روح نيكولاس سنايدرز أو بخيل زاندام

في سالف الأيام، عاش في مدينة زاندام، التي تقَع بالقرب من خليج زويدر زي، رجلٌ شرير يُدعى نيكولاس سنايدرز. كان رجلًا بخيلًا وقاسيًا، وغليظ الطبع، ولم يَهوَ في هذا العالم سوى شيء واحد؛ ألا وهو الذهب. وحتى الذهب لم يكن يُحبُّه لذاته. بل أحب السلطة التي كان الذهبُ يَمنحها له؛ سلطة ممارسة الظلم والقهر، سُلطة التسبُّب في معاناة الخلق متى شاء. قال الناس إنه بلا رُوح، لكنهم أخطئوا في ذلك. فجميع الرجال يَملكون روحًا، أو بالأصح تمتلكهم أرواحهم؛ وروح نيكولاس سنايدرز كانت رُوحًا شريرة. كان يعيش في طاحونة هوائية قديمة لا تزال قائمة على المرسى، حيث تخدمه فقط الفتاة كريستينا وتتولَّى جميع المهامِّ المنزلية. كانت كريستينا فتاةً يتيمة، مات والداها وهما مَدينان. كان نيكولاس قد برَّأ ذمَّتهما، ولم يُكلِّفه ذلك سوى بضع مئات مِن الفلورين، في مقابل أن تعمل كريستينا لدَيه دُون أجر، وكان ذلك جميلًا لم تنسَه كريستينا أبدًا. كانت كريستينا هي جُلُّ أهل بيته، ولم يَكن يزوره أحد، طوعًا، سوى الأرملة تولاست. كانت السيدة تولاست غنيةً، وكادَت أن تُضاهيَ نيكولاس في البُخل. وذات مرة سألها بصوتِه الأجش: «لمَ لا نتزوَّج أنا وأنتِ؟» ثم أضاف: «إذا وحَّدنا قُوانا فسوف نَصير سادة زاندام كلها.» أجابَتْه السيدة تولاست بضِحكة مُجلجِلة، لكن نيكولاس لم يكن مُتعجِّلًا أبدًا.

وفي عصر أحد الأيام، كان نيكولاس سنايدرز جالسًا وحده إلى مكتبِه، في مركز الغرفة الكبرى الشبه الدائرية التي شغلَتْ نصف الطابق الأرضي مِن الطاحونة الهوائية، والتي كانت بمَنزلة مقرِّ عمله، عندما سمع طرقاتٍ على الباب الخارجي.

صاح نيكولاس سنايدرز قائلًا: «ادخل.» بيد أن نَبرة صوته كانت ألطف كثيرًا من نبرته المعتادة. إذ كان متيقنًا بشدة مِن أنَّ الطارق هو يان، يان فان دير فورت، البحار الشاب، الذي امتلَكَ سفينة لتوِّه، والذي جاء طالبًا يد كريستينا. وبينما جلَس نيكولاس يترقَّب هذا اللقاء، كان يَتلذَّذ بتخيُّل البهجة التي سيَشعُر بها عند تحطيم آمال يان، عند سماع توسُّلاته ثم هذَيانه الغاضب، عند مُشاهدة الشحوب وهو يَغزُو وجهه الوسيم تدريجيًّا بينما يُوضِّح له نيكولاس، تفصيلًا، عواقب تحدِّي إرادته؛ فأولًا سوف يَطرُد أم يان العجوز مِن منزلها، وسيُودِع أباه العجوز في السجن لما عليه مِن ديون؛ وثانيًا، سيُنزل انتقامه بِيان نفسه دون ذرَّة ندم، فسيَبتاع السفينة التي يَنوي شراءها قبل أن يُتم صفقتَه. كان اللقاء المُرتقَب مع يان تسلية تُلائم روح نيكولاس الدنيئة. ومنذ أن عاد يان أمس، كان نيكولاس يتطلَّع إلى هذا اللقاء. لذا، تخلَّلت البهجة صوتَه عندما صاح: «ادخل»؛ إذ كان متأكِّدًا أنَّ القادم هو يان.

لكن القادم لم يكن يان. كان شخصًا لم يرَه نيكولاس سنايدرز قبلًا. ولم يكن ليراه مُجدَّدًا بعد هذه الزيارة الوحيدة. كان ضوء النهار آخذًا في التلاشي، لكنَّ نيكولاس سنايدرز لم يكن ليُضيء الشموع قبل حُلول الظلام التام، لذا لم يَستطِع قطُّ وصفَ مظهر الغريب بأيِّ وجه مِن الدقة. بدا له رجلًا عجوزًا، لكن جميع حركاته كانت تُوحي بالتيقُّظ والانتباه؛ أما عيناه، وهما الشيء الوحيد الذي رآه نيكولاس بقدرٍ من الوضوح، فكانتا ثاقبتَين ومتَّقدتَين ببريقٍ غريب.

سأله نيكولاس سنايدرز، دون أن يَبذل جهدًا لإخفاء إحباطه: «مَن أنت؟»

أجابه الغريب: «أنا بائع مُتجوِّل.» كان صوته واضحًا، لا يخلو مِن رخامة، ومن مسحة ضئيلة من الخبث.

رد نيكولاس سنايدرز بجفاء: «لا أريد شيئًا.» ثم أضاف: «اخرُج وأَغلِق الباب خلفَك، وانتبه لعتبة الباب في طريقِك.»

لكن الغريب لم يُغادر، بل حمَل كرسيًّا وجلس على مقربة من نيكولاس، مُتواريًا في الظل، ثم نظر مباشرةً إلى وجهِه وضحك.

ثم قال: «أأنت مُتأكِّد من ذلك، يا نيكولاس سنايدرز؟ أأنتَ مُتأكِّد من أنك لا ترغَب في شيء؟»

دمدم نيكولاس قائلًا: «لا أرغب في شيء سوى أن أرى ظَهرك وأنت تُغادر.» انحنى الغريب إلى الأمام ولمَس بيده الطويلة النَّحيلة ركبة نيكولاس سنايدرز مازحًا. ثم سأله: «ألا تَرغب في رُوح، يا نيكولاس سنايدرز؟»

وقبل أن يَستعيد نيكولاس قُدرتَه على الكلام، أردف البائع المُتجوِّل الغريب: «فكِّر في الأمر.» ثم تابع: «لقد تلذَّذتَ بمَذاقِ القسوة والدناءة طوال أربعين عامًا. ألم تسأم مِن ذاك المذاق يا نيكولاس سنايدرز؟ ألا تُحبِّذ تغييرًا؟ فكِّر في الأمر يا نيكولاس سنايدرز؛ فكِّر في مُتعة أن يُحبَّك الناس، في أن تَسمعَهم يُثنون عليك بدلًا من أن يَلعنوك! ألن يكون ذلك أمرًا مُسليًا، يا نيكولاس سنايدرز، على سبيل التغيير ليس إلا؟ وإذا لم يُعجبْك الوضع، فبإمكانك العودة عن قرارك والرجوع إلى طبيعتِك مجدَّدًا.»

لم يستطع نيكولاس سنايدرز، بينما كان يَستعيد ما حدَث لاحقًا، أن يُدرك أبدًا لمَ ظلَّ جالسًا في مكانه، يَستمِع في صبر لحديث هذا الغريب؛ إذ بدا له الأمر، وقت حُدوثه، مجرَّد دُعابة صادِرة من عابر سبيل أحمق. لكنَّ شيئًا ما في ذلك الغريب كان قد أثَّر في نفسه.

تابَع البائع الغريب الأطوار: «معي الوسيلة التي ستُمكِّنك من ذلك؛ أما فيما يخصُّ المقابل …» قام الغريب بحرَكة تُشير إلى أنَّ هذه التفاصيل المُملة لا تُهمه. ثم أضاف: «إنَّ مشاهدة نتيجة التجربة هي المقابل الذي أُريده. اعتبِرني فيلسوفًا. فلديَّ اهتمامٌ بتلك المسائل. انظر.» ثم انحنى وأخرج مِن حقيبتِه الموضوعة بين ساقَيه قنينةً فضِّية مُتقَنة الصنع ووضَعَها على الطاولة.

وواصل حديثه شارحًا: «إنَّ طعم المادة التي بها ليس كريهًا.» ثم أضاف: «إنه مُرٌّ بعض الشيء، لكن لا تَحتسِ كوبًا كاملًا منها، بل ملء كأس نبيذٍ فحسب، مثلما تَحتسي نبيذ توكاي العتيق، وينبغي أن يُركز ذهن الطرفَين الشاربَين على فكرة واحدة: «فلتحلَّ رُوحي فيه، ولتحلَّ روحُه فيَّ!» إنها عملية بسيطة حقًّا، والسر يَكمُن في هذه المادة.» ثم ربَّت على القنينة الغريبة كما لو كانت كلبًا صغيرًا.

«ستقول: «ومَن ذا الذي سيُبادل رُوحه بروح نيكولاس سنايدرز؟»» هكذا أضاف الغريب الذي بدا أنه جاء وهو جاهِز بإجابات على جميع الأسئلة. ثم استطرد قائلًا: «يا صديقي أنتَ رجلٌ ثري، فلا داعي لأن تَخشى شيئًا. فالرُّوح هي الأقل قيمة بين جميع ما يَملكه الرجال. اختر الرُّوح التي ترغب بها واعقِد الصفقة بشُروطكِ. سأدَع ذلك الأمر لك لكنِّي سأُخبرُك بنصيحة واحدة فقط: ستَجد الشباب أكثرَ ترحيبًا بعقد تلك الصفقة مِن العَجائز؛ الشباب الذين يَعدُهم العالم بكل شيء شرط أن يَدفعوا مقابله ذهبًا. اختَر رُوحًا شابَّة ونضرة ورقيقة وجميلة يا نيكولاس سنايدرز، واختَرها سريعًا. فقد بدأ الشيب يَغزو شَعرك يا صديقي. فلتُسرع كي تتذوَّق لذة العيش قبل أن يُدركَك الفناء.»

ضحكَ البائع الغريب وبينما كان يَنهض أغلق حقيبتَه. وظلَّ نيكولاس سنايدرز جالسًا دون أن يَتحرَّك أو يَنطق، حتى انتبه مع صليل الباب الضخم إذ يَنغلِق. فانتزع القنينة التي تركها الغريب، وانتفَض واقفًا، عازمًا على إلقائها خلفه في الشارع. لكن انعكاس ضوء النيران على سطح القنينة المصقول أوقَف يده.

ثم ضحك ضحكة خافتة أتبعها بقوله: «على أيِّ حال، تبدو قنينة قيِّمة»، ووضعها جانبًا، وأضاء الشمعتَين الطويلتَين، وجلس دافنًا وجهه مجددًا في سجلِّ الحسابات ذي الغلاف الأخضر. ورغم ذلك كانت عيناه تَشرُدان، بين الحين والآخر، ناحية القنينة الفِضية التي ظلَّت في مكانها تكاد الأوراق المتربة تُخفيها. ولاحقًا سمع ثانيةً طرقًا على الباب، وهذه المرة دخل يان الشاب.

مدَّ يان يده الفتية عبر المكتب الذي تعمُّه الفوضى.

وقال: «لقد افترَقنا غاضبَين في لقائنا السابق يا نيكولاس سنايدرز. وقد كان الخطأ خَطئي. أرجو أن تُسامحَني. كنتُ فقيرًا وقتها. وكان فعلًا أنانيًّا منِّي أن أطلب يد الفتاة الصغيرة كي تُشاركني الفقر. لكني لم أَعُد فقيرًا الآن.»

رد نيكولاس سنايدرز بنَبرة لطيفة قائلًا: «اجلس.» ثم أضاف: «لقد سمعتُ بما آل إليه أمرك. لقد أصبحت الآن قائد سفينة ومالكها، سفينتك الخاصة.»

ضحك يان مُعلِّقًا: «ستُصبِح سفينتي الخاصة بعد رحلة واحدة أخرى.» ثم أضاف: «لقد وعَدَني ألارت، عمدة المدينة، بذلك.»

قال نيكولاس: «الوعد شيء، والوفاء به شيء آخر.» ثم أردَف: «العمدة ألارت ليس رجلًا ثريًّا، وقد يُغريه عرضٌ آخر أعلى سِعرًا. وقد يَسبقُك أحدُهم ويَستحوِذ على مِلكية السفينة.»

ضحك يان. ثم قال: «لن يُقدِم على ذلك سوى عدوٍّ لي، لكنِّي، والحمد لله، ليس لي أعداء.»

علَّق نيكولاس: «يا لحُسنِ حظك؛ قليلٌ منَّا مَن ليس لهم أعداء. ماذا عن والدَيك، يا يان؛ هل سيَعيشان معكما؟»

أجابه يان: «كنَّا نتمنَّى ذلك، أنا وكريستينا. لكنَّ أمي أضحت ضعيفة. وقد اعتادَت على الحياة في الطاحُونة القديمة.»

وافقه نيكولاس قائلًا: «يُمكنني تفهُّم ذلك. إذا اقتلعتَ نباتًا مُعترشًا قديمًا بعيدًا عن الحائط الذي ينمو عليه، فسوف يَذبُل ويموت. وماذا عن أبيك يا يان؛ إذ سوف يُثرثِر الناس بشأنه؟ هل الطاحونة تدرُّ دخلًا؟»

هز يان رأسه نافيًا. وردَّ بقوله: «لن تدرَّ دخلًا مجدَّدًا أبدًا، والديون تُحاصرُه. لكنِّي أخبرته أن تلك أمور مضَت وانتهَت. فقد وافق الدائنون على التوجُّه إليَّ بمَطالبهم والانتظار حتى أُسدِّدَها.»

تساءل نيكولاس: «جميع الدائنين؟»

ضحك يان مُعلِّقًا: «كل مَن عرفتُ بوجُودهم.»

دفع نيكولاس سنايدرز كرسيَّه إلى الوراء، ونظر إلى يان بينما تَرتسم ابتسامة على وجهه المجعَّد. ثم أردف: «إذن، رتَّبتَ أنت وكريستينا كل شيء؟»

رد يان: «شريطة أن نحُوز مُوافَقتك يا سيدي.»

سأله نيكولاس: «هل ستَنتظِران حتى تَحصُلا على مُوافَقتي؟»

«نودُّ أن نَحصُل عليها يا سيدي.» هكذا قال يان مبتسمًا، بيد أن نبرة صوته كان لها وقعٌ حسن في أذن نيكولاس سنايدرز. فلَطالَما فضَّل ضرب الكلاب التي تُزمجر وتَكشِف عن أنيابها.

قال نيكولاس سنايدرز: «حريٌّ بكما ألا تَنتظراها.» ثم أضاف: «فقد يطُول انتظاركما.»

نهض يان وقد احمرَّ وجهُه غضبًا. وردَّ قائلًا: «إذن لن يُغيِّر شيء من رأيك يا نيكولاس سنايدرز. حسنًا افعل ما في وُسعِك.»

رد نيكولاس: «هل ستتزوَّجها رغمًا عن إرادتي؟»

صاح يان ثائرًا: «رغمًا عنك، وعن أصدقائك الشياطين، وعن سيِّدك إبليس نفسه!» فقد كانت رُوح يان روحًا كريمة وشجاعة وحسَّاسة، لكنَّها سريعة الغضب إلى حدٍّ بعيد. فحتى أفضل الأرواح لها عيوبها.

قال نيكولاس العجوز: «أنا آسِف.»

رد يان: «يسرُّني سماع ذلك.»

لكن نيكولاس استطرد قائلًا: «أنا آسف على أمِّك.» ثم تابع حديثه: «أخشى أن السيدة المسكينة ستُصبِح مشرَّدة في شيخوختها. فسوف تُباع الطاحونة القديمة المرهونة في يوم عُرسِك يا يان. وأنا آسف على والدك يا يان. فقد أغفلتَ واحدًا من دائنيه يا يان. يُؤسفني ما سيَلقاه من مصير يا يان. فلطالَما خشيَ السجن. وآسِف حتَّى عليك أنت أيضًا، يا صديقي الشاب. سوف تُضطرُّ إلى بدء حياتك مِن الصفر مجدَّدًا. فالعمدة ألارت رهن إشارتي. وكلُّ ما عليَّ فعله هو التصريح برغبتي في شراء السفينة وسوف تُصبِح لي. أتمنَّى لك السعادة مع عَروسِك، يا صديقي الشاب. لا بد أنك تُحبُّها حبًّا جمًّا؛ فسوف تدفع ثمنًا غاليًا مُقابل الزواج منها.»

كانت الابتسامة العريضة التي علَت وجه نيكولاس سنايدرز هي ما أثارت جنون يان. فأخذ يبحث عن شيء يُلقيه مباشرة تجاه ذلك الفم الكريه ليُخرسَه، وبالصدفة وقعت يده على قنينة البائع الفضية. في اللحظة نفسها كانت يد نيكولاس سنايدرز تَقبِض عليها أيضًا. وتبدَّدت البسمة العريضة من فوق وجهِه.

صاح نيكولاس سنايدرز آمرًا: «اجلس.» ثم تابع قائلًا: «دعنا نُواصِل حديثنا.» وكان ثمة شيء في نبرة صوتِه حملت يان الشاب على إطاعته.

«ربما تتساءل، يا يان، لمَ أَنشُد الغضب والكراهية دومًا. أحيانًا ما أسأل نفسي السؤال نفسه. لمَ لا تَرِد بذهني أفكارٌ حسنة أبدًا، مثلَما ترد إلى غيري من الرجال؟! اسمع، يا يان، أشعُر أنني في مزاج طائش. ما سأقولُه مُستحيل الحدوث، وإذا ظننته مُمكنًا فذلك مجرَّد نزوة مِن نزواتي. بِع لي روحك يا يان، بع لي رُوحك، كي أتمكَّن بدوري من تذوُّق الحب والسعادة اللذَين أسمع عنهما. بعها لي لبعض الوقت يا يان، لبعض الوقت ليس إلا، وسوف أمنحُك كلَّ ما تَشتهيه في المقابل.»

وعلى الفور أمسَكَ الرجل العجوز بقلمِه وشرع يكتب.

«انظر يا يان، ها هي السفينة قد صارتْ مِلكَكَ، بدون مشاكل؛ والطاحونة صارت خالصة من الديون، ويستطيع أبوك أن يَرفع رأسه عاليًا من جديد. كلُّ ما أطلبه، يا يان، هو أن تحتسيَ كأسًا معي راغبًا في أن تَنتقِل رُوحك من جسدك كي تُصبح رُوح نيكولاس سنايدرز العجوز؛ لبعض الوقت، يا يان، لبعض الوقت ليس إلا.»

وبيدَين محمومتَين نزع الرجل سدادة القنينة التي أعطاها له البائع المتجوِّل، وصبَّ القليل من محتواها في كأسين متماثلتين. رغبَ يان في الضحك، لكن تلهُّف الرجل كاد يبلغ حالة من الهياج. لا شك أنه كان مجنونًا، لكن ذلك لا يجعل الورقة التي وقَّعها غير مُلزِمة. الرجل الحقُّ لا يمزح عندما يتعلَّق الأمر برُوحه، لكنَّ وجه كريستينا كان يتراءى ليان مُضيئًا وسط العتمة.

همس نيكولاس سنايدرز: «ستَعني ما ستقول، أليس كذلك؟»

أجاب يان، بينما يُعيد كأسه فارغة إلى الطاولة: «فلتَنتقل رُوحي من جسدي ولتحلَّ بجسد نيكولاس سنايدرز!» وللحظة من الزمن وقَف الرجلان يَنظر كلٌّ منهما في عينَي الآخر.

عندئذٍ ارتجفَ ضوء الشمعتَين الطويلتَين على المكتب المكتظ، ثم انطفأتا، وكأن أحدًا قد أطفأهما، الواحدة تلو الأخرى، بنفحة هواء من فمِه.

تردَّد صوت يان في الظلام قائلًا: «عليَّ أن أعود إلى منزلي.» ثم استطرد قائلًا: «لمَ أطفأت الشمعتَين؟»

أجابه نيكولاس: «يُمكننا إشعالهما مجددًا مِن نيران المدفأة.» ولم يُضِف أنه كان ينوي طرح السؤال نفسه على يان. دفع نيكولاس الشمعتَين، الواحدة تلو الأخرى، نحو الحطب المُستعِر في المدفأة، وسرعان ما زحفت الظلال عائدةً إلى أركان الغرفة.

سأل نيكولاس: «ألن تمرَّ على كريستينا قبل ذهابك؟»

أجابه يان: «لا، ليس هذه الليلة.»

قال نيكولاس مُذكِّرًا إياه: «الورقة التي وقَّعتها، هل أخذتها؟»

ردَّ يان: «لقد نسيتها.»

تناوَلَ الرجل العجوز الورقة من فوق المكتب وناولها له. فدفَعها يان في جيبه ومضى خارجًا. أوصد نيكولاس الباب خلفه وعاد إلى مكتبِه؛ وجلَس طويلًا إليه ساندًا مِرفقَيه على سجلِّ الحسابات المفتوح.

ثم دفَع السجلَّ بعيدًا وضحك. وحدَّث نفسه قائلًا: «يا لها مِن حماقة! تلك أمور مُستحيلة! لا بد أن ذلك الرجل الغريب قد سحَرني.»

عبر نيكولاس الغرفة متَّجهًا نحو المدفأة، وشرع في تدفئة يدَيه أمام النيران المتوهِّجة. وقال في نفسه: «رغم كل شيء، يُسعدني أنه سيتزوَّج الفتاة الشابة. إنه فتًى صالح، فتًى صالح.»

لا بد أن النعاس قد غلب نيكولاس أمام المدفأة. فعندما فتح عينَيه، استقبلهما ضوء الفجر الرمادي. كان جسده مُتيبسًا وكان يَشعُر بالبرد والجوع، وبغضبٍ أكيد. لمَ لم توقظه كريستينا وتجلب له عشاءه؟ أظنَّت أنه يَنوي قضاء ليلته جالسًا على الكرسي الخشبي؟ إنها فتاة حمقاء. كان سيصعد السلالم ويُخبرها عبر الباب برأيه فيها.

كان الطريق إلى الدَّور العُلوي يمرُّ بالمطبخ. وهناك اندهش لمرأى كريستينا جالسة على مقعد، غافية أمام الموقد المنطفئ.

تمتمَ نيكولاس محدثًا نفسه: «عجبًا، يبدو أن أهل هذا البيت لا يَعرفون فائدة الأسِرَّة!»

لكن تلك الفتاة النائمة لم تكن كريستينا، هكذا حدث نيكولاس نفسه. إذ إن وجه كريستينا كان يكسُوه تعبير يُذكِّر المرء بأرنبٍ مذعور؛ لطالَما أثار ذاك التعبير ضيقَه. بيد أن تلك الفتاة، حتَّى في نومها، كان يعلو وجهها تعبيرٌ وقح؛ تعبير وقح بيد أنه محبَّب إلى النفس. وعلاوةً على ذلك، تلك الفتاة كانت جميلة؛ رائعة الجمال. وقطعًا لم يرَ نيكولاس فتاة جميلة هكذا طيلة حياتِه. عجبًا، كانت الفتيات مُختلفات تمامًا عندما كان نيكولاس شابًّا! وفجأةً استحوذ على نيكولاس شعورٌ شديد بالمرارة؛ كأنَّما أدرك لتوِّه أنه سُلب شيئًا منذ زمن بعيد دون أن يَعيَ ذلك حينها.

تلك الطِّفلة لا بدَّ أنها كانت تشعر بالبرد. جلب نيكولاس عباءَته المبطَّنة بالفِراء ولفها حولها.

ثمَّة شيء آخر كان عليه فعله. خطرت له تلك الفكرة بينما يَبسُط عباءته حول كتفَيها، برفقٍ شديد كي لا يُقلق منامها؛ ثمَّة شيء رغب في فعله، ليته يتذكر ما هو. كانت شفتا الفتاة مُنفرجتَين. وبدت كأنَّما تُحدِّثه، تطلُب منه فعل ذاك الشيء؛ أو تُخبرُه بألًّا يفعله. لم يكن نيكولاس مُتأكدًا أي الأمرَين صحيح. مرةً تلو الأخرى، كان يُغادر المطبخ، ثم يتسلَّل عائدًا إلى حيثما جلست غافية بينما يعلو وجهَها ذاك التعبير الوقح المحبَّب إلى النفس، وشفتاها مُنفرجتان. لكن نيكولاس ظلَّ لا يَعرف ماذا تريد، أو ماذا يُريد هو.

ربما كانت كريستينا تعلم. ربما كانت كريستينا تعلم مَن هذه الفتاة وكيف جاءت إلى هناك. صعد نيكولاس السلالم، لاعنًا إياها لما تُصدرُه من صرير.

كان باب غرفة كريستينا مفتوحًا. لكنَّ الغرفة كانت خالية، وكان السرير مُرتبًا لأنَّ أحدًا لم يَنَم عليه. هبط نيكولاس السلالم التي تُحدِث صريرًا.

كانت الفتاة لا تزال نائمة. أتكون هي كريستينا؟ تفحَّص نيكولاس ملامحها الفاتنة، مَلمحًا تلو الآخر. لم يسبق له قط، قدر ما تُسعفه ذاكرته، أن رأى تلك الفتاة؛ رغم ذلك كانت قلادة كريستينا، التي لم يَلحَظها نيكولاس قبلًا، تُطوِّق عنقها، وتعلو وتَهبط مع حركة أنفاسها. كان نيكولاس يعرفها جيدًا؛ فقد كانت هي الشيء الوحيد الذي أصرَّت كريستينا على الاحتفاظ به من مُقتنيات أمها. لقد كانت الشيء الوحيد الذي تحدَّت إرادته كي تَحتفِظ به. إن كريستينا لم تكن لتدَع تلك القلادة تُفارقها قط. لا بدَّ أن هذه الفتاة هي كريستينا نفسها. لكن ماذا حدَث لها؟ أو ماذا حدَث له؟ فجأة تداعَت عليه الذكريات. البائع الغريب! ولقاؤه مع يان! لكن كلُّ ذلك كان حلمًا قَطعًا، أليس كذلك؟ بيد أن القنينة الفضية الخاصة بالبائع كانت لا تزال هناك على سطح المكتب الفوضوي، وبجانبِها كأسا النبيذ المتماثلتان المتَّسختان.

حاول نيكولاس أن يُفكر، لكن عقله كان يلفُّ ويدور. مرَّ شُعاع من ضوء الشمس عبر النافذة وسقَط على أرضية الغرفة المُتربة. لم يكن قد رأى نيكولاس الشمس قطُّ قبلًا؛ تلك حقيقة كان بإمكانِه أن يتذكَّرها جيدًا. مدَّ يدَيه لا إراديًّا ناحية الضوء، وشعر بحزنٍ مُفاجئ عندما تلاشى، مخلفًا وراءه الضوء الرمادي فحسب. حلَّ نيكولاس مزاليج الباب الكبير الصَّدئة ثم فتحه على مصراعَيه. أمام ناظرَيه تبدَّى عالم غريب، عالم جديد مليء بأضواء وظلال، تُغازله بجمالها؛ عالم مليء بأصوات خفيضة ناعمة تُناديه. ومجددًا راودَه ذاك الإحساس المرير بأن شيئًا قد سُلبَ منه.

غمغم نيكولاس العجوز إلى نفسه: «كانت السعادة في مُتناول يدَيَّ طوال تلك السنوات.» ثم أضاف: «هذه المدينة الصغيرة كان بوُسعي أن أُحبَّها، تلك المدينة القديمة الهادئة، ذات الطابع المحبَّب إلى النفس، طابع الوطن. كان من المُمكن أن أحظى بأصدقاء، برفاق حميمين قُدامى، بل أن أُنجب أبناءً من صُلبي …»

ثم تراءَت لعينَيه صورة كريستينا الغافية. كانت قد قَدِمت إلى بيته وهي لا تزال طفلة، لا تَحمل له سوى مشاعر الشُّكر والعرفان. لو كانت لدَيه عينان تَستطيعان رؤيتها، لربما تغيَّر كل شيء.

هل فات الأوان؟ إنه ليس عجوزًا جدًّا؛ لا يُعتبَر رجلًا هَرِمًا بأيِّ حال. بل إن دماءً جديدة تَسري في شرايينه. هي لا تَزال تحبُّ يان، لكنها تحبُّ يان الذي كان بالأمس. في المستقبل، ستتحكَّم الروح الشريرة، التي كانت يومًا ما رُوح نيكولاس سنايدرز، في كلِّ كلمة سيَنطقُها يان، وكلِّ فعل ستَقترفُه يداه؛ يتذكَّر نيكولاس هذا جيدًا. أيُمكِن أن تحبَّ امرأة رُوحًا كتلك، حتى وإن كانت تسكن جسدًا ذا وسامة لا تُضاهى؟

أيجبُ عليه، بوصفه رجلًا أمينًا، الاحتفاظ بالرُّوح التي كان قد حازها من يان بوسيلة قد يشوبُها بعض الخداع؟ أجل، يستطيع الاحتفاظ بها؛ إذ كانت الصفقة عادلة، وقد تلقَّى يان الثمن. علاوة على ذلك، يان لم يُشكِّل رُوحه بنفسه؛ بل تشكيل الأرواح يحكمه قانون الصدفة. لمَ يَنبغي أن يُمنح رجلٌ ما ذهبًا ويُمنَح آخر حصى؟ إن حقَّه في رُوح يان لا يقلُّ عن حقِّ الأخير فيها. إنه أكثر حكمة منه، وفي وسعه فعل خيرٍ أكبر بتلك الروح. إن رُوح يان هي التي أحبَّت كريستينا؛ فلندَع رُوح يان تفُز بها إن استطاعت. استمعَت رُوح يان إلى تلك الحُجج، ولم تستطِع إيجاد ما تَعترض به عليها.

كانت كريستينا لا تزال غافية عندما دخل نيكولاس المطبخ مُجدَّدًا. أشعل النار، وأعدَّ طعام الإفطار، ثم أيقظَها برفق. وحينئذٍ لم يَعُد يُساورُه شكٌّ في أنها كريستينا. ففي اللحظة التي وقعَت عيناها على وجهه العجوز، عادَت إليها نظرة الأرنب المذعور التي لطالَما ضايقَتْه في الماضي. وقد ضايقَته الآن، لكنَّ الضيق كان موجهًا نحو نفسه.

استهلَّت كريستينا الحديث قائلة: «كنتَ مُستغرقًا في نومٍ عميق عندما دلفتُ إلى الغرفة ليلة أمس …»

قاطعها نيكولاس قائلًا: «وخفتِ أن تُوقظيني.» ثم أضاف: «ظننتِ أن العجوز الفظَّ سوف يغضب. اسمعي يا كريستينا. لقد دفعتِ أمس آخر دَين مِن دُيون أبيكِ. كان يَدين به لبحَّار عجوز؛ لم أستطِع العثور عليه قبلًا. لقد قضيتِ دينكِ لي، بل يتبقَّى لكِ قدرٌ من المال، جزء مِن أجرك مقابل العمل لديَّ، مقداره مائة فلورين. ذلك مالك الخاص يُمكنكِ أن تطلُبيه منِّي وقتما تشائين.»

لم تَستطِع كريستينا فهم ما جرى، لا وقتَها ولا في الأيام التالية؛ ولم يُعطها نيكولاس تفسيرًا. إذ إن رُوح يان كانت قد انتقلت إلى رجل عجوز بالغ الحكمة، أدرك أن الطريقة المُثلى لتَناسي الماضي هو عيش الحاضر بجرأة وشجاعة. كانت مُتأكِّدة وحسب من أن نيكولاس سنايدرز القديم قد اختفى في ظروف غامِضة، وحلَّ محلَّه نيكولاس جديد، كان يتطلَّع إليها بعينَين حانيتَين؛ عينَين صريحتَين وصادقتَين، تُجبِران المرء على الوثوق بهما. وعلى الرغم من أنَّ نيكولاس لم يَقُل ذلك قط، خطر لكريستينا أنها هي نفسها مَن أحدثَت ذلك التغيير العجيب، عبر أثرِها الطيب وطبعِها الدمث. ولم يَبدُ هذا التفسير مُستحيلًا لكريستينا؛ بل بدا مُرضيًا.

أضحى منظر المكتب المكدَّس بالأوراق كريهًا في عين نيكولاس. لذا كان يخرج في الصباح الباكر، ويقضي اليوم كله بالخارج، ثم يعود في المساء مُتعبًا لكن مُبتهجًا، جالبًا معه زهورًا، كانت كريستينا تُخبره، وهي تَضحك، أنها مجرَّد حشائش. لكن ماذا تهمُّ المُسمَّيات؟ كان نيكولاس يَراها زهورًا جميلة. في مدينة زاندام، كان الأطفال يهربون منه، والكلاب تَنبح خلفه. لذا كان يفرُّ عبر الطرق الجانبية، مُتوغلًا في الريف المُحيط بالمدينة. وهناك في القرى المتناثِرة، اعتاد الأطفال على رؤية ذلك الرجل العجوز طيب القلب، الذي يَسير مُتمهلًا متكئًا على عصاه، ويُشاهدُهم بينما يلعبون مُستمعًا إلى ضحكاتهم؛ ذاك الرجل الذي كانت جيوبُه الرحبة تَذخر بالحلوى اللذيذة. وكان أهل القرى المارُّون به يتهامسون فيما بينهم مُلاحِظين التشابه بين ملامحِه وملامح نيك العجوز اللئيم، بخيل زاندام، ويتساءلون تُرى مِن أين أتى؟ ولم تكن وجوه الأطفال وحدَها هي ما علَّمت شفتَي نيكولاس الابتسام. في بداية تحوُّله، كان مُنزعجًا من حقيقة أن العالم يعجُّ بفتيات ذوات جمالٍ فتَّان، بل بنساء جميلات كذلك، جميعهنَّ جديرات بالإعجاب. أربَكَه ذلك. لكنه وجد أن كريستينا ظلَّت دومًا في خاطره الأجمل بين جميع مَن رأى من نساء، وأكثرهنَّ إثارة للإعجاب. ومنذ ذاك الحين صار كلُّ وجه جميل يُبهجه؛ إذ كان يُذكِّره بوجه كريستينا.

عند عودتِه من تجواله في اليوم الثاني، قابلتْه كريستينا والحزن في عينَيها. كان قد جاء المزارع بيرستراتر، وهو صديق قديم لوالدِها، لزيارة نيكولاس؛ وعندما لم يجدْه، تحدث قليلًا مع كريستينا. حكى لها أن دائنًا قاسيَ القلب كان يسعى لطردِه مِن مزرعتِه. تظاهرت كريستينا أنها لا تَعلم أن ذلك الدائن كان نيكولاس نفسه، وأبدَت تعجُّبها من تصرُّفات أولئك الرجال ذوي الطابع اللئيم. لم يردَّ نيكولاس بشيء، لكن في اليوم التالي قدِم المزارع بيرستراتر مُجددًا بوجهٍ فرحٍ مُستبشِر، وشرع يُردِّد عبارات الشكر ويُعبِّر عن عظيم دهشتِه.

أخذ يتساءل المزارع بيرستراتر مرةً تلو الأخرى: «لكن ما الذي يُمكن أن يكون قد حلَّ به يا تُرى؟»

ابتسَمَت كريستينا مجيبةً أنَّ الرب الرحيم قد زَرَع في قلبه الرحمة على الأرجح؛ لكنَّها فكرت في نفسها أنه ربما كان تحوُّله بفعل تأثير طيب من مصدر آخر. ذاعت القصة في المدينة. وأحاط الناس بكريستينا من كلِّ صوب، طالِبين شفاعتها لدى نيكولاس، ولما كان لتدخُّلاتها من أثر ناجع، زاد رضا الفتاة عن نفسِها يومًا بعد يوم، وزاد رضاها عن نيكولاس بالتبعية. إذ كان نيكولاس عجوزًا ماكرًا. وقد استمتَعَت رُوح يان التي بداخلِه بمحو ما ارتكبتْه رُوح نيكولاس من شرور. لكن عقل نيكولاس سنايدرز الذي لم يُغادِره قطُّ كان يَهمِس له: «فلتدَع الصَّبية الشابة تظنُّ أنها هي مَن تسبَّبت في ذلك كله.»

بلغت الأخبار مسامع السيدة تولاست. وفي الليلة نفسها كانت جالسة على المقعد المُجاوِر للمدفأة في مقابل نيكولاس سنايدرز، الذي كان يُدخِّن وبدا عليه الملل.

خاطبته السيدة تولاست قائلة: «إنَّ أفعالك تجعلُك تبدو كالأحمق يا نيكولاس سنايدرز.» ثم أضافت: «الجميع يَسخرُون منك.»

رد نيكولاس مُمتعضًا: «أُفضِّل أن يَسخروا منِّي على أن يَلعنوني.»

سألته السيدة تولاست: «هل نسيتَ كلَّ ما دار بيننا؟»

تنهَّد نيكولاس ثم أردف: «ليتَني أستطيع ذلك.»

تابعت السيدة تولاست حديثها قائلة: «في سنِّك هذا …»

قاطعها نيكولاس: «أشعر أنني أكثر شبابًا ممَّا شعرت طيلة حياتي.»

علَّقت السيدة تولاست قائلة: «لا يبدو عليك ذلك الشباب.»

ردَّ نيكولاس بحدَّة: «ماذا تُهمُّ المظاهر؟» ثم أردَف قائلًا: «إنَّ رُوح الإنسان هي الأهم.»

ردَّت السيدة تولاست مُوضِّحة: «بل لها أهمية، على أرض الواقع.» ثم استطردت قائلة: «عجبًا، إن وددتُ السير على خطاك وجعل نفسي أضحوكة، فسأَجد الكثير من الرجال الأكثر شبابًا وفتوَّة ووسامة …»

قاطعها نيكولاس بسرعة قائلًا: «لا تدعيني أقف في طريقكِ إذن.» ثم استطرد قائلًا: «أنا عجوز سيئ الطِّباع مثلما تقولين. لا بدَّ أن هناك رجالًا كُثرًا أفضل منِّي، رجالًا أجدر بكِ مني.»

ردَّت السيدة تولاست: «أعرف ذلك، لكن لا أحد يُناسبُني أكثر منك. الفتيات يُناسبهنَّ الصبيان، أما النساء الكُبريات سنًّا فيُناسبهنَّ رجالٌ مِن سنِّهن. لو كنتَ قد فقدت عقلَك، يا نيكولاس سنايدرز، فأنا لم أُجنَّ بعد. عندما تَرجع إلى طبيعتِك مرةً أخرى …»

انتفض نيكولاس وافقًا. وصاح مقاطعًا: «أنا على طبيعتي، وأنوي أن أظلَّ على طبيعتي! مَن يجرؤ على زعم أني لستُ على طبيعتي؟»

ردَّت السيدة تولاست ببرُود يُثير الغيظ: «أنا أزعم ذلك.» وتابعت قائلةً: «نيكولاس سنايدرز لا يكون على طبيعتِه عندما يُلقي بأمواله من النافذة بكلتا يدَيه بأمرٍ مِن دُمية حسَنة الوجه. بل هو رجل مسحُور، وأنا أرثي لحاله. سوف تخدعُك لمصلحة أصدقائها حتى تُبدِّد آخر سنتٍ لديك، وعندئذٍ سوف تَسخر منك. عندما تعود لطبيعتِك يا نيكولاس سنايدرز، سوف تَشعُر بغضب عارم من نفسك؛ تذكَّر كلماتي.» ثم غادرت السيدة تولاست وصفقت الباب خلفها.

«الفتيات يُناسبهنَّ الصبيان، أما النساء الكُبريات سنًّا فيُناسبهنَّ رجال من سنِّهن.» ظلت تلك العبارة تتردَّد في أذنَي نيكولاس. قبل الآن كانت السعادة التي وجَدَها مُؤخرًا تملأ عليه حياته، دُون أن تترك مجالًا للفكر. لكن كلمات السيدة تولاست العجوز زرَعت في نفسه بذور التأمل.

هل كريستينا كانت تخدعُه؟ الفكرة نفسها مستحيلة. فهي لم تَطلُب لنفسها شيئًا قط، ولم تشفع ليان مُطلقًا. تلك الفكرة الشريرة وليدة عقل السيدة تولاست الخبيث. إن كريستينا كانت تحبه. فوجهها يُضيء عندما تراه. وقد تبدَّد خوفها منه؛ وحلَّ محلَّه نوع لطيف من التحكم. لكن هل كان الحب مُبتغاه؟ إن رُوح يان التي حلَّت بجسد نيك العجوز رُوحٌ شابة متَّقدة العاطفة. تلك الروح لم تنظر إلى كريستينا بوصفِها ابنة، بل رغبَت فيها كزوجة. أمن المُمكن أن تفوز تلك الرُّوح بحبِّها رغمًا عن جسد نيك العجوز؟ لم يكن الصبر من خصال روح يان. فمن الأفضل للمرء أن يَعرف يَقينًا بدلًا من أن يُترك لشكوكه.

قال نيكولاس لكريستينا: «لا تُضيئي الشموع، دعينا نتحدث قليلًا على ضوء المدفأة فقط.» سحبت كريستينا مُبتسمة كرسيَّها مُقتربةً من اللهب المتوهِّج. لكن نيكولاس ظلَّ جالسًا في الظل.

قال نيكولاس: «أنتِ تزدادين جمالًا يومًا بعد يوم يا كريستينا، وتزدادين عذوبة وأُنوثة كذلك. يا لسعدِ مَن سيَحظى بك زوجة له.»

تبدَّدت الابتسامة مِن وجه كريستينا. وردَّت قائلة: «لن أتزوَّج أبدًا.» علق نيكولاس: «أبدًا كلمة كبيرة يا صغيرتي.»

ردَّت كريستينا: «المرأة الشريفة لا تتزوَّج رجلًا لا تحبُّه.»

ابتسم نيكولاس قائلًا: «لكن ألا تَستطيع الزواج مِن الرجل الذي تُحبُّه؟»

أجابته كريستينا: «في بعض الأحيان لا تَستطيع.»

«ومتى يَحدث ذلك؟»

أشاحت كريستينا بوجهِها. وأجابت: «عندما يَتوقَّف عن حبها.»

غمرت البهجة الرُّوح في جسد نيك العجوز. فقال: «إنه لا يَستحقُّك يا كريستينا. لقد غيَّرَته الثروة الجديدة التي جمَعها. أليس هذا ما حدَث؟ إنه لا يُفكِّر إلا في المال. يبدو وكأن رُوح رجلٍ بخيل قد حلَّت بجسده. لن يتورَّع عن الزواج حتَّى مِن السيدة تولاست نفسها، لما تملك مِن طواحين، وزكائب مليئة بالذهب، وأراضٍ شاسعة، فقط إذا قَبلَت به. ألا تستطيعين نسيانه؟»

ردَّت كريستينا: «لن أنساه أبدًا. ولن أحبَّ رجلًا آخر أبدًا. أُحاول إخفاء مشاعري؛ وفي أغلب الأحيان أشعر بالرضا لأنَّ بوسعي تقديم الكثير إلى هذا العالم. لكنَّ قلبي يَنفطر.» ثم نهضَت وركعت بجواره، وأحاطَته بذراعَيها. وقالت: «أنا مُمتنَّة لأنكَ تركتَني أحكي لك.» ثم أضافت: «لولا وجودُك لم أكن لأتحمَّل تلك المِحنة. أنت تُعاملني برِفق وطيبة لا تُضاهى.»

ردَّ نيكولاس بمُداعبة شعرها الذهبي الذي تبعثَر فوق ركبتَيه الضعيفتَين بيده العجوز. فتطلعت إليه بعينَين ملؤهما الدمع، لكنَّهما كانتا تبتسمان.

أردفت كريستينا: «لا أستطيع فهم ماذا حدث.» وأضافت: «أشكُّ أحيانًا في أنَّكما قد تبادَلتُما رُوحَيكما. فهو أصبح قاسيًا وبخيلًا وغليظ القلب، مثلما كنتَ أنت سابقًا.» ثم ضحكَت وشعر نيكولاس بذراعَيها تتمسَّكان به أكثر للحظة. واستطردَت: «والآن أصبحتَ أنت طيب القلب وحنونًا ورائعًا، مثلما كان هو قبلًا. يبدو الأمر كما لو أنَّ الرب الرحيم قد حرَمَني مِن حبيبي كي يَمنحني أبًا.»

قال نيكولاس: «اسمَعي يا كريستينا.» ثم أضاف: «إن رُوح الرجل هي التي تُهمُّ، لا جسده. ألا يُمكنكِ أن تحبِّيني لأجل روحي الجديدة؟»

أجابته كريستينا، مبتسمةً من بين دموعِها: «لكني أُحبك بالفعل.»

فسألها: «ألا يُمكنك أن تحبِّيني بصفتي زوجًا؟» عندئذٍ سقَط ضوء المدفأة على وجه كريستينا. وكانت يدا نيكولاس العجوزتان تُحيطان بوجهها، فتطلَّعت عيناه إليه طويلًا وبتمعُّن؛ ولما قرأ ما على صفحته، ضمَّه إليه وشرع يُربِّت على شعر كريستينا مهدئًا بيده العجوز.

قال نيكولاس: «لقد كنتُ أُداعبك ليس إلا يا صغيرتي.» ثم أضاف: «الفتيات يُناسبهنَّ الصبيان، أما النساء الكُبريات سنًّا فيُناسبهنَّ رجال من سنِّهن. حسنًا، ألا زلتِ تُحبِّين يان، رغم كل شيء؟»

أجابته كريستينا: «أحبُّه. ولا أستطيع التوقُّف عن حبِّه.»

قال نيكولاس: «وإذا رغب في الزواج منكِ، فهل ستتزوجينه، أيًّا كانت الرُّوح القابعة داخل جسده؟»

كرَّرت كريستينا مجيبةً: «أُحبُّه. لا أستطيع التوقُّف عن حبه.»

جلس نيكولاس العجوز وحده بجوار النِّيران التي أوشكت أن تخمد. وتساءل في نفسه: أيهما يمثل جوهر الرجل، رُوحه أم جسده؟ ولم تكن الإجابة بالبساطة التي اعتقدها.

تمتَم نيكولاس مُحدِّثًا النِّيران المُحتضَرة: «كريستينا أحبَّت يان، عندما كانت رُوحه في جسده. وهي لا تزال تحبُّه على الرغم مِن أن رُوح نيكولاس سنايدرز قد انتقلَت إليه. عندما سألتها هل بوسعها أن تحبَّني، قرأت الذُّعر في عينَيها، على الرغم مِن أن رُوح يان تسكن الآن بداخلي؛ وقد استشعرَت كريستينا وجودَها. لا بدَّ إذن أن جسد يان هو جوهر يان الحقيقي، وجسد نيكولاس هو جوهر نيكولاس الحقيقي. إذا انتقلَت رُوح كريستينا إلى جسد السيدة تولاست، فهل يَنبغي عليَّ حينئذٍ الابتعاد عن كريستينا، عن شَعرها الذهبي، وعينَيها العميقتَين، وشفتَيها الجذابتَين، كي أشتهيَ جسد السيدة تولاست الضامر المُتغضِّن؟ لا، سيظلُّ النفور يَنتابني عند التفكير بها. رغم أنني لم أكن أمقتها عندما كانت رُوح نيكولاس سنايدرز بداخلي، وطوال ذلك الوقت لم تُهمَّني كريستينا البتَّة. لا بد أننا نحبُّ بأرواحِنا إذن، لولا ذلك لظلَّ يان يحبُّ كريستينا ولظللتُ أنا نيك البخيل. لكن ها أنا ذا أحب كريستينا وأستغلُّ عقل نيكولاس سنايدرز وذهبَه لإحباط جميع مُخططاته، وأمارس جميع الأفعال التي أعرف أنها ستُثير غضبه عندما يعود إلى جسده؛ وعلى النقيض من ذلك، لم يَعُد يان يَعبأ بكريستينا، وسوف يتزوَّج السيدة تولاست لما تَملِك من أراضٍ شاسعة وطواحين عديدة. لا شك أن الروح هي الجوهر الحقيقي للإنسان. إذن، أمن المفترض أن تُسعدَني فكرة الرجوع إلى جسدي، عالِمًا أنني سأستطيع حينها الزواج من كريستينا؟ لكنِّي لست سعيدًا؛ بل أشعر بتعاسة لا حد لها. فأنا، نيكولاس، لن أنتقل مع روح يان، أشعر بذلك؛ بل إنَّ روحي، روح نيكولاس، سوف تعود إليَّ. وسأُصبح مجددًا ذلك العجوز البخيل القاسي الغليظ القلب الذي كنتُه قبلًا، باستثناء أني سأكون فقيرًا ولا حول لي ولا قوة. سوف يَسخر الناس مني، وسوف ألعنُهم، لكنِّي سأعجز عن إيذائهم. وحتى السيدة تولاست لن ترغب فيَّ عندما تعرف كل شيء. ومع ذلك، لا بدَّ أن أنفِّذ تلك الخطة. طالَما أن رُوح يان تسكن جسدي، فسأظلُّ أحب كريستينا أكثر مما أحبُّ نفسي. لا بد أن أفعل ذلك لأجل خاطرها. أنا أُحبها، ولا أستطيع التوقُّف عن حبها.»

نهض نيكولاس العجوز، وأخرج القنينة الفضية المُتقَنة الصنع، مِن حيث خبَّأها قبل شهر.

ثم قال متأملًا، بينما يرجُّ برفق القنينة بجوار أذنه: «لم يتبقَّ بها سوى ملء كأسَين.» ووضعها على المكتب أمامه، ثم فتَح سجلَّ الحسابات الأخضر القديم من جديد، فكان لا يزال أمامه عمل لا بد مِن إنجازه.

أيقَظ كريستينا مبكرًا. وقال لها آمرًا: «خذي تلك الخطابات، يا كريستينا.» ثم أضاف: «عندما تُسلمينها كلها، وليس قبل ذلك، اذهبي إلى يان، وأَخبريه أنني أرغب في مقابلته هنا لمناقشة أمر عاجل يتعلَّق بالعمل.» ثم قبَّلها وبدا أنه كاره لرُؤيتها وهي ترحل.

ابتسمت كريستينا قائلةً: «سأَغيب لبعض الوقت فحسب.»

ردَّ عليها: «وما الفراق سوى غياب لبعض الوقت فحسب.»

كان نيكولاس العجوز قد توقَّع المتاعب التي كان سيَلقاها بعد ذلك. فيان كان سعيدًا بحاله، ولم يَرغب مُطلقًا في أن يعود شابًّا عاطفيًّا أحمق، يتُوق إلى تكبيل نفسِه بالزواج من فتاة لا تملك سنتًا. بل كان لدى يان أحلام أخرى.

بيد أن نيكولاس صاح به في نفاد صبر: «اشرَب، يا رجل، اشرب، قبل أن أُغيِّر رأيي. سوف تُصبح كريستينا أغنى عَروس في زاندام إذا تعهَّدت بالزواج منها. إليك عقد البيع هذا؛ اقرأه، اقرأه بسرعة.»

عندئذٍ قبِل يان، وشرب الرجلان. ومرة أخرى شعَرا بنفحة من الهواء تمرُّ بينهما، فغطَّى يان بيديه عينَيه للحظة.

كان ذلك مِن سوء حظِّ يان على الأرجح؛ لأنَّ نيكولاس انتزع في اللحظة نفسها عقد البيع الموضوع بجوار يان على المكتب. وفي اللحظة التالية كان يَحترق بلهيب نيران المدفأة.

وتعالى صوت نيكولاس الخشن مُردِّدًا: «أنا لستُ فقيرًا مثلما ظننت! أنا لستُ فقيرًا مثلما ظننت! أستطيع البدء مِن جديد، أستطيع البدء من جديد!» وشرع ذلك المخلوق يتراقَص بينما تتردَّد ضحكاته الشنيعة، فاردًا ذراعَيه العجوزَين أمام النيران المشتعلة، تحسبًا لأن يُحاوِل يان إنقاذ مهر كريستينا المُحترِق قبل أن يَصير هباءً.

لم يُخبر يان كريستينا بما حدث. فمهما قال لها، كانت سوف تعود إلى بيت نيكولاس. وعندما رجعت طردها نيكولاس قبل أن تدلف من الباب مصحوبةً باللعنات. لم تستطع فهم ما جرى. كل ما أدركتْه بوضوح هو أن يان كان قد عاد إليها.

فسَّر يان موقفه قائلًا: «نوبة عجيبة من الجنون تملَّكتني.» ثم أضاف: «سوف يُساعدنا نسيم البحر العليل على استعادة صحتنا.»

وهكذا وقف يان وكريستينا على سطح سفينة يان، وراقَبا مدينة زاندام القديمة وهي تَبتعِد رويدًا رويدًا إلى أن اختفَت عن ناظريهما.

بكت كريستينا قليلًا عندما فكرت أنها لن ترى المدينة مجددًا أبدًا؛ لكن يان واساها، وفيما بعد حلَّت وجوه جديدة محلَّ الوجوه القديمة.

أما نيكولاس العجوز فتزوَّج من السيدة تولاست، ولحُسن الحظ لم يَعِش ليمارس شرَّه إلا لبضع سنوات إضافية.

وبعد زمن طويل، حكى يان لكريستينا القصة كاملةً، لكنها بدت لها بعيدة الاحتمال جدًّا، ولم تُصدِّقها — رغم أنها لم تَقُل ذلك ليان طبعًا — بل اعتقدت أن يان كان يُحاول تفسير الشهر الغريب الذي كان قد قضاه في التودُّد للسيدة تولاست. رغم ذلك، كان مِن العجيب حقًّا أن نيكولاس تبدَّل كليًّا في ذلك الشهر القصير نفسه.

فكَّرت كريستينا: «ربما لو لم أُخبر نيكولاس أني أحبُّ يان، لما عاد إلى سيرته الأولى. يا لَلرجل العجوز المسكين! لا شكَّ أنه رجع كما كان بدافع اليأس.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤