المرأة الجديدة

كان السفور، فالاختلاط المحدود في البداية، وخروج المرأة إلى العمل، عوامل مباشرة في توضيح صورتها في الرواية والقصة، وبدأت مشكلاتها تقف بصورة متوازية — أو متعارضة — مع مشكلات الرجل، والمجتمع بعامة. وكانت «السذاجة» هي التعبير الأدق في صورة تلك المشكلات. المثل الذي ربما يحضرنا عائشة وهي ترقب «المنتظر» من ثنايا المشربية، ثم موافقتها — فيما بعد — وبلا تردد، على الزواج من خليل شوكت، لأنها كانت تتوق إلى الزواج، إلى الرجل في صورته المجردة، وليس إلى رجلٍ بالذات. ثم تطورت طبيعة المشكلات شيئًا فشيئًا، تصاعدًا مع دور المرأة، وظهر للإيجابيات وجهها الآخر، السلبي، متمثلًا في ردود الأفعال بالنسبة للرجل والمرأة على السواء، لخروج المرأة إلى العمل، ثم سماح بعض الأسر بالاختلاط المحدود، أو غير المحدود، وتعوُّد النساء المصريات السهر في الليالي الليلية (ونتذكر ثورة أحمد عبد الجواد على ياسين وزوجته لذهابهما إلى كشكش بك!) وإقبال الفتيات على التعليم، وما يعنيه من تفتُّح للذهن والوجدان.

ويشكِّل كتابا قاسم أمين تحرير المرأة والمرأة الجديدة معلَمين هامَّين في قضية مناصرة المرأة، لكن من الصعب أن يكون الكتابان بداية الدعوة لكي تنال المرأة حقوقها. سبقتها دعوات أهمها ما جاء في كتابات رفاعة الطهطاوي، والتي أيَّدها بتطبيقاتٍ، منها موافقته — في وثيقة زواجه — أن تُعطى الزوجة حق طلب الطلاق.
رفاعة رافع الطهطاوي — أحد الإرهاصات الأهم في تبني قضية المرأة المصرية — ينادي في كتابه «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» برفع سن الزواج إلى خمس وعشرين سنة ليتاح التعلُّم للفتاة. وينادي الطهطاوي في كتابه «المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين» بوجوب تعليم الفتاة، باعتبار عدم معارضة ذلك مع الشريعة الإسلامية. ثم توالت الدعوات — لنساء ورجال — بعلاج أوجه النقص في تربية الأبناء، وهو — كما تقول ملك حفني ناصف — ما تسبَّب فيه جهل الأمهات١
واللافت أن حركة تعليم المرأة في الهند بلغت ذروتها في سبعينيات القرن التاسع عشر، أي الفترة نفسها التي كانت مصر — بتأثير دعوة الطهطاوي — تنتبه إلى ضرورة تعليم الفتاة. وفي رواية «التوبة» للهندي نذير أحمد الدهلوي أقنع الرجل زوجته — هو الذي أقنعها — بأن التعليم مفيد للمرأة، فبدأت تدرس على يد زوجها، وخلال أربعة أو خمسة أشهر بدأت تكتب وتقرأ الأردية.٢
نالت المرأة جانبًا كبيرًا من اهتمامات الطهطاوي، وكما تقول سهير القلماوي فإن طرف الخيط في نهضة المرأة المصرية المعاصرة، رجل لا امرأة، وهذا الرجل شيخ تلقَّى تعليمه في الأزهر، بكل ما يشتمل عليه من علوم نقلية، لكنه كان تقدُّميًّا في وعيه وثقافته. إنه الأزهري التقدمي والرائد العظيم رفاعة رافع الطهطاوي، عضو البعثة المصرية إلى فرنسا في عهد محمد علي، «وكان الطهطاوي أول صوت — فيما أعرف — نادى في مصر الحديثة بوجوب تعليم البنات، ورفض الحجة السخيفة الواهية التي تقول: إن تعلمت المرأة فإنها تتقن كتابات خطابات الغرام. بل دافع عن وجوب تعليمها كل علم ممكن، فلا بد أن تُسلَّح لكل احتمال.»٣ اختلف الطهطاوي في موقفه من تحرير المرأة مع موقف أستاذه وشيخه العطار، الذي كان سلفيًّا في نظرته إلى قضايا المرأة، بما يختلف مع نظراته إلى غيرها من قضايا العصر، وأبرزها ميله إلى التجديد الديني، وتحرير العلوم الدنيوية من إسار التحريم. كان للطهطاوي رأيه المعلن في ضرورة أن تجاوز المرأة وضع الحريم، لتحتل مكانتها كشريكٍ للرجل في قيادة الأسرة. دعك من قيادة المجتمع، فقد اكتفى رفاعة بإشاراتٍ وإسهاماتٍ تمثِّل إرهاصات مبشِّرة بإسهامات الفكر الثقافي والاجتماعي المصري في عقودٍ تالية. يقول الطهطاوي: «ينبغي صرف الهمة في تعليم البنات والصبيان معًا لحسن معاشرة الزواج، فتتعلم البنات القراءة والكتابة ونحو ذلك، فإن هذا مما يزيدهن أدبًا وعقلًا، ويجعلهن بالمعارف أهلًا، ويصلحن به لمشاركة الرجال في الكلام والرأي، وليمكن للمرأة — عند اقتضاء الحال— أن تتعاطى من الأشغال والأعمال ما يتعاطاه الرجال، فكل ما يطيقه النساء من العمل يباشرنه بأنفسهن. وهذا من شأنه أن يشغل النساء عن البطالة، فإن فراغ أيديهن عن العمل يشغل قلوبهن بالأهواء والأباطيل.»٤ وقد حاول الطهطاوي أن يناقش حق الفتاة في الزواج بمن تحب «من أحسن الإحسان إلى البنات، تزويجهن إلى من هوينه وأحببنه.»

وقد دعا الطهطاوي إلى المواد نفسها التي تضمنتها القوانين الحديثة للأحوال الشخصية، والتي خرجت المظاهرات تهتف بسقوط الداعين لها. ومن ثَم، فإن الحقيقة التي تفرض نفسها، أن مظهر «القضية» قد تغيَّر تمامًا. فثمة سفور، وسماح للمرأة بالعمل في غالبية المناصب، وثمة حرية وتحرر وحقوق مدنية، لكن «جوهر القضية» — وهو اقتناع الرجل بحق المرأة في المساواة — لم يتغير كثيرًا.

ويُعَد دور قاسم أمين في قضية تحرير المرأة مكملًا لدعوة الطهطاوي في أواسط القرن التاسع عشر، لقد جدَّد الدعوة، وأضاف إلى مساحتها.

ولا شك أن الدعوة إلى تحرير المرأة — بالكتابة في الصحف — سبقت صدور كتابي قاسم أمين. أشير إلى كتابات عبد الله النديم في «الأستاذ» (أهملها — بلا سببٍ — المؤرخون وعلماء الاجتماع ومناصرو قضايا المرأة) أتوقف — على سبيل المثال — عند سؤال من قارئة، تسأله الرأي في دعوى البعض بالمساواة بين الرجل والمرأة. ذكر النديم — في رده — أنه ليست هناك امرأة مصرية واحدة فيما يتعلق بموضوع المساواة بين الرجل والمرأة، فلا بد — في تقديره — أن نفرق بين المرأة في القرية، والمرأة في المدينة، حتى المرأة في المدينة ليست واحدة، هناك فقيرة المدن، ومتوسطة المدن. وأجرى النديم مقارنة بين طبيعة عمل الرجل وطبيعة عمل المرأة، في ضوء تقسيمه لنوعيات المرأة المصرية، وانتهى إلى أن «الفلاحة أكثر تعبًا من الرجل في الأعمال، وأن فقيرة المدن تساوي الرجل المشتغل بعملٍ لطيفٍ، لا النجار والحداد والبنَّاء مثلًا، والمرأة المتوسطة أقلهن عملًا، والمرأة الغنية لا شغل لها إلا ذاتها اللطيفة، ولا عمل إلا فيما يختص بالزينة والقلع واللبس والنوم واليقظة، وعارض الولادة قصير المدة يُنسى ألمه بعد أسبوع غالبًا. فإذا تأملت السائلة هذا التقسيم والتفصيل، علمت أن المرأة الريفية لا فرق بينها وبين الرجل، ولا تعاني مشكلة ما. تحايل ربات الرفاهية على مساواة الرجل بدعاواهن غير مقبول عند ذوي الاختيار. فنحن نقول إن غير الفلاحة والفقيرة من النساء لا يساوين الرجال في شيء من الأتعاب، وعلى الخصوص الفتيات اللائي يشتغلن بغير ذاتهن، فإنهن على فراش الراحة في الليل والنهار.» وكما ترى فإن تقدير النديم لمساواة المرأة للرجل رهن بقدرة المرأة على ممارسة عملها الذي يساوي — غالبًا — عمل الرجل. العمل — في رأي النديم — هو الشرط الذي يعطي للمرأة حق التمتع بالحرية والمساواة التي يتمتع بها الرجل، فالمرأة الريفية والمرأة الفقيرة في المدن لا تقل عن الرجل في التمتع بحقوق الحرية، بينما المرأة الغنية في المدن لا تملك شرط التمتع بهذه الحرية، وهو شرط العمل.٥ وتبين مواقف النديم عن وضوحٍ مؤكدٍ، في دعوته إلى ضرورة تعليم البنات، وأن تهذيب البنات من الواجبات، وأن المرأة الجاهلة من أسباب خراب البيوت، وفساد الأخلاق، وضياع حقوق النساء. وتحدث النديم عن مجموعة من الرسائل، تكشف المصائب التي يجرُّها جهل المرأة، وعدم تعليمها، منها قصة التاجر الذي أدَّى تفاخر زوجته في إعداد جهاز ابنتيهما إلى استدانته، وكساد تجارته، ومنها قصة الخياط الذي لم تقدِّر زوجته ظروف انصراف الناس عنه لقاء إقبالهم على الملابس الإفرنجية، فظلت تطارده بطلباتها التي تفوق قدرته المادية، حتى طلقها وهو نادم. ومنها قصة الفتاة التي مات أبوها وتركها مع أمها، وجعل من أحد أصدقائه وكيلًا متصرفًا في مالها، فبدَّد الصديق مال المرأتين، وماتت الأم مقهورة، وجعل الرجل من الابنة خادمة عنده، فخرجت إلى الشوارع تتسول. وأرجع النديم القصص الثلاث إلى عدم تهذيب الفتيات، وإهمالهن بلا تعليمٍ وتأديبٍ، سوى ما ألفنه من الخرافات، وتمسُّكهن بقبيح العادات، ومن هنا، فقد اعتبر النديم تعليم البنات شرطًا لتقدم الوطن٦
أشير كذلك إلى كتابات زينب فواز وعائشة التيمورية وملك حفني ناصف … إلخ، ممن شاركن في الدعوة لنيل المرأة حقوقها. اجتهادات كثيرة اعتبرت زينب فواز أول صوت نسائي عربي يطالب بحقوق المرأة في العصر الحديث. وصفت المقالات التي ضمَّها كتابها «الرسائل الزينبية» بأنها «مباحث في المدافعة عن حقوق المرأة ووجوب تعليمها، والنهي عن العوائد السيئة، وحضِّها على التقدم، واكتساب العلوم، وما يتعلق بفضائل أخلاق النساء، وما لهن من تأثير على العالم الإنساني.»٧ أما ملك حفني ناصف فقد طالبت بمنع تعدد الزوجات، وتحديد الطلاق، وحصر حرية الرجل فيه، لكنها اعتبرت السفور مسألة تخص المرأة، وأن ظروف مجتمعها قد لا تتيح لها التخلي عن الحجاب. ولعلِّي أشير إلى المقال الذي نشرته — على سبيل المثال — مجلة «أنيس الجليس» (يناير ١٩٠٠م) تطالب فيه الذين يسعون في تحرير المرأة — هذا هو نص التعبير — أن يخصوا تحريرهم بالمرأة الريفية التي مضى عليها زمن طويل في أسر العبودية، (رأي مناقض لرأي النديم) إلى جانب مطالبة المجلة الهيئة الحاكمة بوضع قانون للنساء، تحدد فيه وظيفتهن وواجباتهن، ويحدد واجب الرجال نحوهن، وينص فيه على عقاب من يتعدى الواجبات. أضافت المجلة (دعك من أخطاء اللغة): «إن انفصال الزوجة عن الرجل الآن في بلاد مصر من الأمور البسيطة، وتعدد الزوجات أصبح عامًّا، وقد ترتب عليه شقاق وانقسام عظيمان بين العيلات لا يجهله أحد. وقد اتخذ أهل الريف تعدد الزوجات عادة ليشغلوهن في أعمالهن، ويغنوا بهن عن رجال يأخذون أجورًا على أشغالهن، وقد رأيت بعيني بعضهن يجر المحراث، وبعضهن يبذر الحبوب، وبعضهن يصلح الأرض، وغير ذلك من أعمال الزراعة. وإذا فصل الرجل إحدى نسائه عنه، تركها من غير نفقة، أو بنفقة لا تقوم بحاجتها، فتصبح في حالة يرثى لها، فينتابها الجوع والشقاء، وبعضهن تؤدي بهن هذه الحال إلى ارتكاب الدنايا والموبقات.» وقول ملك «علِّموا البنت، ثم اتركوا لها الاختيار» ينطوي على دلالات مهمة. الفتاة المتعلمة تملك الاختيار، الاختيار، تملك الموافقة والرفض، المواصلة والانقطاع.
ذهبت نبوية موسى إلى أن القرآن لم يأمرنا بالحجاب، بل أمرنا بالابتعاد عن الزينة في قوله: وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ، أمر الله بستر الصدر، لا بستر الوجه، وهو موضع الحلي في الجاهلية.٨ ثم قامت هدى شعراوي بدورٍ يصعب إهماله، في الدعوة إلى تعليم المرأة ومساواتها بالرجل، وبخاصة في الحقوق السياسية، وإتاحة فرص العمل لها كي تسهم بدورٍ إيجابي في حياة وطنها ومواطنيها. وقد واجهت الدعوة إلى تحرير المرأة تأييدًا ومعارضة، شُغِل بهما الرأي العام المصري لأعوامٍ طويلة. أيَّد بشارة تقلا في «الأهرام» دعوة قاسم أمين، وذهب إلى أنه لم يعُد يخفي تأثير المرأة في الهيئة الاجتماعية، «فالمتتبع لتاريخ المجتمع الإنساني يرى أن الأمم إنما ترقى بالمرأة الراقية، فمقام المرأة في كل أمة هو معيار رقي تلك الأمة أو انحطاطها.»٩ بل إن يحيى حقي وجد في فلسفة قاسم أمين، ودعوته إلى الاستماع إلى النفس، ودوره في تحرير المرأة، مفتاحًا للمناخ الحقيقي لميلاد القصة.١٠ وعلى الرغم من معارضة مصطفى كامل المعلَنة لدعوة قاسم أمين، فإنه كان ضد تعدد الزوجات، وكان يقبل بمبدأ الوحدانية في العلاقة بين المرأة والرجل، وحق العمل بخاصة، بل إن مصطفى كامل لم يعارض كلَّ ما دعا إليه قاسم أمين بشأن تحرير المرأة. اتفق معه في وجوب الالتفات إلى تربية النساء «أما الحرية للمرأة، فلا حديث عنها الآن.» وأكد مصطفى كامل أن «الحرية التي تقتل العصمة، شر عندي من الحجاب القاتل المرذول.» (الملاحظ أن كلمة «شادور» في اللغة الفارسية، تعني الحجاب، كما تعني الخيمة، وتقابُل التسميتين لا يخلو من دلالة).

•••

السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين، رواية لمحمد كاظم ميلاني (١٩٠٢م). قدَّم الراوي/الكاتب نفسه بأنه وُلِد من أب إيراني وأم مصرية، فضلًا عن انتساب الأم إلى ذرية الحسن بن علي بن أبي طالب. قبل أن يتم المرحلة الابتدائية (١٣٠٥ هجرية) ألزمه والده العمل في الدكان الذي يملكه بسوق الطباخين، الموازي لشارع الميدان، كما يصفه الكاتب، أهم مركز تجاري للبضائع الشرقية: الأبسطة والشيلان وغيرها. لكن الكاتب فضَّل — بعد فترة — أن يتخذ لنفسه دكانًا ملاصقًا لدكان الأب، جلب إليه أنواعًا من الخردوات والأحجار الأصلية والتقليد والأصناف الإسلامبولية والإفرنجية، وعنى بخاصة بلوازم النساء الحديثة. وإذا كانت الظروف قد أجبرت الصبي كاظم على أن يهجر الدراسة، فإنه — على حد تعبيره — لم يترك المطالعة «ولا آن، وما كنت أسمع عن جمعية إلا وانضممت إليها، ولا عن طغمة إلا وأنالها، ولا عن جريدة إلا طالعتها، ولا مجموعة إلا ذاكرتها.»١١ وثابر الراوي/الكاتب على القراءة في اللغات العربية والتركية والفارسية والفرنسية «لم أترك فيها المطالعة عند الفراغ من الأشغال، ولا طلب الراحة من الأيام والليالي.» وظل الراوي/الكاتب في عمله، إلى اللحظة التي أمسك فيها القلم، وبدأ في كتابة روايته.

ذات صباح، دخلت الدكان فتاة «كأنها حور الجنان»، تغزَّل الراوي في جمالها بأبياتٍ من الشعر — أشهد أنها من أجمل ما قرأت من موروث الشعر العربي! — كان يتبعها خادم وخادمة «حسب عادة أكابر السيدات» إذا خرجن لقضاء مهمة في الذهاب والعودة. وحين تكلمت لتطلب ما تريد أضاعت بعذوبة لفظها حواسَه «ما سمعت بأفصح وأرق منه كلامًا، مهما اجتهد الأصمعي أو أبو تمام.» ظهرت الفتاة في حياته ومضت كأنها حلم — ونتذكر بياتريس في الكوميديا الإلهية! — وتحوَّلت — في اللحظة التالية — إلى شاغل له في الصحو والمنام. أخذت عليه حياته، فهو لا يفكر إلا فيها «ما بعدت عن ناظري إلا ووقعت في حيص بيص، واستولت عليَّ الدهشة حتى صرت لا أميز بين الخبيص والبصيص.» وأمضى الشاب أيامه التالية متنقلًا بين الأسواق والدكاكين، يمنِّي النفس بلقاء فتاته، حتى تصور أنها ليست حقيقة، وأنها «لم تكن من البشر، أو أنها ملك من السماء.» وبعد أن أوشك على اليأس من لقائها، لزم دكان جواهرجي في ممر بشارع الضبطية. جعله موضعًا يراقب منه حركة الطريق، لعله يلتقي بفتاته. ولما أخفق الشاب في العثور على فتاته في مدينة الإسكندرية، أزمع أن يتركها إلى القاهرة، ربما قدمت المحبوبة منها لقضاء إجازة الصيف. وأقام في العاصمة ضيفًا على صديق له هو «عارف»، يقضي طيلة النهار في البحث عن محبوبته، ويتعرف — في الوقت نفسه — إلى مشاهد وتصرفات لا تهملها ملاحظاته.

روى الشاب لصديقه عارف حكايته منذ زارت الفتاة دكانه، واختفاءها كأنها لم تكن. وعرض عارف على الراوي أن يصحبه إلى بعض الأماكن التي قد تتردد عليها فتاته للتسوق أو للنزهة. وكانت تلك فرصة للراوي كي يشاهد ويتأمل ويبدي الملاحظات، بل ويعلن انتقاده للعديد من الظواهر السلبية. رجح عارف أن تكون الفتاة «من وجوه المصريات»، فزيارتها إلى الإسكندرية لقضاء إجازة الصيف. واقترح عارف على صديقه أن يلزم نقطة في شارع الموسكي الموصل للسكة الجديدة، أمام محل الخواجة سمعان، والذي تتردد عليه أعداد كبيرة من النساء لشراء احتياجاتهن. لزم الراوي الموضع الذي حدده صديقه، لم يتركه من الصباح إلى المساء، ثم صحبه عارف إلى الأزبكية للقاء بعض الأصدقاء. وطالت ملاحظات الراوي على ما شاهده من تسابق «في مضمار الملاهي وسوء المنقلب.» واتجهت الجماعة بعد ذلك إلى أحد المسارح «مارستان من الصراخ والضحك والشخر والنخر والهذيان.»

وفي صباح أحد الأيام، ذهب الراوي إلى الموقع الذي حدده له عارف في ناصية الممر، فطالعته مواكب ما يُسمَّى بمولد الفار، وهي مواكب تمر من شارع محمد علي إلى مسجد السيدة نفيسة، تتمة للاحتفالات بمولد حفيدة الرسول. وينتقد الكاتب الزحام والتصاق الأجساد وحركات البغي والضلال والصخب والصياح … إلخ، ويتساءل الراوي: «أترضى السيدة الطاهرة — في يوم احتفال مولدها — بهذه الأفعال الشنيعة؟ كلا! وألف كلا! فما هي وجدُّها إلا غاضبون يتبرَّءون من هذه الأمور الفظيعة، فندمت لرؤيتي هذا الموكب، وهذا الفجور، ورجعت آسفًا على حالنا وتقهقر الأمور. فلماذا ضعفت عقائدنا وقمنا نقلد الأجانب؟ ولماذا تركنا الفضائل واتَّبعنا المصائب؟ وكلما رأينا في الغربي عادة قبيحة تمسَّكنا بها وتجنَّبنا المليحة؟» … إلخ، ثم يعيب الراوي اختلاط اللغة، وما يحدثه من اختلاط الطباع. ويتأمل أحوال علماء الدين الذين ضاع احترامهم — على حد تعبيره — بين الناس، وأصبح لا همَّ لهم إلا الكسب والتداخل مع الأمراء والأعيان لحضور الولائم والأفراح.

يصحب كاظم صديقه عارف إلى عرضٍ لمسرحية هاملت التي قدمتها جوقة إسكندر فرح، وقام ببطولتها «الشيخ سلامة حجازي الصييت الشهير». يدين الراوي الحضارة الغربية التي حاول البعض من الذكور والإناث تقليدها، فمن «شروط حضور التمثيل وسُننه المتَّبعة، أن تكون صدور السيدات عارية، ونهودهن بارزة غير ممتنعة»، «وكل فرد يشير لمن يغازلها وتغازله.»

يتسلل طيف الحبيبة إلى نوم الراوي فيحلم بها. أصل ما حدث بعجائبية ألف ليلة وليلة وحي بن يقظان ورسالة الغفران وغيرها من كنوز التراث العربي. ذلك لأن الواقعية السحرية — بنت الثلاثينيات من القرن العشرين كانت في علم الغيب بعد — ظهرت الحبيبة كسحابة رقيقة، أو كمَلَك. وانتفضت، فإذا هي المحبوبة المفارقة. سألها الوصال، فأرجأت كل شيء إلى حينه، وصحا من نومه. وينصح عارف صديقه — إشفاقًا لما آلت إليه أحواله — أن يزورا حلوان «فاصرف عنك هذه الأحزان، وهيا معي سوية لنرى مدينة حلوان.» وتصادف عيناه الخادم الحبشي الذي رافق الحبيبة حين زارته في الدكان. وعرف منه أن أسرة الفتاة تقضي الشتاء في حلوان — كانت مشتى! — وتقضي الصيف في الإسكندرية. وأخبره الخادم باسمها «وحيدة»، وهي وحيدة أبويها. عانت — لفترة — من مرض تهدد حياتها، ومن ثَم كان تنقلها بين الإسكندرية وحلوان. وتوسَّل كاظم بتجارته للحصول على موعدٍ من وحيدة ليعرض عليها ما قد ترغب في شرائه. اقتنى من السوق بضائع جميلة، حدس أنها ستروق لفتاته، واتجه إلى الدار التي وصفها له الخادم الحبشي، «ثم دخلت لقاعة الاستقبال، فجيء بالقهوة في الحال، ولا أطيل الشرح، فبعد تناولها طلبتني السيدة للداخل، يعني لمحل الحريم الخلاصة والحاصل، فسرت، ولكن الأرجل كأنها شعلة القنديل من كثرة الارتعاش إذا أصابه من الريح العليل، أو كأنني مريض مفارق الفراش، تغلَّب عليه الضعف فلا تحمله الأرجل من الارتعاش …» والتقى — أخيرًا — بحبيبة عمره. وتفاجئه الحبيبة بأنها أميل إلى ممارسة الحرية بموافقة والديها «وقد صرحا لي أن أستعمل التفرنج وأسير على هواي، وأخرج بغير مئزرٍ وحجاب حسب مشتهاي، بخلاف ما يجب على ذوات الحجاب من فرائض العفاف، والتمسُّك بفضيلة التمنُّع من مخالطة الرجال والاستخفاف، والشاهد على قولي هذا طلبي مقابلتك هنا بتمام الحرية، مع عدم جوازها عند أغلب المسلمين المتمسكين بالقواعد الأصلية. فما هذا الذنب وهذا التعود مسئوليتهما عليَّ، بل الذنب كل الذنب على والديَّ، لأنهما أباحا لي هذا التصرف وعوَّداني متابعته، بعدما استصوبا رأي فلان المنادي برفع الحجاب (قاسم أمين!) ولزوم مخالطة الإناث بالرجال.» ويتساءل الراوي — بينه وبين نفسه —: كيف تبدأ الفتاة بإظهار حبها له قبل أن يبادئها هو بذلك؟ فلما رأت الذهول تملَّكه، قالت: «لا تستغرب حالتي، لأني أرى الصدق دائمًا يجب. وما خروجي لهذا الحد إلا من الصداقة، فلا أرغب في التملق ولا لي بها علاقة، فما أشعر بشيء في الضمير إلا وأظهرته، وما أرى من واجب إلا واستعملته. وهذه من بعض محاسن الحرية التي تعوَّدتها، وعن والديَّ الشفيقين أخذتها.»

واللافت أن الفتاة كانت تنفذ ما يطلبه الأبوان دون أن تقتنع هي بذلك، وأنها سارت في تلك الطريق «إلى الآن بغير إرادة، ولكن نفسي مستقيمة، ولذلك تراني عند الخروج أتستر فوق العادة. ولو أردت الخروج عارية لما منعني أحد، بل كان والدي يسر سرورًا ما له أمد!»

حرَّض الأب ابنته على ما يمكن تسميته — في ضوء المفهومات الأخلاقية — بالانحلال، فهي تلتقي بضيوف أبيها، وتجالسهم، وتصادق الشاب الذي يستهويها، وتميل لتصرفاتٍ ربما أراد الكاتب من تجسيدها أن يصوِّر التطبيقات السلبية لدعوة قاسم أمين، لو أن ذلك ما حدث! وفي المقابل، فقد وافق الشاب — أعماه الحب! — على أن الفتاة عنوان الفضيلة — هذا هو تعبيره! — والكمال من بعض شيمتها. وصارحته الفتاة بأنه لم يحاول وحده العودة للقائها بعد أن زارته في دكانه بالإسكندرية، فقد تقلبت بعدها «على فراش الأمراض والسقام» … «ولا تظن أن يوم حضوري بحانوتك كان أول مرة، بل من قبلها كنت أزورك خفية، وعلى اختفائي كنت مصرة. ولما تغلَّب عليَّ الغرام عند مبارحتي الإسكندرية تظاهرت — كما حصل — لأتمكَّن من مكالمتك طويلًا، وأستميلك أو أصادف الفشل، فرأيت بعض التأثير على محياك الباهر من أول مكالمة، فأملت خيرًا من البدء للخاتمة.» وأقسم الحبيبان على «دوام المحبة والعهد.» وقبَّل يدها، وقبَّلت جبينه، لأن «قبلة الغرام لا تكون إلا بهذه الكيفية.» ودعته إلى تناول الغداء معها، ولما أبدى إشفاقه من أن يصل والدها وهو في البيت طمأنته بأن أباها ليس له عليها طائل! والتقى الشاب — في الليلة نفسها — بوالد وحيدة «اسمه محمد بك، وكنيته لا تفيد.» ولبَّى الشاب دعوة الرجل لزيارته في البيت الذي كان قد التقى فيه بفتاته، قبل ساعاتٍ قليلة. ودار حوار، تناول قضايا دينية واجتماعية، وثارت آراء وملاحظات. وعندما بدت مشكلات الإسلام مختلطة ومتشابكة، فإن الراوي/الكاتب يشير إلى الإيرانيين الشيعة، وما يتميزون به من الاتحاد الذي ردُّوا به الأجنبي عن التدخل في أمورهم، ومنعه من السيطرة عليها. ويهبنا الكاتب — من خلال حديثه إلى محاوريه — ملامح من حياة الشيعة الاثني عشرية، وصولًا إلى أن اتحاد الإيرانيين وتمسُّكهم بالدين، دفع عنهم نفوذ الأجنبي، وخلَّص الوطن المسكين.

بعد أن غادر الأصدقاء بيت محمد بك، أصرَّ الرجل على أن يستضيف الراوي «ومما يزيد اهتمامي بالرغبة في ضيافتكم، ما شرحته ابنتي عن سابق إحسانكم ومعرفتكم.» ودخلت وحيدة الحجرة، وجلست «بقرب والدها أمامي وجهًا لوجه بكل حرية، وأخذت تسارقني النظر وتشير بإشارات معنوية. وكان والدها يطنب في هذه الأثناء على من جوَّز رفع الحجاب، ويقول: نعم الرأي رأيه، فقد نطق بالصواب.» وقد ناقش الشاب نفسه — بالطبع — في تلك الحرية التي تتمتع بها الفتاة بتأييدٍ — أو بتحريض — من أبيها!

تعددت زيارات الشاب إلى بيت المحبوبة، وتعددت كذلك لقاءاتهما خارج البيت، وأقامت أسرة محمد بك — الأب والأم والابنة — في بيت الشاب، بدعوة منه «وصارت العائلتان ببعضهما مولعة، ولكن والدتي لم تستحسن خطة تبرُّج وحيدة، وتأسَّفت كثيرًا على تمسُّكها بالبدعة الجديدة، وشاورتني باستقباحها لهذه البدعة الفاسدة، وأظهرت عدم جواز تأهلي بها إن بقيت على هذه القاعدة، فوعدتها بأني مهما كنت مغرمًا مفتونًا، فلا أقبلها حليلة ولو ذقت لبعادها المنون.» مع ذلك، فقد تواصلت ليالي «المسامرة والمصاحبة والمزح والسرور والملاعبة.» أما النهار، فقد شغله الراوي للبحث في عقيدة أهل الشيعة، وكانت المشاهدات التي أقام عليها أولى ملاحظاته ما يتعرَّض له الحجاج الإيرانيون — عند نزولهم إلى الإسكندرية — في الطريق إلى البيت الحرام، من سوء المعاملة والسلب والنهب والشتم والسب، «ولا يستحون — أبناء الإسكندرية — من ادعائهم أن مال مثل هؤلاء غنيمة للمسلم والمسلمين» وأنهم «يذهبون لتنجيس الكعبة.» ورافق الشاب صديقه إلى جامع السيدة زينب، وطالت مشاجرة بين سائق مركبة وأجنبي. واستاء كاظم من اتهام السائق للراكب بأنه أعجمي أو عجمي، «وتصورت البين لكلام هذا الشقي، حيث يدعي أن العجم أو الأعجام أرفاض، وهو أعمى القلب والبصر لا يفرق بين الارتفاع والانخفاض.» كان مبعث المشاجرة خلافًا حول الأجرة، وقد أنهاها الراوي، لكن ظل في نفسه غضبٌ من رأي السائق في الشيعة. وعادت مشكلة النظرة إلى الشيعة تفرض نفسها على ذهن الشاب: «كيف ينسبون الأعجام إلى ما ليس فيهم، وأنا واقف على ظاهرهم وخافيهم. الكل أراه يدَّعي أنهم مخالفون وأرفاض، ويرمونهم كما شاءوا وشاءت الأهواء والأغراض. هذا محض بهتان وزور، وأشد باعث للنفور … إلخ» وأكد الراوي «أن العداوة توجِب التقوُّل والافتراء، وتسبِّب الاختلاق بلا مراءٍ، فكما نختلق ونقول إنهم أرفاض أو مخالفون، قالوا: أما أنتم مبتدعون وناكثون، أما نحن أشد إيمانًا وهدًى، وأثبت يقينًا وأقرب للندى. أما نحن آمنا بالنبي ورسالته بدون جدالٍ، ولم تؤمنوا حتى حمَّلتموه من العذاب أشكالًا» … إلخ.

أفرد الكاتب للشيعة الاثني عشرية، وجوانب اختلافها عن المذاهب الإسلامية الأخرى، أكثر من نصف صفحات الرواية، وهو الهدف الذي انشغل به الكاتب، فضلًا عن انتقاده لبعض سلبيات الحياة المصرية. وبالتحديد، فقد تحوَّلت الرواية في قسمها الثاني إلى ما يشبه البحث المطول عن الشيعة الاثني عشرية، وما يجعلها إضافة إلى الاجتهاد الإسلامي، وليس العكس. وهو يستشهد في ذلك بآياتٍ من القرآن الكريم، وأحاديث للرسول ووقائع تاريخية، وفقه الاثني عشرية، والفروق بينها وبين غيرها من المذاهب، ومعنى الإمامة، وفرق الشيعة.

طالت رحلة الكاتب — والقارئ — في توضيح سلامة المذهب الشيعي، وأنه ليس كما يتصوره البعض من أهل السنة. واختتم رحلته بالقول إنه لا يرغب بواسطة إثبات حق أهل البيت «استرجاع الحق المغصوب، أو إصلاح الماضي، وهو عكس ما أبحث عنه وكل مطلوب. فليس العاقل من يذهب لإصلاح الماضي، أو المنصف من يحد سيفه الماضي. نعم، لا فائدة من تجديد ماضي السيرة، وهل يجوز الحكم على السريرة؟ ومن رام مثل ذلك فهو ضال عن السبيل، ومسبِّب لضياع بقية المسلم بغير تعليلٍ.» ويضيف: «كفى ما حصل بين الفريقين من النقض والإبرام، وما قاساه الطرفان إلى هذه الأيام، فقد أصبحنا والحمد لله للاتحاد أقرب، ولأسباب الانضمام على مشرب. فالكلمة مفهومة وسهلة، لا تحتاج لنظرٍ أو مهلة. وبالحقيقة: لماذا تفرقنا مع تمسُّكنا بلا إله إلا الله، وهي الكلمة الجامعة لمن هداه الله؟ كيف يجمعنا الدين ونتفرق؟ وكيف تربطنا رابطة الكلمة ونتمزق؟»

ويعود الراوي إلى سيرة الحبيبة، فقد التقى بها مصادفة في أحد المتنزهات، لا تعلو فيه غير ألحان الموسيقى والرقصات، ويزدحم بالشبان والفتيات اللائي يرتدين اليشمك للتحلية، والحجاب الذي ليس فيه إلا الاسم. ويقف الراوي وصديق له على حافة بحيرة صناعية داخل المتنزه، يشاهدان «الصارخ والصارخة، والضاحك والباكية، بعين الاستغراب والحيرة. وبينما أنا وصاحبي نتندم على هؤلاء النسوة اللاتي خلعن الحياء، لركوبهن مع الرجال كي يتعلَّقن بهن … ترى الواحدة تترامى على الثاني، والثانية تتظاهر بحركاتها للآخر فيعاني، وما أدراك ما يعاني.» ويلمح الراوي بين كل هؤلاء حبيبته وحيدة: «لا كان التقليد، ولا كنا لزمانه، ولا كان اليوم الذي يصرح فيه المجتمع باختلاط شبانه. من التي أراها، وكنت أقسم بذيلها الطاهر [نسي مصارحته لأمه بأنه مهما كان مغرمًا بالفتاة، فلن يقبلها حليلة ولو ذاق لبعادها المنون!] وكيف بالاختلاط أصبحت كالعواهر، خرجت تتساند على ذراع أحد الفتيان، كأنه من الأقارب أو من الخصيان.» وواجه الشاب الفتاة بأنه قد أحلَّها من «كل رباط ووثاق بيننا، فلا عهد ولا اتفاق بعد هذا يجمعنا.» وبعث كاظم رسالة إلى محمد بك، أشار فيها إلى أن «الله ضرب على نساء المسلمين حجاجًا مستورًا، فخرقه أحد الناس جهلًا، فأوسعتم الخرق باتِّباعكم إياه ظلمًا وفجورًا … فالمرأة مرآة خدرها وبيتها، ولا تصلح لزوجها وبنيها، وإن جاوزت بابها وسترها.» وأكد على تمسُّك الإيرانيات بالحجاب، فلا «يُرى لهن أقل عضو، لا عين ولا جبهة، ولا أقل أثر للناظر منه يستفيد. ومع هذا الاحتجاب وعدم الاختلاط يربين أولادهن أحسن تربية مع ما يشتغلنه من الأشغال اليدوية التي عجزت عن تقليدها أوروبا بأجمعها، فلا تناظرهن أعظم امرأة في الغرب مهما كانت متربية. فالمرأة لا تقوم مقام الرجل مهما فعلت، ويكفيها وظيفتها، ولو قدرنا أنها من التطبع بالرجل تبدَّلت … إلخ.» واختتم رسالته بسحب يده لعدم توافق المشرب «وليس في مذهبي هذا مما يستغرب. يجب على المسلم أن يتعصَّب لدينه وعرضه، ولا يتساهل فيهما لميله وغرضه.»١٢

ومن الواضح أن معظم آراء الراوي/الكاتب تصدر عن مفهومٍ أخلاقي، ينتصر للصواب، ويدين الخطأ، وهو ما ينتظم فصول الرواية جميعًا، العين ناقدة، ترى وتتأمَّل وتصدر الحكم. فهو — على سبيل المثال — يدين اختلاط النساء بالرجال، والتعري في حمامات السباحة، وشرب الخمور، ولعب القمار، وغيرها من المظاهر السلبية التي أتاح له البحث عن فتاته أن يتعرَّف عليها.

وتبين دعوة قاسم أمين في تحرير المرأة والمرأة الجديدة عن ملامح مؤكدة في الحرية التي أتاحها الأبوان لابنتهما، وكما تقول، فإنهما أباحا لها «هذا التصرف، وعوداني متابعته، بعدما استصوبا رأي فلان المنادي برفع الحجاب — تقصد قاسم أمين — ولزوم مخالطة الإناث بالرجال، وشرح فضيلته.»

•••

لا شك أن سعد زغلول قد قام بدور إيجابي في قضية تحرير المرأة. فبالإضافة إلى تأكيده بأنه من أنصار تحرير المرأة ومن المقتنعين به «لأنه بغير هذا التحرير لا نستطيع بلوغ غايتنا. ويقيني هذا ليس وليد اليوم، بل هو قديم العهد، فقد شاركت منذ أمد بعيد صديقي المرحوم قاسم بك أمين في أفكاره التي ضمَّنها كتابه — المرأة الجديدة — الذي أهداه إليَّ، فضلًا عن أن الدور الذي قامت به المرأة المصرية في حركتنا الوطنية كان عظيمًا ونافعًا»،١٣ بالإضافة إلى ذلك، فقد بدأ خطبته في فندق سميراميس، في حفل عودته من المنفى بقوله: «سادتي، وأرجو أن أبدأ خطابي في محفلٍ قريبٍ بقولي سيداتي وسادتي، لأن للمرأة المصرية قسطًا من الفخر في جهاد الأمة.» ثم قرن سعد زغلول الرجاء بالفعل، لما رفض البقاء في سرادق السيدات، في احتفالات العودة من المنفى، إلا إذا أسفرت السيدات المجتمعات لاستقباله. ومدَّ يده ضاحكًا، ورفع الحجاب عن وجه أقرب السيدات إليه، وتبعتها بقية السيدات. وكان ذلك — كما تقول مي زيادة — يوم تحرير المرأة.١٤ وتضيف منيرة ثابت في مذكراتها أن سعد زغلول — لما طالبته بمنح المرأة حقوقها السياسية — لم ينهرها، ولا وبخها، وإنما صفق لها، وشجعها، وأكد لها أن المرأة ستحصل على حقوقها السياسية عندما تتوطد الحالة السياسية في مصر.١٥
كان محمد تيمور قد دلل على خطورة الحجاب في واحدة من بواكير القصة المصرية، وهي عطفة اﻟ … منزل رقم ٢٢. يقول الزوج الذي تزوج حديثًا لصديقه: أيدهشك أني أرمي النساء بالخيانة، وبينهن زوجتي؟ ولكن امرأتي يا صاح في مأمن من كل ذلك، لأنها تعيش مع أمي، وأمي من النساء اللواتي لا تفلح معهن شدة ولا رجاء. وفي مساء اليوم نفسه، يقضي الصديق وقتًا ممتعًا مع امرأة من ذوات الإزار البلدي، ويتبعها بعد التواعد على تكرار اللقاء، فيفاجأ بأنها قد دخلت بيت الصديق/الزوج، وأدرك صاحبنا أنه قد خان صديقه! وكتب محمد توفيق دياب — فيما بعد — يندد بالحجاب، وأنه أسخف السخف، واحتباس المرأة المؤبد في طوايا البيوت كبرى الجرائم.١٦
ومع تعدد النتائج الإيجابية المؤكدة لكل تلك الدعوات، فلعل في مقدمة النتائج أن المرأة لم تكن ترى إلا رجلها، وكان الرجل لا يكاد يرى إلا امرأته، فإذا رأى غيرها، لم يكد يرى إلا الثوب الذي لفَّت به جسمها كله.١٧ تقول سميحة لنفسها (إبراهيم الكاتب): أليس الواقع أن الرجال يتزوجون من لم يرَوا من النساء، ثم يحبونهن بعد ذلك؟١٨ وكان الحجاب — في المقابل — يحرم المرأة الفرص اللازمة لفهم الرجل، فهي لا تستطيع أن تفهمه إلا إذا درسته، ولا سبيل إلى الدرس إلا بالمخالطة والمعاشرة «فإذا امتنع ذلك — وهو يمتنع مع الحجاب — كانت النتيجة أن المرأة تكون مكلَّفة أن تعاشر مخلوقًا لا تفهمه، ولا تعرف عنه إلا أنه يأكل مثلها ويشرب، ثم يلبس ويخرج إلى حيث لا تدري على التحقيق، ليعمل ما لا تعرف، وما لا تستطيع أن تفهم على وجه جلي.»١٩ من هنا، يأتي تصوير الأمثال الشعبية للمرأة، باعتبارها الأدنى بالنسبة للرجل، هي الطرف الضعيف، المكسور الجناح، أو التابع الذي لا يملك من أمر نفسه شيئًا، وهي بلا قيمة بعيدًا عن سطوة الرجل، بل إن نظرة المجتمع إليها تتحدد — سلبًا وإيجابًا — من خلال نظرة المجتمع إلى علاقتها بزوجها.

•••

لسنا في موضع الاجتهاد الفقهي، لكن جمهور الفقهاء والمفسرين يرَون الأصل هو كشف المرأة لوجهها وكفَّيها. وفي صحيح البخاري «لا تنتقب المرأة المحرمة، ولا تلبس القفازين» (رواه البخاري والنسائي وأحمد والبيهقي.) الرواية التاريخية تؤكد أن النقاب — الذي يبرز العينين ومحجريهما — كان مجرد طراز من طرز اللباس والزينة عند بعض النساء، قبل الإسلام وبعده.٢٠ ويذهب الرحالة الفرنسي جيرار دي نرفال إلى أن الالتزام بالحجاب/النقاب بقايا عادة عتيقة، كانت تتبعها في الشرق المسيحيات واليهوديات والدرزيات (وهي فرقة إسلامية متفرعة من المذهب الشيعي الفاطمي) من النساء. وهي ليست اضطرارية إلا في المدن الكبرى، ولا تخضع لها قط نساء الريف والقبائل؛ لذلك — والقول للرحالة الفرنسي — فإن القصائد الشعرية التي تتغنَّى بحب قيس وليلى، وخسرو وشرين، جميل وبثينة، وغيرها، لا تحوي أي ذكر للنقاب، ولا لتحجب نساء العرب.٢١ إن المقصود من آيتَي القرآن الكريم حول القرار في البيت والحجاب، كانتا من خصوصيات نساء النبي ، حتى إن كرائم الصحابيات لم يحاولن الاقتداء بأمهات المؤمنين في هذين الأمرين.
وعلى الرغم من سلفية الشيخ محمود أبو العيون، فإنه أشار إلى ظهور المرأة المصرية فجأة في أحداث ثورة ١٩١٩م «عالية الرأس، بارزة الصدر، واسعة الخطى، خفاقة الفؤاد، ملوِّحة بيدها في الهواء، منذِرة بالوعيد إن لم يحترم القوم إرادتها. وزجَّت بنفسها بين شباب مصر الناهض، تهتف في الشوارع للحرية الغالية، واقتحمت الأجناد تحت أشعة الشمس المحرقة، وبين صليل السيوف، وقعقعة الحديد، وتلقَّت بصدرها المتفزع سونكي البنادق، مما أدهش العالم جميعًا، وبذلك ارتفعت إلى سماء المجد والشهرة، وسجلت لنفسها صحيفة في سجل الخلود.»٢٢
ولعل رفع الحجاب كان أهم النتائج التي حصلت عليها المرأة المصرية على الإطلاق، باعتباره الحلم الذي ناضلت لتحقيقه منذ أقام الحكم العثماني سوره العظيم. تقول نبوية موسى في مذكراتها إنها كانت المصرية الوحيدة التي أسفرت.٢٣ الرواية التاريخية تؤكد أن هدى شعراوي هي التي بادرت إلى رفع الحجاب، فبعد عودة الوفد النسائي المصري بقيادة هدى شعراوي من المؤتمر النسائي الدولي في روما عام ١٩٢٢م، خلعت هدى شعراوي حجابها — للمرة الأولى — أمام الجموع المحتشدة لاستقبال الوفد في الميناء. وحذا أعضاء الوفد الأخريات — سيزا نبراوي ونبوية موسى وغيرهما — والنساء الواقفات في الميناء، حذو هدى شعراوي، لتبدأ أولى الخطوات الإيجابية في تحرير المرأة المصرية لنفسها. وتقول فتحية (فتحية فوق السحاب) لزميلاتها من المتظاهرات في ثورة ١٩١٩م: نحن نهتف بالوطن، ونحن نخرج في المظاهرات، والبوليس يقبض علينا ويضربنا … فعلام هذا البرقع؟

ترد عليها إحدى المتظاهرات: نحن الآن نحتفظ بكرامتنا، فإذا خلعنا البراقع هزَّأنا الرجال!

تقول فتحية: لا يمكن لرجلٍ أن يهزئنا ونحن نضحي بأمننا وحياتنا، ونخرج نتحدَّى الاستعمار، ولو فعل، لوجد التعيير من الجميع. وعلينا أن نجعل هذه المعركة مزدوجة، غايتها حرية الوطن وحرية المرأة.٢٤ وكانت حرم جمال بك إسماعيل (صباح الورد) أول امرأة في العباسية تظهر في الطريق سافرة بموافقة زوجها. قالت: «زعيم الأمة نفسه يوافق على السفور، وعلينا أن نسير مع الزمن.»٢٥ كذلك كانت الست ميمي (بيت سيئ السمعة) أول امرأة في منشية البكري تُرى سافرة، فلا برقع أبيض ولا أسود.٢٦
وما لبث «الفعل» أن امتد إلى نساء كثيرات، ينتمين إلى طبقات وفئات مختلفة، حتى أصبحت حركة السفور عامة وشاملة.٢٧ وتحققت — في أوائل العشرينيات — مخاوف الحاج أسعد (في قافلة الزمان) من أن يأتي أوان تخرج النساء فيه عرايا، سافرات الوجوه، كاشفات الصدور. وقالت زكية متحسرة: «الله يرحمك يا جدي، تعال وانظر!»٢٨ بل إنه عندما نزعت هدى شعراوي الحجاب، قامت ضدها حملة عنيفة، اتهمتها في عرضها.٢٩

الحجاب كان هو عنوان قضية المرأة آنذاك، أما تفصيلات القضية، فتشمل حق المرأة في التعليم، وحقها في العمل، وحقها في مشاركة الرجل في مجالات الحياة السياسية والاجتماعية والثقافية المختلفة، أن تقف في صف الرجل، وموازية له تمامًا! الآية الكريمة وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ لا تعني عدم تماثل حقوق الزوجين؛ فالدرجة التي يندب الرجال إليها — في اجتهاد الإمام الطبري — هي «الصفح من الرجل لامرأته عن بعض الواجب له عليها، وأداء كل الواجب لها عليه.» ومن حقوق كلا الزوجين على الآخر: «اللطف، والثقة، وحسن الظن، والتجمل، والمشاركة في الهموم، وفي الترويح.»

ومن المؤكد أن شعور الفتاة، وخروجها إلى العمل والمجتمعات، قد أثر في حياتها إلى حدٍّ كبير، إن لم يكن بدَّلها تمامًا. وكان من بواعث التغيُّر أن المرأة كانت لا ترى إلا رجلها، وكان الرجل لا يكاد يرى إلا امرأته. فإذا رأى غيرها، فإنه لم يكن يرى — في الحقيقة — سوى الثياب التي تتخفَّى فيها. وبعد أن كان الرجل — في نظر المرأة — مثلًا كاملًا، لأنها لا تعرف سواه، أصبحت تطلع على حياة غيره وتفاضل. لكن الحجاب كان يحُول بين المرأة وفهم الرجل الذي تهم بأن تعاشره، فلما أصبح الحجاب أثرًا ماضيًا، صارت الفرصة متاحة أمام الفتاة لكي تختبر هذا الذي سيقاسمها السنوات الأعظم من حياتها.٣٠
غيَّرت أحداث الثورة من طبيعة المرأة، ومن وضعها، ذلك ما كانت تؤمن به في الأقل حرم اللواء نظيم باشا في رواية محمود طاهر لاشين حواء بلا آدم «فقد تغيَّر الزمن، ودارت الأيام بغير ما يدور في خلد الرجال، ولم تعُد المرأة تلك المخلوقة الخاضعة الخانعة، الناصرة زوجها مخطئًا ومصيبًا. ألم تحمل المرأة علم الثورة — ١٩١٩م — إلى جانب الرجل؟ ألم تعرِّض النساء صدورهن بشجاعة لحراب الغاصب؟ ألم يحملن شطرًا باهظًا من مسئوليات النهضة؟ ألم يكن لهن رأي له خطره في المواقف السياسية المختلفة؟ … إلخ.٣١
اختفى الحجاب شيئًا فشيئًا، حلَّ محلَّه رباط للرأس ملفوف في شبه عمامة سوداء مزركشة، ثم ما لبث هذا الغطاء أن اختفى، وتهدل الشعر على الكتفين مثلما تفعل الأوروبيات. ويقول الفنان: «والحق أنه لم تمضِ شهور من قيام ثورة ١٩١٩م حتى تحقق الحلم، فكانت الفتيات يخرجن سافرات، ولكن مع انحناءة الاعتذار باتخاذ الحبرة. وكانت هذه الحبرة شيئًا عجيبًا، ملاءة سوداء، لامعة، ينفخها الهواء من أعلى فتنسخ القامة. على أن الحبرة لم تعِش طويلًا، لأنها بعد زوال البرقع فقدت تناسقها، وشرعت السيدات منذ ١٩٢٠م يتخذن المعاطف بدلًا منها.»٣٢ وفي أواخر الثلاثينيات، أصبحت الموضة هي عدم ارتداء السيدات للجوارب.٣٣ ويتذكر الفنان (من النافذة) أيام كانت الفتاة تُجبَر على ارتداء الحبرة القديمة اللماعة، والنقاب الأبيض «كأن الثياب لم تكن سترًا كافيًا.»٣٤ وثمة رأي — أوائل الثلاثينيات — للشيخ محمود أبو العيون، وقد عُرف بسلفية اجتهاداته، أشار فيه إلى أنه لم يعترض على سفور المرأة، بمعنى سفور الوجه «تغشى دور العلم، وتشارك الرجل في خدمة الإنسانية.» ويقول «فاحتملنا ذلك، ووجدنا له في الدين والواقع تخريجًا.»
كلمات مهمة جدًّا، حتى الشيخ أبو العيون، الذي نال شهرته من معاداته لقضايا المرأة، وجد في الدين والواقع تخريجًا لكي تصبح المرأة سافرة الوجه، وتشارك في الحياة العامة.٣٥
وفي تقدير الحكيم أن سفور المرأة في مصر قد سبق سفور الأديب. ثمة الكثير من الأعمال الأدبية الحديثة حبيسة، تفوح منها رائحة الحجرات المغلقة، فهو أدب صناعة، وأدب علب محفوظة، بينما الأدب الحقيقي هو أدب الهواء الطلق، أدب التعبير عما في أعماق النفس.٣٦ وبصرف النظر عن القول بأن شامية عيسى عبيد هي التي أتاحت له الحديث عن المرأة، أو أن المرأة في قصص عبيد تأثرٌ مباشرٌ بثقافته الغربية، واطلاعه على الأدب الغربي الذي تدور القصص فيه حول المرأة،٣٧ بصرف النظر عن هذين الرأيين، فإننا نجد في قصص عيسى عبيد تعبيرًا عن تغيُّر النظرة إلى وضع المرأة؛ فهو لم يجعل من المرأة محورًا لقصصه فحسب، وإنما اقتحم عالمها بما لم يقدِم عليه كاتب من قبل، فأبطال قصصه جميعًا من الفتيات، وعناوين غالبية قصصه اتخذت أسماء نسائية كإحسان هانم وثريا، وهو يؤكد أنه استمد موضوعات قصصه من عالم المرأة، ويشكر «حضرات الأوانس والسيدات الفاضلات اللواتي شجعننا برقيق عباراتهن وعذوبة وسائلهن.»٣٨ ولا يخلو من دلالة، وصف الفنان لثريا بأنها «ككل الفتيات العصريات، مالكة زمام عواطفها، تسيِّرها كما تشاء أغراضها. وطالما كانت تتباهى بأن الفتاة العصرية هي التي تخدع الشاب بتظاهرها له بالحب الكاذب، قبل أن تتركه يخدعها بتكلفة الغرام والهيام.»٣٩ بل إن الفنان يتحدث عن الشبان والفتيات في «دور التمثيل ومعاهد السينما»: شاب يجالس فتاة، ويسر في أذنيها أنشودة الشباب الخالدة!٤٠ ويضيف الفنان أن «التخالط الجنسي على ما فيه من العيوب، يساعد المرأة على فهم الحياة، وحقيقة الرجل وأمياله — ميوله — الغامضة الخفية، ويقضي عادة على سذاجتها وملكة خيالها التي تزين للفتاة الحب، وتطليه لها بالألوان الزاهية الخلابة.»٤١ أتى اليوم الذي تعشق فيه الفتاة موظفًا بسيطًا، وتصر على الزواج منه، رغم معارضة أسرتها، وتحقِّق إصرارها بالفعل.٤٢ وتؤكد ثريا أن «الفتاة في عصرنا لا تتزوج قبل الخامسة والعشرين أو الثلاثين، لما تدرك جيدًا مصلحتها؛ الدنيا تغيرت وتمدَّنت.»٤٣ ويصف الفنان عايدة (قصر الشوق) بأنها «لم تتلقَّ تربية شرقية خالصة، حتى تُطالَب بالمحافظة على التقاليد، أو تؤاخَذ على الخروج عليها.»٤٤ بل إنه لم يعُد من العيب أن يعلم الآباء أبناءهم أن الرجل والمرأة — ما لم يتحابا — لا يجوز أن يتعايشا.٤٥ وفي المقابل من الثنائي أحمد عبد الجواد وأمينة، كان عبد الحميد بك شداد وحرمه، لا سيد ولا مسود، وإنما صديقان متساويان، يتحدثان في غير كلفة وهي تتأبط ذراعه، فإذا بلغا السيارة تنحَّى الرجل حتى تركب المرأة أولًا.٤٦ وتمتعت كريمة هانم (صباح الورد) بقدرٍ لا يستهان به من الحرية؛ فكانت تصحب زوجها إلى المسرح والسينما، وتحكي للنساء عن منيرة المهدية ومسرحياتها الغنائية، وإن عاب البعض ذلك، فهو يقول: جمال بك — الزوج — أسد علينا، ولكنه نعامة أمام زوجته؛ فيرافقها إلى السينما والمسرح.٤٧ ويتحدث الراوي عن ظاهرة جديدة، لم تكن موجودة في الحياة المصرية من قبل، وهي خروج نساء مصريات في المتنزهات والضواحي، بل وفي شوارع القاهرة، «يصاحبن رجالًا من الفرنجة.»٤٨ ويخاطب الراوي هؤلاء النسوة بقوله: إننا نضن بما أودع فؤاد المرأة المصرية من الرقة والعطف أن يُدخَر لغير أبناء مصر. وإذا كان نساؤنا يشعرن بالحاجة إلى العشق، فإن رجالنا إليه أحوج، وهم به أجدر. وإنَّا لنكره أن يحق على أولئك الراغبات من أبناء جنسهن المثل العامي: فلان زي النخلة العرجة ترمي برة.»٤٩ ومع أن جبر بك السيد (السراب) كان يتمتع بوظيفة محترمة، فإنه كان من الأزواج المطيعين، وكانت زوجته هي الآمرة الناهية في البيت.٥٠ وقد رفضت عواطف (الباب الذهبي) في الثلاثينيات أن «تليِّف» لزوجها ظهره عند دخوله الحمام، وأن تغسل قدميه عند عودته من الديوان، وأرغمته على ارتداء البيجاما بدلًا من الجلباب، وتفصيل بدل ذات بنطلونات فضفاضة على أحدث طراز.٥١ أما الفنان (من النافذة) فهو يذهب إلى أن المرأة الأجنبية وحدها هي التي تجاسر، فتنزل إلى الطريق، ويتساءل الفنان: «ومن أين تجيء المصرية، وهي لا تخرج إلا لقضاء حاجة، أو زيارة سينما، أو نحو ذلك، ولا تحسن أن تقضي ساعات الراحة، أو يومها، أو أيامها إلا في بيتها، وفي مباذلها؟»٥٢ ويقول الفنان (حمار الحكيم) لصاحبه: «أرأيت حرم الباشا وحرم البك؟ تركن عملهن هنا، عمل السيدات، وأقمن في القاهرة ليذهبن كل ليلة إلى السينما. هذا ما عملته نساؤنا اليوم بعد أن خرجن من قفص الجواري البيض!»٥٣«أدركنا زمن السفور بأسرع مما كنا نتصور.»٥٤ ويتحدث الفنان (السكرية) عن بنات اليوم (١٩٣٥م) اللائي زحمن الشوارع، فضعفت الثقة بهن. ويقول: «ألم تسمعوا الشيخ حسنين وهو يغني يا ما نشوف حاجات تجنن، البيه والهانم عند مزين؟!»٥٥ يضيف الفنان (الرباط المقدس) أن الكثير من البنات عُرِف عنهن ما يُعَد فضيحة في نظر الأمهات والعمات، مثل الخفة في السلوك، والمغالاة في الملبس والمظهر والتحرر، إلى حد قبول مغازلة الشبان في الطريق، أو في التليفون.٥٦ وفي مسرحية المرأة الجديدة يقول سليمان: «… وهو الرجل يقدر يلاقي صديق بالمعنى الصحيح غير المرأة؟ أنهي صاحب ولا صديق بس إن قلت هات، يكبش ويديني إلا إذا كان امرأة. إن احتجت أو اتزنقت تعطيني في الحال إسورة، كردان، ولا جوز حلقان؟ هي المرأة ما فيش غيرها! فتش عن المرأة!»٥٧

•••

لم تحدث تلك المواقف «الرجة» التي أحدثتها صفعة نورا للباب في مسرحية «بيت الدمية»، بالإضافة إلى أن كل الأعمال الإبداعية العربية — منذ نشأة الرواية والقصة بمفهومهما الحديث — خلت من تلك الصفعة التي نبهت بها مسرحية إبسن مجتمعات الغرب إلى وضع المرأة آنذاك. يشير الفنان (حمار الحكيم) إلى نجاح دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة، فقد كسرت المرأة قيودها المادية، لكنها ظلت ترزح في قيدٍ آخر هو السجن الروحي، «إنها في شبه حريم معنوي لا تكاد تحسُّه، لأن مداركها المعنوية ما زالت قاصرة. إن الحب الرفيع مجهول، لا عند نساء الريف وحدهن، بل عند نساء المدن المتعلمات أيضًا، لأن روح الجواري البيض كامنًا ما زال في هؤلاء وأولئك على السواء.»٥٨ يقول الراوي (في الطريق): «المجتمع المصري عرف السفور، ولكنه لا يزال بعيدًا عن الحياة الاجتماعية التي تجعل السفور ذا معنًى وفائدة.»٥٩ وفي قصة التونسية زهور ونيس نهايات متشابهة يصادق الشاب فتاته، ويترددان معًا على دور السينما والمسارح، ويسيران في الحدائق، ويجلسان على المقاهي، وحين أراد الزواج فإنه لجأ إلى والديه ليخطبا له؛ خاف أن تفعل مع غيره ما فعلته معه قبل الزواج.٦٠ وحتى العام ١٩٣٠م فإن الفنان (العاطفة) يطرح قضية عدم اختيار أحد الزوجين للآخر. حسن وحسين «يؤمنان بالسفور والحياة العصرية، لكن ليس في تبذل وإسفاف كما يفعل الأوروبيون.» وقالا: إلى الزواج. وقال حسن: نعم، فلنتزوج، فسوف نحب زوجتينا، وسوف نخرجهما سافرتين. وقال حسين: نعم، وسوف نمتزج أنت وأنا، وسوف يخرج كلانا مع زوجته إلى المنتزهات والسينما ونحيا حياة عصرية. وأصرَّا — في البداية — على رؤية الفتاة التي ينوي كلٌّ منهما أن يتقدم لخطبتها، لكن الأهل رفضوا بإصرارٍ، وقالت كل العائلات: نحن أرفع من هذا. ورضخ الشابان — أخيرًا — وتزوجا فتاتين لم يتعرَّفا إليهما إلا ليلة الزفاف، ليتبيَّنا — بمرور الوقت — أن زوجة الآخر كانت هي الأصلح له، وهي الأقرب لوجدانه وعقله وميوله، ويقرران — نكتة ساذجة! — عقد مبادلة، فيزوِّج كلٌّ منهما زوجه إلى الآخر. ويدافع الفنان — مسبقًا — ضد الاتهام الذي يمكن أن يواجهه، بقصور النظر إلى المرأة، فكل زوجة أحبَّت صديق زوجها بالفعل، وأصبح التبادل أمرًا ملحًّا.٦١
وعندما طلب الأب (أمواج ولا شاطئ) أن يسأل ابنته عن موافقتها على الزواج، قال طالب الزواج: لطيفة هذه النكتة، لم يبقَ إلا أن نسأل البنات!٦٢ ويضيف الراوي: «ومتى استطاعت الفتيات أن يخالفن عن أمر الإخوة والأمهات.»٦٣ وكان رأي زكريا (الشارع الجديد) أن «زواج الحب لا يدوم.»٦٤ وحتى عام ١٩٣٠م، كان يحيى حقي يدعو إلى تناول تأثير اختفاء المرأة على المجتمع وأخلاقه «وهذه مهمة ليست قليلة الخطر.»٦٥ كانت الفتاة المصرية قد أسفرت، لكنها كانت لا تزال محجبة نفسيًّا واجتماعيًّا. فالشاب — على سبيل المثال — يقبِل على ممارسة حرياته على نحوٍ مطلقٍ، ولا يتصور أن أخته يمكن أن تمارس حريتها بالقدر نفسه، أو بالقليل منه. كان الوقوف في الشرفات حينذاك محرمًا على البنات إلا إذا وقفن يشيِّعن ميتًا من أهل البيت، أو يستقبلن عروسًا وافدة، أو إذا كان في الطريق حادث، أو مناسبة تستحق المشاهدة.٦٦ وعلى الرغم من الخطوات التي قطعتها المرأة المصرية في درب تحريرها — عقب الثورة — فإن بعض الأصوات ارتفعت تنعى تلك الحرية التي أسفرت عن نقيض النتائج المتوخاة، «فلا معنى لأن نكذب نفوسنا، أو نخدع أبصارنا. وفي كل يوم نرى أثر الإفلاس الخُلقي يظهر كالقرحة الدامية في وجه هدوئنا وسكينتنا، ويمرح بيننا في ثوبٍ كان لا يضم غير الطهارة والصون، فإذا به لا يتسع لغير الرذيلة.»٦٧ وعندما بعث الدكتور الكرماني (أزهار) بابنته إلى إنجلترا، هاجت الدنيا لأنه بعث بالفتاة إلى بلاد الكفار!٦٨ وفي ١٩٣٢م، قدَّم المعارضون استجوابًا في مجلس النواب، بدأ بشكر وزير المعارف على «موقفه في رعاية العلم والدين وتقاليد البلاد، وقد بدأ ذلك فعلًا، فأغلق معهد التمثيل والرقص التوقيعي الذي كان لوجوده مساسٌ بآدابنا العامة وتقاليد الدين.»٦٩

•••

كان رأي لطفي السيد أنه من الصعب تدارك إحجام الشبان عن الزواج إلا بتعليم البنات، بحيث يقترب مستواهن العقلي والعلمي من مستوى الشبان «حتى يكون الزواج مرجحًا فيه جانب السعادة على جانب الشقاء.»٧٠ القول انعكاس لتناول جون ستيوارت مل قضية تعليم المرأة من زاوية النتائج الضارة التي يمكن أن تُحدِثها الصحبة المثمرة لزوجة غير متعلمة، طائشة، وتافهة، على الرجل، حتى لو كانت له في السابق اهتمامات عقلية جادة.٧١ وكان رأي علي طه (القاهرة الجديدة) أن وظيفة المرأة أخطر شأنًا من عمل الجارية «محال أن أخون مبادئي، أو أن أرضى بحرمان المجتمع عضوًا جميلًا نافعًا مثلك — يقصد إحسان شحاتة.٧٢ والحق أن الكثير من الآباء لم يكونوا يرفضون تعليم الفتيات بقدر ما غابت في أذهانهن العبرة من هذا التعليم وجدواه. ظل الهدف من التعليم — لفترة طويلة — محدودًا للغاية، إنه التمكُّن من تربية أولاد صالحين. وعندما بلغت حنان مصطفى (المرايا) الثانية عشرة من عمرها، منعها أهلها عن الطريق والمدرسة معًا.٧٣ وفي ١٩٣٨م يقول إبراهيم شوكت (السكرية) أنا أشفق على البنات من جهد الدراسة، ثم إن البنت في النهاية لبيتها.٧٤ وتقول له زنوبة: هذا الكلام كان يقال في الزمن الماضي، أما اليوم فالبنات كلهن يذهبن إلى المدارس.٧٥ وتقول نعيمة (السكرية): وددت لو أتممت تعليمي، كل البنات يتعلَّمن اليوم كالصبيان!٧٦ وتقول نعيمة (السكرية) لأمها: لمحت في الطريق اليوم صديقتي سلمى، كانت معي في الابتدائية، وستقدم العام المقبل في امتحان البكالوريا. تقول الأم في امتعاض: لو سمح جدك لك بالاستمرار في الدراسة لتفوقت عليها، ولكنه لم يسمح.»٧٧ حتى ياسين (السكرية) الذي نال قسطًا من التعليم، لم يتحمس لمواصلة المرأة تعليمها، وكان رأيه — في العام نفسه — أن الفتاة يجب ألا تتعلم أكثر من الابتدائية.٧٨ وكان تعليم الفتيات في المدرسة السنية بالمجان، لمواجهة عدم إقبال الأهالي خلال العقود الأخيرة من القرن التاسع عشر، والأولى من القرن العشرين على تعليم البنات.٧٩ مع ذلك فقد بلغت نسبة ميزانية تعليم البنات في عام ١٩١٢م ١٫٣٪ من نسبة التعليم العام.٨٠

•••

عندما أصرَّت أمينة (أنا حرة) على دخول الجامعة، قالت عمتها: إذا دخلت الجامعة تخرج من بيتي، إحنا عشنا وكبرنا وبنات العيلة كلهم بيتجوزوا، البنت اللي تخش الجامعة ما تبقاش بنتنا!٨١ وقد اشتدت ثائرة الرجال على الإذن للفتيات بدخول الجامعة، والاختلاط بالشبان، فقال لطفي السيد في حسمٍ: «إن القانون أمامي يقول: إن كل حاصل على التوجيهية — الثانوية العامة الآن — يحق له دخول الجامعة، ولم يقل القانون إن الذين يحق لهم دخول الجامعة هم الذكور فقط من الحاصلين على التوجيهية. مع ذلك، فقد لجأ لطفي السيد إلى حيلة لتيسير دخول الطالبات جامعة فؤاد الأول أيام توليه رئاستها؛ أصدر إلى سكرتارية الجامعة تعليمات بتقييد اسم كل طالب يحمل شهادات تؤهله للتعليم العالي، دون إشارة إلى جنس الطالب؛ وهكذا قُبِلت الفتاة في الجامعة.٨٢ وقد تخرجت في جامعة لندن — ١٩٢٦م — أول طبيبة مصرية، هي خديجة حفني ناصف، شقيقة باحثة البادية.٨٣ وفي ١٩٢٩م اتخذت الفتاة المصرية مكانها — للمرة الأولى — في كليات الجامعة. كان حدثًا فريدًا عندما دخلت الفتاة — لأول مرة — كلية الآداب، حدثًا من أكبر الأحداث الاجتماعية في مصر، زحفًا في دنيا النهوض والتقدم وتحرير المرأة من الهوان الذي عاشت فيه قرونًا وأجيالًا.٨٤ وطبيعي أن ذلك الحدث الكبير لم يتم ببساطة؛ لقد أثار الكثير من الاهتمام والفضول.٨٥ وكما يقول الراوي في مذكرات منسية: «كان دخول البنات بين صفوف الجامعيين — لأول مرة — حدثًا، ليس حدثًا تاريخيًّا فقط، بل كان حدثًا نفسيًّا أيضًا.»٨٦ أصبح ترك الصف الأول في المدرج للطالبات تقليدًا منذ اليوم الأول، لم يفرضه أحد، ولا تم عليه اتفاق، إنما سعت الطالبات إلى الصف الأول من المدرج، وجلسن. ولم يحاول الطلبة مشاركتهن الجلوس في ذلك الصف، واقتصر — من يومها — على الطالبات، لا يشاركهن أحد.٨٧ ويقول فكري لآمال (أزهار): «تصوري يا آمال أن طالبات كلية الآداب العشر قد خلقن جوَّ الحريم الذي تتحدثين عنه، فأصبحن يجلسن بمعزلٍ عنَّا في قاعة المحاضرات، ومحال علينا أن نقترب من الصف الأول المخصص لهن، ولا تكاد المحاضرة تنتهي حتى يسرعن إلى حجرتهن الخاصة التي لا يجوز الاقتراب منها.»٨٨ الوصف نفسه للفنان في المرايا، فلم يكن الفتيات — كما يقول الفنان — يتجاوزن العشر، وكان يغلب على حياتهن طابع الحريم، فهن يحتشمن في الثياب، ويتجنَّبن الزينة، ويجلسن في الصف الأول من قاعة المحاضرات وحدهن كأنهن بحجرة الحريم بالترام «لا نتبادل تحية ولا كلمة، وإذا دعت ضرورة إلى طرح سؤال، أو استعارة كراسة، تم ذلك في حذرٍ وحياء، ولا يمرُّ بسلامٍ؛ فسرعان ما يجذب الأنظار، ويستثير القيل والقال، ويشن حملة من التعليقات.»٨٩ وبدأ زحف البنات على الكليات الجامعية. طالبة واحدة التحقت بكلية الطب، بالإضافة إلى الطالبات العشر في كلية الآداب (يشير الراوي في مذكرات منسية إلى أن عدد طالبات كلية الآداب لم يزِد عن عدد أصابع اليد الواحد) وطالبة — هي نعيمة الأيوبي — التحقت بكلية الحقوق. ويقول الكاتب في مذكرات منسية أن الضجة كلها كانت حول هذه الطالبة بالذات، فلم يكن ثمة مانع من أن تكون المرأة أديبة أو طبيبة، أما أن تكون من أسرة القضاء، فقد كانت هذه هي الكارثة في نظرهم.٩٠ وفي ١٩٣٣م حصلت أول فتاة مصرية — نعيمة الأيوبي — على ليسانس الحقوق. وفي أعوام ما حول الحرب العالمية الثانية، حصلت المرأة في عائلة أحمد عبد الجواد (بين القصرين، قصر الشوق، السكرية) على الابتدائية، ونالت أخريات شهادة التوجيهية، بينما استمرت أخريات إلى الجامعة.
وبالطبع، فقد خاضت الدفعة الأولى من الفتيات الجامعيات متاعب البداية؛ كان عليهن مراعاة وضع غطاء على الرأس، وعدم النظر ناحية الطلبة، فضلًا عن التحدث إليهم، بل وعدم القراءة والتكلم في حضور الطلبة إطلاقًا،٩١ أو التوجه إليهم بالتحية أو الحديث.٩٢ وكان جلوس الفتى والفتاة على مقعدٍ واحدٍ — في ذلك الوقت — مجازًا لا حقيقة، فلم يكن يُسمَح لأحدهما ربما بمجرد الاقتراب من صاحبه في مدرجات الجامعة. وكان للفتيات — قلة قليلة! — مكانهن الذي ينبغي ألَّا يتركنه، أو يشاركهن فيه أحد من الطلبة الذكور. وخصَّصت دار الكتب أربعة مقاعد في نهاية قاعة المطالعة لجلوس الفتيات، ولم يكن يُسمَح للرجال بمجرد الاقتراب من هذه المقاعد. كذلك لم تكن التقاليد تسمح لبعض الفتيات، أو لغالبيتهن، باتخاذ صديقة لها.٩٣ ونتيجة لذلك، فقد كان الحب من طرفٍ واحدٍ سِمة غالبة على العلاقات العاطفية آنذاك، وكان البعد وعدم الاختلاط — على حد تعبير نجيب محفوظ — يدفعان الخيال كي يعمل عمله! وظلت مشكلة شوشو (إبراهيم الكاتب) هي حبها لإبراهيم: كيف تصارحه به: «كلا! هذا أيضًا مستحيل، لأن الأدب والتقاليد تأبى ذلك.» لكن التحاق المرأة بالجامعة ساعد على احترام المجتمع للمدرسة، بعد أن كانت مثل الممرضة والمولِّدة وغيرها، فقد بدأت في الحصول على شهادة عليا.٩٤
وبالطبع، فإنه بعد دخول الفتاة الجامعة بأعوامٍ، لم يكن الكثيرون قد سلَّموا بعد بمبدأ اختلاط الجنسين في الجامعة، بل بمبدأ تعليم الفتاة تعليمًا عاليًا.٩٥ واللافت أنه كان من بواعث تباهي وزير المعارف العمومية — في تقرير له عن أحوال التعليم في ١٩٢٣م — أن عدد المدارس المشتركة بين البنين والبنات، قد أخذ في التضاؤل منذ سنة ١٩١٧م، وقارب أن يفنى. وهذا يرجع إلى ما رأته وزارة المعارف من ضرورة جعل كل نوعٍ في مدارس خاصة، يتلقَّى فيها ما يناسبه من التعليم.٩٦

•••

لم تعُد المرأة الصالحة هي التي ينطبق عليها قول بيركليس بأنها ينبغي ألا تتعلَّم أبدًا. صارت المرأة الصالحة تتعلم، وتعمل، وتصل إلى أرقى المناصب. لم يكن ذلك — بالطبع — عفوًا ولا مصادفة. يقول الفنان (أين صديقتي اليهودية) «كان العمل محرمًا على البنت فضيحة، عيب.»٩٧ وكان رأي الزوج أن اقتحام المرأة لميادين العمل «مما تلجأ إليه بنات اليوم ليس إلَّا ضلالًا عن طريق الطبيعة والحق وثورة على أمر الله وما خلقنا له.»٩٨ وتحدث الأب عن العالم الذي فسد بسبب فجر النساء، فبعد أن كانت المرأة تغادر بيتها بالحجاب، صارت تخرج بدونه، بل وخرجت إلى العمل مثل الرجل، وزاد التبجح ببعضهن إلى حد جعل أكمام الثياب قصيرة، فيظهر نصف الذراع، وربما الذراع كلها.٩٩ بل إن الشيخ أبو العيون الذي وجد تخريجًا لسفور المرأة، وخروجها إلى الحياة العامة، ما لبث أن اعتبر سعي المرأة إلى الوظيفة من أعظم النكبات على سلامة المجتمع، لأنها ستفقد — على حد تعبيره — وظيفتها الجنسية، وتعطل أنوثتها، وتهدم بيدها أساس حياتها النوعية.١٠٠ وتروي المدرسة في مذكراتها المنسية أنها — قبل أن تحصل على الليسانس — كانت تسمع بأذنيها في الطريق إلى بيتها بالسيدة زينب، من يقول: البنت المدرسة دي فاهمة إنها حجة؟! إيه يعني معلمة بثمانية جنيهات؟ من أين تأتي بهذه الفساتين؟! طبعًا تعود إلى البيت بعد المغرب، تدَّعي أنها كانت في المدرسة، كلام فارغ!١٠١ وقد حطم مصطفى (في قافلة الزمان) تقاليد العائلة عندما خرج مع خطيبته بمفردهما لمشاهدة موكب الملك فاروق بعد عودته من إنجلترا، في طريقه إلى قبر والده.١٠٢ وعندما استأذن حسنين (بداية ونهاية) في أن يصحب معه بهية إلى السينما، وافق والدها قائلًا: أظن العالم الحديث يستسيغ هذا السلوك بين خطيبَين!١٠٣ ويهبنا الفنان هذه الصورة الموحية عن شابين في حوالي الخامسة والعشرين «يعجزان أن يقضيا أوقات فراغهما فيما يسكن ثائرهما، ويجلب السرور، أو يذهب الكآبة، فإن تنزَّها فهما يجوبان الطرقات المزدحمة، فيأخذ لبَّهما منظر السيدات، وخاصة الأجنبيات، حيث برزن سافرات، تلمع وجوههن، وأذرعهن عارية، وأجسامهن وقد بدت فاتنة داخل لباس رشيق، وهما يقضيان الساعات وقوفًا في محطة الرمل، يتطلعان إلى الرائحات والغاديات في سكون ظاهر وأدب جم وثورة داخلية، تود لو تحطم هذا السكون، وهذا الأدب.»١٠٤ ويبين وضع المرأة عن بُعد سلبي في الشبان الذين كانوا يقفون في الترام، أمام باب الحريم «كلوح اللطزان لا أكثر ولا أقل، يبرم شنبه تارة، ويلعب حواجبه تارة أخرى، ويلف سلسلة ساعته الدوبليه على أصابعه، ثم يتنهد ويعدل طربوشه، وباختصار ناقص يطبلوله يرقص.»١٠٥ وكانت مفاجأة الحوذي الأسطى محمود (مذكرات عربجي) — ذات يوم — حين طلبت سيدة أن يذهب بها إلى «تيرو» روض الفرج: «التيرو؟ أقسم لك — أيها القارئ — أني غالطت سمعي، وسألت مرة ثانية قائلًا بعد أن أحنيت رأسي لأسمع: سيادتك بتقولي على فين؟

– شيء غريب، على التيرو، أنت مبتسمعش؟!

والله ما كان يخطر لي على بالٍ أنا العربجي الذي أقضي أكثر أوقاتي في معاشرة البهائم. إنه يقصد سيداتنا عمدًا، مع توفر سوء القصد والنية، وفي عصرية من رمضان، هذه البؤر التي أولها «أونطة»، وآخرها موت وخراب ديار، مع ما يتخلل ذلك من إراقة ماء الوجه، وبالاختصار يسدل الستار — أخيرًا — على بيع و«طيران» العقل، وخراب البيوت المستعجل.١٠٦ ويشير الفنان إلى حوادث الفتيات مع سائقي السيارات الخاصة التي انتشرت في أواسط الثلاثينيات.١٠٧
تربَّت المرأة ونشأت على عشرات القيم والعادات والتقاليد، قابلها سماع وقراءة ومشاهدة في وسائل الإعلام والثقافة المختلفة، عن العلاقات العاطفية والجنسية التي تتم بين أطراف متكافئة. وكان ذلك التناقض بين الموروث والواقع مبعثًا لحيرة دارت في دوامتها غالبية فتيات الطبقة الوسطى اللائي أتيحت لهن فرص الدراسة والعمل. فالزوج — في الأحلام — فارس يمتطي جوادًا، والزوج — في الواقع — موظف مستور، يسبق طلبه يد فتاته مساعي الخاطبة، أو مجيء أفراد أسرته للمعاينة وإبداء الرأي. والواقع أن الشاب المصري كان يساعد على استمرارية تلك الحيرة، بسعيه إلى إقامة علاقة، فإذا أراد الزواج تزوج من فتاة أخرى، لأنه — في أعماقه — يرفض التحرر إلا فيما يتصل بالعلاقة العابرة، وإن طالت. أما العلاقة الأسرية فإنه يلجأ — لإقامتها — إلى كل القيم والتقاليد والعادات الموروثة! وقد أعلنت الفتاة (فتاة صامتة) أن خروج الفتاة مع الشاب منفردة قبل الزفاف ليس من الأمور المستحبة إطلاقًا.١٠٨ وكان وصفي (قصر على النيل) يقابل ابنة عمه، ثم تزوج غيرها، لأنها — في تقديره — قد تسعى إلى غيره كما سعت إليه.١٠٩ واتسق ذلك التصرف مع كراهية وصفي لأم وديدة التي حددت لوصفي موعد اللقاء الأول، ثم أصبحت رسولًا بين الحبيبَين: «إنها هي، هي وحدها التي فرَّقت بينه وبين هواه، إنها هي التي وضعت هذا الحائل بينه وبين سهير.»١١٠ وذهب نظيم باشا (حواء بلا آدم) إلى أن المرأة — أيًّا يكن مستواها، ومهما يكن علمها — ناقصة عقلًا وحنكة وتجربة، والواجب عليها شرعًا ولياقة، أن تنصاع إلى الرجل لا أن تجري في رعونة وراء عواطفها.»١١١ وكانت المرأة الجديدة أولى مسرحيات الحكيم التي يبدي فيها معارضته الشديدة لحرية المرأة، واشتغالها بالوظائف العامة، حتى لُقِّب — فيما بعد — باسم «عدو المرأة». وكتب فكري أباظة في «اللواء» (٥ / ٩ / ١٩٢١م) يعقب على خطة الحزب الديمقراطي بمساواة الرجل بالمرأة في الوظائف وسائر الأعمال: «… بمعنى أنه ما دام هناك وزير ومدير وشيخ جامع وحكمدار وباشجاويش وخفير من الجنس الخشن، وجب حتمًا أن يكون هناك — مقابل ذلك — وزيرة ومديرة وشيخة جامع وحكمدارة وباشجاويشية وخفيرة من الجنس اللطيف. وما دام أن هناك نايب أو نواب عن كل مركز في الجمعية الوطنية، وجب أن يكون هناك «نايبة» أو «نوايب» من الجنس اللطيف أيضًا! وما دام أن هناك حوذي وكمساري وكناس من الجنس الخشن، وجب أن يكون هناك حوذية وكمسارية وكناسة من الجنس اللطيف كذلك! فكرة جميلة وعملية سهلة، ولكن نسي «الحزب» مسألة جديرة بالنظر، وهي أن الوظائف والأعمال الإدارية لا تتفق وطبيعة النساء أبدًا.»١١٢ أضاف فكري أباظة في «الأهرام» (٢٥ / ٦ / ١٩٢٢م) «تريد الآنسات والسيدات أن يكون لهن حق التصويت. ولعمرك هل حرمهن الجنس الخشن من أن يصوِّتن ما شاء لهن الصوات، في جميع الأوقات. إنهن يتمتعن بهذا الحق من بدء الخليقة للآن: في الجنازات والمشاجرات والعمليات، وفي كل ما يستفز الشعور، بالنسبة لربات الخدور؟! نعم، لم تخلق الآنسة أو السيدة لتُسمِعنا صوتها الجذاب في معارك الانتخاب، وإنما لتسمعنا صوتها الجهوري في التدبير المنزلي، صوتها الفعَّال في تربية الأطفال، صوتها الحنون، في الهموم والشجون، صوتها الرنان في توقيع الأنغام والألحان.»١١٣

•••

إن اختلاط الجنسين، ونزول المرأة إلى العمل، ومشاركتها في الحياة العامة، ظواهر إيجابية، تؤكد المرأة — من خلالها — قدرتها على المشاركة في حياة المجتمع. وقد كان غريبًا أن تعطي الحكومة رخصة للمرأة، لكي تشتغل بالبغاء الرسمي، أو رخصة للاشتغال خادمة في البيوت، بينما تغلق في وجهها أبواب العمل في البنوك والمحال التجارية، وتستند إلى العرف والتقاليد في الاقتصار على استخدام الأجنبيات.١١٤ وكانت نوال (توبة نوال) واحدة من المصريات القلائل اللائي عملن في الشركات الكبيرة، إلى جانب عدد كبير من اليهوديات والمتمصرات.١١٥
وقد يطالعنا السؤال: لماذا تعمل المرأة؟ هل لإرضاء النفس، أو تحقيق الذات، أو لسد الاحتياجات الاقتصادية، أو للمساهمة في مواجهة الأسرة لأعباء الحياة؟١١٦
إن خروج غالبية النساء للعمل هو لأسبابٍ اقتصادية، بمعنى أن العمل ليس مطلبًا في ذاته، لكنه وسيلة للحصول على عائدٍ يساهم في نفقات البيت. ومن ناحية أخرى، فإن العمل — في تقدير إنجي أفلاطون — يعني للمرأة تحررها من ربقة الرجل، وهو — بالقطع — ليس تحررًا مطلقًا. إن «تحرير المرأة لا يمكن أن يتمَّ في معزلٍ عن بقية قضايا الحرية، والمرأة حينما تثور على الرجل، فهي تثور من أجله أيضًا، كما أنها تثور نيابة عن كل مقهورٍ آخر. قضية الحرية ليست خاصة بها، لهذا فهي لا يمكن أن تحدث بدون تضامن مع بقية الفئات المضطهدة، وهو خير وسيلة لتجنُّب الخطأ الذي يمكن أن ينجم عن تولي المرأة معركة تحرير نفسها بنفسها، ولنفسها.»١١٧
والطريف أن بعض الظواهر السلبية هي التي أتاحت للمرأة أن تحصل على فرص عملٍ أوسع؛ فقد بدأ أصحاب الأعمال في مطالع الثلاثينيات يفضِّلون تشغيل النساء، لقلة الأجر الذي تتقاضاه المرأة — نسبيًّا — عن أجر الرجل، ولاحتمال تركها الخدمة بسبب الزواج، مما يخفِّف من أعباء صاحب العمل من حيث المكافأة، فضلًا عن أن المرأة لم تكن تعني بالنواحي النقابية، ومن ثَم فقد صدر القانون رقم ٨٠ لسنة ١٩٣٣م بمنح المرأة العاملة بعض المزايا لإغراء الفلاحات على العمل بمصانع النسيج وإغراء بنات المدينة على العمل بالمحلات التجارية.١١٨
وإذا كان مما يؤخذ على طلعت حرب أنه عارض «تحرير المرأة»، وردَّ عليه بكتابه «الرد على تحرير المرأة»، فإن الشركات التي أنشأها بنك مصر شهدت المرأة المصرية سافرة، وعاملة، وشهدت المرأة المصرية ممثلة أيضًا في شركة مصر للتمثيل والسينما. كما أن شركة مصر للغزل والنسيج تولَّت إنتاج ثياب المصريات «ولكنها لا تنتج أحجبة لوجوههن» … والتعبير لمحمود كامل.١١٩ وفي ١٩٢٧م بلغ عدد النسوة اللائي يشتغلن بالصناعة ٤٨٫٧٦٧ امرأة، منهن ٢١٫٩٣١ امرأة يشتغلن بصنع ملابس السيدات، ونسبة النساء إلى مجموع المشتغلين بالصناعة ٨٫٩٪، وإلى مجموع المشتغلين بالتجارة ٩٫٦٪.

كان أغلب عمل المرأة في مهن محددة، مثل صناعات الغذاء، وصناعة الملابس، والصناعات الصغيرة، والأعمال الكتابية، والتدريس، والتمريض، والعمل البيتي، وجميعها مهن يفترض أنها تتطلب مهارة أقل، وبقدرة أقل، من الحرية، مقارنة بأعمال الرجل (كانت وزارة المعارف العمومية، إلى أوائل الثلاثينيات تفصل كل مدرسة تتزوج شابًّا يعمل في نفس عملها! أزهار ٢٠١.)

ثم لم يعُد عمل المرأة يقتصر على المهن التي اعتُبِرت تقليدية بالنسبة لها. ثمة مهن ووظائف أخرى تولَّتها المرأة في معظم المجالات التي بدت مغلقة الأبواب أمامها. وأكد المعنى كُتَّاب كبار انطوت مقالاتهم على معانٍ كثيرة، ليست السخرية أشدها! أذكر — على سبيل المثال — مقالات فكري أباظة وتوفيق الحكيم. والملاحظ أن تطور الوسائل والأدوات المنزلية قد ساعد على توفير جهد المرأة، وهيَّأ لها بالتالي فرصة الخروج إلى العمل. وبعد أن كان عمل المرأة مقصورًا — إلى نهايات الحرب العالمية الأولى — على الزراعة، فقد بلغ عدد النساء المشتغلات في المجالات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ٨٤٠٠٧٨ امرأة في ١٩٢٧م، ثم قفز العدد إلى ١٣٦٣٧٥٦ امرأة في ١٩٣٧م.١٢٠
وبالطبع، فإن عمل المرأة خارج بيتها، لم يحل بينها وبين دورها الأساس في البيت، كزوجة وأم. واتجهت آراء كثيرة إلى أن دور المرأة الأكثر أهمية هو دور الزوجة والأم.١٢١ ولم يجد الأب (كفارة الحب) خيرًا للمرأة من الزواج وتدبير مملكة البيت وإنجاب البنين، وتربيتهم «ليكونوا لنا في الحياة عونًا، وبعد الحياة ذكرًا، وللعالم عمرانًا. أما هذا الاقتحام لميادين العمل مما تلجأ إليه بنات اليوم، فلم يكن عنده إلا ضلالًا عن طريق الطبيعة والحق، وثورة على أمر الله، وما خلقن له.»١٢٢ وكانت أمينة زوجة سليم باشا (الحصاد) على يقين بأنه «على الرجل أن يسعى، وعلى الزوجة أن ترعاه، وترعى بيته وأولاده.»١٢٣ وقد استقرت سميحة (نحن لا نزرع الشوك) في البيت، بعد حصولها على الابتدائية من مدرسة السنية. وجدت أمها أن من الخير لها أن تمارس شغل البيت، استعدادًا للزواج. كان رأي الأم أنها مهما تعلمت، فمصيرها إلى بيت الزوجية، ومن الخير أن تُؤهل له.١٢٤ وكانت سعاد (رائحة الورد وأنوف لا تشم) أمًّا لثلاث بنات، تؤمن بأنه ليس هناك مستقبل لأي بنت إلا الزواج، مهما تطورت حياة البنات، ومهما بلغت من مكانة علمية واجتماعية، فإن البنت لا يمكن أن تستكمل كيانها أو شخصيتها الاجتماعية إلا بالزواج.١٢٥ وكانت الزوجة في قصة صبري موسى مشروع قتل جارة تربت بطنها الحامل، وتقول: «يا ضمان مستقبلي.»١٢٦ بمعنى أن المولود في بطنها هو الذي يضمن استمرار حياتها الزوجية.
واللافت أن إقبال الفتيات — بعد التخرج في الجامعة — على وظيفة المدرسة، كان له تأثيره في تخريج أفواج من الفتيات المتعلمات.١٢٧«لِم تقبل الفتيات على كلية الآداب؟ لأن وظيفتهن التدريس هي أوسع الوظائف صدرًا لهن.»١٢٨ وحين قال كامل رؤبة لاظ (السراب) لأمه، إنه ينوي التقدُّم لخطبة فتاة تعمل مدرسة، قالت في استياء: مدرسة؟! إن بنات الأسر الطيبة لا يشتغلن مدرسات … والمدرسة إما أن تكون عادة دميمة، أو مستهترة مسترجلة!١٢٩ ولم تخفِ الأم (توبة نوال) تأثُّرها لزواج ابنها الوحيد من فتاة زميلة لها في الشركة التي يعمل بها، يعني فتاة تعمل مع الرجال.١٣٠ ويقول عم صقر الساعي (المرايا): «لا تصدق أن فتاة شريفة تقبل أن تعمل وسط الرجال!»١٣١ وتقول إحدى السيدات لجارة لها: أما سمعت بالخبر العجيب؟ وتضيف: توحيدة بنت أم علي بن عم رجب …

– مالها كفى الله الشر؟

– توظفت في الحكومة.

– توظفت في الحكومة؟!

– أي والله! موظفة! تذهب إلى الوزارة، وتجالس الرجال!

– لا حول ولا قوة إلا بالله، إنها من أسرة طيبة، وأمها طيبة، وأبوها رجل صحيح!

وتحاول المرأة أن تجد تبريرًا لاشتغال الفتاة، فتقول: يمكن لأن البنت غير جميلة؟

تقول الجارة: كانت ستجد ابن الحلال على أي حال!١٣٢ وكان رأي خديجة (السكرية) أنه لا تسعى إلى الوظيفة إلا الفتاة البائرة، أو القبيحة المسترجلة.
وقد ظل الأب على رأيه في أنه لا يوجد للمرأة خير من الزواج، وتدبير مملكة المنزل، وإنجاب البنين، وتربيتهم «ليكونوا لنا في الحياة عونًا، وبعد الحياة ذكرًا، وللعالم عمرانًا، أما هذا الاقتحام لميادين العمل، مما تلجأ إليه بنات اليوم، فلم يكن عنده إلا ضلالًا عن طريق الطبيعة والحق، وثورة أمر الله وما خلقنا له.»١٣٣ وفي قصة لن أقرأ الصحف يبين الفنان عن رفض مؤكد لاشتغال المرأة، فبعد طول تردد، وافق الأب على تعليم ابنتيه، ثم على اشتغالهما. لكن كبرى البنتين حملت سفاحًا من علاقة مع رئيس لها، وتموت الفتاة، ويحبس الأب أختها في البيت حتى لا تلقى المصير نفسه.١٣٤ وفي المقابل، فقد دافع البعض عن نزول المرأة إلى العمل، بالتأكيد على أنه «كما قد توجد منحرفة بين ستات البيوت، فقد توجد مستقيمة بين الموظفات.»١٣٥
ومع أن هربرت سبنسر Herbert Spencer دعا — لفترة طويلة — إلى أن تكون للمرأة حقوق مساوية تمكِّنها من منافسة الرجل، فإنه ما لبث أن عدل عن رأيه، وأعلن أنه إذا فهمت المرأة كل ما يحتويه العالم المنزلي لما رضيت عنه بديلًا.١٣٦ دور ربة البيت هو الأهم في حياة المرأة، بصرف النظر عن مكانتها الاجتماعية والوظيفية، بل والاقتصادية. إنه — ذلك الدور — هو الذي يحدد وضع المرأة في المجتمع، هي لا بد أن تقف في موضعٍ تالٍ لموضع الرجل، هو الآمر، وهي التي تنفذ. ويؤكد الراوي أن الرجل هو كل حياة المرأة، ومحور وجودها. المرأة تتخلى عن كل شيء في الحياة إذا ظفرت برجلٍ، إنها بدونه خيمة بلا عمادٍ، أو بيت بلا سقفٍ.١٣٧ حتى سامية (بين الأطلال) للسباعي، التي كانت تكره تبعية المرأة للرجل، صارت — حين تجلس إلى جوار كمال — تتلهف على هذه التبعية! ولا يخلو من دلالة قول الراوية (شرق المتوسط) «النساء في بعض اللحظات، يقلن كلمات كبيرة، لكن ما يقلنه مجرد كلمات.»١٣٨
الرجل العربي يهمُّه أن يدور كلُّ ما تفعله المرأة حول محور حياته، ومن أجله، ومن خلاله. يقول الفنان (نعيمة وعصمت) «الرجل يتزوج امرأة تعاشره، لا لكي يتملى بمحاسنها سواه.»١٣٩ وذلك ما كانت تؤمن به مريم.١٤٠ تقول عايدة (إني راحلة) لحبيبها: «سأكون معك هكذا دائمًا، ست بيت، أريد أن أكون زوجة وخادمة.»١٤١ ونقرأ في بين الأطلال: «إن المرأة إذا أحبَّت، فهي تفضِّل مسح حذاء زوجها على رئاسة الوزارة!»١٤٢ وتقول المرأة (حواء الجديدة) إن الفتاة المصرية ضحية بين التطور والقديم، وهي في كل حالة لا تتحرك إلا إذا كان خلفها أو أمامها رجل يحركها.١٤٣ وعندما أراد فكري أفندي (الحرام) الزواج، فإنه تزوج فتاة لتخدمه، لا لتشاركه حياته.١٤٤ ويروي سعيد السحار في مذكراته أنه كان يسمع — أول ما نشأ — نساء الأسرة — إذا جاءت سيرة جده — تقول الواحدة منهن: جاء سيدي الكبير، وإذا جاءت سيرة أبيه يقلن: قام سيدي جودة، أو قعد سيدي جودة، أو قرأ سيدي جودة، ولم يكن يجدن في أنفسهن أية غضاضة في ذلك!١٤٥ ويصف الفنان (بعد العرس) إحدى النساء بأنها «سطحية النظرة ككل امرأة.»١٤٦ وكان رأي الرجل (مريم الحكايا) أن المرأة مثل السجادة العجمي، كلما ضربها الرجل، وداسها بقدمَيه، تظهر قيمتها.١٤٧ بل إن الفنان يذهب إلى أن المرأة تحب الرجل الذي يضربها، لأن ضرب الحبيب مثل أكل الزبيب.١٤٨ وفي بحثٍ أجراه المجلس القومي للسكان في مصر (١٩٩٧م) ظهر أن ٣٥٪ من الزوجات تعرضن للضرب من أزواجهن، مرة — في الأقل — منذ الزواج، ولم يحل حمل الزوجة دون حمايتها من العنف، وأن ٦٩٫٩ من الزوجات يتعرضن للضرب إن رفضن معاشرة الزوج، وأن ٦٩٫١٪ يضربهن الأزواج إن ناقشت المرأة زوجها بلهجة غير مقبولة، وكانت عينة ذلك البحث سبعة آلاف زوجة من الريف والحضر.١٤٩ وكان منطق الزوج (مريم الحكايا) أن المرأة التي تعرف الأصول، وواجباتها إزاء زوجها، هي التي تأتي بالحذاء كل يوم، وتقدمه لزوجها، وهي تقول: اضربني «هي دي المرا الآدمية.»١٥٠ في رواية الجزائري عبد الله خمار (جرس الدخول إلى الحصة) تطالعنا حكاية الشاب الذي استجاب إلى نصائح أصدقائه بأن يثبت لعروسه — في ليلة الزفاف — أنه رجل، وأنه هو الآمر الناهي، يذبح القطة كما يقول التعبير المتوارث. لم يكد باب حجرة النوم يُغلَق على العروسين حتى مزق الشاب ثياب فتاته، ولفَّ معصمَيها بحبلٍ، وراح يلطمها على وجهها بكل قوته، حتى انبثق الدم من أنفها، وهو يصرخ: أنا الرجل هنا، أنا الآمر الناهي. وامتدت يده إلى عصا المكنسة التي هيَّأها من قبل، وقبل أن ينهال عليها بها، فتحت العروس الباب بيديها المقيَّدتين، وهربت من الحجرة عارية، وانقلب العرس إلى مأتم، وتمت — بعد ذلك — إجراءات الطلاق في هدوء، وبرضا العائلتين. تحوَّل ما حدث إلى عقدة في حياة العروس؛ لم تعد تقبل مجرد إقامة صداقة بينها وبين أي شاب.١٥١ وكما تقول نوال السعداوي، فإن «الرجل هو السادي الذي يقتحم ويغتصب ويكسر، والمرأة هي المازوشية التي يقع عليها الاقتحام والاغتصاب والتكسير، فالرجل هو الفاعل دائمًا، والمرأة هي المفعول به. الرجل هو الإيجابي، والمرأة هي السلبية.»١٥٢ ومع أن الدراسات أثبتت أن العنف ضد المرأة يزداد في الدول المتخلفة اجتماعيًّا وثقافيًّا،١٥٣ فإن الإحصاءات — في المقابل — تؤكد أن المجتمعات المتقدمة ليست بريئة من تهمة العنف ضد المرأة. الإحصاءات تؤكد عنف الأزواج في الدول المتقدمة، وأنه يؤدي إلى موت امرأة كل عشرة أيام، في ظل غياب القوانين التي تحمي الزوجات.١٥٤

•••

بدأت نظرة المرأة إلى المجتمع تتغير، فتغيرت آراؤها بالتالي. ثمة رجال أعلنوا تأكيدهم بأن المرأة نصف المجتمع، من حقها أن تتمتع بجميع الحقوق التي يتمتع بها الرجل، وأن تختار الرجل الذي سيكون شريكًا لها في حياتها، وأبًا لأولادها، فضلًا عن أنها يجب أن تتحرر من سجن البيت، وتشارك الرجل في العمل، وفي كل مسئوليات الحياة ومباهجها.١٥٥ عنى الناس بالأمثال الشعبية التي تؤكد قيمة المرأة: أخير الناس اللي تبكر بالبنت … اللي يسعدها زمانها تجيب بناتها قبل صبيانها … أبو البنات مرزوق … اللي ما عندوش بنات ما يعرفش الناس امتى مات … إلخ. وعلى الرغم من القيود التي ظلت مفروضة — بشكلٍ وبآخر — على حرية المرأة في اختيار زوجها، فإن أحمد باشا شكري (قصر على النيل) يقول لسليمان عندما طلب يد ابنته: «يا أخي، أنت تعرف إنني رجل محافظ، وابنتي لا ترد لى أمرًا، ولكن الزواج شأنها وحدها، ولا أستطيع أن أرغمها. أنا سأتركها بعد حين، فبماذا تراها ستذكرني إن أنا زوَّجتها بمن لا تريد؟» ويقول الشاب: «يا عمي، نحن في مصر لا نسأل بناتنا عمن يتزوجن» … «ولكن أنا أسأل.»١٥٦ وتقول عديلة (الشوارع الخلفية) عن وضع المرأة في الأسرة: «أصل زمان كان شكل، ودلوقتي شكل.»١٥٧ وكان دفاع طالبات مدرسة البنات الثانوية (خطاب غرام) عن زميلتهن التي عثرت الضابطة على رسالة غرامية باسمها في بريد المدرسة، كان ذلك الدفاع — في الحقيقة — دفاعًا عن حقهن جميعًا في «الحب»، وانتصرت الطالبات.١٥٨ وتقول الأم (في الظلام) مستغربة: «إني أعجب من بنات اليوم. الحب أصبح عندهن مرض الأمراض؛ أحلامهن، أغنياتهن، زينتهن، أحاديثهن كلها تدور حول المحبوب.»١٥٩ وتجرَّأت سوسن (حكاية سي توفيق) — ذات يوم — فطلبت من سي توفيق — الموظف في متجر أبيها — أن يطلبها منه.١٦٠ وترفض ليلى — في مسرحية الحكيم المرأة الجديدة — الموافقة على فكرة أبيها بالزواج، فيقول لها: ما شفناش بنات بالشكل ده أبدًا، طول عمرنا نعرف إن البنت تفرح للسيرة دي! تقول ليلى: دي بنت زمان المتأخرة الجاهلة! مسكينة ما كانتش تفهم من الراجل إلا أنه زوج وبس، ما كانتش تفهم أي رابطة بين الراجل والمرأة غير رابطة واحدة، هي الزواج.١٦١ ويسألها أبوها: طيب وبنت اليوم الناهضة المتعلمة؟ تجيب: بنت اليوم الناهضة المتعلمة تفهم إن علاقتها بالرجل مش بس الزواج! وتحدد الروابط الأخرى التي يمكن أن تجمعها بالشاب بالصداقة والعمل، وتؤكد أن «المرأة المصرية الناهضة يجب أن تنظر للرجل مش بس إنه زوج، بل إنه صديق وصاحب وزميل.» (لاحظ أنها تكلم أباها!)١٦٢ وفي الثلاثينيات، كلمت البنت (ليست هي) فتاها في ضرورة أن يرسل والديه لخطبتها، قال: ولم هذا التسرع؟ أجابت في دهشة: حتى يتم قراننا قبل أن يتمكن غيرك من موافقة والدي على زواجي به. قال: وما أهمية والدك ما دامت الكلمة لي ولك؟ ما عليك إلا أن ترفضي كل زواج بغيري إلى أن يحين الوقت الملائم لزواجنا.١٦٣ وتقول الأم للطبيب الذي تقدَّم لخطبة ابنتها «تعلم أن للفتيات اليوم رأيهن.»١٦٤ وتجيب الفتاة (تلك الأيام) عن السؤال: ماذا كان رأي الأسرة في الرجل الذي تقدم لخطبتها؟ تقول: كانوا موافقين لأني كنت موافقة.١٦٥ وحين بدأ أهل منار (الحب في المنفى) في الإلحاح عليها أن تتزوج، اعترضت على الوسيلة «يعرضونها على الخطَّاب كما لو كانت سلعة. لن تتزوج هي أبدًا بهذه الطريقة، ستختار بنفسها، لماذا يكون الاختيار من حق الرجل وحده؟!»١٦٦ إن صيغة عقد القران بين الرجل والمرأة لا تنطوي على الإذعان من جانب الزوجة للزوج فحسب، وإنما من جانب أسرة الزوجة جميعًا للزوج. إذا كانت الفتاة وكيلة نفسها تقول: زوَّجتك نفسي، ويقول الشاب — العريس! — وأنا قبلت! فإذا كان والد الفتاة، أو عمها، أو خالها، أو شقيقها، هو الوكيل، فإنه يقول: أزوِّجك ابنتي، أو غيرها من صفات القرابة، فيقول العريس: وأنا قبلت! وأذكر — هنا — قول مصطفى الخشاب: إن «ما يدفعه الزوج في مقابل أن يحظى بزوجته ينطيى على فكرة قريبة جدًّا من مفهوم الشراء.»١٦٧ وبعد أن كان الزواج في القديم يخص الأسرة وحدها — الأب تحديدًا — فإنه في أيام أحمد شوكت (السكرية) صار كالطعام سواء بسواء، المشورة جائزة في كل شيء إلا فيه!١٦٨ ولأن الزوج (الرباط المقدس) قد انشغل في الخارج بوظيفته، وفي داخل البيت بقراءاته التي لا تنتهي، فقد أعلن أن «المرأة يجب أن تُفهِم الرجل أنها مساوية له، وأن الأمر بإرادتها هي أيضًا.» وحين اشتركت الفتيات في مظاهرات ١٩٤٧م التي استقبلت رئيس الوزراء محمود فهمي النقراشي، عند عودته من نيويورك، أمسك بعضهم بالميكروفون، وقال: لعن الله شعبًا تقوده امرأة! فقالت الهتافات: النساء من الشعب، لعن الله من يفرِّق الشعب!١٦٩ وامتد التغير في العلاقة الزوجية إلى أفقٍ سلبي كما في قصة الورقة بعشرة ليوسف إدريس. لم يعد «هو» الرجل الذي يتسيَّد ويأمر، ولم تعُد «هي» المرأة التي تخضع وتستجيب. الزوج يشعر أن زوجته لم تعُد امرأة يشتهيها، ولا صديقة يأنس إليها، كل ما يربط بينهما حرب مستعرة، متجددة، حتى إنه يفكر — كل يوم، عشرات المرات — في طلاقها أو الانتحار (لاحظ الاختلاف حتى في نوعية التفكير!)، لكنه لا ينفذ حرفًا واحدًا من القرارات الحازمة، الباترة، التي اتخذها، وربما فكر في خيانتها، لكنه لا يخونها، حتى الأولاد يكرههم من أجلها، ويكرهها أكثر من أجلهم، لكنه يظل على شعوره القوي بالانتماء!١٧٠ وتقول الزوجة (الرباط المقدس) «إن السعادة الزوجية لا يمكن أن تتوافر لامرأة في عصرنا الحديث، إلا مع زوج باهت الشخصية، قليل الذكاء.»١٧١ وتطرح الزوجة (كفارة الحب) على نفسها السؤال: «ماذا على زوجي إذا أحبَّ قلبي رجلًا غيره ما دام جسمي في ملكه، وما دمت أسايره في الحياة جنبًا إلى جنب، وإن تنافر قلبي وقلبه، وبعد ما بين فؤادي وفؤاده.»١٧٢
وقد عانت ثريا رأفت (المرايا) من المأساة التي يمكن أن تمرَّ بها فتاة تقبل الوظيفة في عام ١٩٣٥م، فضلًا عن المأساة الأفدح، وهي غياب ذلك الشيء الذي لم يكن المجتمع يسمح بمجرد مناقشة غيابه في أية فتاة. وقد وافق الراوي على أن تكون زوجته موظفة، ولم يكن القرار سهلًا، لكنه لم يستطع أن يتصور أنه يقترن بفتاة ينقصها ذلك الشيء الذي يستحيل إهماله. مع ذلك، فقد استطاعت ثريا أن تجد خطيبًا آخر يجعل من الماضي حقًّا لفتاته، على أن يكون المستقبل ملكهما معًا، وكان ذلك الزوج عالمًا شابًّا، حقق مع فتاته حياة طيبة، فأصبح من كبار العلماء المصريين، وأصبحت ثريا من وجوه النهضة النسائية.١٧٣

•••

كان لدخول بعض الطالبات الحرم الجامعي وهن يرتدين البنطلون، رد فعل عنيف، بلغ حدَّ التظاهر ضد الطالبات اللائي خرجن على التقاليد بدعوى الحرية. يقول إحسان (الكهف) لأشجان في غضب: «حرية … حرية … حرية … هل تحطيم تقاليد الجامعة حرية؟ هل ارتداء البنطلون الضيق داخل الحرم الجامعي حرية؟ هل تدخين السجائر في أروقة الكلية حرية؟١٧٤ وإذا كان تدخين السجائر لم يصبح حقًّا، حتى لبعض الطلبة ذوي النشأة الريفية، ولم يصبح حقًّا لكل الطلبة أمام أساتذتهم في الحرم الجامعي، فإن توالي السنين جعل من البنطلون زيًّا أكثر احتشامًا من بعض الثياب الحديثة التي تكشف عن معظم أجزاء الجسد، إلى حد أن بعض الدعوات التي تنطلق من مفهومات إسلامية، قد اختارت البنطلون زيًّا للمرأة.١٧٥ ولعل أشجان كانت تستشرف المستقبل، عندما قالت للمسئول الجامعي في ثورة، إن ارتداء البنطلون والتدخين سيصبحان أمورًا عادية، مثلما أصبح اختفاء الحجاب شيئًا مقبولًا يقرُّه المجتمع. إن هذا الذي يحدث الآن، ما هو إلا نتيجة لأنانية الرجل الذي يحتفظ لنفسه بكل شيء، ويعطي للمرأة بقدرٍ.١٧٦ وكما قلت، فإن التدخين لم يصبح أمرًا عاديًّا، وأغلب الظن أنه لن يصبح كذلك في مدى أعوام طويلة، قادمة، لكن البنطلون صار هو الزي المطلوب من أشد الناس إقبالًا على المحافظة، لأنه أميل الموضات بالفعل للاحتشام!

والحق أن الخطوات التي قطعتها المرأة في طريق الحصول على حقوقها، لم تكن جميعها بالإيقاع نفسه. ثمة خطوات سريعة، وأخرى بطيئة، وخطوات محلك سر، وربما عادت بعض الخطوات إلى الوراء، لكن المحصلة — في النظرة البانورامية — كانت أميل إلى الإيجابية. ثمة ما ينتسب إلى التقدم بصورة حقيقية، وليس ثمة انتكاسة بصورة حقيقية، إنما هي خطوة أو اثنتان إلى الوراء، تتبعها خطوات إلى الأمام؛ هذه سنة التقدم في التاريخ البشري.

وعلى الرغم من كل النجاحات التي حققتها المرأة، منذ الطهطاوي، فقاسم أمين، إلى لطفي السيد وزينب فواز وملك حفني ناصف وهدى شعراوي وغيرهم، فلا شك أن النظرة إلى المرأة — وهي نظرة المرأة إلى نفسها في الوقت نفسه — ظلت على أنها عالم مستقل، أو جزيرة في محيط — على حد تعبير أستاذتنا سهير القلماوي — فلا تعلو مشكلاتها الخاصة إلى الأفق الاجتماعي العام، تذوب في مشكلات المجموع. بل إن المرأة في مجتمعنا لا تزال في مرحلة إثبات الوجود. الذكورة — في الموروث الثقافي العربي — هي القوة، والسطوة، والسيادة، والسيطرة، بينما الأنوثة — في المقابل — هي الضعف، والخضوع، والطاعة، والاستسلام لسيطرة الرجل. وكما تقول سامية الساعاتي، فإن المرأة تعمل من أجل الرجل، وتملك من أجل الرجل، وتخدم من أجل الرجل، وتفضِّل أن يكون لها رجال بارزون، أي إنها تدور دائمًا في فلك الرجل.١٧٧
كان إيمان معظم الرجال الإغريق أن الجمال بلا ذكاء هو أعيب من الذكاء بلا جمال، وظني أن تلك كانت — وأخشى أنها لا تزال قائمة على نحو ما — نظرة الكثير من المثقفين إلى المرأة. وتقول الحكمة الكونفوشيوسية: «إن المرأة الجاهلة فاضلة.» وهو ما عبَّر عنه قارئ لجريدة «الأهرام» في عام ١٩٣٠م، حين أكد أنه في حالة رغبته في الزواج، فهو يميل للزواج بامرأة غير متعلمة، لأننا لو عدَّدنا محاسنها لوجدناها أكثر من محاسن المرأة المتعلمة، لأن المتعلمة تفتحت، وعرفت من أسباب المدنية أمورَ اللهو كدور السينما والمسارح والمراقص، والأشياء التي يرجع أكبر السبب إليها في هدم الحياة الزوجية. وكثيرًا ما يكون التعليم — خصوصًا في البيئة المصرية التي ما زالت في دور التكوين — سببًا في ضياع أخلاق المرأة! أما المرأة الجاهلة، فهي ذات أخلاقٍ لم تمسها بعدُ أمور المدنية الحديثة، ولا تعرف من أمور الدنيا شيئًا سوى التفكير في هناء زوجها وأطفالها. تقول الأم (أنا أحيا) لابنتها: «أنت مثلي، مهمتك الوحيدة أن تضاجعي الرجل، وأن تهدهدي سرير طفل.»١٧٨

وكانت المجتمعات العربية ترى — في أزمنة مضت — أن القراءة والكتابة هما من شئون الرجال.

هوامش

(١) الحركة النسائية والتطور في الشرق الأوسط، ١٧٦.
(٢) نذير أحمد الدهلوي، التوبة، ت. سمير عبد الحميد إبراهيم، المجلس الأعلى للثقافة، ٦١.
(٣) سهير القلماوي، مقدمة كتاب «آثار باحثة البادية»، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والترجمة والنشر.
(٤) رفاعة رافع الطهطاوي، المرشد الأمين للبنات والبنين، ١٨٦.
(٥) فاروق أبو زيد، الديمقراطية في الصحافة المصرية، ١٦٢.
(٦) فاروق أبو زيد، الصحافة وقضايا الفكر الحر في مصر، ٢٦٩–٢٧٢.
(٧) زينب فواز، الدر المنثور، ٥٩.
(٨) تاريخي بقلمي، ٨٠.
(٩) مختار التهامي، الصحافة والفكر والثورة، ثلاث معارك فكرية، ٢٤-٢٥.
(١٠) يحيى حقي، فجر القصة المصرية، ٣٤.
(١١) السبب اليقين المانع لاتحاد المسلمين، لمؤلفه المخلص للمجتمع الإنساني محمد كاظم ميلاني، الحاج إبراهيم ميلاني، المطبعة التجارية بالإسكندرية، ١٣٢٠ﻫ، ١٩٠٢م.
(١٢) المصدر السابق.
(١٣) آثار الزعيم سعد زغلول، ٧٣.
(١٤) ذكرى سعد، ٤٢.
(١٥) منيرة ثابت، ثورة في البرج العاجي، ١٩.
(١٦) السياسة الأسبوعية، ١٩ / ٣ / ١٩٢٧م.
(١٧) إبراهيم عبد القادر المازني، من النافذة، الطبعة الثالثة، ٨١.
(١٨) إبراهيم عبد القادر المازني، إبراهيم الكاتب، ١١٦.
(١٩) من النافذة، ٨٢.
(٢٠) القاهرة، ٢٢ / ٦ / ٢٠٠٤م.
(٢١) جيرار دي نرفال، رحلة إلى الشرق، ت. كوثر عبد السلام البحيري، دار الكاتب العربي للطباعة والنشر، ٣ / ٢٣٣.
(٢٢) الأهرام، ٥ / ١٢ / ١٩٣٣م.
(٢٣) تاريخي بقلمي، ٧٨.
(٢٤) سلامة موسى، فتحية فوق السحاب، القصة، ٥ / ٥ / ١٩٥٠م.
(٢٥) نجيب محفوظ، صباح الورد، مكتبة مصر.
(٢٦) نجيب محفوظ، بيت سيئ السمعة، مكتبة مصر.
(٢٧) إنجي أفلاطون، نحن النساء المصريات، ١٠٦-١٠٧.
(٢٨) عبد الحميد جودة السحار، في قافلة الزمان، مكتبة مصر، ٢٠١.
(٢٩) إحسان عبد القدوس، أنا لا أكذب، ولكني أتجمَّل، الهزيمة كان اسمها فاطمة، مكتبة مصر.
(٣٠) من النافذة، ٨١.
(٣١) محمود طاهر لاشين، حواء بلا آدم، ١٠٠.
(٣٢) المصدر السابق.
(٣٣) أحمد حسين، أزهار، ٤٢٣.
(٣٤) من النافذة، ٨.
(٣٥) الأهرام، ٢٥ / ١٢ / ٢٠٠٣م.
(٣٦) توفيق الحكيم، تحت المصباح الأخضر، ٧٣.
(٣٧) سيد حامد النساج، تطور القصة القصيرة في مصر، ١٣١.
(٣٨) مقدمة مجموعة «ثريا».
(٣٩) عيسى عبيد، ثريا، مكتبة الوفد.
(٤٠) المصدر السابق.
(٤١) المصدر السابق.
(٤٢) نجيب محفوظ، أم أحمد، صباح الورد، مكتبة مصر.
(٤٣) المصدر السابق.
(٤٤) قصر الشوق، ٢٣٤.
(٤٥) إبراهيم عبد القادر المازني، قصة حياة، ١٠٢.
(٤٦) قصر الشوق، ١٨٤.
(٤٧) صباح الورد.
(٤٨) من آثار مصطفى عبد الرازق، ١٩٧-١٩٨.
(٤٩) المصدر السابق، ١٩٧-١٩٨.
(٥٠) السراب، ١٨٨.
(٥١) إبراهيم المصري، الباب الذهبي، نفوس عارية، كتاب اليوم.
(٥٢) من النافذة، ٨٣.
(٥٣) حمار الحكيم،٩٠.
(٥٤) من النافذة، ٨٣.
(٥٥) السكرية، ٥٤.
(٥٦) توفيق الحكيم، الرباط المقدس، مكتبة مصر، ١٦١.
(٥٧) توفيق الحكيم، المسرح المنوع، مكتبة دار الآداب، ٥٨٠-٥٨١.
(٥٨) حمار الحكيم، ٩٩.
(٥٩) في الطريق، ١٩٥.
(٦٠) زهور ونيس، نهايات متشابهة، مختارات من القصة النسائية العربية، هيئة الكتاب.
(٦١) محمود إسماعيل مكي، العاطفة، المجلة الجديدة، يوليو ١٩٣١م.
(٦٢) ثروت أباظة، أمواج ولا شاطئ، الأعمال الكاملة، هيئة الكتاب.
(٦٣) طه حسين، صفاء، الكاتب المصري، فبراير ١٩٤٨م.
(٦٤) عبد الحميد جودة السحار، الشارع الجديد، مكتبة مصر، ٤٤٣.
(٦٥) جريدة «البلاغ» اليومية، ١٥ / ٤ / ١٩٣٠م.
(٦٦) إحسان عبد القدوس، أنا حرة، مكتبة مصر، ٢٢.
(٦٧) المرأة بين الماضي والحاضر، ٣.
(٦٨) أزهار، ١٨.
(٦٩) محمود عوض، أفكار ضد الرصاص، ١٧٣.
(٧٠) سامية الساعاتي، علم اجتماع المرأة، مكتبة الأسرة، ١٧٨.
(٧١) النساء في الفكر السياسي الغربي، ٢٣٩.
(٧٢) القاهرة الجديدة، ١٩.
(٧٣) المرايا، ٨٨.
(٧٤) السكرية، ٢١١.
(٧٥) المصدر السابق، ٢١٢.
(٧٦) المصدر السابق، ١٠.
(٧٧) المصدر السابق، ١٠.
(٧٨) المصدر السابق، ١٩٧.
(٧٩) تاريخي بقلمي، ٣٣.
(٨٠) عوض توفيق عوض: من رائدات القرن العشرين، تحرير: هدى الصدة، ٢٠٦.
(٨١) أنا حرة، ١٠٢.
(٨٢) خالد محمد خالد، من هنا نبدأ، ١٨٩.
(٨٣) الحركة النسائية في مصر، ١٢٨.
(٨٤) أزهار، ٦٩.
(٨٥) القاهرة الجديدة، ٥.
(٨٦) مذكرات منسية، ٣٧.
(٨٧) المصدر السابق، ٣٧-٣٨.
(٨٨) أزهار، ١١٦.
(٨٩) المرايا، ١٦٠.
(٩٠) مذكرات منسية، ٣٦.
(٩١) الهلال، ديسمبر ١٩٤٨م.
(٩٢) نحن النساء المصريات، ٣٨.
(٩٣) سيد قطب، خريف وربيع، الأطياف الأربعة، مكتبة مصر.
(٩٤) مذكرات منسية، ٣٣-٣٤.
(٩٥) المرايا، ١٦٢.
(٩٦) الطليعة، نوفمبر ١٩٦٥م.
(٩٧) إحسان عبد القدوس، أين صديقتي اليهودية؟ الهزيمة كان اسمها فاطمة، مكتبة مصر.
(٩٨) محمد حسين هيكل، كفارة الحب، قصص مصرية، مكتبة النهضة المصرية.
(٩٩) مجيد طوبيا، شئون عائلية، الحادثة التي جرت، دار الشروق.
(١٠٠) الأهرام، ٢٥ / ١٢ / ٢٠٠٣م.
(١٠١) مذكرات منسية، ٣٤.
(١٠٢) في قافلة الزمان، ٣٣٥.
(١٠٣) بداية ونهاية، ٢٦٣.
(١٠٤) محمود إسماعيل المكي، العاطفة، المجلة الجديدة، يوليو ١٩٣١م.
(١٠٥) مذكرات عربجي.
(١٠٦) المصدر السابق، ١٦.
(١٠٧) أنا حرة، ١٧.
(١٠٨) محمد المندي محمد، فتاة صامتة، الرسالة، العدد ٢٢.
(١٠٩) قصر على النيل، ٢٧.
(١١٠) المصدر السابق، ١١٨.
(١١١) حواء بلا آدم، ٩٩.
(١١٢) مجموعة مقالات فكري أباظة، ١ / ٧٠.
(١١٣) المرجع السابق، ١ / ١٣٩.
(١١٤) منيرة ثابت، ثورة في البرج العاجي، ١٧٤–١٧٧.
(١١٥) سعد مكاوي، توبة نوال، في قهوة المجاذيب، الكتاب الذهبي.
(١١٦) النساء والنوع في الشرق الأوسط الحديث، ١١.
(١١٧) محمد شعلان، ماذا بعد تحرير المرأة من الرجل؟ الطليعة، أبريل ١٩٧٦م.
(١١٨) تاريخ الحركة النقابية المصرية، ١٨٧.
(١١٩) محمود كامل، يوميات محام مصري، ٨١.
(١٢٠) نحن النساء المصريات.
(١٢١) علم اجتماع المرأة، ٣٤.
(١٢٢) كفارة الحب.
(١٢٣) الحصاد، ٢٢.
(١٢٤) نحن لا نزرع الشوك، ١٩٨.
(١٢٥) رائحة الورد وأنوف لا تشم، مكتبة مصر، ٧.
(١٢٦) صبري موسى، مشروع قتل جارة، روز اليوسف.
(١٢٧) مذكرات منسية، ٣٣-٣٤.
(١٢٨) السكرية، ١٥٩.
(١٢٩) السراب، ١٨٧.
(١٣٠) توبة نوال.
(١٣١) المرايا، ٢٦٩.
(١٣٢) حكايات حارتنا، ٢٢.
(١٣٣) كفارة الحب.
(١٣٤) إحسان عبد القدوس، لن أقرأ الصحف، شفتاه، الناشرون العرب.
(١٣٥) المرايا،٦١.
(١٣٦) علم اجتماع المرأة، ٣٧.
(١٣٧) طه وادي، الموت والصدى، دائرة اللهب، مكتبة نهضة مصر.
(١٣٨) عبد الرحمن منيف، شرق المتوسط، هيئة قصور الثقافة،١٨٠.
(١٣٩) أحمد خيري سعيد، نعيمة وعصمت، مجلة الفكاهة، ٩ / ١ / ١٩٣٤م.
(١٤٠) علوية صبح، مريم الحكايا، دار الآداب ببيروت، ٢٨٦.
(١٤١) يوسف السباعي، إني راحلة، مكتبة مصر.
(١٤٢) يوسف السباعي، بين الأطلال، مكتبة مصر.
(١٤٣) محمد عبد الرحيم حسين، حواء الجديدة، مكتبة الآداب، ٣٣.
(١٤٤) يوسف إدريس، الحرام، روايات الهلال، ٦٧.
(١٤٥) مواقف في حياتي، ٣٢.
(١٤٦) محمود البدوي، بعد العرس، فندق الدانوب، مكتبة مصر.
(١٤٧) مريم الحكايا، ٢٨٩.
(١٤٨) محمود تيمور، ضرب الحبيب، عطر ودخان.
(١٤٩) الأهرام، ٧ / ٢ / ١٩٩٧م.
(١٥٠) مريم الحكايا، ١٥٤.
(١٥١) عبد الله خمار، جرس الدخول إلى الحصة، الجزائر، ٣٩.
(١٥٢) نوال السعداوي، المرأة والجنس، ١٢٥.
(١٥٣) الأهرام، ١٧ / ١ / ١٩٩٩م.
(١٥٤) أخبار اليوم، ٢٥ / ١ / ١٩٩٩م.
(١٥٥) إبراهيم عبد الحليم، رسالة العام الجديد، مطبوعات الغد، ٤٠.
(١٥٦) قصر على النيل، ٢٢-٢٣.
(١٥٧) الشوارع الخلفية، ٢٨٢.
(١٥٨) ألفريد فرج، خطاب غرام، قصص قصيرة.
(١٥٩) نجيب الكيلاني، في الظلام، الشركة العربية للطباعة والنشر، ٢٦.
(١٦٠) حسين مؤنس، حكاية سي توفيق، إدارة عموم الزير.
(١٦١) المسرح المنوع، ٥٦٥-٥٦٦.
(١٦٢) المصدر السابق، ٥٦٥.
(١٦٣) عبد الكريم السكري، ليست هي، مطبعة ملجأ أمير الصعيد ببني سويف، ٨٤.
(١٦٤) محمد حسين هيكل، لله في خلقه شئون، قصص مصرية، مكتبة النهضة المصرية.
(١٦٥) فتحي غانم، تلك الأيام، ٤٧.
(١٦٦) بهاء طاهر، الحب في المنفى، روايات الهلال، ٩.
(١٦٧) مصطفى الخشاب، دراسات في علم الاجتماع العائلي، الطبعة الثانية، ٧٠.
(١٦٨) السكرية، ٣١٩.
(١٦٩) الرباط المقدس.
(١٧٠) يوسف إدريس، الورقة بعشرة، لغة الآي آي، الكتاب الذهبي.
(١٧١) الرباط المقدس، ٢٠٤.
(١٧٢) كفارة الحب.
(١٧٣) المرايا، ٦٠ وما بعدها.
(١٧٤) محمد جلال، الكهف، ٣.
(١٧٥) في سبتمبر ١٩٧٣م صدر قرار وزاري بتوحيد زي طالبات المدارس الثانوية ليتألف من بلوزة وبنطلون.
(١٧٦) الكهف، ٥.
(١٧٧) علم اجتماع المرأة، ٤٨.
(١٧٨) ليلى بعلبكي، أنا أحيا، المكتبة العصرية، ٣٩.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤