مقرر، لكن الأرض كانت تقل عن مائة لي مربع.
وقد زادت اليوم أراضي «لو» عن مساحتها المقررة خمسة أضعاف، فما ظنك لو وقعت السلطة الآن في يد واحد من الحكماء؟ أيعمل على تقليل المساحة أم زيادتها؟ إنَّ الحكيم العاقل «المتخلق بالمبدأ الإنساني» لن يُقدِم على ضم أراضي الغير إلى بلاده، حتى لو لم يكلفه ذلك الكثير من القوات، فما بالك بمَن يخطط لقتالٍ بهدف النهب والسلب وإراقة الدماء؟ على الرجل الحكيم العاقل الذي يتفانى في خدمة جلالته أن يصحح مساره ويضبط اتجاهه على الطريق القويم، وأن يقيم العزم على العمل بالمبدأ الإنساني.»
(١٢–٩) قال منشيوس: «كثيرًا ما أسمع معاوني الأمير يقولون، هذه الأيام: «بأيدينا أن نوسع للأمير فيما تحت يده من الأراضي، وأن نكثر ودائع مخازنه.»
إنَّ الوزير الكفء، بمعيار زماننا هذا، هو الوزير الذي اشتهر في العصر القديم بأنَّه لص الشعب، «وهو الوزير الذي …» إذا تنكَّب سيده الأمير عن طريق الخُلق الأقوم، وحاد عن محجة الإنسانية والخير راح يصبُّ له الأموال صبًّا، في خزائنه، حتى صارت كنوزه في مثل ما اكتنز «الملك الطاغية» الملك جيه (سليل آل «شيا»)، ثم إنَّني «كثيرًا ما أسمع عمال الأمير يقولون أيضًا:» «بيدي أن أعقد له الأحلاف، وأوثق له المعاهدات، فلا يدخل حربًا إلا صال فيها صولة المنتصر.»
ألا إنَّ أكفأ الوزراء في هذه الأيام هم أولئك الذين كان يُطلَق عليهم «بمعايير» الزمن القديم سارقو أقوات الناس، «أولئك الذين» إذا حاد الأمير عن جادة الصواب، وانتحى طريق الإنسانية والأخلاق جانبًا «كانوا له خير معين؛ بل …» أطلقوا له يد الحرب والقتال، وكأنَّهم أنصار «الطاغية القديم» الملك جيه (حفيد آل شيا)؛ فذاك هو الطريق الذي ما مشى فوقه ماشٍ، غافل بوعثاء شروره، متخبط في ميل أهوائه، إلا أوقع ﺑ «سيده الأمير» في نكبةٍ لا تذهب بمرارتها الأيام، وجزعٍ لا تبدده كلُّ مغانم النصر فوق الممالك.»
(١٢–١٠) قال «باي كوي» لمنشيوس: «أفكر في أن أُحصِّل الضرائب بنسبة عشرين في المائة، فما رأيك يا سيدي؟» فأجابه منشيوس: «هذا أشبه ما يكون بالنظام الضريبي المتبع في قبائل «مو» الشمالية (القبائل البربرية على الحدود الشمالية الغربية)؛ حيث لا يمكنك أن تجد وسط إقليم يسكنه عشرة آلاف نسمة إلَّا صانعَ فخارٍ واحدًا، فهل يناسبك تطبيق نظامك الضريبي «في ظل وضع مماثل»، فردَّ عليه قائلًا: «كلَّا، فصناعة الفخار لا تفي بالمطلوب»، فواصل منشيوس كلامه قائلًا: ««اعلم» أنَّ الأرض في إقليم «مو» الشمالي لا تنتج إلا الذرة؛ أمَّا الحبوب الخمسة فلا تصلح أحوال الأرض لإنتاجها، وليست هناك مدن حصينة ولا مبانٍ سكنية ولا معابد، أو حتى مجرد طقوس عادية لتقديم القرابين، ولا توجد هناك هدايا أو ولائم متبادلة بين الأمراء ولا علاقات ودٍّ متبادلة بينهم، وليست هناك أيضًا مبانٍ حكومية ولا هيئات رسمية ولا موظفون، مما يجعل نسبة العشرين في المائة كافيةً تمامًا؛ أمَّا بالنسبة لنا، حيث نقيم في المملكة الوسطى، فلا نستطيع إلغاء الأعراف الاجتماعية أو الاستغناء عن الدور الرسمية والمنشآت الحكومية وموظفيها الكثيرين، أوتظن ذلك ممكنًا؟
إنَّ صناع الفخار قليلون جدًّا، وهم، بجانب ذلك، لا يملكون من الدخل ما يمكن أن يعود على بلادك بكثير نفع، فما قولك «إذا واجهتك بالحقيقة الأكثر إيلامًا، وهي:» نقص عدد الحكماء والدارسين الأكفاء؟
فإذا كنت تريد تقليل النسبة الضريبية «عمَّا كانت عليه أيام الملكين القديسين ياو وشون»، فإنك تصنع نموذجًا آخر أكبر من قبائل مو الهمجية «فتصير هناك بَلدانِ: مو الصغرى، ومو الكبرى، على التوالي؛ أمَّا إذا كنت تبغي زيادة الضرائب عمَّا كانت عليه في زمن القديسِين الحكماء، فأنت ترسم «لبلادك» صورة أخرى من دولة جيه ««الطاغية»؛ حيث تصنع نموذجين مكررين: جيه «الطاغية»» … الأكبر، جيه الأصغر».»
(١٢–١١) قال باي كوي: «إنَّ النظام «الذي اتخذته» في مواجهة مخاطر الفيضان يفوق ما أبدعه الإمبراطور «يو».»
فقال له منشيوس: «بل قد جانبك الصواب، يا سيدي؛ ذلك أنَّ النظام الذي قرره الإمبراطور «يو» في مواجهة أخطار الفيضان كان يقوم على مراعاة منسوب المياه؛ حيث «صرف المياه الزائدة» في البحار الأربعة، متخذًا منها مصرفًا هائلًا للمياه، أمَّا ما قمت به فلا يزيد على مجرد تحويل الأقاليم المجاورة إلى مصرف هائل للمياه؛ حيث تسير الأنهار عكس اتجاهها وتتجاوز الضفاف، وهذا بالضبط، ما يُقال له «الفيضان»، وهو ما يبغضه كل عاقل حكيم. قد جانبك الصواب أيها السيد الكريم.»
(١٢–١٢) قال منشيوس: «إذا لم يكن الحاكم صدوقًا، موضع ثقة الناس به، فكيف «لنا» أن نلتزم بالاستقامة والنزاهة؟»
(١٢–١٣) كان «حاكم» دولة لُو قد أعدَّ العدة لتولية «يوجين» (منصبًا رفيعًا) لإرادة الشئون الحكومية، «وبلغ ذلك الخبر إلى مسامع منشيوس ﻓ» قال الشيخ الحكيم: «قد سعدت بهذا الخبر سعادةً لا توصف، حتى لقد جافاني النوم»، فسأله كونسون شو: «أتظن أنَّ يوجين هذا أكثر الرجال عزمًا وكفاية؟» فأجاب منشيوس بالنفي، فسأله كونسون شو: «أهو رجل حكيم، بعيد النظر؟» فهزَّ منشيوس رأسه بالنفي، فسأله السائل: «فهل هو غزير العلم واسع المعرفة؟» فرَّد الشيخ بالنفي، فسأله: «فما الذي أسعدك، إذن، بذلك الخبر، وأسهد جفنيك؟» فأجابه: «لأنَّ الرجل من النوع الذي يحب الإنصات للقول المفيد»، فقال له كونسون شو: «أيكفي الرجل أن يكون منصتًا جيدًا للكلام المفيد؟» فأجابه منشيوس: «الإنصات الجيد للقول المفيد يكفي المرء أن يدير شئون العالم السياسية، فما بالك بولاية «لو»؟ أمَّا الرجل إذا كان محبًّا للإنصات إلى ما فيه الفائدة سعت إلى أبوابه وفود الناس قاطبةً، ولو شَدت إليه رحال السفر البعيد (حرفيًّا: ركبت إليه الطريق عبر ألف ميل) لتفضي إليه بما وعت قرائحها من القول المفيد، فإذا لم يكن المرء يشتهي أن يميل بأذنه إلى ما فيه صلاح أمره، سخر منه الناس وراحوا يقلدون هيئته «مازحين»: «… نعم … نعم، تلك أمور أعرفها ولا حاجة لتذكيري بها!» وهو ما يصد الناس عن المجيء إليه «عبر مسافة تمتد زهاء ألف ميل»، وكذلك سيستثقل المتعلمون وعثاء السفر إليه، فينفسح الطريق أمام المتملقين والمداهنين، فما ظنك بأحوال البلاد إذا ما التقى أولئك بهؤلاء، أيُمكن أن يكون هناك حكم رشيد «في ظل تلك الطغمة المنافقة»؟»
(١٢–١٤) ذهب «تشن تسي» إلى منشيوس وسأله: «ما هي الأحوال التي كان يقبل فيها الحكيم قديمًا الالتحاق بالوظائف العمومية؟» فأجابه: «كانت هناك ثلاثة شروط كي يقبل فيها المثقف العمل بوظيفة عامة، وثلاثة أحوال أخرى كانت تفرض عليه الاستقالة فورًا من العمل؛ فإذا تمَّ الترحيب به وإبداء التوقير له والموافقة على وضع آرائه موضع تنفيذ كان يقبل العمل كموظف رسمي، «ومع ذلك، وفي الحد الأدنى» فإذا بدت مظاهر الترحيب معقولة والمعاملة طيبة «إلى حدٍّ ما»، لكن دون أن يؤخذ باقتراحه، فقد كان يقدم استقالته «ذلك هو الشرط الأول، فأما الثاني:» فقد كان الحكيم الفاضل يقبل العمل الحكومي، إذا قوبل بالاحترام اللائق، حتى لو لم يلتفت إلى العمل باقتراحاته، فإذا تبدَّلت مظاهر الاحترام المبذول له هجر الوظيفة في الحال. أمَّا الظرف الثالث الذي كان يوافق فيه على الالتحاق بالإدارة الرسمية فقد كان يتمثَّل في تلك الحال التي يستيقظ فيها الحكيم صباحًا، فلا يجد الطعام، ويمسي عليه المساء فلا يجد ما يقيم أودَه، فيصيبه الإعياء حتى يعجز عن الخروج من منزله، فيبلغ ذلك الأمير، فيقول: فيما يتعلق بالمبادئ العامة، فلا أستطيع أن أعمل باقتراحاته، ولا أن آخذ بتوصياته، لكني أيضًا «وفي الوقت نفسه» لن أرضى لنفسي أن أدعه يموت فوق أرض بلادي «لا أحب أن أوصم العار بسبب موته!» فيُنفِذ إليه مَن ينقذه من الموت جوعًا، فيقبل الحكيم ويرضى «ذلك التدخل من جانب الجهات الرسمية»، لكن فقط في الحدود التي تحول دون موته.»
(١٢–١٥) قال منشيوس: «ارتقى «شون» من فلاحة الأرض والحقول إلى سامق المجد، وكذلك صعد «بويو» إلى سلم الشرف وقد كان في مبتدأ أمره مجرد عامل بناء، أمَّا «جياوقه» فقد بلغ منزلة كريمة وكان يعمل، فترة من حياته، في الملَّاحات وصيد الأسماك، وذاع صيت «كوانيو» وعلا في سماء المجد نجمُه (وهو أشهر السياسيين في عصر الربيع والخريف)؛ إذ خرج من أبواب السجن إلى عالم السياسة والشهرة «في أزهى عصور الصين القديمة»، وكذلك انطلق «سون شو آو» إلى أجواء العمل العام، وقد كان طريدًا عند شاطئ البحر، ووجَد باي ليشي طريقَه إلى البلاط الحاكم (كبير وزراء تشين في عصر الربيع والخريف) وهو الذي بدأ حياته بائعًا في الأسواق، «وهو الأمر الذي يبرز بوضوح» أنَّ السماء إذا قدَّرت لامرئٍ ما، مكانةً عظيمةً في حياته، وأعدت له أمرًا ذا شأن، كان لا بد، في أول الأمر، من أن تمتحن عزيمته بالانكسارات، وتلهب عظامه بالأوجاع، وتوقظ جسده بالآلام وتلقي في جوفه [حرفيًّا: أمعائه] مرارة الجوع والحرمان، فتوهن عافيته وتسلط عليه الضَّنى والهزال، وتحاصر كل أفعاله وتضيِّق عليه كل مخرج، وتُبدِّد له كل رجاء؛ إذ حق عليه أن تتزلزل أعماقه، وتنصهر بلهب الحياة طاقاته، وتتجدد مواهبه «ومع ذلك، فلا عوض له عما فاته»، ولم يكن الإنسان ليصلح أمرًا إلَّا لأنَّه كثيرًا ما يتناول بيد الفساد أشياءه.
إنَّه لا تنطلق زفرات الغضب إلَّا من صدور كظيمة وقلوب مشتتة لكثرة تباريح النفوس، فتنعتق الإرادة ويصير ثمة عمل مرتقب، فيشرق الوجه وتنتعش في الفم الكلمات، ويصير هناك أناس يفهمون المعنى ويقدِّرون كل الأحوال. إنَّ بلدًا يفتقد باطنُه (جهازه الداخلي) المستشارين المساعدين والوزراء التنفيذيِّين، وتخلو ساحته الخارجية من مجابهات وقلاقل مع جيرانه المناوئين له، سيلقى الضياع والهلاك في عاجل أمره؛ لذلك نستطيع أن نفهم ما للكوارث والمصاعب والقلق من دور في استنهاض «قيمة» وجود الإنسان؛ لأنَّ «حياة» الدَّعة والترف تقود، حتمًا، إلى الزوال.»
(١٢–١٦) قال منشيوس: «فنون التعليم وأشكاله وطرائقه كثيرة ومتعددة، «ومع ذلك» فلست أوافق بأن أقوم بالتدريس لأي طالب علم؛ «لئلَّا أثير في نفسه الشعور بالنقص، ومن ثم الانسحاب والتقوقع»، وتلك أيضًا طريقة أخرى في التعليم.»