ساكن الغرفة الخلفية بالطابق الثالث

لم يَكُن ميدان بلومزبيري سكوير، مع دقات الساعة الرابعة في عصر أحد أيام نوفمبر، مُزدحمًا إلى حدٍّ يَقي الغريب، ذا المظهر المختلِف بنحوٍ أو بآخَر عن المعتاد، من الملاحَظة. ففي أثناء مروره، توقَّف صبيُّ متجَر تيبس فجأةً عن الصَّدْح بالغناء، وتراجع خطوة للخلف حتى خَطا على أصابعِ قدمِ شابةٍ طَلْقةِ اللسان تدفعُ عربةَ أطفال، وبدا أن أذنَيْه قد صُمَّتا عن سماعِ تعليقاتها الشخصية بعض الشيء عليه. ولم يَستجمِع شتات نفسه ويَسترجع اهتمامَه بشئونه إلا بعدما بلغَ ناصيةَ الشارع التالية، مُستكمِلًا أغنيتَه التي بَدَت الآن دمدمةً خفيضة بلا معنًى. أمَّا السيدة الشابة نفسُها، فقد نسِيَتْ ما لحِقَ بها من أذًى بينما كانت تتأمَّلُ ظَهرَ الغريب الذي تخطَّاها ببضعِ ياردات. كان هناك شيء غريب في ظهره؛ إذ لم يكُنْ مستقيمًا تمامًا؛ بل كان مُنحنيًا انحناءةً لا تُخطِئها العين. حدَّثَت السيدةُ الثرثارة نفسَها قائلة: «إنها ليستْ حَدَبةً ولا تبدو لي تقوُّسًا في العمود الفقري. يا للعجب، يبدو وكأنه يحملُ كومةً من الغسيل أعلى ظهرِه تحت مِعْطفِه.»

لمح الشرطيُّ، في خِضَم مُحاوَلاته للتظاهُر بالانشغال، الغريبَ بينما كان يَقترب منه، فحوَّلَ اهتمامَه ناحيتَه. وقال في نفسه: «يا لمِشْيتك العجيبة، أيها الشاب! عليك الاحتراس كي لا تَتعثَّرَ فتسقط مُنقلبًا.»

ثم غمغَمَ بعدما تجاوَزَه الغريب: «إنه شابٌّ كما توقَّعتُ. وجهُه وجهُ شابٍّ دون شك.»

كان ضوءُ النهار آخِذًا في الخفوت. ولمَّا عجز الغريب عن قراءة اسم الشارع الموجود فوق البيت الذي عند ناصية الشارع، استدارَ عائدًا.

حدَّثَ الشرطيُّ نفسَه قائلًا: «عجبًا، إنه بالفعل شابٌّ صغير؛ بل مجردُ فتًى.»

توجَّهَ إليه الغريبُ بالحديث قائلًا: «عُذرًا، هلَّا تُرشِدني إلى ميدان بلومزبيري سكوير؟»

ردَّ الشرطيُّ مُوضِّحًا: «هذا ميدان بلومزبيري سكوير، أو بدءًا من الناصية القادِمة على وجه الدقة. ما رقمُ البيتِ الذي تُريده؟»

أخرَجَ الغريبُ من أحد جيوب مِعْطفِه الطويل المُغلَقِ الأزرار قُصاصةً من الورق، ثم فتَحَها وقرأ: «نُزُل السيدة بنيتشيري. رقم ٤٨.»

قال له الشُّرطي: «الناصية القادِمة، جهة اليسار، المنزلُ الرابع. هل أوصى لكَ أحدُهم بالإقامة هناك؟»

«نعم … صديقٌ لي. أشكرُكَ جزيلَ الشكر.»

غمغَمَ الشرطيُّ في سرِّه: «هكذا إذن، أُراهِن أنك لن تَظَلَّ تدعوه صديقي بعدما تَقْضي أسبوعًا في هذا المكان، أيها الشاب …»

ثم أضاف بينما كان يُحدِّق في هيئةِ الغريب المبتعِدة: «يا للعجب! لقد رأيتُ الكثيرَ ممَّن يَبدون أصغرَ سنًّا من ظهورِهم وعندما تَطَّلِع على وجوههم تَجِدهم أكبرَ عمرًا. لكنَّ هذا الرجل على ما يبدو يحملُ وجهَ شابٍّ وظهرَ شيخ. أُراهِن أن جانبَه الشابَّ سيَشِيخ بدوره إنْ أقامَ طويلًا عند هذه المرأة التي تُدعى بنيتشيري؛ تلك العجوز البخيلة.»

كان لدى رجال الشرطة، ممَّن تتضمَّن مُناوباتهم ميدان بلومزبيري سكوير، أسبابٌ تَدْفعُهم لكراهيةِ السيدة بنيتشيري. وحقًّا قد يكون من الصعب العثورُ على إنسانٍ لديه ما يدفعه لحب هذه السيدةِ ذات الملامح الحادَّة. وربما كانت إدارةُ نُزُلٍ من الدرجة الثانية في ميدان بلومزبيري سكوير نشاطًا لا يؤدِّي بصاحبِه إلى اكتسابِ فضيلتَي الكرم واللُّطف.

في هذه الأثناء، كان الغريب قد بلَغَ وجهتَه، وقرَع جرسَ البيت رقم ٤٨. استرَقَت السيدةُ بنيتشيري النظرَ من أعلى السلالم المؤدِّية إلى المنزل لامحةً رجلًا ذا وجهٍ وسيم وإنْ كان ذا طابعٍ أُنثويٍّ بعضَ الشيء، فأسرعتْ بتعديلِ قبعة الأرملة التي تَرتديها أمام المرآة، وأمرَت الخادمةَ ماري جين باصطحاب الغريب إلى غُرفة الطعام، تَحسُّبًا لأن يكون مُستأجرًا مثيرًا للمَتاعب، وإشعال مصابيح الغاز.

وكانت تعليماتها الأخرى كالتالي: «ولا تتوقَّفي عن الثرثرة معه، ولا تأخُذِي على عاتقِكِ الإجابة عن أسئلته. قولي له إنَّني سأَحضرُ في غضون دقيقة، وراعي ألا تُظهِري يدَيْكِ قدرَ استطاعتكِ.»

•••

سألت السيدة بنيتشيري ماري جين، الخادمة المتَّسخة الثياب، بعدما عادت عَقبَ بضعِ دقائق: «علامَ تضحكين؟»

ردَّت ماري جين بنَبرةٍ خانعة: «لم أكن أضحك؛ كنتُ أبتسم لنفسي فقط.»

«لماذا؟»

قالت: «لا أعرف.» وواصَلَت الابتسام بالرغم من ذلك.

سألت السيدة بنيتشيري: «كيف يبدو إذَن الرجل؟»

كان رأيُ ماري هو: «ليس من النوع المُعتاد.»

فصاحت السيدة بنيتشيري في ورع: «حمدًا لله على ذلك.»

«يقول إنَّ صديقًا قد أوصى له بهذا النُّزُل.»

«مَن يكون هذا الصديق؟»

«قال «صديقًا» فحسب. ولم يَذكر اسمًا.» صمتَتِ السيدة بنيتشيري لحظةً مُفكِّرةً. ثم سألتها: «لم تَبْدُ عليه أَماراتُ السخرية، أليس كذلك؟»

قالت لها ماري جين إنه لم يَبدُ عليه ذلك على الإطلاق. وقد كانَت واثِقة من ذلك.

صعدت السيدة بنيتشيري السلالمَ بينما لا تزال غارقةً في أفكارها. وما إنْ دلفَتِ إلى الغرفة حتى قام الغريب وانحنى لها. لقد كانت تلك الانحناءة في غاية البَساطة، إلا أنها بعثَتْ في قَلبها دَفْقةً من أحاسيسَ طواها النِّسيانُ منذ سنوات. ولِلَحظةٍ رأت نفسَها سيدةً لطيفةً ذاتَ أصلٍ راقٍ، أرملةَ مُحامٍ، تَستقبِل ضيفًا جاء لزيارتها. لكنَّ هذا الخيالَ العابر تبخَّرَ بسرعة. ففي اللحظة التالية عاوَدَها واقِعُها. إنها لا تزال نفْسَها، السيدةَ بنيتشيري، صاحبةَ النُّزُل التي تَقتاتُ بين الحين والآخَر على وجباتٍ يومية من البُخل الحقير، وهي الآن تَستعدُّ لخوْضِ سِجالٍ مع ساكن جديد مُحتمَل، يبدو، لحُسْن الحظ، شابًّا مهذبًا بلا خبرة.

بدأت السيدة بنيتشيري حديثَها قائلة: «تقول إنَّ أحدَهم قد رشَّحَ لك نُزُلي، هلا تذكر مَن هو؟»

لكن الغريب رفَض الرد على السؤال مُعتبرًا إياه غير مُهم.

وقال مُبتسمًا: «قد لا تتذكَّرينه. لقد رأى أن في وُسْعي قضاءَ الأشهُرِ القليلة التي تبقَّتْ لي … في لندن أعني، هنا في نُزُلك. فهل تَقْبلين استضافتي؟»

اعتقدت السيدة بنيتشيري أنَّ في وُسْعِها استضافتَه.

أضاف الغريبُ مُوضِّحًا: «كلُّ ما أحتاجه هو غرفةٌ للنوم — أيُّ غرفةٍ ستَفِي بالغرض — وطعامٌ وشراب يَكْفي لرجلٍ واحد.»

استأنفَت السيدة بنيتشيري حديثَها قائلةً: «دائمًا ما أُقدِّم في وجبة الإفطار …»

فقاطَعَها الغريب: «بالتأكيد، طعامًا جيدًا ومُناسِبًا، أنا واثِقٌ من ذلك. أرجوكِ لا داعيَ لإرهاقِ نفسِكِ بسرْدِ التفاصيل يا سيدة بنيتشيري. سأَرضى بأيٍّ ممَّا ستُقدِّمينه لي.»

ألقَتِ السيدةُ بنيتشيري وهي مُتحيِّرة نظرةً سريعة على الغريب، لكنَّ وجهَه، على الرغم من ابتسامِ عينَيْه الطيبتَين، كان صادقًا وجادًّا.

قالت السيدة بنيتشيري مُقترحة: «على أيِّ حال، سترى الغرفةَ قبل أن نُناقِشَ الشروط.»

قال الغريب مُوافقًا: «بالتأكيد. إنني مُتعَب قليلًا وسأكون مُمتنًّا لو ارتحتُ هناك بعض الوقت.»

قادت السيدة بنيتشيري الغريبَ عبر السلالم حتى وصَلا إلى بسطة الطابق الثالث، وحينها توقَّفتْ لحظةً في تردُّد، ثمَّ فتحتْ بابَ غرفةِ النوم الخلفية.

علَّقَ الغريب قائلًا: «إنها مُريحةٌ جدًّا.»

اندفعت السيدة بنيتشيري قائلةً: «إيجارُ هذه الغرفة، مع الإقامة الكاملة التي تَشتمِل على …»

قاطَعَها الغريب مجددًا بابتسامته الهادئة الجادة: «كل ما يَحتاجه المرءُ. هذا أمر معروف.»

عاوَدت السيدةُ بنيتشيري الحديثَ قائلة: «عادةً ما أتقاضى أربعةَ جنيهات أسبوعيًّا لقاءَ هذه الغرفة. أما بالنسبة إليك …» ثم فجأةً غشيَ صوتَها دونَ درايةٍ منها نبرةُ كرمٍ بالغ وأضافت: «فلأنَّ أحدًا قد أوصى لكَ بهذا النُّزُل، فَلْنَقُل إن إيجارَها سيكون ثلاثة جنيهات وعشَرة شلنات.»

رد الغريبُ: «سيدتي العزيزة، هذا كرمٌ منكِ. كما خمَّنتِ، أنا لستُ رجلًا ثَريًّا. وإذا لم يُعدَّ ذلك إثقالًا عليكِ، فإني أقبلُ هذا الإيجارَ المُخفَّض بكلِّ امتنان.»

مرةً أخرى ألقتِ السيدة بنيتشيري، التي تَأْلف جيدًا الأسلوب الساخر، نظرةً مُتشكِّكة على الغريب، لكنها لم تَجِد في ذاك الوجهِ الصَّبُوح الصافي أيًّا ممَّا قد يُعبِّر ولو للحظة عن سخرية. حقًّا كان وجهُه بسيطًا مثل طَبْعه.

«الغاز، بالطبع، له حسابٌ مُنفصِل.»

وافَقَها الغريب قائلًا: «بالطبع.»

«أمَّا الفحم …»

للمرة الثالثة قاطَعَها الغريب قائلًا: «لن نَختلِف. لقد كنتِ في غايةِ اللطف معي حتى الآن. وأشعر، يا سيدة بنيتشيري، أنَّ في وُسْعي أنْ أَعهدَ نفسي إلى رعايتِكِ بكل اطمئنان.»

بدا الغريب يَتُوق إلى الانفراد بنفسِه. فتوجَّهت السيدةُ بنيتشيري نحو الباب مُغادِرةً بعدما أوقَدَتِ المِدفأة. لكنَّ تلك اللحظةَ شَهِدتْ تطورًا غير مُتوقَّع، فقد بدَرَ من السيدة بنيتشيري، المعروفةِ بسجلٍّ لا تَشُوبه شائبةٌ من رجاحة العقل، سلوكٌ كانت قبلَ خمسِ دقائقَ فحسب تظنُّ هي نفسها استحالةَ صدورِه عنها؛ سلوكٌ لن يُصدِّقه كائنٌ حيٌّ عرفها من قبلُ، حتى وإن جثَتْ على ركبتَيْها وأقسمت له على حدوثه.

إذ سألت الغريب ويدُها على مقبض الباب: «لقد طلبتُ منك ثلاثةَ جنيهات وعشَرةَ شلنات، أليس كذلك؟» كانت تتحدَّث بضِيق. وكانت تَشعُر باستياءٍ من الغريب ومن نفسها، وخاصةً من نفسها.

رد الغريب: «لقد بلَغْتِ من الكرم حدَّ تخفيضِه إلى ذلك القدْرِ، لكن إذا وجدْتِ بعد تَفكيرٍ أنكِ لن تَقْدِري على …»

قاطَعَتْه السيدة بنيتشيري بقولها: «لقد ارتكبتُ خطأً؛ كان عليَّ أن أُخبركَ أن الإيجار جنيهان وعشَرةُ شلنات.»

صاح الغريب: «لا أستطيع … لن أَقْبلَ بتضحيةٍ كهذه، فبوُسْعي التكفُّلُ بثلاثة جنيهات وعشَرة شلنات.»

قالت السيدة بنيتشيري بحدة: «جنيهان وعشَرةُ شلنات، هذا شَرْطي. إذا كنتَ مُصِرًّا على دفع المزيد، فَلْتتوجَّه إلى نُزُل آخَر. ستجد الكثيرَ ممَّن يُسعِدهم تلبية رغبتِك.»

لا بدَّ أن احتدادَها قد أثَّرَ على الغريب. فابتسم قائلًا: «لن نتجادلَ أكثرَ من ذلك. لقد كنتُ أخشى فحسب أن تَدْفعَكِ طِيبةُ قلبِكِ البالغة …»

دمدمتِ السيدةُ بنيتشيري مُقاطِعةً إياه: «أوه! لستُ بتلك الطِّيبة أبدًا.»

رد الغريب: «لستُ واثقًا من ذلك. إني أشكُّ قليلًا في كلامكِ هذا. لكنَّ امرأةً في مثلِ إصرارك، لا بدَّ لها، كما أرى، من تحقيقِ إرادتها.»

مدَّ الغريب يدَه ليُصافِحَها، وبدا للسيدة بنيتشيري في هذه اللحظة أن التصرُّف الأمثل والأكثر طبيعية هو مُصافَحته مُصافَحةَ صديقٍ قديم عزيز، وإنهاء المحادَثةِ بضحكةٍ تشعُّ سرورًا، بالرغم من أن الضحك نشاطٌ لا تَسمح السيدةُ بنيتشيري لنفسها بالانغماس فيه كثيرًا.

كانت ماري جين تقف بجوار النافذة عاقِدةً يدَيها عندما عادت السيدة بنيتشيري إلى المطبخ. والواقفُ بجوارِ النافذة كان يَلْمح أشجارَ ميدان بلومزبيري سكوير، وعبْرَ أغصانها العارية كان يرى السماء.

قالت السيدةُ بنيتشيري مُقترحة: «لا يُوجد أمامنا الكثيرُ من العمل في نصف الساعة القادمة، إلى أن تأتيَ الطبَّاخة. سأراقب الباب إذا رغبتِ في الخروج بعضَ الوقت.»

قَبلَت الفتاةُ العرضَ بمجرد أن استعادتْ قُدْرتَها على الكلام: «سيكون ذلك رائعًا؛ فذلك الوقت من اليوم هو المفضَّل لديَّ.»

أضافت السيدة بنيتشيري: «لا تتأخَّري عن نصف ساعة.»

اجتمع سكانُ النُّزل بعد العَشاءِ في غُرفةِ المعيشة وتناقَشوا في أمر الغريب، بالتحرُّرِ والجُرْأة اللذَين يتَّسِم بهما هؤلاء السكان عند التحدُّث عن شخصٍ غائب.

«لا يبدو لي شابًّا ذكيًّا»، كان هذا رأي أوجستس لونجكورد، صاحب إحدى الشركات في الحي التجاري بلندن.

أمَّا شريكُه إزيدور فكان تعليقُه: «بالحديث عن نفسي، لا أرى نفعًا للشابِّ الذكي. إن العالَمَ يَعجُّ بأمثاله.»

ضحك شريكه قائلًا: «لا بدَّ أنه ذكيٌّ جدًّا إذا كنت تراه من الأذكياء الكُثر الذين تتحدَّث عنهم.»

إذا وُجِد وصفٌ يَنطبق على الدردشة المَرِحة الذكية لصُحْبةِ سكانِ هذا النُّزل، فهو كالتالي: كانت مُحادَثتهم بسيطةً في تركيبها، وسهلةً في فَهْمها.

قالت الآنسة كايت ذات الشعر المصبوغ باللون الذهبي والوجه الذي تُغطِّيه مساحيق التجميل: «أمَّا أنا، فإنَّ النظر إليه فحسب يُولِّد لديَّ شعورًا طيبًا. ربما كانت ملابسُه هي السبب؛ فقد ذكَّرَتْني بنُوح وسفينته، وما إلى ذلك.»

ردَّتْ عليها الآنسة ديفاين، الفاترة الهمَّة، في تثاقُل: «الملابسُ هي ما تجعلك تفكِّرين في أيِّ شيء.» كانت الآنسة ديفاين فتاةً طويلةً حسنةَ المظهر، وكانت مُنشغلة في هذه اللحظة بمُحاوَلاتٍ عقيمة للتمدُّد على أريكةٍ من شَعر الحِصان، في وضعٍ يُوفِّر لها الراحةَ ويُحافظ على مَظْهرها الأنيق على حدٍّ سواء. ولأنَّ شعبيةَ الآنسة كايت كانت قليلة في تلك الأمسية، إثرَ استيلائها على الكرسيِّ الوحيد المريح في المكان، فإنَّ تعليقَ الآنسة ديفاين على عباراتها لاقَى من الحضور استحسانًا يزيد على الأرجح عمَّا يستحقُّه.

تساءلَت الآنسة كايت في جدية: «ما قَصدكِ بهذا الرد؛ الطرافة أم الوَقاحة؟»

«الاثنتان»، كان هذا زعم الآنسة ديفاين.

صاح والِدُ الفتاة الطويلة، المعروفُ بالكولونيل، قائلًا: «هلا أدلي بدلوي في الأمر؟ يجب أن أعترف بأنني أراه رجلًا أحمق.»

همهمتْ زوجتُه، وهي سيدةٌ قصيرةٌ ممتلئةُ الجسم، مبتسمةً: «لقد بدا لي أنَّ هناك الكثيرَ من الانسجامِ بينكما.»

رد زوجها بسرعة: «ربما كان الأمرُ كذلك بالفعل. لقد عوَّدَني القدَرُ على مُصاحَبة الحمقى.»

صاحَت ابنتهما البارَّةُ من فوق الأريكة: «من المُحزِن أن تبدآ في الشِّجار بعد العشاء مباشَرةً، فلن تجدا على هذا النحو ما يُسلِّيكما في باقي الأُمسية.»

علقت السيدة التي كانت قريبة أحد البارونيتات: «لم يَبْدُ لي مُتحدِّثًا لَبقًا، إلا أنه مرَّرَ طبقَ الخضراوات قبل أن يتناوَلَ نصيبَه. تلك اللفتات تنمُّ عن حُسْن التربية.»

رد عليها أوجستس الظريفُ ضاحكًا: «أو ربما لم يَكُن يعرفكِ وظنَّ أنكِ قد تَتْركين له نصفَ ملعقة من الخضراوات.»

صاح الكولونيل: «ما لا أستطيع فَهْمه بشأنه …»

دخل الغريب الغرفةَ.

فانزوى الكولونيل في ركنٍ حاملًا صحيفةَ المساء. أمَّا الآنسةُ كايت، فتناوَلتْ من فوقِ رفِّ المدفأة مروحةً ورقية ورفعَتْها أمامَ وجهها في خجلٍ مُتصنَّع. بينما اعتدلت الآنسة ديفاين في جلستها على الأريكة المصنوعة من شعر الخيل وعدَّلتْ من تنورتها.

سأل أوجستس الغريب، كاسِرًا حاجزَ الصمت الذي بدأ يُلاحَظ: «ألديكَ أيُّ أخبار؟»

بدا جليًّا أن الغريب لم يَفْهم سؤالَه. وكان لازمًا على أوجستس، الظريف، مُواصَلة الحديثِ لتجاوُزِ هذا الصمت الغريب.

«مَن تَعتقِد سيفوز بسباق لينكولن لتحمُّل الخيل؟ قُلْ لي اسمَ الحِصان الفائز، وسوف أخرجُ من فوري وأُراهِن عليه بكل ما أملك.»

ابتسم الغريب قائلًا: «سيكون ذلك تصرُّفًا غيرَ حكيمٍ في رأيي. فليس لديَّ خبرة بهذا الموضوع.»

«حقًّا؟! لِمَ أخبروني إذن أنك كاتبُ عمودِ «أسرار السباق» في صحيفة «سبورتنج لايف»، لكنك مُتنكِّر؟»

سيكون من الصعب أن تكون هناك دُعابة أسخف من تلك الدُّعابة. لم يضحك أحدٌ بالطبع على دعابة السيد أوجستس لونجكورد، وعجَزَ هو عن فَهمِ سبب ذلك، وربما لم يكن لأيٍّ من الحاضرين أن يُخبرَه به؛ لأن السيد لونجكورد في هذا النُّزل كان يُعَد صاحبَ حسِّ دعابة. أمَّا الغريب نفسه فبدا أنه لم يُدرِك كونَه محلَّ سخرية.

إذ ردَّ مُؤكِّدًا: «معلوماتُك خاطئةٌ يا سيدي.»

قال السيد أوجستس لونجكورد: «مَعذرة إذن.»

ردَّ الغريب بصوته العَذْب الخفيض: «لا داعيَ للاعتذار»، وتجاوَزَ الأمر.

تحوَّل السيد لونجكورد إلى صديقِه وشريكه سائلًا إياه: «حسنًا، فيما يتعلَّق بالذهاب إلى المسرح، أترغبُ في الذهاب أم لا؟» كان السيد لونجكورد مُتوترًا.

رد السيد إزيدور: «لدينا التذاكرُ، فَلْنذهب على أي حال.»

«سمعتُ أنها مسرحيةٌ في غاية التفاهة.»

قال إزيدور: «معظمُ ما يُعرَض هذه الأيامَ تافه على نحو أو آخر.» وأضاف: «لكن من الخسارة أن نُهدِر التذاكر»، وخرج الاثنان معًا.

رفعت الآنسة كايت عينَيْها المُتمرستَيْن نحو الغريب وسألته: «هل ستمكثُ طويلًا في لندن؟»

أجابها الغريب: «لا، ليس لفترةٍ طويلة. أنا لا أعرف تحديدًا. الأمر يَعتمِد على الظروف.»

ساد في غرفة المعيشة هدوءٌ استثنائي، وهي الغرفةُ التي عادةً ما كانت تَعجُّ بأصواتِ شاغليها الصاخبة في هذا الوقت من اليوم. ظلَّ الكولونيل مشغولًا بجريدته. بينما جلسَت السيدةُ ديفاين عاقدة يدَيها البيضاوين المُمتلئتين فوق حِجرها، وكان مُستحيلًا معرفةُ أهي نائمةٌ أم مُستيقِظة. أمَّا السيدةُ قريبة البارونيت، فقد حرَّكتْ كرسيَّها تحت الثُّريا المُضاءة بالغاز، وأخذت تَحِيكُ قطعةَ الكروشيه التي لا تنتهي أبدًا. وتوجَّهَت الآنسةُ ديفاين الفاترة الهمَّة نحو البيانو، وجلست على مقعده وأخذتْ أصابعُها تُداعِبُ برفقٍ مَفاتيحَه التي بحاجةٍ إلى ضبط، مُولِيةً ظهرَها للغرفةِ الباردة القليلةِ الأثاث.

قالت الآنسةُ كايت للغريب بأسلوبها الوَقِح، مُشِيرةً بمروحتِها إلى الكرسي الشاغر بجوارها: «اجلس. وحدِّثني عن نفسِك. إنك تُثير اهتمامي.» كانت الآنسة كايت تتبنَّى سلوكًا سُلطويًّا إلى حدٍّ ما مع جميعِ أعضاء الجنس الآخَر ممَّن تبدو عليهم أمارات الشباب. وكان ذلك مُنسجمًا مع بشرتها الخوخية اللون وشَعرها الذهبي، ومُناسِبًا لها عمومًا.

رد الغريب ساحبًا الكرسيَّ الذي أشارت إليه: «سعيد أني أثَرْتُ اهتمامَك. كنتُ بالفعل أرغب في ذلك.»

ردَّت الآنسة كايت: «أنت فتًى جريء للغاية.» ثم أخفَضَت مروحتَها من أجل النظر بخُبثٍ مِن فوق حافتها، وعندئذٍ التقتْ عيناها لأول مرةٍ بعينَي الغريب اللتَين كانتا تنظران إلى عينَيها. وحينها اختبرَت الآنسة كايت الشعورَ العجيب نفسَه الذي بثَّ الاضطرابَ في نفس السيدة بنيتشيري قبل ساعةٍ أو أكثر، عندما أقدَمَ الغريبُ لأول مرة على الانحناءِ لها. وبدا للآنسة كايت أنها لم تَعُد المرأةَ التي تَثِق أنها كانت ستَراها إذا ما نهضَت عن كرسيِّها وتحرَّكتْ نحو المرآة المتَّسِخة المعلَّقة فوق رفِّ المِدفأة الرخامي، بل امرأة أخرى، مُبتهجة تشعُّ عيناها حيويةً ونشاطًا وتدنو من مُنتصَف العمر، لكن لا تزال حسنةَ المظهر على الرغم ممَّا اعترى بشرتَها من ذبول وخصلات شعرِها البُنِّي من ضعف. وشعرتْ بموجةٍ من الغيرة تجتاحها؛ فتلك المرأةُ المُتوسِّطةُ العمر بَدَتْ لها إجمالًا أكثرَ جاذبيةً. كانت تعكس قَدْرًا من رجاحةِ العقل وحُسنِ الأخلاق وسَعَةِ الأُفق، يجعل المرءَ يَنجذِب إليها غريزيًّا. إنها امرأةٌ لا تقيِّدها — مثل الآنسة كايت نفسِها — الحاجةُ للظهور بمَظهرِ فتاةٍ يتراوح عمرها بين الثامنة عشرة والثانية والعشرين؛ كان المرءُ يشعر أن في وُسعِ تلك النسخة الأخرى من الآنسة كايت التحدُّثَ بمَنطقٍ واضح، بل بذكاءٍ متَّقِد. إنها امرأةٌ لطيفة بمعنًى الكلمة، وتلك حقيقةٌ لم يَسَع الآنسة كايت، وإن كانت تَشعُر بالغِيرة، إنكارُها. وقد تمنَّت الآنسة كايت مِن أعماقِ قلبها لو لم تَرَ قطُّ تلك النسخةَ الأخرى منها. فصورتُها الخاطفة تركتها شاعرةً بالاستياء من نفسها.

استأنَفَ الغريب المحادَثةَ قائلًا: «أنا لستُ فتًى، ولا أريد أن أكون من النوع الجريء.»

ردَّت الآنسة كايت: «أعرف ذلك. إنها مجردُ ملاحظةٍ سخيفة. لا أعرف لمَ قُلْتُها. يبدو أنني أصبحتُ عجوزًا حمقاء.»

ضحك الغريب. وقال: «قطعًا أنتِ لستِ عجوزًا.»

ردت الآنسة كايت بحدَّة: «عمري تسعةٌ وثلاثون عامًا. لا أظنُّك تَراني في ريعانِ الشباب؟»

أصَرَّ الغريبُ على رأيه قائلًا: «أرى أنكِ في مرحلة عمرية رائعة؛ فأنتِ لم تَتقدَّمي في العمر إلى حدٍّ يُفقِدُكِ بهجة الشباب، لكنكِ بلغتِ من كِبَر السن ما يَكفي للتحلِّي بالتعاطف.»

ردَّت الآنسة كايت: «أوه، جميعُ الأعمار جميلةٌ في نظركَ على ما أَعتقِد. سأخلد إلى النوم.» ثم نهضت. وكانت مروحتُها الورقية قد انحلَّت دون أن تَدْري كيف. فألقَتْ أجزاءها في المدفأة.

قال الغريب مُتوسِّلًا: «لا يزال الوقتُ مُبكرًا، كنتُ أتطلَّعُ للتحدُّث إليكِ.»

ردَّت الآنسة كايت: «حسنًا فَلْتستمرَّ في التطلُّع إذن. تُصبِح على خير.»

في الحقيقة كانت الآنسة كايت تَتُوق إلى مُطالَعة صورتها في المرآة في حرم غُرفتها وخلف بابها المغلَق. ونظرًا لأنَّ صورتها ذات الوجه الصافي الشاحب والشعر البُني كانت حيةً بشدة في خيالها، فقد تساءلت هل حلَّتْ عليها نوبةٌ من فقدان الذاكرة المؤقَّت بينما كانت تَرتدي ملابسها لتناوُل العشاء هذا المساءَ جعلتها تَنْسى صورتها الأخرى.

أمَّا الغريب، بعدما ترَكه الآخَرون لشأنه، فقد سار نحو الطاولة المُستديرة باحثًا عن شيء يَقْرؤه.

فخاطَبَته السيدةُ قريبة البارونيت قائلةً: «يبدو أنكَ أخَفْتَ الآنسةَ كايت.»

أومأ الغريبُ برأسه مقرًّا: «يبدو الأمر كذلك.»

قالت السيدة التي كانت تَحيك قطعة الكروشيه: «إن ابنَ عمي، السير ويليام بوستر، مُتزوِّج من ابنة أخت اللورد إيجام العجوز؛ هل قابَلتَ أحدًا من آل إيجام من قبل؟»

رد الغريب: «حتى الآن، لم أحظَ بهذا الشرف.»

«إنها عائلةٌ في غايةِ اللطف والاحترام. السير ويليام، ابن عمي، يَعْجز عن فَهْم ما يَدفعني للبقاء هنا. في كل مرةٍ يراني، لا يَملُّ من قول: «عزيزتي إميلي، كيف تتحمَّلين البقاءَ وسطَ نوعية الأشخاص الذين يُصادفهم المرء في أي نُزُل؟» لكن الناس هنا يُسَلونَني كثيرًا.»

وافَقَها الغريب قائلًا إن حسَّ الفكاهة ميزةٌ في جميع الأحوال.

واصَلَت السيدةُ قريبة السير ويليام حديثَها بصوتٍ رتيب هادئ: «إن عائلتَنا من جهةِ أمي كانت تَمُتُّ بصلةٍ إلى آل تاتون-جونز، الذين كانوا في عهد الملك جورج الرابع …» ثم قطَعتْ حديثَها للحظةٍ كي تَجلبَ كرةً إضافية من خيوط الكروشيه، وعندئذٍ رفعتْ عينَيْها فالتقَتا بعينَي الغريب.

ثم أضافَت السيدةُ قريبة السير ويليام بنَبرةٍ يَشُوبها التوتُّر: «لا أعرف بالتأكيد لمَ أخبرك بكل هذا! إنها أمورٌ على الأرجح لن تُثِير اهتمامَك.»

طَمْأنها الغريبُ بجدية قائلًا: «كل ما يتعلَّق بكِ يُثير اهتمامي.»

تنهَّدَت السيدةُ قريبة السير ويليام ثم ردَّت دونَ اقتناع: «ذلك لطفٌ شديد منك، وأخشى أنني أسبِّب أحيانًا المللَ لمَن حولي.»

امتنَعَ الغريبُ المهذَّب عن مُناقَضة كلامها.

فواصَلَت السيدة المسكينة حديثها: «أتدري، أنا أنتمي حقًّا إلى عائلةٍ نبيلة.»

قال الغريب: «سيدتي العزيزة، يَشهد وجهُكِ النبيل وصوتُكِ الرقيق وسلوكُكِ الدَّمِث جميعًا لكِ بهذا.»

نظرت السيدةُ إلى عينَي الغريب في ثبات، وشيئًا فشيئًا شاعَت على وجهِها ابتسامةٌ طرَدتْ ما خيَّمَ على ملامحِها مِن بلادة.

«يا لحماقتي!» واصَلتِ السيدة حديثَها، وإن بَدَتِ الآن تُحدِّث نفسَها لا الغريب. «لا شك أن الناس — الذين يُهمُّك ترْكُ انطباعٍ حسنٍ لديهم — يَحْكمون عليكَ بما أنتَ عليه حقًّا، لا بما تدَّعِيه لنفسكَ في كل مناسَبة.»

ظلَّ الغريب صامتًا.

قالت: «إني أرملةُ طبيبٍ كان يعمل في المقاطَعات، ودَخْلي السنوي لا يَزيد عن مائتين وثلاثين جنيهًا فحسب. لذا تَقتضي الحكمةُ أن أُحسِن استغلالَ ذلك المبلغ المحدود، وألَّا أَشغَل بالي بأقاربي الأرستقراطيين وذوي النفوذ هؤلاء إلا بقدرِ ما يَشْغلون هُمْ بالَهم بي.»

بدا على الغريب أنه لا يستطيع أن يَجِد ما يستحقُّ القول.

أردفَت ابنةُ عمِّ السير ويليام متذكرةً: «لديَّ أقاربُ آخَرون؛ أهل زوجي المسكين، الذين يمكن ألَّا أبدوَ في أعيُنِهم «القريبة الفقيرة»، بل الراعية الكريمة. إنهم أهلي الحقيقيُّون؛ أو كانوا سيُصبحون كذلك — مُضيفة بمرارة — لو لم أكُن امرأةً مُتكبِّرة فظَّة.»

تورَّدَ خدُّها خجلًا فورَ أن لفظتْ بتلك الكلمات، ثم نهضَتْ من مكانها وبدأتْ تستعدُّ في عُجالةٍ لمغادَرة الغرفة.

تنهَّدَ الغريب قائلًا: «يبدو أني أفسدتُ أمسيتَكِ.»

ردَّت السيدةُ بشيءٍ من الانفعال: «بعدما دُعِيت بالمتكبِّرة الفظَّة، أظنُّ أن الوقت قد حان لرحيلي.»

قال الغريب مُذكِّرًا إياها: «لكنَّ تلك كانت كلماتك.»

تمتمت السيدة المستاءة: «أيًّا كان دافعي لذلك، لا يَصحُّ أن تصِفَ سيدةٌ محترمة نفسَها بتلك الألفاظ، خاصةً في صُحبةِ شخصٍ غريب عنها تمامًا.» ثم صمتَت السيدة المسكينة في حيرة. وأضافت موضحةً: «هناك شيء غريب للغاية فيَّ هذه الأمسية لا أستطيع فهمه. يبدو أنَّني عاجزةٌ عن تجنُّبِ الإساءة إلى نفسي.»

وهكذا، بينما لا تزال تُحاوِطُها الحيرة، تمنَّتْ ليلةً سعيدة للغريب، آملةً أن تكون في حالةٍ أفضلَ مع لقائهما التالي. فتح الغريبُ لها الباب، آمِلًا في ذلك أيضًا، وأغلقَه ثانيةً وراءَها.

ضحكت الآنسة ديفاين، التي تمكَّنتْ بفعل موهبتِها من تطويعِ ذاك البيانو المتهالِك ليُصدِرَ قَدْرًا من التناغُم، ثم سألت الغريب: «قل لي كيف تمكَّنتَ من فِعلِ ذلك؟ أريد أن أَعرف.»

تساءَلَ الغريب: «فِعل ماذا؟»

«تدبُّر التخلُّص من هاتَين العجوزَين الشمطاوَين بتلك السرعة.»

قال الغريبُ: «يا لبراعَتِكِ في العزف! لقد أدركتُ موهبتَكِ الموسيقية الفذَّة ما إن وقَعتْ عيناي عليكِ.»

«كيف تمكَّنتَ من ذلك؟»

«موهبتُكِ تَظهر جَلِيةً على وَجهكِ.»

ضحكت الفتاةُ مسرورةً. وقالت: «يبدو أنك أَخضعتَ وجهي لدراسةٍ مُتأنية.»

قالَ الغريب: «إنه وجهٌ جميلٌ وباعِث على الاهتمام.»

أدارت الآنسة ديفاين مقعدَ البيانو بقوة، والتقتْ عيناها بعينَيه.

«أتستطيع قراءةَ الوجوه؟»

«نعم.»

«أخبِرْني إذن، ماذا قرأتَ أيضًا في وجهي؟»

«قرأتُ الصراحةَ والشجاعة …»

«آه، نعم، كلَّ الفضائل. ربما. سنَعتبر ذلك من المسلَّمات.» كان تحوُّلُها المفاجئ إلى الجدية غريبًا. «حدِّثني عن الجانب الآخَر مني.»

ردَّ الغريب: «لا أرى جانبًا آخَر. لا أرى سوى فتاةٍ جميلة تقفُ على أعتابِ أنوثةٍ نبيلة.»

«فقط؟ أَلَم تَرَ أثرًا لطمعٍ أو غرورٍ أو خِسَّة أو …» ثم فلتَتْ منها ضحكةٌ غاضبة. واستطردت: «وتدَّعي أنكَ قارئُ وجوه!»

قال الغريب: «أَلا تُصدِّقينني؟» ثم ابتسم. وأضاف: «هل تَعرفين ما أراه مكتوبًا على وجهكِ في هذه اللحظة؟ أرى حبَّ الحقيقةِ في أشدِّ صوره، أرى ازدراءً للكذب والنِّفاق، أرى تَوْقًا إلى كلِّ ما هو نقي، واحتقارًا لكلِّ ما يستحقُّ الاحتقار، لا سيما ما يستحقُّ الاحتقارَ في النِّساء. أخبريني، هل قراءتي صحيحة؟»

فكَّرتِ الفتاة مُتعجِّبة: ألهذا هُرعَت السيدتان الأُخريان كلتاهما خارجَ الغرفة؟ هل يَشْعر الجميعُ بالخِزْي ممَّا تنطوي عليه أنفُسُهم من خِسَّة أمام عينَيكَ الصافيتَيْن اللتَين تُؤمِنان بأفضل ما في البشر؟

خَطَرَ لها أن تسأله: «يبدو أن أبي كان لدَيه الكثيرُ ليُخبِركَ به في أثناء العشاء بينما تتحدَّثان معًا. قُلْ لي عمَّ كنتما تَتحدَّثان؟»

«أتقصدين الرجلَ المهذَّبَ ذا المظهر العسكري الذي كان يَجلس على يساري؟ لقد تحدَّثنا معظمَ الوقت عن أمِّك.»

ردَّت الفتاةُ شاعرة بالندم على طرح السؤال: «أنا آسفة. كنت آمُلُ أن يكونَ قد اختار موضوعًا آخَرَ للحديث بينكما في أول مساء تَقْضيه معنا هنا!»

ردَّ الغريب: «لقد حاوَلَ بالفعل فتْحَ موضوعٍ أو موضوعَين آخرَين، لكنَّ معرفتي بشئون العالَم محدودةٌ للغاية؛ لذا سعدتُ عندما أخَذ يتحدَّث عن نفسِه. أشعُر أننا سنُصبحُ صديقَين. ومن ناحية أخرى، لقد تحدَّثَ بمُنتهى اللُّطْف عن السيدة ديفاين.»

علقت الفتاة: «فعلًا؟»

«قال لي إنه طوال العشرين عامًا التي قضاها مُتزوجًا من أمك لم يَندَم على زواجه سوى مرةٍ واحدة!»

حوَّلتِ الفتاةُ عينَيها السوداوين إليه فجأة، لكنَّ نظرةَ الشك تبدَّدتْ منهما ما إن الْتَقتْ بعينَيْه. فأدارتْ وجهَها كي تُخفِيَ ابتسامتَها.

«لقد نَدِم إذن على الزواج … مرةً واحدة.»

استطرد الغريب من فوره: «مرةً واحدة فحسب، في نوبةِ ضِيقٍ عابِرة. إن اعترافه يدلُّ على ما يتَّسِم به من صدقٍ شديد. قال لي … أعتقد أنه قد اطمأنَّ إليَّ. في واقع الأمر، استشعرتُ ذلك من تصرُّفاته. قال إنَّ فرصةَ الحديث إلى رجلٍ مثلي لم تُتَح له كثيرًا؛ قال إنه عندما يسافر مع أمكِ دائمًا ما يظنُّهما الناسُ زوجَيْن في شهر العسل. وقد حكى لي بعضَ المواقف البالغة الظرف حقًّا.» ضحك الغريب عندما تذكَّرها ثم أضاف: «حتى هنا في هذا المكان، عادةً ما يُشار إليهما ﺑ «الزوجَيْن المحبَّين بعضهما لبعض إلى الأبد».»

قالت الفتاة: «نعم، هذا صحيح. إنَّ السيد لونجكورد هو مَن أطلق عليهما هذا، في مساء اليوم الثاني لوصولنا. لقد اعتُبر لقبًا مُعبِّرًا، لكنه مُبتذَل قليلًا في رأيي.»

قال الغريب: «لا يُوجد ما هو أجمل، فيما أرى، من الحبِّ الذي صمَد في مواجَهةِ تقلُّباتِ الحياة ومِحَنها. إن بُرْعُم الحبِّ النقي والرقيق الذي يَنْبت في قلوب الشباب، في قلبٍ كقَلبِك، جميلٌ أيضًا. حُبُّ الشباب هو بدايةُ الحياة. لكنَّ حبَّ الكبار هو بدايةٌ … لمشاعرَ أبقى.»

قالت الفتاةُ في تذمُّر: «يبدو أنك ترى كلَّ الأشياء جميلة.»

رد الغريب: «لكن أليسَتْ جميعُ الأشياء جميلة؟»

كان الكولونيل قد فرغ من جريدته بحلول ذلك الوقت. فقال ملاحظًا وهو يقترب نحوهما: «يبدو أنكما مُنهمِكان في محادَثةٍ مُشوِّقة للغاية!»

قالت له ابنتُه موضحةً: «كنا نتحدَّث عن «الأزواج المحبِّين بعضهم لبعض للأبد»، وعن جمالِ الحب الذي صمد في مواجَهةِ تقلُّبات الحياة ومحنها!»

ابتسم الكولونيل مُعلِّقًا: «هكذا إذن، ذلك ليس عدلًا. يبدو أن صديقي كان يُعِيد على آذانِ الشباب الساخر اعترافاتِ زوجٍ عاشِق بحبِّه لزوجته التي بلغَتْ مُنتصفَ العمر و…» وهنا وضع الكولونيل، في مزاجه الهازل، يدَه على كتفِ الغريب؛ ما حتَّمَ عليه النظرَ مباشَرةً في عينَيْه. عندئذٍ اعتدل في وقفتِه مُتصلبًا واحمرَّ وجهُه.

كان هناك شخص يدعو الكولونيل بالوغد. ولم يَكتفِ بذلك، بل أخذ يَشرح بوضوحٍ بالغ الأسبابَ التي تجعل منه وغدًا كي يتأكَّد من ذلك.

«إن حياةَ القِط والفأر التي تَحْياها مع زوجتِكَ عارٌ عليكما معًا. على الأقل راعِ آدابَ اللياقة وحاوِلْ إخفاءَ الأمر عن الناس، بدلًا من المزاحِ حول عارِكَ مع كلِّ عابرِ سبيلٍ. أنت وَغدٌ، يا سيدي، وَغد!»

مَن جَرُؤ على التلفُّظ بتلك العبارات؟ بالتأكيد ليس الغريب؛ إنه لم يَتفوَّه بكلمة. هذا فضلًا عن أن الصوتَ ليس صوتَه. بل هو في واقع الأمر أشبهُ كثيرًا بصوتِ الكولونيل نفسِه. حوَّل الكولونيل نظَرَه من ابنتِه إلى الغريب، ثم مِن الغريب إلى ابنته. من الواضح أنهما لم يَسمعا الصوت؛ لقد كان الأمر مجردَ هلوَسة. لذا استردَّ الكولونيل أنفاسَه أخيرًا.

بالرغم من ذلك بقِيَ أثرُ الصوت في نفسِه عَصِيًّا على التبدُّد. لا شكَّ أن مزاحَه مع الغريب حولَ موضوعِ زوجتِه كان يَنمُّ عن انعدام الذوق. فذلك أمرٌ لا يُقدِم عليه رجلٌ مهذَّب أبدًا.

لكنْ ما مِن رجلٍ مُهذَّب يَسْمح أبدًا بوضْعٍ كالذي بين الكولونيل وزوجتِه. فالرجلُ المهذَّب ما كان ليقضيَ جُلَّ وقتِه في التشاحُن مع زوجته، وقطعًا ما كان ليفعلَ ذلك على مَرْأًى من الناس. فمهما كانت زوجته مصدر إزعاج له، كان سيكون قادرًا على التحكُّم في نفسه.

نهضَت السيدة ديفاين من مكانها وتقدَّمتْ ببطءٍ عبر الغرفة نحوَهم. تملَّكَ الخوفُ من الكولونيل. قال في نفسه إنها سوف تَتوجَّهُ إليه بملحوظةٍ ما مُستفِزَّة؛ إذ قرأ ذلك في عينَيْها، والتي كانت ستُثير سخطَه إلى حدٍّ يَدفعُه إلى ردٍّ فظٍّ قاسٍ.

حتى هذا الغريب الأحمق كان سيَفْهم لِمَ لقَّبَهما ظريفُ النُّزُل ﺑ «الزوجَيْن المحبَّين بعضهما لبعض إلى الأبد»، وسوف يَسْتوعب أن الكولونيل الشَّهْم كان يَتسلَّى بالسخرية من زوجته في حديثٍ مع غريبٍ جلَس بجواره على مائدة العشاء.

هُرع الكولونيل كي يبدأ الحديث، فصاح مُخاطِبًا زوجته: «عزيزتي، أَلَا تَشعُرين بالبرد في هذه الغرفة؟ هلا أحضرتُ لكِ شالًا!»

شعر الكولونيل بعبثيةِ مُحاوَلته. فطالما جرَت العادةُ بينه وبين زوجته على إلباسِ أقسى ما يَتبادَلانه من إهاناتٍ قناعَ التهذيب. تقدَّمت الزوجةُ نحوه بينما تُفكِّر في ردٍّ مناسِب؛ مناسب حسب وجهةِ نظرِها بالطبع. قال في نفسه: ستَنكشِفُ الحقيقةُ في أيِّ لحظةٍ الآن. عندئذٍ خطَر بباله احتماليةٌ جامحة رائعة: إذا كان للغريب هذا التأثيرُ عليه، فلماذا لا يكون له نفس التأثير عليها؟

صاح الكولونيل بنَبرةِ صوتٍ فاجأتْ زوجتَه ودفعتها للصمت: «ليتيشا، فَلْتُلقِي نظرةً مُتمعِّنة على وجهِ صديقِنا هنا. ألا يُذكِّركِ بأي أحد؟»

ألقَت السيدةُ ديفاين نظرةً طويلة مُتمعِّنة على وجه الغريب كما حثَّها زوجُها. ثم غمغمت وقد تحوَّلتْ إلى زوجها: «نعم، إنه يُذكِّرني بأحد، لكن مَن هو؟»

رد الكولونيل: «لا أستطيع التذكُّر تحديدًا؛ ظننتُ أنكِ قد تتذكَّرين.»

أردفت السيدة ديفاين مُتأمِّلةً: «سأتذكَّر مع الوقت. إنه وجهُ شخصٍ عرفتُه منذ سنواتٍ بعيدة، في سنواتِ صِبايَ بمُقاطَعة ديفونشاير. سأكون شاكرةً إن أحضرتَ لي شالي يا هاري. لقد تركتُه في غرفة الطعام.»

كانت حماقةُ الغريب البالغة هي سببَ كلِّ المتاعب، هكذا شرح السيد أوجستس لونجكورد لشريكه إزيدور. وأضاف: «أنا على أتمِّ استعدادٍ لعَرضِ براعتي في المُعامَلات التجارية على رجالٍ لهم دراية بالأمور، أو يظنُّون أنهم كذلك. لكن هذا الطفل الذي لا حولَ له ولا قوة عندما يَرفُض حتَّى أن يَطَّلِعَ على تقاريري وحساباتي، زاعِمًا أن كلمةَ شرفٍ مني تَكْفيه، ثم يُعطيني دفترَ شيكاته كي أضعَ الرقمَ الذي يُناسبني، حسنًا، أؤكِّد لك أنه لا يَحِيكُ مَكيدةً ما، بل هو مَعتوهٌ تمامًا.»

ردَّ شريكه باقتضاب: «المعتوه هو أنتَ يا أوجستس.»

رد أوجستس مُقترحًا: «حسنًا، فَلْتذهب إليه يا عزيزي وتتحدَّث إليه بنفسك.»

قال الشريك في إصرار: «ذلك تحديدًا ما أنوي فِعلَه.»

في المساء التالي لحديثهما، وقف السيد لونجكورد مُستقبلًا شريكَه بينما يصعد السلالمَ بعد حديثٍ طويل أجراه مع الغريب وحدهما في غرفة الطعام، وقال له: «كيف سارَ الأمر؟»

رد إزيدور مُحْتدًّا: «أرجوك، لا تَسْألني، إنه رجلٌ أحمقُ سخيف، ذلك كلُّ ما في الأمر.»

«ماذا قال لك؟»

«لن تَتصوَّرَ ما قاله لي، لقد أخذ يتحدَّث عن اليهود، عن مدى طِيبتِهم، وعما يتعرَّضون له من سوءِ تقديرٍ مِن الناس، إلى آخِر هذا الهراء!

لقد أضاف أن بعضًا من أكثر مَن قابلهم احترامًا على مدى حياته كانوا يهودًا. وقد كان يظنُّني واحدًا منهم!»

«حسنًا، وهل توصَّلتَ إلى أيِّ اتفاقٍ معه؟»

«اتِّفاق! بالطبع لا. لا يَسَعني تشويه صورة اليهود كلِّهم مقابلَ بضعِ مئاتٍ من الجنيهات. تبدو صفقةً خاسرة.»

شيئًا فشيئًا توصَّلَ قاطنو النُّزل إلى أن هناك الكثير من الأفعال التي لا تستحقُّ كلَّ هذا العناء الذي يتكبَّدونه من أجلها؛ أفعال مثل التصارُع على طبقِ المرق، والتسابُق لحيازةِ طبقِ الخضراوات أولًا، وغَرْف المرء أكثرَ مِن نصيبه المُستحَق، والتحايُل بغرضِ الاستيلاء على الكرسي المريح، والجلوس على صحيفةِ المساء ثمَّ التظاهُر بعدم رؤيتها، إلى آخِر تلك التصرُّفات الطفولية التافهة. إذ أدركوا أنَّ ما يَتحصَّلون عليه من مَكاسِبَ ضئيلةٍ من تلك السخافات لا يُوازِي الجهدَ المبذولَ في سبيلها. وهكذا توقَّفوا أيضًا عن الأفعالِ السُّوقية على غرارِ التذمُّرِ الدائم من الطعام، والشَّكوى المُتواصِلة من معظم الأشياء، وذمِّ صاحبةِ النُّزل في غيابها أو ذمِّ رفاقِ السكن على سبيل التغيير، والتشاحُنِ فيما بينهم دونَ سببٍ وجيه، وتهكُّمِ بعضهم على بعض، وإذاعةِ الفَضائح بعضهم عن بعض، وإطلاقِ الدُّعابات السخيفة بعضهم على بعض، والتباهي بإنجازاتٍ لا يُصدِّقها أحدٌ. تلك سفاهات ربما يَنخرِط فيها مُستأجِرو الأنزال الأخرى، لكنَّ سكانَ هذا النُّزل كان لديهم من الشرف ما يَحُول بينَهم وبينَ تلك الأفعال.

في الحقيقة أصبح سكانُ النُّزل يُحسِنون الظنَّ بأنفسهم، وهم يَدِينون بذلك إلى الغريب وحْدَه. فقد قَدِم الغريب إلى منزلهم ولديه تصوُّر مسبق — الله وحده يَعلم من أين جاء به — مُفاده أن قاطنيه الذين بدَوا أنَّهم من عموم الناس الخَشِني الطباع السيئِي الخُلق، هم في الواقع سادة وسيدات من أرقى الناس وأنبلهم، والظاهرُ أن الوقتَ الذي قضاه بينَهم وملاحظتَه لهم لم يُسهِما إلا في تأكيدِ ذلك التصوُّر اللامعقول. ومن ثَم كانت النتيجةُ الطبيعية أنهم بدءوا في التحوُّل بما يتوافَق مع رأي الغريب فيهم.

كان الغريب يُصِرُّ على أن السيدة بنيتشيري سيدةٌ نبيلة بحكم الميلاد والنشأة أجبَرتْها ظروفٌ خارجة عن إرادتها على الانضمام إلى صفوفِ الطبقة الوسطى في عملٍ كادحٍ شريف؛ حيث تضطلع بدورِ الأم الرَّءوم التي لا تَستحقُّ مِن عائلتها الكبيرة سوى كل شُكرٍ وعرفان؛ وهو رأيٌ تشبَّثَت به السيدة بنيتشيري نفسُها الآن عن اقتناعٍ لا يَتزحزح. بالطبع لا يخلو دورُها الجديد من بعضِ المتاعب، لكنها بَدَتْ مُستعدةً لتحمُّلِها عن طِيبِ خاطرٍ. فسيدةٌ نَبيلة مثلها لا يَلِيق بها أن تَحصُل من ضيوفها الكِرَام على ثمنَ فحمٍ وشمع لم يَستخدمُوه قط، والأمُّ الرَّءوم لا يُمكِن أن تُطعِم أولادَها لحمًا مُتوسِّط الجودة مدَّعِيةً أنه من أفضلِ أنواعِ اللحوم. تلك حِيَل قد تَلْجأ إليها صاحبةُ نُزُلٍ عاديةٌ كي تدسَّ الأرباحَ في جيبها. لكنَّ سيدةً على خُلقٍ وتهذيب مثلَها لا يُمكِن لها أبدًا ارتكابُ أفعالٍ كهذه؛ أو بعبارةٍ أخرى شعرت السيدة بنيتشيري أنها لم تَعُد قادرةً على ارتكابِ تلك الأمور.

أمَّا الآنسة كايت ففي عين الغريب كانت مُحاوِرةً ذكية ومُثيرة للإعجاب وذاتَ شخصية شديدة الجاذبية. بَيْد أنها كانت تُعانِي من عيبٍ واحد؛ ألا وهو قلةُ الاعتدادِ بالذات. فهي لم تكن تَعِي طبيعةَ جمالِها الرقيق النَّقِي. ولو أُتِيحتْ لها — فحسب — فرصةُ رؤيةِ نفسها بعين الغريب لَتخلَّتْ فورًا عن ذلك التواضُع الذي يَدْفعها إلى التشكُّك في حُسْنها الطبيعي. بدا الغريبُ على يقينٍ شديد من رأيه، حتى إنَّ الآنسة كايت عقَدت العزمَ يومًا ما على وضع ذلك الرأي مَوضعَ التجرِبة. فقد دلفتْ في إحدى الأمسيات قبلَ العشاء بساعة إلى غرفةِ المعيشة، وكان الغريب جالسًا هناك وحْدَه ولم تكُن مصابيحُ الغاز قد أُضِيئتْ بعدُ، وعندما رفَعَ عينَيه وجد أمامه سيدةً لطيفة، حسَنةَ المظهر، ذاتَ بشرةٍ شاحبة قليلًا وشَعرٍ بُنِّي مُصفَّفٍ بعناية، تسأله إنْ كان يَعرفها. كانت تَسْري في جسدِ الآنسة كايت رعشةٌ وبدا صوتُها مُرتجِفًا يُوشِك في أيِّ لحظة على التحوُّل إلى نَحيب. لكنه انقلَبَ إلى ضحكةٍ عندما نظر الغريبُ مباشَرةً إلى عينَيْها وأخبَرَها أنه لِما يُلاحظ من تشابُهٍ بينها وبين الآنسة كايت، فلا بدَّ أنها أختُها الأصغر منها سنًّا، والأجمل منها بكثير، وهكذا كانت تلك هي الأمسية التي اختفَتْ فيها الآنسةُ كايت ذاتُ الشعرِ الذهبي إلى الأبد، ولم يُلمَح وجهُها المُغطَّى بمَساحيق التجميل مجددًا قطُّ في النُّزل، والأعجبُ ربما من هذا والذي كان سيُدهش أيًّا من قاطِني النُّزل فيما سبق، أنه لم يَسأل أيٌّ منهم، ولو عَرَضًا، عما حلَّ بها.

وكان الغريب يرى أن السيدة ابنة عم السير ويليام تُعَدُّ مَكْسبًا لأيِّ نُزُل. فهي سيدةٌ تنحدرُ من إحدى عائلات الطبقة الراقية. بالطبع لم يَبْدُ عليها ظاهريًّا أيٌّ مما قد يُوحِي بانتمائها إلى عائلةٍ أرستقراطية. وهي نفسها، بطبيعة الحال، لم تكن لتَذْكر الأمر، غير أنَّ المرء يَستشعِر هذا الانتماءَ بطريقةٍ ما. كانت، بلا وعي منها، تَعكس هالةً من الرُّقِي، وتُشِيع جوًّا من دماثةِ الخُلق. وبالرغم من أن الغريب لم يَقُل لها ذلك تحديدًا، لكنَّها استشفَّتْ ذلك منه وشعرتْ بأنها تتَّفِق معه.

وكان الغريب يُكنُّ للسيد لونجكورد وشريكِه احترامًا كبيرًا بوصفهما نموذجَيْن لرجالِ الأعمال كما ينبغي أن يكونوا. وقد كان لهذا الاحترام أثره السيِّئ عليهما. وممَّا يُثير العجبَ أنهما بدَوا راضيَيْن عن الثمن الذي دفعَتْه شركتُهما لأجل أن تظلَّ عند حُسْن ظنِّ الغريب، بل يُقال أيضًا إنها أصبحتْ تستهدفُ في المقام الأول اكتسابَ احترامِ أصحابِ الشرف والنزاهة، في خطوةٍ يُتوقَّع أن تُكلِّفَها ثمنًا غاليًا على المدى الطويل. لكن بالرغم من كل شيء لدينا جميعًا مبادئُ لا نُمانِعُ التضحيةَ بالمال في سبيلها.

في البداية، عانى الكولونيل والسيدة ديفاين كثيرًا؛ إذ لم يَكُن سهلًا على مَن في سنِّهما تعلُّمُ طرقٍ جديدة للحياة. وهكذا أخذ كلٌّ منهما يُواسِي الآخَر خلف باب غرفتِهما المُغلَقة.

صاح الكولونيل مُتذمِّرًا: «هذا هراء وجنون، أيليق بنا في هذه السن أن نَرجع إلى التغزُّل والتودُّد؟!»

ردَّت زوجته: «إن وجهَ اعتراضي هو الإحساس بأني مدفوعةٌ إلى ذلك دفعًا بعض الشيء.»

صاح الكولونيل مُزمجِرًا: «أحرامٌ على المرءِ وزوجتِه أن يَسْخرا قليلًا أحدهما من الآخَر، مخافةَ رأيِ ذاك المدَّعي الصفيق؛ تلك مَهزلة لا تُحتمَل؟!»

ردت زوجته: «حتى في غيابه، يُخيَّل إليَّ أني أراه ينظر إليَّ بتلك العينَين المزعجتَين. حقًّا لقد أضحى يُطارِدني في كل مكان.»

قال الكولونيل مُتأملًا: «لقد قابَلتُه في مكانٍ ما، أُقسِم على ذلك. ليته يُغادر ويُرِيحنا.»

مئاتُ التعليقات رغبَ الكولونيل في قولها للسيدة ديفاين على مدى اليوم، ومئات الملاحظات كانت سترغب السيدة ديفاين في توجيهها للكولونيل طوال اليوم. لكن بمجرَّد أن تُتاحَ لهما فرصةُ الانفراد أحدهما بالآخَر؛ حيث لا يستطيع أحدٌ سماعهما، تكون تلك الرغباتُ قد تبدَّدت تمامًا.

كان يُواسي الكولونيل نفسَه قائلًا: «النساء هنَّ النساء. لا بدَّ للرجال من احتمالهنَّ؛ فعلى الرجل ألَّا يَنْسى أبدًا أنه سيِّد مُهذَّب.»

أمَّا السيدة ديفاين، فبعدما بلغتْ مرحلةً مِن اليأس التي لا ملجأَ منها سوى المزاح، فقد كانت تضحك في سرها قائلة: «أوه، حقًّا، الرجالُ جميعهم على الشاكلة نفسِها. لا فائدة من محاوَلةِ توجيههم؛ ذلك جهدٌ عبثي لا يجلبُ للمرء سوى الضِّيق والإزعاج.» يُوجد نوع خاص من الرضا، ينبع من إحساسِ المرء أنه يتحمَّل بصبرٍ بُطوليٍّ حماقاتِ الآخَرين المُستفِزة. وقد تأتَّى أخيرًا للكولونيل وزوجته التمتُّعُ بهذا الإحساس الرائع مِن الرضا عن الذات.

لكن مَن انزعج جدِّيًا من إيمان الغريب الذي لا يتزحزح بالخير المُتأصِّل في طبيعةِ كلِّ مَن كان يقابله كانت الآنسةَ ديفاين الجميلة الفاترة الهمَّة. كان الغريب مُصمِّمًا على أنها شابة تَحْمل من المشاعر أنبلَها، ومن الأخلاق أسماها، وأنها جديرةٌ بمكانة بين جان دارك والبطلةِ الاسكتلندية فلورا ماكدونالد. إلا أنَّ الآنسة ديفاين، على النقيض، كانت تَعْلم جيدًا أنها مُجردُ فتاةٍ لا تملك سوى جمالها، ولا تعشق سوى تَرَفِ العيش؛ فقد كانت على أتمِّ استعدادٍ لبيع نفسها لأول شارٍ قادر على منْحِها أرقى الثياب، وإغراقها بأفخر الأطعمة، وإسكانها أفخمَ البيوت. وكان الشاري المتاحُ أمامَها حاليًّا هو وكيل مُراهَنات مُتقاعِد، كان رجلًا عجوزًا بغيضًا بعض الشيء، لكنه فاحشُ الثراء ومُغرَمٌ بها دون شك.

كانت الآنسة ديفاين، بعدما عقَدَت عزمَها على قبولِ هذا الزواج، مُتلهِّفةً على ضرورة إتمام الأمر سريعًا. لذا كان رأيُ الغريب السخيف فيها لا يُثِير سخطَها فحسب، بل يبثُّ الاضطرابَ في نفسها. فمن الصعب على امرأةٍ التصرُّفُ كما لو كانت أحطُّ الغرائز هي دافِعَها الوحيد في الحياة، تحت مَرْأًى ومسمعٍ من الرجل الذي آمَن بأنها التجسيدُ الحي لكلِّ ما هو حَسَن في النساء، مهما كانت حماقته. مرات عديدة عزمَت الآنسة ديفاين على وضْعِ نهايةٍ لتلك المسألة بالقَبول الرسمي لليد الضخمة والمترهِّلة لعاشِقها الكَهْل، ومرات عديدة تدخَّلَ طيفُ عينَي الغريب المَهيبتَين الصادقتَين ليَمْنعها من إعطاءِ جوابٍ نهائي. لكن الغريب كان سيَرْحل يومًا ما. في الواقع، هو نفسه قال لها ذلك، فما هو إلا عابر سبيل. ستُصبح الأمورُ أسهلَ قطعًا عند رحيله. هكذا فكَّرت.

وفي عصرِ أحدِ الأيام دلفَ الغريبُ إلى غرفةِ المعيشة بينما كانت الآنسة ديفاين تقف بجوار النافذة مُتطلِّعةً إلى الأغصان العارية للأشجار بميدان بلومزبيري سكوير. وقد تذكَّرتْ فيما بعدُ أن عصرَ يومٍ ضبابي كهذا شهِدَ مجيءَ الغريب منذ ثلاثة أشهر. كانا وحدَهما في الغرفة. أغلَقَ الغريبُ البابَ وتقدَّم نحوها بخُطواته الوثَّابة الغريبة. كان قد أحكَمَ إغلاقَ أزرارِ مِعطَفِه الطويل، وحمَلَ بين يدَيْه قبعتَه القديمة المصنوعة من اللباد وعصاه الغليظة ذات المقبض الأشبه بعكاز.

قال الغريب مُوضِّحًا: «لقد جئتُ لأودِّعَكِ. إني راحلٌ اليوم.»

سألته الفتاة: «ألن أراكَ مُجدَّدًا إذن؟»

رد الغريب: «لا يُمكنني القول. لكن أرجو ألَّا تَنْسيني.»

ردَّت الفتاة مبتسمةً: «لن أنساك. أستطيع أن أَعِدك بذلك.»

وعَدَها الغريب بدوره: «وأنا لن أنساكِ أبدًا، وأتمنَّى لكِ كلَّ فرحة وبهجة؛ فرحة الحب، وبهجة الزواج السعيد.»

جفلت الفتاة. ثم قالت: «الحبُّ والزواجُ قد لا يَجتمعان معًا في جميع الأحوال.»

وافَقَها الغريب قائلًا: «نعم ليس في جميع الأحوال، لكن في حالتكِ أنتِ تحديدًا سيَجتمعان.»

نظرت إليه.

واستكملَ الغريب حديثه مُبتسمًا: «أتظنِّين أنني لم أُلاحِظْ ذلك الشابَّ الوسيمَ المهذَّب والذكي؟ إنه يُحبك وأنتِ تُحبِّينه. لم أكُن لأغادِر دون الاطمئنان على مُستقبلكِ.»

شردتْ عيناها نحو الضوء الخافت.

ثم ردَّت في نَزَق: «آه! نعم، أنا أُحبه بالفعل. إن عينَيْكَ قادرتان على رؤيةِ الحقيقة متى رغبتا في ذلك. لكنَّ المرءَ لا يَحْيا على الحب في عالَمنا هذا. سأُخبركَ عن الرجل الذي أَنْوي الزواجَ منه إذا كنتَ مُهتمًّا.» كانت عيناها تَتحاشى عينَيْه. وظلَّت مُثبتةً على الأشجار الداكنة والضباب خلفها، بينما تدفَّقت العِبارات مِن فمها سريعةً جارفة: «سأتزوَّج رجلًا قادرًا على مَنْحي كلَّ ما أشتهيه؛ المالَ وكلَّ ما يَقْدر المالُ على شرائه. أنت تظنُّني امرأة، لكنَّني لستُ سوى خنزيرة. إنه كائنٌ مُقزِّز ويتنفَّس مثل الخنازير البَحرية؛ لا يَعرف سوى المَكر والخداع، ولا يُعظِّم سوى شهواتِه. لكني لا أُمانِعُ كلَّ هذا.»

كانت تأمُلُ أن تَصْدم كلماتُها الغريبَ دافعةً إياه للمُغادَرة. وأثار سخطَها أنْ سمعَته يَضحك ليس إلا.

قال: «لا، لن تتزوَّجيه.»

صاحت في غضب: «مَن سيَمْنعني؟»

«رُوحُكِ النبيلة.»

كان لصَوته رنينٌ آمِرٌ عجيب أجبَرَها على الالتفاتِ والنظر إلى وجهِه. عندئذٍ أدركتْ أنَّ الصورة التي كانت تَحْملها له في مُخيلتها منذ أن وقعَتْ عيناها عليه للمرة الأولى كانت صحيحة. كانت قد الْتَقَته وتحدَّثت إليه؛ في الطُّرُقات الريفية الساكنة وشوارع المدن المُزدحمة؛ لا تَدري أين على وجه التحديد. وكلما كانت تُحادثه كان يَسْمو بروحها: لقد كانت مِثلما كان دومًا يراها.

أكمَلَ الغريب حديثَه (وللمرة الأولى لاحظَتِ الآنسةُ ديفاين حضورَه المهيب، وأدركَتْ أن عينَيه الوديعتَين الطفوليتَين يُمكن أن تكونا آمرتَين كذلك): «هناك أناس يُقْدِمون على ذبْحِ رُوحِهم النبيلة بأيديهم والتخلُّص للأبد ممَّا تَجْلبه مِن مَتاعِب. لكنك يا صغيرتي تَركْتِ رُوحَكِ تَبْلغ من القوة ما يُعجِزكِ عن كبتِها؛ لذا ستظلُّ لها اليد العليا دومًا عليكِ. يجب أن تُطِيعيها. وإذا حاوَلتِ الفرارَ منها فستَتْبعكِ، حتى تُدرِكي أنه لا مَهْرب منها. أما إهانتُكِ لها، فلن تَجْلب لكِ سوى شعورٍ مُحتدِم بالعار وتقريعٍ مُؤلم لا يَنتهي للنفس.» ثم تلاشَتِ الصرامةُ من وجهِ الغريب الجميل وعاوَدَتْه رِقَّتُه مجددًا. ووضع يدَه على كتفِ الفتاة الشابَّة. ثم قال: «سوف تتزوَّجين حبيبَك. ومعه ستَقْطعين دُروبَ الحياة، سهلَها ووعرَها.»

تطلَّعَتِ الفتاةُ إلى وجهه القوي الهادئ، وأدركت يقنيًا أنَّ ما تلفَّظَ به واقعٌ لا محالةَ، وأنَّ مُقاوَمتها لرُوحِها النبيلة قد تلاشَت من داخلها إلى الأبد.

استطرد الغريب: «والآن، فَلْتَصْحبيني إلى الباب. إنَّ لحظات الوداع ليست سوى أحزانٍ لا داعيَ لها. دَعِيني أغادرُ في هدوء. وأَغْلِقي البابَ برِفق من خلفي.»

ظنَّت أنه قد يُدِير وجهَه مجددًا ناظرًا إليها، لكنها لم تَلْمح منه سوى الجزء المُستدير العجيب من ظهره البارز من تحت مِعْطَفه المُغلَق بإحكام قبل أن يتلاشى طيفُه مع تكاثُف الضباب.

فأغلقَت البابَ برفق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤