الفصل الثالث

التفريع أو التفرُّع

(١) تعليل التفرع

إذا حفظت في بالك أحوال الدوران الست أو قوانينه التي شرحناها آنفًا، ولا سيما قانون ازدياد السرعة بازدياد التقلص، واشتداد الازدحام في المناطق القربى إلى المركز، وقلة الكثافة في المناطق القصوى، وتفاوت السرعة بسبب قانون المسارعة؛ سَهُل عليك أن تتصوَّر وتفهم كيف تتولد السُّدَيمات من السُّدُم والنجوم من السُّدَيمات والسدم أيضًا، وكيف تتحوَّل السُّديمات إلى كوكبات عُنقودية … إلخ.

ولإيضَاح هذا تصوَّر سديمًا عظيمًا — كما كانت المجرَّة — على أثر انفصاله عن السدم الأخرى المجاورة له — المجرات — تصوَّرْهُ يدور على نفسه دورة محورية بطيئة بالنسبة إلى عظمته — قد تستغرق مئات الملايين من السنين — بسبب قلة كثافته؛ أي بسبب لطافته المتناهية تحت تأثير قوَّة الجاذبية المتبادلة بين أجزائه؛ فترى بحسب ما علمته من نواميس الحركة:
  • أولًا: أنَّ قوَّة الشرود عن المركز Centrifugal force تجعل مِحوره يقصر رُويدًا عن قطره الاستوائي، فيتحوَّل تدريجًا من شكل كروي إلى شكل قُرصي سميك جدًّا في أوائل عهد هذا التحول.
  • ثانيًا: أن قوة الجذب إلى المركز Centripetal من جهة والإشعاع١ من جهة أخرى يجعلانه يتقلص رويدًا، ويكون أشد التقلص أقرب إلى المركز تحت تأثير هذين العاملين.
  • ثالثًا: أن هذا التقلص — أي: صغر الحجم — مع بقاء «القوة الدورانية» على حالها؛ أي من غير نقص فيها؛ يجعلان الدورة المحورية أسرع في منطقة التقلص الأشد.
ينجم عن ذلك أن هذا السديم لا يبقى دائرًا على محوره كتلة واحدة، بل تختلف سرعة الدوران باختلاف إبعاد الطبقات عن المحور، أسرعها أقربها إليه، وفي خلال هذا التطور يحدث أمر آخر وهو تهابط الطبقات القُربى إلى المركز دون الطبقات القصوى؛ لأنَّ الطبقات القربى تكُون تحت تأثير الجاذبية المركزية الأشد، والطبقات القصوى تكون من جهة تحت تأثيرها الأضعف، ومن جهة أخرى تحت تأثير جاذبية السدم الأخرى المجاورة مهما كانت بعيدة، إذ يفعل فيها كفعل المد Tide «كما يفعل القمر في الأرض» فتحفظها بعيدة عن المركز الأصلي فيما تكون الطبقات القربى هابطة إليه؛ فيتسع المجال بين القسم المُتقلص والقسم المُتخلف، ويشرع هذا يملك استقلاله عن ذاك رويدًا.
ينتج عن هذا أيضًا أن الطبقات القصوى تُصبح حلقات حول السديم كحلقات زُحل، ويكون تأثير التَّجاذب بين أجزاء هذه الحلقات أقوى من الجذب المركزي الداخلي والجذب الخارجي من ناحية السدم المُجاورة، وتحت تأثير تجاذبها الذاتي تتقطع إلى كتل تتجاذب أجزاء كل منها إلى مركز فيها، وهذه بنوبتها تتقلص بأسرع من تقلص الأم لصغرها:
  • أولًا: لأنَّ إشعاعها أيسر فأسرع.
  • وثانيًا: لأنَّ قوتها الدورانية أضعف.

كل كتلة من هذه الكتل تستقل بدوران محوري خاص بها يجعلها في بدء حياتها كروية الشكل، وفي الوقت نفسه تَستمر في دورانها المركزي حول الأُم بأبطأ جدًّا من الطبقات الهابطة نحو المركز.

هذا التطور الذي حدث للطبقة القُصوى من السديم يتوالى على كل طبقة دونها على هذا النحو تمامًا، وبنفس العوامل التي ذكرناها؛ فكل طبقة تتخلف بنوبتها عن الطبقة التي دونها، حتى متى قلَّ فعل الجذب المركزي الأصلي فيها عن فعل تَجاذب أجزائها تقطعت إلى كتل، وكل كتلة تستقل بدوران مِحوري خاص تحت تأثير تجاذبها المركزي الخاص بشكل كُروي، ولكنها تستمر بدورانها حول الأم على نحو ما فعلته سالفاتها التي بعدها.

على هذا المنوال يتقطع السديم إلى سُدَيمات وكل سُديمة قائمة بنفسها ذات دوران محوري خاص بها، وذات دوران مركزي حول مركز الأم بالاشتراك مع أخواتها، كأنها سيارات حول بقية السديم الأصلي، في حين يتقطع معظم السديم على هذا النحو إلى أن يتبقى منه الشيء القليل حول المركز، فيصبح هذا الشيء القليل تحت تأثير جذب السديمات التي تولدت منه أشد من تأثير جاذبيته الذاتية، فتتنازعه هذه السديمات وتمزقه إلى كتل أخرى مثلها.

في أثناء هذا التطور المتوالي الذي يستغرق ملايين السنين تكون السديمات بنوبتها متقلصة تدريجًا تحت فعل العوامل نفسها التي كانت تقلص السديم الأصلي؛ فتتسع الرحاب التي بينها، وبالتالي يضعف تجاذبها نحو مركز السديم الأصلي، وتتغلب قوة الشرود عن المركز، ويستمر تباعدها بعضها عن بعض، كأنها تعود تتوزع على الحيز الذي كانت تملأه حين كانت سديمًا واحدًا لطيفًا عظيمًا، ولكنها تتوزع فيه كرات متقلصة تاركة بينها رحابًا فسيحة.

لما كانت سديمًا واحدًا لطيفًا كانت ككتلة واحدة تدور على محور واحد، فلما تقطع السديم إليها أصبحت كل واحدة منها تدور على محورها الخاص، وفي الوقت نفسه تدور دورانًا مركزيًّا٢ حول نقطة مُتوسطة بينها بحُكم تجاذبها بعضها إلى بعض، وقد تكون هذه النقطة خالية لا سديمة فيها ولا جرم، وبحسب سنة المُسارعة الجاذبية تكون أقربها إلى المنطقة المركزية أسرع سيرًا حول هذه المنطقة، وأبعدها أبطأها، كما هي الحال في المجرة وكل نظام دوراني، كالنظام الشمسي والنظام العنقودي الذي سيرد وصفه.

•••

بقيت مسألة ذات شأن لا يجوز إغفالها؛ وهي: أنَّ دوران السُّدَيمات المركزي حول مركز السديم الأصلي الذي تقسم إليها يقضي بتغلب قوة الشرود عن المركز على قوة الانجذاب إليه، ويفضي إلى تحول مجموعة السديمات من شكلها الكروي الأصلي إلى شكل قرصي بحيث يصبح قطرها المحوري الأصلي أقصر جدًّا من قطرها القرصي.

إذا كنت قد تصوَّرت بجلاء تطوُّر السديم الكبير وتحوُّله إلى سُدَيمات كما وصفنا؛ تكون قد رسمت في ذهنك شكل مجرَّتنا٣ كما هي الآن، أو بالأحرى منذ صارت سُدَيمات حبلى بنجوم وشموس. كانت مجرتنا هذه سديمًا عظيمًا كرويَّ الشكل، ثم صارت مجموعة سُدَيمات تشغل حيزًا قرصيًّا محوره نحو خمسي قطرهِ، وهي تدور حول مركز المجرَّة بسرعات متفاوتة حسب البُعد عن المركز، وفي الوقت نفسه كل منها تدور على محورها.

وإذا علمت أن الكون الأعظم كان أوقيانوسًا من ذرَّات المادة أدركت كيف أنه تقطع على نحو ما تقدم وصفه وبنفس العوامل إلى ملايين السدم، كل سديم منها يُعدُّ مجرَّة كمجرتنا، وجميعها تدور في هذا الأوقيانوس حول مركزه الأوحد بسرعات مُتفاوتة بمقتضى ناموس الجاذبية، وبالوقت نفسه كل سديم منها يدور على نفسه دورة محورية خاصَّة بهِ.

(٢) درجات الدورية

إلى هنا رأيت ثلاثًا من درجات الدورية المركبة من صنفي الدورانين الأصليين البسيطين المحوري والمركزي:
  • (١)

    الكون الأعظم — الجامع جميع المجرات — يدور على نفسه دورة مركزية.

  • (٢)

    سُدُم تدور متساوقة متسابقة حول مركز الكون الأعظم، وبالوقت نفسه كل سديم منها يدور حول نفسه؛ فلكل سديم دورتان: محورية ومركزية.

  • (٣)

    سُدَيمات تدور متساوقة متسابقة حول مركز السديم الأصلي الأعظم، وبالوقت نفسه كل سُدَيمة تدور على محورها، وبالوقت نفسه أيضًا السديم الأكبر — مجموع السديمات — يدور بها جميعًا حول مركز الكون الأعظم؛ إذن لكل سديمة ثلاث دورانات: دورة محورية ذاتية، ودورة سديمية عامَّة، ودورة كونية أعم.

نترك الآنَ الدرجتين العُظَميين الأوليين ونعود إلى الدرجة الثلاثية — إلى السُّدَيمة. فإذا تصورناها تتطوَّر كما يتطوَّر أبوها السديم الأصلي تحت تأثير العوامل نفسها، وفي مثل تلك الظروف والأحوال؛ فَهَمْنَا جيدًا كيف تقطعت إلى مجموعات نجوم وإلى نجوم منفردة مستقلة.

يغلب أن تكون قوة الشرود عن المركز أفعل العوامل في تقطيع السديمة إلى نجوم؛ لأنَّ هذه القوة تُسرع بتحويل شكلها الكُروي إلى شكل قرصي، قبل أن تتمالك قوة الجذب إلى المركز بتقليصها؛ أي: إن التحول القرصي يكون أسرع من التقلُّص، ولذلك تتناثر كتلها من مُحيطها تناثرًا، وكل كتلة منتثرة تتحول إلى نجم يدور على محوره فيما هو لا يزال يدور حول مركز السُّدَيمة.

في مجرتنا كثيرٌ من المجموعات النجمية التي تُسمى عناقيد كروية Globular Cluster هذه المجموعات العنقودية كانت في الأصل سُدَيمات ثم تحولت إلى نجوم، على أنَّ العنقود النجمي لا يزال يدور على نفسه؛ أي: إنَّ نجومه تدور متساوقة حول مركزه كما كانت السُّدَيمة التي انحلَّت إليه تفعل قبل أن تنحل، وفي الوقت نفسه كان كل نجم منها يدور على محوره ولم يَبْقَ من سُدَيمات مجرتنا بلا انحلال إلَّا نحو ٢٠ سديمة لا تزال في دور التفكك. ويندر أن تجد في المجرة نجمًا مُستقلًّا بدورته، وسيره غير مشترك بعنقود من العناقيد أو كوكبة من الكوكبات، وهذه العناقيد أو الكوكبات تختلف باختلاف أحجام السُّدَيمات التي اشتُقَّت منها، وقد يبلغ عدد النجيمات في العنقود الواحد أكثر من ١٥٠ ألف نجم.

ترى مما تقدَّم أنَّ النجم في الدرجة الرابعة من الاشتقاق؛ أي: هو ابن سُدَيمة وحفيد سديم، والسُّديم هو ابن الكون الأعظم؛ لذلك للنجم أربع حركات؛ أولًا: دورته المحورية. ثانيًا: دورته مع إخوته حول مركز العنقود أو الكوكبة. ثالثًا: سيره مع العنقود في دوران هذا حول مركز المجرَّة. ثم رابعًا: سيره مع المجرة في دورانها حول مركز الكون الأعظم.

وقد يتاح للنجم في ظروف لا محل لشرحها هنا أن ينقسم إلى نجمين متساويين أو متفاوتين حجمًا وكتلةً، وحينئذٍ يُسمى النجم المزدوج Binary Star، وكلٌّ من هاتين الفلقتين يدور حول مركز الثقل — التجاذب — الذي بينهما. والأرجح أن القمر مشتق من الأرض يوم كانت في حالة السيولة على نحو انشقاق النجم المزدوج؛ لأن القمر لا يدور على نفسه بالنسبة إلى الأرض، بل وجه واحد منه مواجه الأرض دائمًا، وكذلك لأن حجمه بالنسبة إلى الأرض كبير إذا قورن بأحجام أقمار السيارات الأخرى بالنسبة إلى أمهاتها، وإذا تباعد شطر النجم المزدوج كثيرًا يُصبح كل شطر منهما يدور على نفسه، وإذا كان أحدهما أصغر جدًّا منَ الآخر جعل يدور كسيار أو قمر حول الآخر. يظن أنَّ نحو ثلث النجوم مزدوجة؛ بناءً على ما تقدم تُعْتَبَر الأرض مع قمرها نجمًا واحدًا مزدوجًا.

وقد يطرأ على النجم وهو في حالته الغازية ما يسلخ منه نطفات تظل تدور حوله، وثمَّ تدور على نفسها أيضًا، فتكون سيارات حوله كالنظام الشمسي، وهذا نادر جدًّا في رأي السير «تجايمس تجنز»، فالسيارات هي الجيل الخامس في التوالد من الكون الأعظم؛ ولذلك يكون للسيار خمسة أصناف دوران: (١) حول محوره. (٢) حول شمسه. (٣) هو مع شمسه حول المركز العنقودي. (٤) هو مع شمسه وعنقوده حول مركز المجرة. ثم (٥) هو مع المجرة حول مركز الكون الأعظم. وأخيرًا يأتي جيل الأقمار المتولدة من السيارات وهو الجيل السادس الذي له ٦ دورات، صار القارئ فاهمًا ترتيبها من سياق الحديث.

•••

هنا ينتهي الاشتقاق؛ لأنَّ الأقمار صغيرة جدًّا في حالة جمود، فلا يُمكن أن تتفسَّخ إلى أولاد أقمار، من السيارات نفسها بعد أن صارت في حالة الجمود لا يُمكن أن تستمر في الاشتقاق كما نعلم من حالة سيارات شمسنا. لا اشتقاق في حالة الجمود على الإطلاق، لا يكون الاشتقاق إلَّا في حالة الغازية أو السيولة. الاشتقاق المزدوج لا يكون إلَّا في حالة السيولة.

مجمل البحث وصفوته

الدوران — أو الدورية — يلعب دورًا عظيمَ الشأن في عملية التنظيم الكوني. وقد رأيت أن علته هي «الجاذبية-الدافعية» هي مُحدثة كل درجاته التي سردناها آنفًا. وفيما كانت قوَّة الجاذبية تجمِّع ذرَّات الفوتون في كتل كانت تجزئ البحر الأيثري الفوتوني إلى سُدُم. وكذلك فيما كانت تمعن في هذا التجميع إلى كتل صُغرى كانت تُجزئ السدم إلى سُدَيمات، وهذه إلى نجوم … إلخ؛ فالعملية كانت عملية تجميع وتفريع في وقت واحد.

على أن هذه العملية لم تتم بمجرد جذب فقط بخط مستقيم نحو المركز، وإلَّا لتجمعت كل ذرات الكون حول نقطة واحدة أو في مركز واحد، ولكنها تمَّت بجذب دوراني أي بجذب في خطوط مُنحنية حلزونية تبتدئ من مركز وتنتشر إلى المحيط، وهذا الجذب الدوراني هو علة الدافعية كما عللناه في محله؛ فحين نفكر بالجاذبية يجب أن نتصوَّر الدورانية خاصة لها أو طبيعة فيها، وبالتالي هي طبيعة في المادة، وبغير هذه الخاصة لم يكن ممكنًا أن يحدث التجمع والتفرع.

ثمَّ إن فعل هذه الجاذبية الدورانية لا يقتصر على إحداث التجمع والتفريع فقط، بل يُحدث التشتت أيضًا الذي يتسع به نطاق الحيز المادي، كما شرحناه في كتابنا «هندسة الكون حسب سنة النسبية»؛ لأن قوة الجاذبية تقتضي تقلص الجرم أو الجسم، وكلما تقلصت الأجرام اتسعت الرحاب بينها، فيقل التجاذب بينها جميعًا، وبتقلصها يعجل دورانها المحوري ويُصبح دورانها المركزي — حول المركز المشترك بينها — أسرع؛ مما يوازن تجاذبها، لا لأنَّ الدوران أسرع، بل لأنَّ التجاذب قلَّ، فتشرد بعضها عن بعض، وهكذا يتسع نطاق الحيز المادي.

(٣) الدوران الحلزوني

علمت في تعليل سر الجاذبية أن التموج الجاذبي ينتشر بشكل حلزوني، وانتشاره على هذا الشكل هو سبب الضلع الدافعي من ضلعي الجاذبية، وبالتالي هو سبب تناسب سرعة الجرم في دورانه المركزي مع بعده عن المركز، وإذا أنعمت النظر فيما تقدم لحظت أن الدورية لا تعيد نفسها؛ يعني أن الدوران لا يتكرر في المكان في نفس الدائرة؛ لأنَّ الدوران لا يكون في مركز ثابت بل في مكان هو نفسه دائرٌ متنقل، وبعبارة أخرى لا يتم الجرم دورته في الفضاء في دائرة، بل في شكل حلزوني، فلا دائرة تتم باتصال طرفيها، بل تلتف في حيز غير حيزها السابق؛ وسبب ذلك تعدد أصناف الدورانات كما شرحناه، واشتراك المكان والزمان في العملية.

ولإيضاح هذه النقطة نضرب القمر مثلًا؛ فهو فيما يدور حول الأرض لا يرسم في الجو الشمسي دائرة كاملة — كما يرسم في الجو الأرضي — بل يرسم دائرة حلزونية؛ لأن الأرض تسير به حول الشمس؛ فلا يتم دورة حول الأرض إلَّا وقد انتقلت الأرض به ملايين الأميال، فدورته الثانية في حيز آخر، ومع ذلك ليست في دائرة تامة، بل في خط لولبي، وفيما هو يدور في الخط اللولبي حول الشمس تكون الشمس نفسها دائرة مع سياراتها في كوكبتها العنقودية، فتجعل سيره في الفضاء في خط لولبي مركب معقد، وكذلك دورة الكوكبة العنقودية في قرص المجرة تزيد تعقد دورة القمر في الفضاء، كما أن دورة المجرة في الكون الأعظم تضاعف ذلك التعقد في خط سير القمر وسير الأرض وسير الشمس … إلخ.

أضف إلى هذا التركيب الدوراني المعقد تعقيدًا آخر ناجمًا عن توسع أفلاك الأجرام من صغيرها إلى كبيرها في دورانها، فما من جرم إلَّا وفلكه يتسع — في الغالب — في كل دورة بعد أخرى بحيث يبتعد عن مركزه «وفي بعض الأحوال يضيق»، فالأرض لا تدور في نفس فلكها كل عام، بل في فلك أوسع قليلًا، وفي رأي بعضهم أن قطر فلكها يزداد في العام مترًا واحدًا، وعلى تمادي الأعقاب قد تشرد الأرض عن شمسها، وهكذا شأن كل قمر وسيار وكل نجم وكل عنقود وكل مجرة؛ فالكون بحسب رأي «هوبل» و«لامتر» و«دي ستر» يتمدد ويتسع — كما شرحناه في كتابنا النسبية وفي فلسفة التفاحة.

فإذن؛ لا يمكن أن نُقيد أية حركة في الكون نفسها؛ لأنَّ مكانها وزمانها يتغيران، وإذن لا تكون فصول السنة الأرضية بعد ألف عام أو ألوف الأعوام كما هي الآن، لا في حرها ولا بردها ولا رياحها ولا زرعها وغلالها ولا ناسها ولا وحوشها، ولا ولا … إلى ما لا نهاية له.

(٤) الحركة القوسية

ذكرنا بين سلسلة أنواع الدوران «الحركة القوسية» أي: الحركة في جزء من دائرة كحركة رقاص الساعة مثلًا Pendulum، فالرقاص يسير في قوس، ثم يعود في نفس القوس ذهابًا وإيابًا، فإذا جمعت الأقواس طرفًا إلى طرف تكونت منها دائرة نصف قطرها طول حبل الرقاص؛ وإذا كان رقاص الساعة لا يرسم دائرة كاملة فنتيجته أن يحرك دولابًا في دائرة كاملة كما هو معلوم.

الموجة هي نوع من الحركة القوسية، هي جزء من دائرة؛ لأنك لو وصلت أطراف الموجات من قمة إلى قمة بعضها ببعض لَتَكَوَّن منها دائرة؛ يُطلق هذا القول على كل نوع من أنواع الأمواج: الموجة الكهرطيسية — كالنور، وموجة الصوت، وموجة الماء، وموجة الحبل الذي تهز طرفه بيدك.

وشعاعة النور التي تسير في جو جاذبي تسير مُنحنية في قوس أيضًا، وإذا استقرت كل حركة في الكون فمهما تراءت لك خطًّا مُستقيمًا تجدها دائرة أو جزء دائرة، ولا سبب لهذه الدورية إلَّا فعل سنة الجاذبية.

١  الإشعاع Radiation هو تناثر الفوتونات والذريرات من أي جرم في الفضاء. وسنجعل له كتيبًا خاصًّا قائمًا بذاته.
٢  الدورة المركزية هي التي يدور فيها الجرم حول مركز لا حول محور وهو ما يصعب تصوره.
٣  نقول «مجرتنا»؛ لأن الكون الأعظم الذي ليس وراءه كون آخر يحتوي على مليوني مجرة كمجرتنا التي هي أكبر المجرات في رأي بعض أقطاب العلم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤