أحلام تحت تأثير المخدِّر

بينما أحاول أن أُقنِع ميار ابنتي بالنوم والاكتفاء بهذا القدر من اللَّعِب والقفز، اتسعت ابتسامتها وهي تقول وقد أدركَتْ بأعوامِها الخمسة أنها نالت منِّي: «مش حضرتك دكتور تخدير بتنيِّم الناس، خلاص خليني أنام، أنا مش عاوزة أنام فخليني أنام.»

غير أني بُهِتُّ لِمَا قالت، واتسعت ابتسامتي جدًّا، وسمحتُ لها بالطبع بوقتٍ إضافي لِلَّعِب؛ تقديرًا لذكائها وتسليمًا مني بانتصارها في الجدل، إلا أن الموقف كذلك بَدَا متشابهًا مع تعليقِ طفلةٍ وهمْسِها لصديقٍ قبل أن يَحقنها بأدوية التخدير، حين أخبرَتْه أنها تراه رسولًا للنوم.

ربما يكون عاديًّا أن يخلط الأطفال بين انسحابِ الوعي الناتج عن التخدير، وذلك الناتجِ عن النوم؛ فكلاهما غيابٌ للوعي بالمحيط، ولردود الأفعال الواعية، وللتفكير والذاكرة والدهاء.

لكنك تجد أطباءَ تخديرٍ يتعمَّدون ذلك الخلطَ ويستحبُّونه، ودوافعُهم عديدة.

في أول أيام عملي كطبيب مُقِيم بقسم التخدير بجامعة القاهرة، وبينما كنت أَدلِف إلى إحدى غُرف العمليات تلفَّظت بعبارة: «المريض متبنج أو متخدر، تحت تأثير البنج أو التخدير.» لأتفاجأ بعبارةِ لومٍ وعتاب ونظراتٍ تَحمل كثيرًا من الضِّيق وكأنني ارتكبتُ جُرْمًا: «لا تَقُل أبدًا العيان متخدر أو متبنج أو تحت تأثير البنج أو التخدير، قل العيان نائم.»

لم أُعقِّب وإنْ تساءلتُ في حينها عن مغزى توصيفِ غيابِ الوعي العميق، الناجم عن أدويةٍ لتضييع الإحساس بالمؤثِّر الجراحي، بتلك العملية الفسيولوجية الطبيعية والمسمَّاة بالنوم.

لم يَمضِ كثيرُ وقتٍ حتى صرتُ أحْرَصَ منهم على وصف مرضاي تحت تأثير أدويتي السحرية بأنهم نائمون، أفعل ذلك بلا وعيٍ ربما، غير أني لم أكفَّ عن محاولةِ تفسيرِ الأمر.

لماذا نفعل ذلك؟ لماذا نصِفُ وضع المريض تحت تأثير المخدِّر بتلك الحالة من السَّكِينة التي نغرق فيها جميعًا، والتي اصطلحنا على تسميتها بالنوم؟

تبدو الأسباب مُتداخِلةً وسيكولوجيةً في مُجمَلها.

نعم، نحن — أطباءَ التخدير — قومٌ مُتطيِّرون، نؤمن بالفأل الشؤم والفأل الطيب، ونَعتقِد في الغيبيات والماوَرَاء، ونستعيذ من الشياطين ومن عبَثِهم، ونتودَّد للملائكة ونأمل في مساندتهم لنا.

ليس الأمر كما قد يبدو تسليمًا بالخرافة أو مُعالجةً لمرضانا بشكل غير علمي تجريبي؛ على العكس تمامًا، فما أعلمه يقينًا أننا قوم نؤمن بالطب المبنيِّ على دليلٍ، وكلُّ رأي أو نظرية لا تصحُّ إلا بعد أن تؤكِّدها التجارب، وساعتَها فقط تتحوَّل إلى حقيقةٍ مثبتة، ورأيٍ قاطع، وممارَسةٍ معمَّمة، وإرشاداتٍ تُصدِرها كُبريات الجهات العِلمية والطبية.

أقوى أنواع الأدلة لدينا هي تلك القائمة على تجارِبَ سريريةٍ موسَّعة، قد تَشترك فيها عدةُ مؤسَّسات طبية للخُلُوص إلى النتيجة الصائبة، وذلك بعد موافَقة اللِّجان الأخلاقية والمرضى؛ تجارب يحدِّد فيها الإحصاءُ أعدادَ العينات التي يتمُّ اختيارها بشكل عشوائي، ويُضاف إلى ذلك أنَّ جُلَّ هذه التجارب ثنائيةُ التعمية؛ أيْ إنَّ هناك على الأغلب مجموعتين أو أكثرَ، إحداهما موضع الفحص والطرق الجديدة في العلاج، والأخرى تخضع للطرق التقليدية؛ وذلك لمقارَنة النتائج بين المجموعتين، ولمعرفة هل كان هناك فارقٌ بالفعل. المقصودُ بثنائية التعمية هو أن المريض الذي وافَقَ على التجرِبة لا يعرف إنْ كان يخضع للطريقة الجديدة للعلاج أم لتلك التقليدية، وكذلك الذي يجمع البيانات لا يعرف أيٌّ من المرضى قد خضَعَ للعلاج الجديد وأيهم خضع للتقليدي.

هذه التعمية لا يتمُّ كشفها إلا مركزيًّا لمُقارنة النتائج بعد كلِّ محاولات تحييد الخطأ البشري النفسي؛ فهناك ما يُعرف بتأثير البلاسيبو placebo effect؛ أيْ إن المريض الخاضع لعلاج جديد يُشفَى نفسيًّا لمجرَّد عِلْمه أنه يتلقَّى علاجًا؛ هذا الأثرُ يحاولون التحكُّمَ فيه بجعل المريض يَجهل إنْ كان يتلقَّى العلاجَ الجديد أم التقليدي. كذلك جامعُ البيانات نفسه، قد يتأثَّر نفسيًّا، وبغير وعيٍ يُفضِّل نتائجَ العلاج الجديد ويراها أفضل، ويتمُّ تحييد ذلك بجعْلِ جامعِ البيانات نفسه جاهلًا بحالِ مريضِه من حيث تناوُله للعلاج الجديد أم التقليدي.

هذه هي أعلى مَراتب الدليل الطبي والطب المبنيِّ على الدليل، تأتي بعدها تلك النتائج المستخلَصة من معلومات تمَّ جمعُها سابقًا وأرْشَفَتها، وآخِرُ مَراتبِ الدليل هي رأْيُ العلماء والخبراء المَبنيُّ على مجرَّد الخبرة والممارَسة، دون تحليلٍ إحصائي وافٍ.

هكذا تَنبني الممارَسة الطبية في التخدير وغيره، لكنْ يبقى الأطباء عمومًا، وأطباء التخدير بخاصة، متأثِّرين جدًّا بالغيب والماوَرَاء.

أعتقد أن ذلك يَرجع ربما لأنه وإنْ كانت الأرقامُ حَدِّيةً ولا تَقبل الفصال، والمضاعَفاتُ حتميةً بنِسَبٍ مُعيَّنة محسوبة ومُقدَّرة؛ إلَّا أن لُعبةَ الاحتمالات صادقةٌ جدًّا عندما ننظر لعَيِّنة واسعة، لكنْ عندما يتعلَّق الأمرُ بشخصٍ واحد فقط هو الذي بين يدَيْك، فالاحتمالُ هو إمَّا أن يحدث الأمر أو لا يحدث بنسبة مائة بالمائة.

على سبيل المثال، نسبةُ إصابة المرضى بالمضاعَفات حالَ تركيبِ قسطرةٍ وريديةٍ مركزية central venous line لهم ثابتةٌ إلى حدٍّ كبير؛ تتراوح بين «١٪ و٦٫٦٪» بحسب الوريدِ المستخدَم ونوعِ الإبرة والتقنيةِ وغيرها؛ أيْ إنه من كل مائة مريضٍ سيُصاب عددٌ يتراوَح بين الواحد والستة ﺑ «الاسترواح الصدري» pneumothorax.

لتركيبِ قسطرةِ وريدٍ مركزية نَستخدم إبرة سميكة بعض الشيء، هذه الإبرة قد تَثقب الغشاءَ البلَّوري المحيط بالرئة؛ فيتجمَّع الهواء فيه وتنضغط الرئة؛ مما يُسبِّب صعوبةً في التنفُّس قد تستدعي تدخُّلًا طبيًّا آخَر لتصحيح الأمور.

هذه النسبةُ ثابتةٌ ومكتوبة، لكنها ليست كذلك بين المريض والطبيب، بالنِّسبة للمريض الواحد وطبيبه إما أن يُصاب بنسبةِ مائةٍ في المائة، أو لا يُصاب بنسبةِ مائةٍ في المائة.

قد تُخبِر مريضَك كطبيب بالنسبة، وتُخبِر نفسَك بالنسبة، لكن يبقى الأمر أنه إما أن يُصاب أو لا يُصاب، ساعتَها لا تملك إلا محاولاتٍ غيبيةً وسيكولوجية، تُطبِّق العلمَ لكنَّك تعلم أن ما قد يحدث لا بدَّ حادث، لكنَّك لا تعرف مَن سيقع الأمر في قُرْعته وحْدَه؟ ومتى؟ وأحيانًا لماذا هو دونَ الباقين؟

في أول عملي كطبيبِ تخدير كان لديَّ قلقٌ دائم من عدم الإلمام بالمَهارات اليدوية المطلوبة لمِهْنتي، لاحظَتْ ذلك إحدى الطبيبات المتميِّزات الأكبر سنًّا؛ لذا وجدتُها تقول لي: «التخديرُ بالأساس عِلم وتعلُّم، أمَّا المهارات اليدوية فهي على قِلَّتها مهمةٌ جدًّا وشديدةُ الحيوية، وأبسطُها وأهمُّها تركيبُ الكانيولا في وريدٍ طرَفي، وتركيبُ الأنبوبة الحنجرية endotracheal tube، وستكتشف أنك بعد قليل قد أصبحتَ خبيرًا، وستكتشف أن جُلَّنا كأطباءِ تخدير نتَشارك نفسَ القدر من المهارة، بخاصة هذه المهارات الأولية، لكن هذا لا يمنع أنك في مرة ستَتضاءل جدًّا وأنت تُحاوِل وتُحاوِل جاهدًا وتُناضِل وتستعين بكلِّ خبرات عمرك وكلِّ حواسِّك، ولا شيء يَمشي كما هو مُخطَّط له، ولا تستطيع أن تجد الوريدَ أو الأنبوبةَ الحنجرية.»

علمتُ أنها صَدَقتْني القولَ، وبتُّ أُصلِّي كما يُصلُّون كي لا أجد نفسي في ذلك الموقف، وكي أتصرف بحكمةٍ عندما يحدث ذلك.

نعم، هناك قواعدُ للعمل وترتيباتٌ تَحفظ حياةَ المريض بأكبرِ قدرٍ مُمكن، وخطوطٌ عريضة دورية تُصدِرها أكبر المؤسَّسات الطبية والعلمية يجب أن نَخضع لها حرفيًّا، لكنْ يَبْقى ذلك العامل الخارجي، الذي لا تملك سوى التودُّد والتقرُّب له ومُساءَلته العفو والرحمة.

الأمر أشبه بالطبيبِ بطلِ روايةِ «قنديل أم هاشم» ليحيى حقي، الذي كان يعالج مريضته بالقطرة التي أجازَها العلم وثبَت نجاحُها، لكنه وفي ذات اللحظة يُبارِك مريضتَه بزيتِ قنديل أم هاشم، لا يَسكبه في عينَيْها لكنه فقط يَستحضِره ويُبارِكها به.

في حكايةٍ طريفة قصَّها عليَّ صديقُ عملٍ مقرَّب، والذي جعَلها لطيفةً أنها انتهت على خير.

يقول صديقي: «في يومٍ قُمنا بتنويم (تخدير) مريض لأجل عملية كُبرى، تستدعي وضْعَ كانيولاتين طرفيتين كبيرتَي الحجم، وقسطرةٍ وريديةٍ مركزية، وكانيولا شريانية. بدأنا البنج بشكل جيد، ونام المريض عميقًا بكانيولا طرفية صغيرة نسبيًّا، ثم كان علينا أن نقوم بتركيب باقي الكانيولات الوريدية وتلك الشريانية والقسطرة المركزية، جرَّبتُ كثيرًا ولا شيءَ يُريد أن يَثبُت في موضعه؛ الأوردة لا تتحمَّل الكانيولات الكبيرة، وثَمة مشاكل تقنية في تركيب القسطرة المركزية غير واضحة الأسباب، وكانيولا شريانية تصل للشريان لكنها لا تمرُّ بسلاسةٍ إلى داخله، جميعُنا تصبَّبنا عرقًا وجميعنا حاوَلنا، بعدَ وقت تمكَّنَّا من وضع كانيولاتنا الطرفية، فتنفَّسنا الصُّعَداء لحدٍّ ما. مرَّ بنا أحد أساتذتنا الكبار والمرموقين في تلك اللحظة وسألنا عن الحال، فتبرَّعتُ قائلًا: «الحظ مش تمام النهارده، والقرفة شكلها مش حلوة».»

يُضيف صديقي أن الأستاذ الجليل لم يُعقِّب، لكنه نظر إليه نظرةَ لومٍ وفجيعة حمَلَتْ كلَّ ما أراد أن يقوله: «حظ وقرفة! هذه أشياء نبتكرها لتبرير الفشل والصعوبات دون أن نسعى جاهدين لتذليل الأمور ومخاطبة منطق السبب والنتيجة.»

اشتبك الأستاذ الجليل معنا محاولًا، ثم ابتسم ولم يُعقِّب وهو يتصبَّب عرقًا ويَبتسم لنا أمام اللامنطق الذي يحدث، بعدَ عدَّة محاولات نجحنا في وضْعِ ما أردناه، وبدأت العملية ومرَّت بحمد الله بسلام حتى نهايتها.

لعلَّ ذلك هو السبب الأكبر الذي لأجله نَصِف ما نفعله من تخدير للمرضى بأننا فقط نجلب لهم نومًا فسيولوجيًّا هانئًا، مع تمام علمنا بالمغالَطة، ولكنها ربما تُطمئِنُنا نفسيًّا.

التخدير يُقلِّل من نشاط خلايا المخ، يُقلِّل من الإشارات العصبية المنبعثة منها، من عددِ تلك النبضات الكهربية والتي تعني الحياة والنشاط؛ فالموتُ توقُّفٌ لذلك النشاط تمامًا. صحيحٌ أن توقُّف قشرة المخ عن العمل لا يعني موتًا صريحًا، لكنه علامةُ خطرٍ كبرى واقتراب شديد من النهاية والموت، التخديرُ اقترابٌ من الموت، والنومُ اقترابٌ من الموت كذلك بحسب الثقافات الشعبية، لكنه اقترابٌ أكثرُ أَمْنًا، اقترابٌ مُعتاد يتبدَّد كلَّ صباح.

ونحن — أطباء التخدير — نخشى الموت، نلمس برودتَه كلَّ يوم، وأجسادُ مرضانا تتخلَّص من بعض حرارتها تدريجيًّا مع وضعهم تحت تأثير أدويتنا وتقنياتنا، وهي حقيقة، هناك منحنيات معروفة تَصِف الهبوطَ التدريجي لدرجةِ حرارةِ المريض في غرفة العمليات وهو تحتَ تأثير المخدِّر، نحاول أن نتحايل عليه بمحاولةِ ضبْطِ كلِّ شيء ووضعه موضِعَه، والاستعدادِ لكلِّ عارض، والتركيزِ الشديد؛ وكذلك باستخدام لغة مُراوغة، تقول إنَّ اقترابَنا آمِنٌ ويُمكن عكسه بكل سهولة ولن نَنزلق في حفرة بلا قاع، بِيَدِنا عكسُ كلِّ شيء حين نشاء، ونَقدر على التحكُّم في كل صغيرة كانت أو كبيرة.

ربما كان ذلك هو أحد أهمِّ أسباب إصرارنا على وصف التخدير بالنوم بيننا كأطباء، لكننا نفعل كذلك عندما نتحدَّث مع مرضانا.

نُحاول طمأنتَهم: لا شيءَ مختلف، فقط ستنامون كما تفعلون كلَّ ليلة أو كلَّ قيلولة، وسوف تستيقظون في حالةٍ من تمامِ الوعي وصفاءِ الذهن وإقبالٍ على الحياة والعالَم.

عادةً أسألُهم أن يناموا في عمق وأن يحاولوا تذكُّرَ الأحلام جيدًا. معروفٌ أنه لا أحلامَ والمريض تحت تأثيرِ مخدِّر العمليات، لكنني أُقارِب النومَ العادي، الطبيعي، الفسيولوجي.

أبتسم وأنا أحقن المخدِّر، أُطمْئِنهم وأُطمْئِن نفسي، فعلتُها مع أول حالة والثانية والعاشرة والمائة والألف، وسأفعلها مع المليون.

«استمتعوا بالأحلام وتذكَّروها جيدًا، وأنا في انتظار عودتكم هنا، لتقصُّوا عليَّ إبداعَ لاوَعْيِكم، وسنَبتسم ونمرح كثيرًا ونحتفل بالرحلة التي ستكون آمِنة، مجرد نوم هانئ.»

يُغمِضون عيونَهم في هدوء، ويَنسحِب الوعي وأُحاول أن أَعبُر بالقارب آمِنًا بهم، ليس قاربًا كذلك الذي لشارون، والذي يَعبُر من الحياة الدنيا للعالَم الآخَر ويأخذ أجْرَه عملاتٍ ذهبيةً من عيون زبائنه، بل قارِبٌ نحاول تخيُّلَه كسحابة رقيقة وعوالم حُلْم، قارِبٌ نحاول جعْلَ انزلاقاته هادئةً وآمِنة، أهمس في أُذُن النائمين طوالَ الوقت، وأسمع أصواتهم طوال الوقت، وأستدعي ابتساماتهم؛ هي رحلةٌ بسيطة وهانئة، وسنعود جميعًا سالمين.

لكنْ ما التخدير؟ وما النوم؟ وما الوعي؟

قصَدني يومًا صديقٌ يَستشيرني في أحد فصول روايته الجديدة، كان يسأل عن رأيي كطبيبٍ في وصْفِ بطلِ الرِّواية لمشاعره تحت تأثير المخدِّر.

قال لي: «أنا قَلِق بخصوص هذا المشهد، وأخشى أن أكون تفلسفتُ وشرَدتُ وأضَفْتُ ما لا يمكن له أن يحدث؛ فيَستحيل المشهد الذي أردتُه إلى آخَرَ هزليٍّ بلا منطق.»

أضاف: «عرضتُ المشهد على كثيرين ولم يُثِر حفيظتَهم، مرُّوا عليه دون أن يُضايقهم، فقط وليد الخولي (صديق مشترك جرَّاح وشاعر) تحفَّظَ على المشهد، أعطاني رأيًا جِراحيًّا، ثم طلب مني أن أعرض تفاصيلَ التخدير عليك حتى تقول رأيك ويُصبِح المشهد بلا أخطاء.»

قرأتُ المشهدَ مرةً واثنتين وثلاثًا دون أن أجدَ ما يَستدعي التغيير؛ كان المشهد لمريضٍ تم تخديره نِصْفيًّا، ثم لم يَبدُ واضحًا هل وُضِع تحت تأثيرِ تخديرٍ عام لعَيبٍ بالتخدير النصفي، أم مجرد أنه أُعطِي بعضَ الأدوية المهدِّئة والمنوِّمة والمغيِّبة قليلًا للوعي.

قال لي: «لكنْ هل يُمكن لمريضٍ خُدِّر نصفيًّا أنْ يُخدَّر بعد ذلك كليًّا؟ وهل يُمكن أن يتخيَّل أشياء؟»

ابتسمت.

كان رأيُ المعترِض على المشهد أنَّ ما رآه المريض يُعتبَر هلوسات، والأدويةُ الحديثة للتخدير لا تُسبِّب في الأغلب الأعم أيَّ نوعٍ من الهلوسات.

قد يتبادَر إلى أذهانِ غير المختصِّين أن التخدير درجتان فقط، إما واعٍ وإما مُخدَّر، لكنَّ الأمر لم يكن أبدًا كذلك، وأدويتُنا لا تُسبِّب حالتين متعارضتَين من الوعي وانعدامه فقط، بل هوَ خطٌّ ممتد عليه تداخُلاتٌ بين درجاتٍ مختلفة للوعي.

تُعرِّف الجمعية الأمريكية لأطباء التخدير درجاتِ غيابِ الوعي الناجمةَ عن أدويتنا كالتالي:

  • (١)
    التنويم البسيط minimal sedation: وفيه يستجيب المريض بشكلٍ طبيعي جدًّا للأوامر الصوتية.
  • (٢)
    التنويم المتوسط moderate sedation: وفيه يستجيب المريض بشكلٍ له غرض للمُؤثِّرات الصوتية واللمس (ما يُعرَف ﺑ «التنويم الواعي» conscious sedation).
  • (٣)
    التنويم العميق deep sedation: وفيه يستجيب المريض فقط للمُؤثِّرات حال تكرارِها، أو حال كانت مؤلِمة.
  • (٤)
    التخدير الكلي general anesthesia: وفيه لا يستجيب المريض لأي مؤثِّر، وحتى تلك المؤلمة.

حتى يتأكَّد لنا أن الأمر أقربُ إلى حالاتٍ مُتداخلة، منها إلى نُقَط مُتفرِّقة؛ فمهمٌّ أن نعلم أنه في المملكة المتحدة يُعتبر التنويمُ العميق ضمنَ أحوال التخدير الكلي وليس حالًا مُنفصِلًا؛ بالتالي فالتخدير الكلي هو حال غياب الوعي مقابل التنويم الواعي كما ذكرنا تعريفه.

وكما نستخدم التخديرَ الكلي، نَستخدم كذلك التنويم بدرجاته، في الأغلب، مصحوبًا بتخدير موضعيٍّ أو نصفي أو لحُزَم عصبية معيَّنة.

اعتدتُ — كما أشرتُ — أن أسأل مرضاي أن يناموا عميقًا ويحاولوا تذكُّرَ أحلامهم جيدًا، أفعل ذلك مع مرضاي سواء سأضعهم تحت تأثيرِ التخدير الكلي أو أيِّ درجةٍ أخرى من درجات البنج.

وكما أشرتُ، التخديرُ لا يسمح بأحلامٍ، ولذلك أسبابُه التي سأذكرها لاحقًا، إلا أنني فُوجِئتُ أن المرضى الذين أضعُهم تحت تأثير التنويم الواعي conscious sedation أو التنويم العميق deep sedation — خاصَّةً إذا أفاقوا من تأثير الأدوية بلا ألمٍ مُصاحِب — يَذكرون أحلامًا، يَستعيدونها متى سألتُ، ويقصُّونها عليَّ؛ في الأغلب تكون أحلامًا هانئة وسعيدة.

ما أعتقده أنهم ربما بعدَ أنْ أثَّرتْ فيهم أدويتي مرُّوا بدرجات مختلفة من غياب الوعي، قد تكون إحداها النوم الطبيعي نفسه، أو أن غمامات غياب الوعي المتفاوتة قد غيَّرت في إدراكهم الحسِّي والنفسي، فغيَّرت في مجريات الأحداث، وخلال هذه الدرجات المتبايِنة تراوَحَت قُدراتهم على الاستجابة للمؤثِّرات، وكذلك قُدرتهم على تذكُّر تلك المؤثِّرات والأحداث؛ ولهذا كلِّه علاقةٌ بخلاياهم العصبية وكيف كانت تُنتج أو تُمرِّر السيَّال العصبي في كل مرحلة.

نعود لصديقي وروايته؛ أخبرتُه أنني لو طبيب أكتب هذا المشهد لَكان جافًّا جدًّا؛ لأنني دومًا سأتقيَّد بنصِّ ما أشارَتْ إليه الكتبُ من خواصَّ للأدوية، ومن مراحِلَ للوعي بلا خيالٍ حولها، لكن ما يبدو أن استجاباتنا للأدوية ليست واحدة، وأن الوعي ليس مجرد حضور وغياب؛ لذا نصحتُه بألَّا يُغيِّر حرفًا مما كتب، لكلِّ مريضٍ تجربته الخاصة وكلماته الخاصة وأحوالُ وعْيِه الخاصة. كطبيبٍ، وباستخدامِ حسِّي الإكلينيكي وبعض الأجهزة، أستطيع أن أتلاعب بالوعي، وأن أُحدِّد في أي درجةٍ أقف الآن، وأي عمق من غيابه أبغي الانحدارَ نحوه، لكنني أبدًا لن أملك ذات التجربة، ولن أستطيع أن أعبِّر عنها بدقة؛ فكلُّها تجاربُ وأحاسيسُ ذاتية.

ساعتَها خَلَصتُ إلى أن ما كتَبَه صحيح ومقبول، حتى لو بَدَا خياليًّا للبعض؛ فالوعي وغيابه ودرجاته، والحلم والخيال، كلها أحوال شديدة الذاتية.

لكنْ بالفعل ما الوعي؟ وما غيابه؟

يبدو الوعي مُراوِغًا جدًّا، مُراوِغًا لأطباء الأمراض العصبية، ولأطباء التخدير، ولأطباء الأمراض النفسية، وللباحثين في السيكولوجيا، وللفلاسفة؛ ربما بلا تعريف واضح كافٍ وشافٍ للظاهرة.

بالنسبة لنا كأطباء تَخدير قد يعني الوعي الانتباه، ولكن هل كل الوعي انتباه، وكلُّ تخدير هو غيابٌ للوعي والانتباه؟

ما هو الانتباه؟ وما هي اليقظة؟

يبدو أن الوعي ليس مجرد انتباه، في بعض درجات التخدير، كما ذكرنا، يكون المريض منتبهًا لبعض المؤثِّرات، وأحيانًا مُطيعًا للأوامر، لكنه فاقدٌ لخواصَّ أخرى للوعي.

هذا قد يطرح سؤالًا آخَر: وما هو الانتباه؟
هل الانتباه هو التركيز أم مجرَّد اليقظة؟ وما هي اليقظة؟
الثابت أن منطقةً تُسمَّى التشكل الشبكي reticular formation موجودة في جذع المخ brain stem هي المسئولة عن اليقظة.

لكن فيما يبدو أن أدويتَنا لا تُثبِّط خلايا اليقظة وتقلِّل من نشاطها وتُغيِّر في السيالات العصبية والنبضات الكهربية الصادرة منها فحسب.

أدويتُنا كذلك تُثبِّط مناطقَ أخرى؛ بعضها يُسبِّب فقدانًا وقتيًّا للذاكرة، وبعضها يؤثِّر على بؤر صرعية ويُوقِف نشاطها، وبعضها يعمل على مستقبِلاتٍ تُغيِّر من أحاسيسنا بالألم، وبعضها قد يَفصل بين المخ وبين الإشارات القادمة له من باقي الجسم، فتمر الإشارة لكنها تبدو بلا معنى، وبعضُها قد يُسبِّب توهُّمات (أغلبها ديني أو جنسي) وتأثيرات أخرى مُتباينة، تَختلف بين الأشخاص وبين العقاقير المختلفة، وكذلك تركيزاتها المختلفة.

يبدو الوعي كمجموعة من الخواصِّ المتراكبة والمتداخلة، التي قد تعني اليقظة والانتباه والذاكرة والتعلم والتفكير والإرادة والتخيُّل والذاتية والتصميم والدهاء وغيرها وغيرها.

يبدو وكأنَّ خلايا المخ تقوم بكل تلك الوظائف بلا نقطة مركز؛ فالمخُّ مجموعةٌ من المراكز التي يتصل بعضها ببعض بمليارات الوصلات دون حجرة تحكُّم مركزية control room أو وَحْدة معالجة مركزية processor.

تمكَّن العلم الحديث من تخطيط مراكز كثيرة في المخِّ معتمدًا على أبحاثٍ حول أولئك الذين يُصابون في بعض مناطق أمخاخهم، أو دراسةِ زيادةِ نشاطِ بعضِ المناطق عند تعرُّض الشخص لاستثارات معيَّنة.

لكن يبقى السؤال: هل الوعيُ هو بالفعل التعلُّم والذاكرة والحركة؟ أين تنشأ القرارات؟ وكيف تتفاعَل المراكز؟ وكيف تؤثِّر عقاقيرنا في ذلك الوعي؟ ما الذي نحتفظ به وما الذي نَفقده؟

قد تكون الإجابة بسيطةً لو حصَرناها في إجابات عامة وفي الجانب المادي الواضح من الظاهرة، فنحن نَستطيع قياسَ نبضات الكهرباء وتدفُّق الدم وزيادة إشعاع بعض المناطق النَّشِطة، لكنْ متى ذهب السؤال لِمَا هو أبعد، أصبح الموضوع معقَّدًا، وربما بلا إجابة شافية.

في دراسةٍ حديثة نُشِرت في physical review letters تحت عنوان «نموذج الترشيح والنفاذية للنقل الحسي وفقدان الوعي تحت تأثير التخدير الكلي percolation model of sensory transmission and loss of consciousness under general anesthesia» عام ٢٠١٥، قام بها ديفيد تشو وفيزيائيون آخَرون؛ حيث خلقوا نموذجًا للتشابكات العصبية بالمخِّ من خلال بَرْنامج للحاسوب، وحاوَلوا تمثُّل أثر التخدير على تلك الوصلات ليَخرجوا بنتيجةٍ مُفادها أن التعطيلَ المفاجِئَ والعامَّ لتلك الشبكة يُشبه تمامًا التخديرَ الكلي.

بإدخال التخدير كمؤثِّرٍ خارجي يَبدو المخ وكأنه يُغلَق بشكل حاسم، ثم بعد فترةٍ يَتعافى، ويَحدث ذلك كلُّه بشكلٍ مُتكافئ وسريع من تلك العتمة.

النموذجُ الحديث هذا يَقترح أن تأثير التخدير يأتي من خلال توقُّفٍ مفاجئ وحاسم وكلي في الشبكة العصبية.

هذا النموذج يُنتِج ذاتَ التغيُّر في الموجات الكهربية الذي يَحدث في المخِّ ويَرصده رسَّام المخ الكهربي.

يَعتقِد الباحثون أن نظريتهم تمثِّل أساسًا بسيطًا لفهم خواصِّ المخ كالوعي والإدراك، إلا أن الباحثين لا يستطيعون حتى اللحظةِ تفسيرَ كيف أنَّ هذا التأثير لعقاقير التخدير على كلِّ وصلة مُنفرِدة يُمكن أن ينتج عنه ذلك التأثيرُ الكُلي للتخدير.

يَعتقِد بعضُ الباحثين أن تأثير التخدير يَنجم عن قلة المعلومات الحسية التي تصل للمخ، يعتقدون في أن الأدوية تُقلِّل من نقل المعلومات من المهاد thalamus (تُنظِّم وظائفَ كالوعي والانتباه في المخ) إلى المراكز الإدراكية الأعلى؛ حيث تتحوَّل تلك المعلومات إلى صورة كلية وواضحة ومفهومة عن العالَم.

في ذلك النموذج صمَّمَ الباحثون وصلاتٍ عصبيةً كشجرة لها الكثير من الأغصان، هذه الأغصان تتلاقَى في عُقَد، هذه العُقَد قد تمثِّل خليةً عصبية أو مركزًا عصبيًّا من مراكز المخ، في ذلك المركز تتجمَّع المعلومات وكذلك يُعاد توزيعها.

جعلوا لكل بؤرة عصبية من تلك البؤر معدَّلًا لمرور تلك المعلومات والإشارات الكهربية من خلالها، وَلْيكن ذلك المعدَّل p؛ حيث عندما تكون p = 1 فمعدل مرور الإشارات الكهربية ١٠٠٪، وعندما تكون p = 0 فمعدل مرور الإشارات الكهربية ٠٪، أما إذا كانت p = 0.6 فمعنى ذلك أن احتمالية مرور الإشارات الكهربية ٦٠٪.

في البشر إذا قمنا بتثبيت أقطابٍ حول الرأس وتسجيل الكهرباء المنبعثة من المخ باستخدام رسَّام المخ، فإننا نحصل على أشكالٍ لموجات تَختلف باختلافِ درجاتِ نشاط المخ.

  • الموجة بيتا beta wave: وهي موجة قليلة الشدة amplitude، عالية التردد (أكثر من ١٢ دورة في الثانية)، وهي تَصدُر عن المخ في أوقات النشاط واليقظة.
  • الموجة ألفا alpha wave: وهي أكثر شدةً من بيتا، ولها تردُّدٌ أقل (٨ إلى ١٢ دورة في الثانية)، تَصدُر عن المخ عندما يكون الشخص يَقِظًا لكنه مُغمض العينين وفي حالة استرخاء.
  • الموجة ثيتا theta wave: وهي موجة أكثرُ شدةً، ولها تردُّد (٣ إلى ٨ دورات في الثانية)، تَصدُر عن المخ حالَ النوم والتخدير.
  • الموجة دلتا delta wave: وهي أعلى الموجات شدةً وأقلُّهم تردُّدًا (أقل من ٣ دورات في الثانية)، تَصدُر عن المخ عندما يكون في غيبوبة عميقة أو نوم أو تخدير عميق.
في ذلك النموذج المقترح وُجِد أن النموذج يعطي موجاتٍ تُشبِه موجاتِ البيتا حالَ كانت قيمةُ p تقترب من الواحد؛ وبالتالي كانت معدَّلات نقل الموجات عالية.
بينما يعطي النموذجُ إشاراتٍ تُشبه تلك التي تحدث أثناء التخدير حالَ كانت قيمةُ p منخفضة، أقل من ٠٫٥؛ وبالتالي كانت معدلات النقل منخفضة.

أروعُ ما في هذا النموذج، وبحسب الباحثين، أنه بسيطٌ ويتعاطى مع حقائق بسيطة، إلا أنه يمنح نتائجَ واستنتاجاتٍ واسعةً قد تُفسِّر عملَ المخ وعقاقير التخدير، لكنَّهم يحذِّرون من القفز إلى استنتاجاتٍ أبعد؛ فالطريقُ ما يزال طويلًا لكشف حقيقة الوعي.

نعود لظاهرة الوعي التي حيَّرَتِ الجميعَ منذ الأزل دون العثور على تفسيرٍ يَقطع بحقيقتِها وكيفية عملها، لا نَملك في هذا الشأن إلا العديد من النظريات والفرضيات التي لم تَستحِلْ في أي فترةٍ إلى يقينٍ علمي، أو حتى تَقترب من ذلك اليقين.

إلا أن هناك طوالَ الوقت نموذجَيْن مُسيطرَيْن على طاقة التفكير البشري بخصوص ظاهرة الوعي؛ نموذجين متعارضين، يُدلِّل كلُّ مُتحمِّس لأحدهما على وجهة نظره بخطابات مطوَّلة وأدلة كثيرة لكنها أبدًا لا تَصمد؛ لأنها ببساطة لا تَملك تفسيرَ جوانبِ كلِّ الظاهرة، ولا تَقدر على إجابة كل الأسئلة حتى وإنْ حاولَتِ المراوَغة.

يدَّعي أول هذه النماذج أن ظاهرة الوعي ظاهرة مثالية لا تَنتمي للعالم المادي، بل هي فوق هذا العالم ولا يُمكن تفسيرها بسيالات الكهرباء ونشاط العصبونات neurons وتدفُّق الإشارات، فكلُّ هذا ليس الوعي، كل هذا مجرَّد أنشطة فسيولوجية مادية جسَدية، قد تُبرِّر كيف يتحرَّك جزءٌ من الجسم، كيف تَنشط الذاكرة، كيف يبدأ التعلم، لكنها أبدًا لا تفسر ظاهرة الوعي، لا تفسر الإرادة والتفكير وبزوغ الأفكار والدهاء والتآمر وذكاء المشاعر، لا تُفسر تلك الحالة المعقَّدة التي نملكها جميعا على الأقل كبشر، لا تفسر ذلك الصراع الذي قد ينشأ بين فكرتَين أو مُعتقدَين، لا تفسر الاختيار الحر، وغيره وغيره.

أما النموذج الآخر فيؤمن أنَّ الوعي هو ظاهرة مادية، حفَّزها التطور والتشابك العصبي الفريد لأمخاخنا، وأن لكل شيء مركزًا ماديًّا في الرأس بلا قوى عليا مسيطرة أو ظواهر عليا منفصلة عن عالَمنا المادي؛ فالعالم ليس ثنائيًّا ولن يكون، ليس هناك مادة وعالم أرقى للمُثُل (لا نراه ولا ندركه)؛ فكلُّ شيء ملموس، ولكننا لا نستطيع تفسير الأمر وفقط، عبقرية الأمر في تعقيده وفي تداخلاته، بلا نقطة مركز نستطيع أن نَجزم أنها مكان الوعي وبغيابها أو دمارها يغيب الوعي؛ فالوعي ناجم عن تداخُل كل هذه المراكز وكل هذه العصبونات.

التفسير الأول بالطبع ستميل له الأديان جميعها، سواء كانت إبراهيمية أو غيرها ربما باستثناء البوذية والتي تَرفض في حسم ثنائية العالم إلا أنَّنا ومع قليل من البحث سنَكتشِف أنها ليست الأديان فقط التي ترى ذلك؛ فهناك مدارس فلسفية موجودة حتى اليوم تَعتقِد في هذه الثنائية كسبيلٍ وحيد لتفسير العالم.

الأغرب بالنسبة لي على الأقل هو اكتشافي أنَّ أحد أهم فلاسفة العلوم مثل (كارل بوبر) يؤمن في هذه الثنائية ويَنتهجها لتفسير العالم.

كان وجه تعجُّبي أن بوبر وعند تفريقه بين النظرية العلمية وبين تلك التي لا يُمكن أن نشير لها كعلم كان قاسيًا وحاسمًا وباترًا، كل ما لا يخضع للتجريب وللإثبات ولا تُثار ضده طوال الوقت فرضيات تُحاول — ويُمكن لها متى كانت صحيحة — دحضه، لا يُمكن أن يشار له كعلم.

كارل بوبر اعتبر نظرياتٍ كالماركسية وأعمال فرويد وإدلر في علم النفس مجرَّد هراء؛ قال إنه منذ وعى لم يكن يَستسيغها أو يعتبرها علمًا، ظلَّ يفكر ويُفتش عن طريقة يستطيع بها التفريق بين ما هو علم وما هو لا علم أو علم زائف حتى وجد ما يُمكِّنه من ذلك التفريق.

اتخذ إمكانية تعرُّض النظرية للاختبار الدائم والدحض وسيلة لإثبات ذلك الفارق بين العلم وغيره.

فنسبية أينشتاين على سبيل المثال تتعرَّض كل يوم لعشرات الاختبارات وحتى اللحظة تستطيع المرور وتفسير العالم لكنها ربما تقف عاجزة يومًا ما، وساعتها سنبحث عن رؤية جديدة ونظرية أصح، لكن الماركسية وأعمال فرويد وإدلر غير قابلة للاختبار والدحض؛ فهي فضفاضة ومُرسَلة وتستطيع تفسير كل شيء وعكسه؛ فطاقة تفسيرها واسعة جدًّا؛ لذا فهي أبدًا لا تتعرض لاختبار حقيقي ولا يمكن أبدًا دحضها.

رجل بهذا الحزم العلمي والرؤية التجريبية البحتة نجده يَنحاز للاعتقاد في ثنائية العالم واتخاذ هذه الفرضية سبيلًا لتفسير العالم والوعي، وهو الذي قد يبدو غريبًا لكنه دليل واضح وأكيد على مدى تعقُّد هذه الظاهرة المسمَّاة بالوعي.

قال بوبر وإيكلز بما أسمَياه «التفاعُلية الثنائية»؛ فقد قالا بوجود عقلٍ غير مادي أعلى واعٍ بذاته ويستطيع التأثير في الدماغ المادي بشكل دقيق وعبر مليارات الوصلات.

ربما سأل بوبر نفسه ذلك السؤال الذي ما يزال يُحيِّر العلم كيف تنشأ تجارب ذاتية من ذات ذلك المخ المادي؟ كيف يُمكن لسيالات عصبية أن تَعني لونا وصورة وخيالًا ومؤامرة ومذاقًا، هل الخُفاش يرى العالم كما نراه، وكيف يكون وعيُه بالأشياء إن امتلَك واحدًا يومًا، هل نرى الأصفر والأخضر بنفس الشكل ويُعطينا مذاق السكَّر نفس الطعم.

تبدو المشكلة بلا حلٍّ حتى اللحظة، وربما تستدعي إيمانًا بثنائية لا يُمكن تجريبها أو إثباتها، وكيف نُثبتها إن كنا نبحث في قضية الوعي وظاهرته ربما بذات الوعي نفسه المدروس، كيف يحيط منهج الدراسة والبحث بذاته.

في أحد أفلام التحريك inside out يُصوِّر الفيلم أمخاخ البشر وربما بعض الكائنات الأخرى كذلك وكأنها غُرَف تحكُّم، تجلس فيها مجموعة من المشاعر أو الكيانات المختلفة والتي توجِّه التصرفات وتُحرِّك الوعي، تبدو هذه الصورة هي الأقرب لأحد تصوُّرات الوعي حيث نتخيَّل الرأس كمسرح متَّصل بالعديد من المعطيات، تعرض أمامه العينان صورة للعالم وكذلك الأذن أصواتًا والأنف روائح، وهكذا كل الأحاسيس والمعلومات بل هناك كذلك شاشات للخيال والأفكار وغيرها بينما تَجلس الأنا في المنتصف على كرسي وثير تدرس كل شيء وتُقرِّر.

قد يسخر البعض من هذا التصور ولكنه الشكل الأقرب لتمثيل الثنائية، حيث تلتقي كل المعلومات المادية والرؤى؛ ومن ثم يتمُّ تسليمها للعالم المثالي الروحاني الفكري غير المادي ليتشكل الوعي.

ساعتها قد تكون عقاقيرنا مجرد فصل للعالَمَين (المادة والمثال) أو قيلولة للأنا الجالس في مُنتصَف الرأس.

إلا أن هذا التصوُّر يُمثِّل مادة سخرية للماديين ولكثير من العلماء الذين يرون في المخ مبدأ كل شيء ومُنتهاه بلا حاجة لتصوُّراتٍ مفارِقة أو لعوالِم لا ندركها؛ فالمخ بالنسبة لهم كما أشرنا مكان لمعالجة كل شيء، متعدِّد المراكز والوصلات، وهو كافٍ بذاته لتوضيح الظاهرة، لكنهم وحتى اللحظة لا يَملكون ما يُبرهنون به على ذلك وكيف تستحيل تلك المادة إلى كل هذا القَدْر من الرُّؤى والأفكار والتكهُّنات والخبرات وأخيرًا الوعي.

هذا الغموض والإلغاز دفع البعض إلى محاولات للتفكير في تفسيرات ونظريات شديدة الغرابة، تُحاول الاستفادة من ذات الاكتشافات الحديثة في الفيزياء، في محاولة لتفسير ما يكتنف الظاهرة من غموض بِرَمْيِها في أحضان عالم الكم والكوانتم، حيث يدَّعون أن الوصلات العصبية والتيارات الكهربية المنسابة لا تسلك أبدًا سلوك الفيزياء التقليدية، بل هي أقرب لغرابة عوالم الكم؛ حيث لا يُمكن تحديد مكان وزمان الحدث، وحيث يتصرَّف كل شيء في غرابة، وحيث قد تحمل المعادَلة احتمال الشيء وعكسه وتتراكَب الدَّوالُّ الموجية والظواهر وحيث الاحتياج لملاحِظ واعٍ لتفسير انهيار تلك الدوال.

رغم ذلك لا زالت هذه النظرية بكلِّ غرابتها غير كافية وحتى اللحظة لتفسير كل غرائب ظاهرة الوعي.

وطالَما بقيَ الوعي عصيًّا على التفسير بقي كذلك التخدير وتغييب الوعي عصيًّا على التفسير بشكل كلي، لا يَرتكن لتفسيرات جزئية وميكانيكية على مستوًى ضيق للتفسير.

ما الفارق إذًا بين غياب الوعي نتيجة التخدير والنوم الفسيولوجي الطبيعي؟

كما أشرنا، نحن لا نكفُّ طوال الوقت عن الخلط بين النوم الفسيولوجي والتخدير، خاصة وأنَّ بعض المنوِّمات والأدوية تضع الجسم في حالة استرخاء وتستدعي النعاس الفسيولوجي نفسه، بعض عقاقير التخدير نفسه وفي جرعات بسيطة قد يكون لها هذا الأثر.

نجد حكايات تلك الأدوية السحرية تتسرَّب في العديد من قصص أدبنا الشعبي، على سبيل المثال، لا الحصر، في سيرة «علي الزيبق» وكيف كان الشُّطَّار، كالمقدم دليلة، يستخدمون البنج لتغييب خصومهم وليخلوا لهم الجو فيفعلوا ما لا يستطيعون فعله في ظلِّ حضور خصومهم ووعيهم.

نجد تلك الحكايات تتسرَّب كذلك في الأساطير القديمة جدًّا؛ ففي أثناء حرب طروادة وعندما أرادت الربة «هيرا» زوجة «زيوس» ربِّ الأرباب وسيد الأوليمب أن تُغيِّر من مجريات الحرب، دسَّتِ المخدِّر لزيوس كي يَغيب عن الوعي قليلًا وتُنحِّيه لفترة عن المعركة فتستطيع بتدبيرها أن تغير فيها.

إلا أننا كأطباء تخدير لا نُغيِّب الوعي من أجل مصالح خاصة، وهدفُنا ردُّه في أسرع وقت مُمكِن، نحن نُخدِّر المريض بنيَّة ردِّه للوعي بأقصر الطرق الممكنة لإتمام الجراحة أو الإجراء الطبي.

نعود للنوم، ما هو النوم؟

لعلَّ النوم كذلك مُحيِّر تمامًا كالوعي والتخدير، هذه الدورة من اليقظة والنوم وذلك الانتقال السحري إلى تلك الحالة من فقدان الوعي في انتظام (١٦ ساعة من اليقظة تقريبًا و٨ ساعات من النوم في المتوسط).

ذلك النظام الساحر الذي دفَع قدماء الإغريق ليُمثِّلوا إلهًا مسئولًا عنه أسموه «هيبنوس» وهو ابن نيكس «ربة الليل» وأخوه «تاناتوس» أي الموت.

هيبنوس تخيَّلوه ربًّا وسيمًا بلا أب، يَنام في كهف ينبعث النوم من كل ركنٍ فيه، ويمرُّ به نهر النسيان، له ابنٌ يُدعى «مورفيوس» وهو رب الأحلام.

النوم ذلك السلوك المهيمن على كل المملكة الحيوانية، تحتاج له أدنى حشرة كما يحتاج له البشر على قمة الثدييات والرئيسيات.

لم تَقترِح ثقافة البشر ومعارفهم وآدابهم وخيالاتهم وفنونهم كائنات لا تنام إلا وكانت فوقية؛ أربابًا أو ملائكة وشياطين.

في دراسة أجراها كيو kuo AA نُشرت في journal of medicine عام ٢٠٠١ تحت عنوان «هل الحِرمان من النوم يُضعف من الأداء الإدراكي والحركي مثل الثَّمِلين بالكحوليات؟ Does sleep deprivation impair cognitive and motor performance as much as alcohol intoxication?» حيث قارن تأثير الحرمان من النوم على الوظائف الإدراكية للإنسان بتأثير الكحوليات على ذات الوظائف؛ حيث أوضحَت الدراسة أن أولئك الذين حُرموا من النوم ﻟ ١٩ ساعة تأثَّر انتباههم ووظائفهم الإدراكية بشكلٍ أكبر من أولئك الذين تعرَّضوا لجرعات عالية من الكحول.

بينما بيَّنت دراسات أخرى أن يومًا كاملًا من الحرمان من النوم كافٍ للتأثير في الذاكرة والقدرة على الحكم وردود الأفعال البسيطة.

الانتباه في الصَّباح والذاكرة تتأثَّر بشكل كبير حال الحرمان من ثماني ساعات من النوم كما أن اضطرابات النوم تؤدِّي للنتيجة نفسها خاصَّة إذا تكرَّر ذلك لليالٍ مُتتالية.

الحصول على ثلاث ساعات من النوم أو خمسة أو أقل من سبعة لعدة ليالٍ مُتتالية يؤثِّر على الانتباه والأداء الحركي.

كما ثبت أن أولئك الذين يُعانون من اضطرابات النوم مثل المصابين بمتلازمة توقَّف التنفُّس أثناء النوم sleep apnea يؤدُّون بشكل سيئ في اختبارات ردود الفعل البسيطة والانتباه بشكل يُشبه الثملين.
لا يبدو أن تأثير الحرمان من النوم يقف عند تلك الحدود، بل يؤثِّر كذلك على الحالة النفسية، أثبت بعض الباحثين في جماعة بنسلفانيا أن الحرمان من النوم يؤدِّي لحالة من الحزن والضغط النفسي والتوتُّر والغضب والإنهاك الذهني؛ ذلك في دراسة نُشرت في New York, Delacorte press تحت عنوان «وعد النوم the promise of sleep» عام ١٩٩٩.

النوم راحة من العالَم، تجديد للخلايا والنشاط، هُدنة مع الكون وإعادة لشحذ الذات، بداية جديدة، الاستعداد لصباح وما أجمل ندى الصباح.

هكذا تجد بعض المرضى وفي شجاعة يَطلبون نومًا هادئًا منك، يطلبون تجديدًا للخلايا وصباحًا جديدًا وشمسًا وسماءً صافية زرقاء.

يبدو أنه وطوال اليوم ومع نشاط الإنسان يتراكم في الدم مركَّب الأدينوسين Adenosine، حتى يصل قبل النوم لأعلى معدَّلاته، حينها تُصبح مقاومة النعاس شديدة الصعوبة، ومع النوم تقلُّ هذه المعدَّلات مرة أخرى.
تلعب كذلك منطقة تحت المهاد hypothalamus دورًا كبيرًا في تنظيم الساعة البيولوجية؛ حيث تُطلِق بعض خلاياها العصبية إشاراتها الكهربية في تزامُن مع نشاط الشخص وحركة الضوء والظلام.
يظهر أن النوم لا يُجدِّد فقط نشاط الذهن ويُعيد تعبئة الموصلات العصبية neurotransmitters ويعيد لكيماويات الدماغ توازنها، بل له تأثير كذلك على إفراز العديد من الهرمونات؛ كهرمون النمو الذي يُفرَز أثناء النوم ويعمل على نموِّ الصغار وتنظيم الكتلة العضَلية للكبار، هرمونات الجنوسة تُفرَز كذلك أثناء النوم ويُعزى لبعضها تنظيم البلوغ.
النوم كذلك يُنظِّم إفراز هرمونات مسئولة عن الشهية وتنظيم الأيض metabolism، حتى إن بعض العلماء يَذهبون إلى أنَّ اضطرابات النوم قد تُسهم في الإصابة بالسِّمنة ومرض ارتفاع سكر الدم.
يدفع كذلك البعض بدور مُهمٍّ للنوم في تحفيز الجهاز المناعي ويَستدلُّون بدراسة أشارت إلى أن الحرمان من النوم قد قلَّل من استجابة البعض لطعم الإنفلونزا، نُشرت عام ٢٠٠٢ في journal of the American medical association تحت عنوان «تأثير الحرمان من النوم على الاستجابة للتحصين المناعي effect of sleep deprivation on response to immunization».

أكبر فارق بين النوم والغيبوبة والتخدير أنَّ النوم حالة من غياب الوعي وعدم الانتباه يُمكن لها أن تَنعكِس سريعًا وبشكل تام.

كذلك يبدو أن النوم يَخضع لمراحل ثابتة حيث يُمكن تقسيمه إلى نوم حركة العين السريعة rapid eye movement sleep ونوم حركة العين غير السريعة non rapid eye movement sleep، ومن التسمية ذاتها يتضح أن النوع الأول قد اكتسب اسمه من حركة العين المصاحبة له والتي تكون في كل الاتجاهات، بينما يفتقد النوع الثاني لتلك الحركة.
يبدأ النوم بنوم حركة العين غير السريعة Non REM sleep ثم يَتبعه نوم حركة العين السريعة REM sleep وهو نوع النوم الذي تحدث فيه الأحلام «الأحلام أهم خصائص النوم السحرية والتي يفتقد إليها التخدير والغيبوبة»، يتميز كذلك هذا النوع من النوم بنشاطٍ عضَلي مميَّز.
يوجد ثلاث مراحل لنوم حركة العين غير السريعة non REM sleep، تستمرُّ كل مرحلة منهم من خمس إلى خمس عشرة دقيقة.
  • المرحلة الأولى: العينان مغلقتان لكنَّ اليقظة والوعي قريبان جدًّا، وأبسطُ المؤثِّرات تردُّهما بسهولة.
  • المرحلة الثانية: في هذه المرحلة تنخفض ضربات القلب وينتظم التنفُّس وتَنخفض حرارة الجسم ويَستعدُّ العقل للدخول في مرحلة النوم العميق deep sleep.
  • المرحلة الثالثة: هي أعمق مراحل النوم، ويحتاج فيها الشخص لمؤثِّرات قوية لردِّه للوعي، ومتى استيقظ فيها الشخص فإنه يبقى مشتَّتًا، ويحتاج لبعض الوقت لاستجماع شتات نفسه ووعيه، وهي المرحلة التي يستعيد فيها الجسم توازنه ويبني نشاطه ويجدد منه.
نوم حركة العين السريعة REM sleep عادة يحدث بعد تسعين دقيقة من بداية النوم ويستمرُّ لعشر دقائق، وفيه تزداد ضربات القلب وسرعة التنفُّس ونشاط العقل، وتحدُث الأحلام وارتخاء تامٌّ للعضلات Antonia إلا أنه وفي أحد مراحله قد تحدث انقباضات عضلية muscle twitches، هذا النوم يَحدُث بالتبادل مع نوم حركة العين غير السريعة non REM sleep، إلا أن زمنه يزداد في كل مرة تالية حتى يصل ربما في نهاية النوم إلى ساعة كاملة.
أثناء نوم حركة العين غير السريعة non REM sleep تتباطأ موجات المخِّ حتى تستحيل إلى موجات ثيتا theta waves أثناء النوم الخفيف light sleep، والتي تستحيل إلى موجات دلتا delta waves أثناء النوم العميق deep sleep، بينما تكون حركة العينَين بطيئة ودائرية.
الغيبوبة تَختلف تمامًا عن النوم؛ فموجات المخ brain waves لا يبدو أن لها نفس موجات مخ النوم، كذلك فالغيبوبة لا يُمكن عكسها بسهولة، وتحتاج لأوقات طويلة لتعافي الدماغ.

أما التخدير فكذلك يبدو مختلفًا تمامًا عن النوم الفسيولوجي وعن غياب الوعي الناجم عن الغيبوبة.

التخدير كتعريف يعني غياب الألم مصحوبًا أو غير مصحوب بغياب الوعي، لكننا متى انتقلنا من تعريف التخدير إلى تعريف التخدير الكلي general anesthesia، فسيتضح لنا أنه غياب الوعي unconsciousness مصحوبًا بالنِّسيان amnesia وتسكين الألم analgesia وارتخاء العضلات muscle relaxation.
يَعتمد جُلُّ أطباء التخدير في ممارستهم عملهم وفنَّهم على ما يُعرف باسم التخدير المتوازِن balanced anesthesia والذي يعني استخدامًا متوازنًا لمجموعة من الأدوية للحصول على التأثير المطلوب؛ وذلك لتقليل جرعة كل دواء منفردًا؛ وبالتالي التقليل من آثاره السلبية مع الحصول على ذات التأثير النهائي المرغوب.
المرحلة الوحيدة من النوم التي ترتخي فيها العضلات تمامًا هي مرحلة نوم حركة العين السريعة REM sleep، إلا أن الإشارات الكهربية التي يسجلها رسام المخ تكون مختلفة تمامًا، كذلك فالاستجابة للمؤثرات مختلفة؛ فمن الواضح أن أعمق درجات النوم لا تقترب من عمق غياب وعي التخدير.
يبدو التخدير في حقيقة الأمر أقرب للغيبوبة العميقة، إلا أنها غيبوبة يمكن عكسها والتحكم فيها، حتى إن موجات المخ brain waves أقرب لتلك المصاحبة للغيبوبة العميقة.
وكما أشرنا؛ فالتخدير لا تحدث فيه مراحل النوم التي ذكرناها سابقًا، ويخلو تمامًا من نوم حركة العين السريعة REM، بل إن غياب ذلك النوع من النوم يؤدي لظاهرة تُعرف بدين نوم حركة العين السريعة REM debt؛ حيث يتمُّ تعويض هذا النوع الغائب من النوم في اليوم التالي للتخدير ليَحدُث في مدد أطول وكأنه دَين يُسدده المخ.
عقار البروبوفول هو الوحيد ربما الذي لا يُظهر هذا الدين عند استخدامه كمُخدِّر وريدي، أما الهالوثين فهو من المخدِّرات الاستنشاقية وهو يُظهر ما يُعرف بدين حركة العين غير السريعة non REM، كذلك عكس الأيزوفلورين والسيفوفلورين وهما من المخدرات الاستنشاقية أيضًا واللذين يظهران فقط دينًا لحركة العين السريعة REM، ويبدو — بناءً على ذلك — أنهما يَكفلان للمخ أثناء تعاطيهما ما يُشبه نوم حركة العين غير السريعة non REM.
بقيَ أن أشير أخيرًا إلى عقار ساحر حديث نسبيًّا اسمه العلمي ديكساميديتوميدين Dexameditomedine ويُسوَّق تجاريًّا تحت اسم بريسيديكس Precedex، وهو دواء مضادٌّ للقلق ومنوِّم إلا أن أهمَّ خواصِّه تَكمن في أن موجات المخ المصاحبة لتعاطيه تُشبه إلى حدٍّ كبير جدًّا تلك التي ينتجها المخ في المرحلة الثانية من النوم الطبيعي؛ لذا فهو منوِّم ساحر يُماثل إلى حدٍّ كبير النوم الفسيولوجي.

إلا أنه وبكلِّ تأكيد ليس نومًا فسيولوجيًّا تامًّا له مراحله وأحلامه.

هكذا أتغاضى وزملائي عن كل تلك الحقائق ونستمرُّ في طمأنة مرضانا وطمأنة أنفسنا، هو مجرد نوم بسيط وفسيولوجي لكن هذا لا يَطرد كل الخوف؛ فالنوم ما يَزال — وبحسب معتقَد كثير منهم — هو اقتراب من الموت أو ربما موت أصغر، تُغادر فيه الروح الجسد وإن بقيَت على اتصال، تهيم في عوالم البرزخ وتُقابل مَن تُقابل في عوالم المثال قبل أن تعود، لكن يبقى أن بعضها قد لا يعود.

أُخبرُهم أن الأمر بسيط، وأنني هنا لأُنظِّم الرحلة وأراقبها وأضمن أمانها، أخلط سحري وأتمتم بالتعاويذ وأستحضِر النوم وأدفعه في العيون، ولن تفيد المقاومة، اسألهم أن يحاولوا المقاومة بالانتباه والعد لكن الجفون تَرتخي واللسان يُصاب بالثِّقل ويَغيبون في نوم عميق، وأستعد لهَدهدتهم حتى يُفيقوا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤