الفصل الرابع

ما هي الحياة؟

بسطنا كفاية قوانين التنظيم في العالم المادي غير الحيوي في عناصره الثلاثة: التجمع والتفرع والدوران. والآن نتقدَّم لبسط هذه العناصر في العالم الحيوي، فنرى لها أساليب أخرى تختلف في الغرض عن أساليبها في العالم المادي ولكنها تتفق في الجوهر مع هذه.

ولاستيفاء هذا البحث وتسهيل بسطه لذهن القارئ لا بدَّ من تفسير سر الحياة بقدر ما تؤذن به ظاهراتها المادية، فما هو سر الحياة؟

(١) كيف نشأت الحياة؟

أكثر الذين بحثوا في أصل الحياة فرضوا أو ظنوا أنها ذات مستقلة عن الجسم الحي، ولكنها تمثل فيه، فصوَّبوا كل همهم إلى تعليل نشوئها، وتأثروها في الأحياء الدنيا إلى أحقر الجراثيم، ففرضوا أن الجرثومة الواحدة متسلسلة عن أخرى، ولم يهتدوا إلى جرثومة تولدت من تلقاء نفسها، ولكن العقل يقول لا بدَّ لها من أول أو أصل.

ومهما يكن من أمرهم فالحياة درجة من درجات الرقي؛ فماذا كان قبل الحياة فاشْتُقت منه الحياة؟ ظن بعضهم أن الحياة مسلسلة من البلورات؛ لأنهم رأوا في هذه شيئًا من خصائص الحياة كالنمو والتولد وانتهاء النمو عند هذا الحد، رأوا أن البلورة تتكوَّن إذا كان في السائل المشبع مادَّة القابل للتبلور بلورة صغيرة تتجمع حولها المواد فتزيدها حجمًا إلى أن تستوفي حجمها، ثمَّ تشرع بلورة أخرى تتكوَّن إلى جنبها، وهكذا دواليك حتى يصبح السائل قليل الإشباع فيكف التبلور.

ولكن بين البلورة والجرثومة الحية بونًا عظيمًا، البلورة تنمو من الخارج بإضافة المادة إليها، ولكنَّ الجُرثومة تنمو من الدَّاخل بما تمتصه من الغذاء من الخارج. ثم إن الجرثومة تتوالد بالانقسام، الواحدة إلى اثنتين، والبلورة ليست كذلك، بل تتكوَّن من نفسها مُستقلة عن أختها. الجرثومة تفرز فضلاتها عن نفسها، والبلورة ليس لها فضلات … إلى غير ذلك. ثمَّ إن البلورات لا تولد إلَّا في محلول بارد، ولكن الجرثومة لا تتولد إلَّا في سائل ذي حرارة متوسطة فوق الصفر وتحت الغليان.

•••

إنَّ معظم الأحياء الدنيا موجودة في البرك والمستنقعات حيث الماء راكد، وهو أمرٌ يدل على أنَّ الحياة نشأت في الماء الآسن، أو الوحل، وقبل أن تنشأ الحياة كانت الطبيعة بفعل حرارة الشمس ونورها تنشئ الحامض الكربوني والنشادر والحامض الأميني، وهذه لا تحتاج إلا إلى الكربون والهيدروجين والنتروجين والأوكسجين، فتكوَّنت المواد الكربوهيدراتية أولًا بشكل هلامي — جلاتيني — ثمَّ اشتقت منها المواد الزلالية.

والراجح أن المقادير الصغيرة كانت تتكتَّل بفعل تجاذب فيما بينها، وكانت تنمو إلى أن تتكوَّن حولها قشرة جامدة بفقد قليل من الماء في ظاهرها، حتى إذا زاد نموها انفجرت القِشرة وانقسمت الكُتلة إلى كتلتين، ثمَّ تشرع كل كُتلة تنمو إلى أنْ تضخم، فتنشق إلى كُتلتين … وهكذا دواليك. هكذا كانت أول كتلة تحوَّلت إلى جرثومة.

وكانت بعض العناصر تشترك في هذه العملية كالفوصفور والصوديوم والبوتاس والمنازيا وغيرها، والفوصفور مشتق من فوصفات الجير — الكلس — وليس ما يمنع أن يتحوَّل جزءٌ منه إلى الحامض الفوصفوري فيدخل محاوله إلى نواة الجرثومة.

وهو معلوم ولا سيما للكيماوي الذي يفهم جيدًا علاقة الطاقة بالمادة أن امتصاص الهُلامة للمُركبات البسيطة القابلة التحوُّل وائتلاف داخلها بها جعلا الهلامة مخزنًا للطاقة؛ أي: إن بعض المواد المُتفاعلة تفاعلًا كيماويًّا تصدر حرارة — طاقة — كما يحدث في احتراق الكربون وتنفس الحيوان، وبعضها تمتص الحرارة وتدَّخرها كما يحدث عند تحوُّل المواد الغذائية في الأجسام الحية، فإذا كانت كتلة الهلام أو الجرثومة في أثناء تفاعل مُركباتها مع المُركبات المتطرِّقة إلى داخلها تدَّخر حرارة تارة وتبثها تارة أخرى، اقتضى أن تكون لها حركة ذاتية بين تقلُّص وتمدد لتغير التوازن فيها، ومهما كانت الحركة بطيئة وبسيطة فإنما هي حركة.

(٢) سر الحياة في الكربون

الحياة ألفة كيماوية

الحياة نشوء آخر يختلف في ظاهراته كل الاختلاف عن نشوء الأجسام المادية غير الحية. هو درجة ثانية من درجات الوجود أعلى من درجة المادة «الميتة»، كأنه كون آخر مستقل في ذاتيته وطبيعته كل الاستقلال عن الكون المادي، ولكنه بالحقيقة مادي الجوهر والحركة، بمعنى أنَّ الجسم الحي مؤلف من ذرات المادة، ولكنْ بنظام آخر يختلف عن نظام المادة، فهل هو متمشٍّ على نفس سنن الطبيعة الأساسية كالجاذبية والألفة الكيماوية؟ أم أنَّ له سننًا أخرى خاصة به؟

الظاهر لنا أنَّ الحياة لأنها قائمة بالمادة هي خاضعة لنواميس حركة المادة؛ وإذن حركتها مُستمدة من نفس القوى الفاعلة في المادة — جاذبية، وألفة كيماوية — وحركتها ذاتية، بمعنى أنها مختزن القوة المادية، ثم تتصرف بها تصرفًا خاصًّا يلائم كيانها، وحركتها نتيجة هذا التصرف.

وهذه الحركة نوعان: حركة في داخل الجسم الحي بين أجزائه، شائعة في النبات والحيوان، وحركة تنقل الجسم الحي كله من حيز إلى حيز، وهي خاصة بالحيوان على الغالب. فما هو سِر الحياة الذي هو مستودع القوة الحيوية؟ وما هو مصدر هذه القوة؟

لا نعرف وجودًا للحياة كما نعرفها إلَّا على أرضنا، فلا شأن لنا بها إذا كانت موجودة في جرم آخر، سواء كانت هناك بنفس الخواص التي نعرفها هنا أو كانت تختلف عما نعرفه.

نعرف أن الجسم الحي مهما كان نوعه مؤلف من جزيئات Molecules عديدة الذرات جدًّا ليس لها مثيل بكثرة ذراتها في سائر جزيئات الغازات والسوائل والجوامد، لا على الأرض ولا فيما استُدلَّ عليه في الأجرام الحارة وفي الأجرام الباردة، من أنواع الذرات والجزيئات. فكأن سر الحياة مودع في الجزيء العديد الذرات، فنبحث عنه في هذا الجزيء.
الجسم الحي من أبسط أنواعه — الأميبا — إلى أكثرها تركبًا وتعقدًا — الإنسان — مؤلف من ثلاثة أصناف من المُركبات الكيماوية، وكل صنف منها عديد الأنواع بتعدد أنواع الخليات. وهي:
  • أولًا: الكربوهيدرات — النشائيات ونحوها، وسلاسل البارافينات، وسلاسل الكحل … إلخ. وجزيئاتها تحتوي على بضع ذرات إلى بضع عشرة ذرة، وهي الوقيد الذي تصدر منه القوة لإصدار الحركة.
  • ثانيًا: الدهنيات ونحوها. وجزيئاتها مؤلفة من عشرات الذرات، وهي وقيد آخر مدَّخر، ولا سيما في الأحياء المنوعة الأعضاء الوظيفية.
  • ثالثًا: البروتاينيات — الزلاليات. وجزيئاتها مُؤلفة من مِئات الذرَّات أو ألوفها في بعض الأحيان، وهي هيكل بنية البروتوبلاسم الذي هو جوهر الحياة الأول.

يلحق بهذه الثلاثة الماء، وهو الوسط الذي تتنقل فيه جزيئات المُركبات الحيوية، فضلًا عن أنها تتحد أحيانًا بجزيئات منه.

ولا نعرف في الطبيعة جزيئات مُؤلفة من ذلك العدد العظيم من الذرَّات إلا في الجسم الحي. وفي غيره لا يتجاوز عدد ذرات الجزيء البضع أو البضع عشرة ذرَّة؛ إذن سرُّ الحياة هو في الجزيئات العديدة الذرات، فلنبحث عنهُ في ذرات هذه الجزيئات لكي نعلم في أيٍّ منها مقامه.

(٣) عناصر الحياة

التحليل الكيماوي يرينا أن أصناف هذه المركبات الثلاثة العديدة الأنواع مؤلفة من أربعة عناصر رئيسية فقط؛ أي: من أربعة أصناف من الذرات؛ وهي: الهيدروجين والأوكسجين والنتروجين والكربون، وأما ما يُرى فيها من العناصر الأخرى — الكلسيوم والصوديوم والبوتاسيوم والمغنيزيوم والحديد، وأملاحها الكلورات — كلوريد، والفصفات والسلفات والنترات والكربونات … إلخ؛ فوظيفتها ثانوية وسيطة Catalysis. فلنرَ أي هذه العناصر الأربعة ذو الشأن الأهم في تأليف الجزيئات العديدة الذرات.

أما الهيدروجين والأوكسجين وحدهما فلا يتألف منهما إلَّا بضعة أنواع من الجزيئات لا يزيد الواحد منها على أربع ذرات، وإذا دَخَل النتروجين معهما أو مع أحدهما فلا يتألف منها جزيئات تزيد على بضع ذرات أيضًا، حتى لو دخلت عناصر أُخرى ثانوية غير هذه الثلاثة فلا يُناهز عدد الذرات في الجزيء الواحد بضع عشرة ذرة. ولكن إذا نزل الكربون إلى الميدان رأيناه يؤلف مع العناصر الثلاثة التي نحن بصددها جزيئات تعدُّ ذراتها بالمئات وأحيانًا تتجاوز الألف، فإذن في الكربون سر الحياة.

«هذه ملاحظة وردت عرضًا في كتاب «الكون الغامض» تأليف السير «جيمز جينز» ولكنهُ لم يشرح هذه النظرية.»

فماذا في هذا العنصر — الكربون — من الخواص أو المزايا التي تخوله القدرة على تكوين البروتاينيات والكربوهيدرات والدهنيات التي تتألف منها الخلية الحية Cell؟ فلنبحث في كلٍّ من هذه العناصر الأربعة.

ﻫ = الهيدروجين، ذو بروتون وإلكترون واحد حر.

و = الأوكسجين، ذو ١٦ بروتونًا و٨ إلكترونات حرة ما عدا المتحدة ببروتوناتها وهي النيوترونات.

ن = النتروجين، ذو ١٤ بروتونًا و٧ إلكترونات حرة ما عدا المُتحدة ببروتوناتها وهي النيوترونات.

ك = الكربون، ذو ١٢ بروتونًا و٦ إلكترونات حرة ما عدا المُتحدة ببروتوناتها وهي النيوترونات.

فلنضرب صفحًا عن البروتونات؛ لأنَّ الألفة الكيماوية التي تؤلف الجزيئات لا تتوقف على عدد البروتونات في الذرة الواحدة، بل على عدد الإلكترونات الحرة فيها فقط.

وسنعلم من مقال «فناء المادة» في هذا الباب أن الكهيربات — الإلكترونات الحرة — تدور حول النواة — مجموعة البروتونات — والنيوترونات في مناطق؛ الأولى معدة لإلكترونين فقط. والمنطقة الثانية التي بعدها معدة لثمانية إلكترونات. ولا شأن لنا بالمنطقة الأولى ولا بالمناطق التي بعد الثانية؛ لأنه ليس في أيٍّ من هذه العناصر الأربعة ما يشغل أكثر من المنطقة الثانية، ولأن المناطق الأخرى التي بعدها خاصة بعناصر غير عناصر الحياة.

إذن الإلكترونات التي تدور في المنطقة الثانية هي:

في الأوكسجين ٦، يبقى محل لإلكترونين، (٢) في المنطقة الثانية — شفع أي زوج.

في النتروجين ٥، يبقى محل لثلاثة إلكترونات، (٣) في المنطقة الثانية — وتر.

في الكربون ٤، يبقى محل لأربعة إلكترونات، (٤) في المنطقة الثانية — شفع.

فلعلَّ كون الكربون شفعي الإلكترونات الموجودة وشفعي الإلكترونات الناقصة لتتمة المنطقة هو الأمر المسهل له الاتحاد بالعناصر الأخرى مهما اختلف عدد الذرات في الجزيء، يُساعده على ذلك الأوكسجين الشفعي الإلكترونات أيضًا، ويساعدهما الهيدروجين لإتمام ما ينقص المنطقة من الإلكترونين في تأليف الجزيء، ولا سيما متى دخل النتروجين فيه وهو وتريٌّ الإلكترونات.

وبهذا التسهيل يتضح تآلف الذرات الثلاث باستقرار ومن دون تقلقل، مثال ذلك في الحامض الكربوني «كربون داي أوكسيد = ك و٢» الذي يدخل جزيئهُ كثيرًا في المركبات الحيوية، يأتلف الكربون مع الأوكسجين فيشرك كلٌّ منهما بإلكترونين من إلكتروناته الأربعة، وتصبح المنطقة الثانية لكل منهما تامَّة. والجزيء يستقرُّ بهذا الاشتراك متعادل الشحنة الكهربائية، ولا يتفكك إلا إذا طرأ عليه جُزيء آخر، فيندمج الاثنان معًا في جزيء جديد.

وإذا أنعمت النظر في مُركبات الكربوهيدرات والدهنيات وجدت أن ائتلاف الكربون والأوكسجين يحدث على هذا النحو، وفي حالة أن الجزيء ينقصه إلكترون واحد يدخل الهيدروجين بإلكترونه، والهيدروجين مطواع يدخل بإلكترونه في معظم الجزيئات لإتمام النقص. «هذا بحث دقيق جدًّا لا يكفي التوسع فيه وشرحه مقال أو أكثر.»

وأما النتروجين فلأنه وتري الإلكترونات — ٣ في المنطقة الثانية — فغالب الظن أن ائتلافه مع الجماعة لا يسهل إلا بتعدد الذرات الكثيرة في الجزيء الواحد، بحيث يُسْتَطاع تأليفُ جزيئات مُتعادلة الشحنة الكهربائية، ولذلك لا يدخل إلا في تألف البروتايينات التي تُعد ذرات الجزيء الواحد فيها بالمئات، أو أن اندماجه فيها سبب تعدد ذرَّاتها، ولكنه لا يدخل في الكربوهيدرات والدهنيات؛ لأنه بدخوله يجعل الجزيء عديم الاستقرار كما يُستدل من معظم مركباته؛ إذ يظهر فيها قلقًا دائمًا لا يكاد يستقر في مركب منها. فكأن قوة ألفته affinity ضعيفة جدًّا — خلافًا للكربون؛ فلأقل طارئ يتنافر مع العناصر الأخرى ويتركها أو تتركه. ومن أبسط الأمثلة على ذلك النشادر Ammonia، وهو مركب من نتروجين واحد وثلاثة هيدروجينات = ن ﻫ٣، ولكنه في هذه الحالة لا يمكن أن يوجد مستقلًّا؛ لأنَّ إلكتروناته في المنطقة الثانية ٣، وإلكترونات الهيدروجينات الثلاثة ٣، والمجموع ٦؛ فتبقى المنطقة ناقصة إلكترونين ويبقى الجزيء إيجابيًّا غير متعادل.
لذلك لا يُوجد النشادر مستقلًّا البتة، بل لا بدَّ من اتحاد جزيئه بجزيء آخر كجزيء الماء مثلًا ليكوِّن منهما هيدروكسيد الأمونيوم ذائبًا في الماء «ن ﻫ٣ + ﻫ٢ و= ن ﻫ٠٤ ﻫ و» ومجموع إلكتروناتها جميعًا ١٦ تشغل منطقتي الأوكسجين والنتروجين، مع ذلك يبقى هذا النتروجين الشاذ المتمرد قلقًا لا يطيق التقيد بأخويه، فيتطاير بشكل ن ﻫ٣ من الماء كما نعلم من رائحته التي لا تُطاق ويفلت بانحلال الجزيء برمته، والنشادر موجود أيضًا كضلع Radical في البولينا Urea؛ ولذلك يُشعر برائحته في المباول التي طرأ عليها الاختمار المفكك له.

ومن الأدلة على قلق النتروجين وتمرده أنه داخل في المواد المفرنقعة كالنيتروجليسرين وتراي نيتروتاليين، وغيره، «وهو سبب افرنقاعها؛ لأن الافرنقاع ليس إلا تنافره مع الذرات الأخرى وإفلاته منها، فتتفكك الجزيئات إلى ذرات تتمدد بسرعة فائقة وهي سبب الضغط.»

(٤) وظائف العناصر

يُستدَل مما تقدَّم:
  • أولًا: أن وظيفة الأوكسجين والهيدروجين في الحياة إيجاد الوسط — الماء — الذي تنتقل به الحركة، ثم اشتراكهما مع الكربون في إيجاد الوقيد الذي هو مصدر القوة فالحركة.
  • ثانيًا: أن وظيفة الكربون جمع العناصر الأخرى معه وربطها بالألفة الكيماوية لبنيان هيكل الجسم الحي على اختلاف أنواع خلياته من الميكروبات المتنوعة ذات الخلية الواحدة Unicellular إلى ما فوقها من الأحياء المتعددة الخليات Multicellular ولولاه لما تألف جزيء حيوي.
  • ثالثًا: فيما أن وظيفة الكربون البناء تكون وظيفة النتروجين الهدم — من غير إطلاق معنى الهدم — وهي وظيفة ذات شأن لازمة للحركة والنمو ولتطوُّر حياة الخلية؛ فمعظم عملية دخول «الغذاء» إلى الخلية وتمثيله فيها ثم خروجه منها بشكل مختلف عن شكل دخوله — أي عملية التحوُّل Anabolism — يتم بتقلقل النتروجين في مركبات البروتايين المختلفة. فمنذ ولادة الخلية إلى أن تزول تحدث تحولات كيماوية متنوعة عديدة متوالية تتجدد بها حياتها، تحدث بواسطة الكربون وتقلقل النتروجين.
في أثناء هذه التحولات التي تحدث بسبب تقلقل النتروجين يحدث تأكسد الكربوهيدرات وأحيانًا الدهنيات؛ أي: إحراقها، والنتيجة حرارة، والحرارة صورة من صور الطاقة كما تعلم. وليس ذلك فقط، بل إن تقلقل النتروجين وتنقله من شكل جزيء إلى شكل جزيء آخر يحدث التأين Ionisation؛ أي انسلاخ بعض الكهارب من الجزيئات وحدوث شحنات كهربائية سلبية أو إيجابية، ولا سيما في الجهاز العصبي؛ إذ يمكن استكشافه هناك وإثبات وجود تيار كهربائي ضعيف فيه، وحدوث هذا التيار هو من جملة مصادر القوة والحركة في الخلية وسائر أعضاء الجسم.

حركة الحي

بقي أن نبحث قليلًا في كيفية حدوث الحركة في الحي أو على الأقل في خلية الحي.

ابتدأ البروتوبلاسم، أول أشكال الحياة، هلاميَّ القوام — جلاتينيًّا — بسيطًا ذا نوع واحد من أنواع البروتايينات، وتألفت جزيئات هذه البروتايينات بسيطة جدًّا، أبسط ما يمكن أن يكون من هذا الصنف من المركبات الكيماوية الرباعية — ذات العناصر الأربعة — تألفت تحت تأثير نور الشمس وحرارتها المعتدلة وتأثير الفوتونات المنتشرة منها، وسائر أنواع التشعع مما لا بدَّ أن يُحدث التأين في هذه العناصر تارةً بعد تارةٍ، فهذه العوامل المختلفة تؤدي إلى سلسلة التركبات الكيماوية المختلفة التي منها البروتايين.

(٥) حدوث حركة الحي

وابتدأت جزيئات البروتايين مُتصلة بعضها ببعض؛ لما فيها من لزوجة وبواسطة جاذبية الملاصقة Cohesion، فلا تنحل في الماء ولا تذوب فيه، وإنما ينفذها الماء ويتخللها Osmosis بما فيه من مركبات كيماوية بسيطة كالحامض الكربوني مثلًا، وبعبارة علمية «مضللة»، تمتصه١ وتمتص معه ما يذوب فيه من المركبات والذرات اللازمة لها لكي تتمثل فيها، وتنبذ منه ما لا حاجة لها به.
ولا يخفى أن عملية الامتصاص والنبذ هذه تستلزم حركة انتفاخ وضمور متعاقبين في الجسم الهلامي، وبين هذه الحركة وما في البيئة المائية — الحياة ابتدأت في الماء — من الحركة الميكانيكية تفاعل لا بدَّ منه؛ أي: لا بد من حدوث تفاعل بين الجسم الحي وبيئته أخذًا وردًّا، أو امتصاصًا ونبذًا. وفي أثناء هذا التفاعل الطبيعي Physical يجري السائل في غضون الخلية أو خلالها حاملًا مواد خارجية مختلفة كالحامض الكربوني والأملاح من كربونات ونترات … إلخ. وفيما هذا السائل يتسرَّب إلى غضون الخلية تحدث تفاعلات كيماوية متوالية بين المواد التي يحملها وبين جزيئات الخلية، تحدث هذه التفاعلات باستمرار ما دامت مواد جديدة تدخل وما دام النتروجين ينشز من جزيء إلى جزيء، وما دام الكربون يتفنن في تجديد الجزيئات بحسب الذرات التي ترد إليه، وفيما يحدث هذا التفاعل الكيماوي يكون من نتائج التحولات انفلات بعض الذرات من المركبات بحالتها الغازية، وهذه الحالة تحدث الانتفاخ والضمور المتعاقبين اللذين أشرنا إليهما سابقًا، وبالتالي يحدث مجرى سائلي في غضون الخلية.

فترى أنه ما دام الامتصاص يُدخِل إلى جسم البروتوبلاسم جزيئات جديدة وأحيانًا ذرات أيضًا فهذا التفاعل الكيماوي يحدث باستمرار على التوالي وبسرعة، ففي كل هنيهة يحدث حل وتركيب في الخلية مجددان لحياتها ونموها؛ فتخرج منها جزيئات وذرات قد استغنت عنها كما دخلت إليها جزيئات وذرات اندمجت فيها اندماجًا كيماويًّا، فكأن البروتوبلاسم معمل كيماوي دائم العمل — الحل والتركيب — ما دامت الخلية تستطيع أن تمتص من البيئة وتنفث فيها.

لماذا هذا الامتصاص وهذا النبذ؟ هو غاية وسبب معًا، هو خضوع للتفاعل الكيماوي — الألفة الكيمية — الجاذبية.

ولأن سطح الخلية الكروي الخارجي ملابس للبيئة، والتفاعل الأول يقع بينه وبينها، فلا بد أن تكون جزيئاته مختلفة ولو بعض الاختلاف عن جزيئات داخل الخلية، وطبيعة هذا التفاعل تجعل ذلك السطح كغلاف أمتن مما هو ضمنه وأقبل للامتصاص، وهكذا تقضي سنَّة التطور أن تكون وظيفة هذا الغلاف الامتصاص والنبذ، وحماية الداخل من التفاعلات المنافية لمصلحة الخلية التي لا يستطيع داخلها أن يتوقاها كما يستطيع الغلاف اتقاءها، وهكذا يصير جسم الخلية ذا عضوين مختلفي الوظيفة، الخلاف الذي وصفناه، والنواة التي وظيفتها الرئيسية العمل الكيماوي المنمي بالتجديد والتحول Metobolism & Katabolism وبينهما مجرى السائل الذي يحمل المواد الداخلة والمواد المنبوذة.

وما دامت البيئة المختلفة ذات عوامل مختلفة في أحوال مختلفة، فلا بدَّ من تنوع مناطق الجسم أو أجزائه بوظائف مختلفة؛ لكي تقابل مفاعيل البيئة وتنتفع بها، وهذا التفاعل المنوع يسبب تنوعًا يضاهيه في العمليات الكيماوية، وكذلك تتنوَّع جزيئات الأجزاء المختلفة الوظائف. كذا نشأت أصناف البروتايينات والكربوهيدرات والدهنيات على تمادي الزمان بحكم قانون التطور، ففيما كانت الجزيئات تتجمع في هلام كانت تتنوَّع في بروتوبلاسم.

•••

ليس غرضنا من هذا الفصل الاسترسال في وصف العمل الحيوي والتطورات التي تتعاقب على البروتوبلاسم وتنتج أنواعًا، فإن هذا البحث من خصائص البيولوجيا، وإنما غرضنا أن نستقصي سرَّ الحياة إلى أعمق ما يستطاع، وفيما استقصيناه من بيئة الذرات الأربع التي تتألف منها جزيئات البروتوبلاسم لم نجد إلا تفاعلات كيماوية متوالية متعاقبة خاصة بالعناصر الأربعة، تحت تأثير حرارة معتدلة وتأثير تشعُّعات الشمس المختلفة.

وقد رأينا أن الدور الأهم في هذه التفاعلات هو الدور الذي يلعبه الكربون؛ لأنه لولاه لما أمكن تكوُّن البروتايينات، ويليه في خطر الشأن الدور الذي يلعبه النتروجين بنشوزه وشذوذه.

فهل سر الحياة هو في الألفة الكيماوية التي تتلاعب بهذه العناصر الأربعة، أم هو في هذه الألفة مع شيء آخر يستخدمها ولا زلنا نجهله؟ ربما كان الكيماوي يقتنع بأن الألفة الكيماوية هذه كافية لإصدار الحياة؛ لأنه لا يرى شيئًا آخر غيرها وراءها، وربما كان غير الكيماوي لا يرتاح إلى هذا التعليل؛ فتبقى الحياة سرًّا غامضًا له، فإذا صحَّ أن الحياة ألفة كيماوية بين ٤ عناصر خاصة تحت تأثير حرارة خاصة وتشعُّعات خاصة أيضًا، فتكون قد ظهرت على الأرض صدفة؛ أي غير مقصودة في الوجود المادي، ولا هي مضمرة في الفوتونات التي تألفت منها البروتونات والإلكترونات.

وأما القول أن وراء العامل الكيماوي عاملًا آخر سماه «برغسون» Elan Vilal؛ أي «الحماسة الحيوية» فما هو إلَّا تعبير آخر لمعنى العامل الحيوي، ولكنه لا يفسر هذا العامل بل يبقى به غامضًا كما كان.
١  والصواب تجتذبه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤