الفصل الثامن

ما هو العقل؟

(١) سر العقل

العقل في بحثنا عنه يتجلى لنا أنَّه ليس ظاهرة من ظاهرات تجمع العناصر، بل هو ظاهرة من ظاهرات حركاتها، هو ضرب من ضروب حركات المادة، والحياة ضرب من ضروب تجمعاتها.

أما سر الاثنين الأعمق فغامض.

وإذا كان سر الحياة غامضًا فسر العقل أغمض منه مائة مرة.

إذا كان العقل كما نظن حركة في مادة الحياة؛ فهو قد نشأ مع الحياة رفيقًا لها منذ بزوغها؛ بسيطًا في عهد بساطتها، مركبًا في عهد تركبها.

(٢) شعور وشهوة وإرادة وتعقل

العقل شعور، ثم شهوة، ثم إرادة، ثم تعقل، ثم تفكير، ثم تصور، ثم تذكر، ثم تخيل، ثم تفلسف.

في أبسط صور الحياة — الميكروب — كالأميبا مثلًا العقل شعور فقط بسيط جدًّا، وإنما في هذا الشعور جرثومة كل ظاهرة من ظاهرات العقل، الأميبا تصدم ذرة رمل فتصد عنها، ولكنها لا تصد عن حويصلة داي أتوم Diatom، بل تلتف عليها وتغلفها وتلتهمها. وكرية الدم البيضاء تصدم أية كرية أخرى فتصد عنها ولكنها تصدم ميكروبًا مرضيًّا سبحيًّا — ستربتوكوك — مثلًا فتلتف عليه وتلتهمه؛ أفليس هذا شعورًا في الأميبا تميز به بين ذرة الرمل والداي أتوم؟ وشعورًا في الكرية البيضاء تميز به المكروب المؤذي من الجرثومة الصالحة؟ فأين منشأ هذا الشعور؟ هل هو الألفة الكيمية فقط، أم هنا شيءٌ آخر معها نجهله؟

نصعد درجة أو بعض درجات في سلَّم أنواع الأحياء؛ إلى النبات الصياد مثلًا، فنرى هناك زهرة ماكرة مفتوحة تشتهي هوامة لكي تهتضمها، فتظل مَفتوحة إلى أن تنقض ذبابة على ما فيها من رحيق مغرٍ لها، فتنطبق هذه عليها وتهتضمها. لو وقعت عليها ذرَّة من التراب ما أطبقت عليها؛ فهنا شعور يُميز بين الذبابة والذرَّة الترابية، وشهوة تتحين فرصة وقوع الذبابة، فهل السر في الألفة الكيمية بين الزهرة والذبابة؟ لا شك أن للألفة العمل الأول في هذا التصيد، ولكن للشعور والشهوة عملًا آخر أيضًا علاوة على الألفة.

فما الشعور وما الشهوة؟ لا نرى إلا حركتي انبساط وانقباض في كل من الأميبا والكرية البيضاء والزهرة: فما سبب هذه الحركة؟ سببه عمل كيماوي أيضًا، ولكن ليس بسيطًا، بل هو عمل مركب معقد، تحضُّ عليه مصادمات جزيئات لجزيئات، وخليات لخليات، في ظروف خاصة لا يسهل إيضاحها.

نرتقي درجات أخرى في سلم أنواع الأحياء، فنرى العنكبوتة أو الرتيلاء تنسج شبكة لتصطاد بها ذبابة تأكلها؛ فهنا نرى شعورًا وشهوة وإرادة وتفكيرًا وتعقلًا، نراها بسيطة مَحصورة في أسلوب واحد، هو عملية التصيُّد.

نترقي إلى الحيوانات الفقارية، فنرى جرثومة التفكير والإرادة والتعقل أوضح وأنضج بأساليب مختلفة، وكلما ترقينا إلى جهة الإنسان في سلَّم الأحياء رأينا القوى العقلية أظهر وأوضح وأنضج وأوسع دائرة بالأساليب.

فلا نستطيع أن نقول إن العقل ابتدأ من هذه الدرجة في سلَّم الأحياء. ابتدأ مع الحياة وتطوَّر بتطورها إلى أن بلغ القمة في الإنسان.

(٣) الجهاز العصبي مقام للعقل

في بسائط الحياة العقل بسيط جدًّا، شائع في جسم الحي — يدعونه غريزة، ولكنه كان كلما تنوَّعت أعضاء الجسم وتخصصت لوظائفها الحيوية كان العقل ينحصر في ناحية من نواحي الأعضاء، إلى أن انحصر في الجهاز العصبي في الحيوانات العليا، وكان كلما توالى التطوُّر تعددت وظائف الجهاز العصبي بتعدد أقسامه، حتى أصبح هذا الجهاز في الإنسان عالمًا عظيمًا، مُتعدد الأعضاء، مُتعدد الوظائف، يُسيطر على الجسم كله، وعلى أعمال الجسم الداخلية والخارجية. فأين العقل الأسمى؟ هذا السؤال لغزٌ لا نكاد نجد له حلًّا.

إن الظاهرات تدلنا على أن مقام العقل هو في الجهاز العصبي فقط، ومركزه الرئيسي في الدماغ. ولكن ما هو؟

نبحث عنه في أعماق الدماغ، فلا نجد إلَّا حركات في مراكز الدماغ وسائر الجهاز، متوافقة في اتجاهاتها مُتكافلة في مآلها، الأمر الذي لا يُمكن حدوثه إلا بتواطؤ بين ملايين خليات الجهاز وتعاونها وتكافلها.

فكُلما حدث شعور حدثت حركة في جميع الخليات التي يمرُّ فيها هذا الشعور، هذه الحركة تتم بسلسلة تفاعلات كيماوية تعدِّل فيها الخليات جانبًا من جزيئاتها وذراتها كأنها تتجدد تجددًا تحوليًّا Anabolic، كذلك كل تفكير أو تصور أو إرادة … إلخ تتم بسلسلة تفاعلات كيماوية في الخلايا الدماغية المُخصصة للتفكير أو التصوُّر أو الإرادة … إلخ. فلذلك نتصوَّر الجهاز العصبي معملًا كيماويًّا عظيمًا، تحدث فيه تفاعلات كيماوية بين الجزيئات والذرات سريعة مُتعاقبة مُتعددة تعدُّدًا لا يتصوره العقل.

(٤) الأفعال العقلية تفاعلات كيمية

البرهان العملي على أنَّ الأفعال العقلية المختلفة إنَّما هي حاصل حركات التفاعلات الكيماوية في الخلايات الدماغية؛ هو أنه في حالة الإجهاد العقلي تكثر في بول المجهد أملاح الفوصفات؛ لأن النشاط الدماغي يستلزم نشاطًا في التفاعلات الكيماوية، وهذه التفاعلات تستورد كثيرًا من ذرات الفوصفور لتستخدمها في جمع الطاقة وتصدرها في أنفاقها، وفي حالة الراحة العقلية تقل جدًّا أملاح الفوصفات في البول.

لا يرتاح عقلنا الارتياح التام لذلك التفسير لحركة الخليات الدماغية التي يكون من مركب مجموعها العقل أو قوى العقل؛ لأن أقل تأمل في المسألة يستحضر في ذهننا اللغز الأعمق والأعقد، وهو: أنَّ هذه الحركات تحدث في ملايين الخلايات الدماغية متعاقبة متوافقة متساوقة في حركاتها، لكي تؤدي إلى مصير واحد أو غاية واحدة. فما الذي جعل ملايين الخليات هذه تتفق على أسلوب واحد من الحركة لغاية واحدة؟ أهي موجة ماجت في الجميع؟ فما هو مصدر هذه الموجة؟

لا يبعد أن تكون حركة موجية قد شاعت بين جميع خليات المركز أو خليات المراكز الدماغية المختصة بها، على أثر صدمة شعورية من الخارج مثلًا للعصب الحساس، فأحدثت تأينًا كهربائيًّا Ionisation، وهو انتقال كهيربات من ذرة إلى ذرة وانتقال ذرات من جزيء إلى جزيء بتيار كهربائي، وهو ما يسبب التفاعل الكيماوي أو التحولات الكيماوية بين الذرات في كل جزيء يمرُّ به ذلك التيار، وبالتالي يُحدِث تحولات Metabolisms في الخليات، وهذا التحول المتتابع المتسلسل ينتج الحركة العقلية التي نحن بصددها.

هذا تفسير معقول للحركة الفكرية الصادرة من تفاعل خارجي على نحو ما بسطناه. ولكن هناك من الحركات الفكرية التي تحدث من غير طارئ خارجي؛ تفكير محض كالتفكير الفلسفي أو التفكير الفني، تصوَّر عالمًا يخلو بنفسه في غرفته ليحل مسألة علمية أو قضية رياضية، ففي هذه الحال ليس ثمت من محرض خارجي يحرك خليات دماغه للتفكير، ليس العامل إلا إرادة ورغبة في التفكير كما يتراءى لنا، فمن أين صدرت هذه الحركة الفكرية؟

يتراءى لنا أنَّ هناك إرادة حرَّة ورغبة في التفكير والإعنات الذهني لحل القضية، ولكن الحقيقة أنَّ وراء تلك الإرادة وهاتيك الرَّغبة سلسلة مُحرِّضات، تكاد تقضي على الحُرِّية التي نغترُّ بها، وليس هنا محل لبحث هذه القضية؛ فنكف عنها، ونعكف على بحثنا الخاص بنشوء الحركات الفكرية، على افتراض أن الإرادة والرغبة وُجِدَتَا حاضَّتين على البحث والتفكير.

فعملية التحول الخلوي — نسبة إلى خلية١ — دائمة في كل عضو من أعضاء الجسم، ودائمة على الأكثر في خُليَّات الدماغ، ففي كل لحظة تتجدد جزيئات في الخليات وتندثر جزيئات وتتأيَّن ذرات أيضًا؛ فلا يستحيل أن تصدر الخُليَّات من تلقاء نفسها تفكيرًا، والتفكير يتسلسل سلسلة لا تنقطع إلا بطروء طارئ، كما أن التحول الخلوي سلسلة لا تنقطع، وكل حلقة من السلسلة تستوجب صدور حلقة أخرى تليها؛ فمتى ابتدأت سلسلة التفكير في اتجاه خاص تفضي أخيرًا إلى الغاية، وهي حل المسألة أو تكوين الفكرة.

وتصوَّر أيضًا شخصًا فنيًّا شاعرًا أو مُصورًا يستنبط شيئًا فنيًّا جميلًا. فخليات دماغه الفنية تتحول على التوالي تحولات تنتج حركة فكرية فنية على نحو ما وصفناه، لذلك ترى ذا الفن كيفما فكر كان الغالب في تفكيره فنيًّا؛ لأن جانبًا من خليات دماغه تهيأ على تمادي الزمن لإصدار الفكر الفني، إلَّا متى كان المحرك صادرًا من الخارج، فيشغل الخليات الأخرى لإصدار الفكر الملائم.

(٥) القوى العقلية العليا

التفكير الداخلي المحض طبقة عليا من العقل، تستنبطه الخليات من تلقاء نفسها، بمجرد تحولاتها الذاتية الفسيولوجية، حسبما تعودت بفعل الطوارئ الداخلية كالتدريب والتهذيب، فضلًا عن الشعور الحسي والنوابض النفسانية المُحرضة. لهذه الطبقة العُليا من التفكير الفلسفي والتفكير الفني أعمال عجيبة تضع العقل تاجًا على رأس الحياة، كما أن الحياة تاج على رأس المادة «الكربونيترأوكسيهدروجينية».

فنظريات الفلاسفة والعلماء المُستنتجة من ظاهرات الطبيعة هي حجار كريمة في ذلك التاج، وكذلك الفنون الجميلة البارزة في الشعر والرسوم ونحوها هي جواهر أخرى فيه، حتى جميع ظاهرات التمدن في سائر أدواره هي جواهر أخرى فيه أيضًا؛ فما أعظم العقل؛ العقل الذي ألبس سطح الكُرة الأرضية حُلَّة بهية مُزركشة من معالم المَدنية، تُذهل العقل الفردي بجمالها وأساليبها التي لا تُحصى، حلة بديعة جعلت هذا السيار الأرضي يفتخر على جميع سيارات الشمس، بل يفاخر جميع أجرام السماء بجمال له وليس لهنَّ.

(٦) هل للعقل ذاتية قائمة بنفسها؟ «العقل وظيفة من وظائف الدماغ»

ليس الغرض في هذا الفصل البحث السيكولوجي، وإنما الغرض الأساسي تبيان أن هذا العقل السامي المُتوج للحياة هو نتيجة ألفة كيماوية تتلاعب بعناصر أربعة في الدماغ تلاعبًا مُتنوعًا لا حد له، وإذا لم يكن العقل حركة «خُلَيِيَّة» بفعل الألفة الكيماوية فماذا يكون؟

إذا كان العقل ذاتًا مستقلة عن المادة، ولكنه حالٌّ فيها يستخدمها للاتصال بالطبيعة عن طريق الحس العصبي، وجب أن يبقى بذاتيته فيما لو عجزت المادة الدماغية عن خدمته لسبب من الأسباب، يجب أن يبقى له على الأقل تفكيره وتعقله وتذكره إلى غير ذلك، مما لا يحتاج فيه إلى خدمة المادة الدماغية؛ فلماذا تتعطل خواصه هذه بتاتًا وتقف قواه عن العمل في حالة النوم العميق مثلًا أو في حالة التخدير؟

قد تقول: إنَّها لا تتعطل بل تبقى عاملة عملها، بدليل حدوث الأحلام في المنام، فإذا كان النومُ عميقًا فلا يتذكر المرءُ أحلامه متى صحا … ولكن ما قولك فيما إذا تخدَّر الدماغ بمخدر فلا يبقى إحساس ولا تفكير، فأين يكون العقل حينئذٍ؟ ولماذا ينقطع عن التفكير بتاتًا؟

في حالة السُّكْر والجنون المطبق يكون الكلام خاليًا من الوزن والتعقل والمنطق — يكون هذيانًا، فإذا لم يكن العقل حركة فكرية صادرة من تحولات خليية، فلماذا يختل بفعل الخمر وأمراض الدماغ الجنونية إذا كان مُستقلًّا عن المادة الدماغية؟

يقودنا الموضوع إلى مسألة الروح باعتبار أنها وعاء العقل — إذا صحَّ قول المعتقدين بها — وأنها ذات مُستقلة عن المادة تنفصل عنها عند الموت، فأين تكون الروح في حالة الغيبوبة، أو في حالة السُّكْر والعربدة؟ وكيف تعود إلى مُقامها في الدماغ متى انقضت الغيبوبة؟ ولماذا لا تتذكر أفعالها في حالة العربدة؟

هل يمكن تفسير الأقوال والأفعال في حالة السكْر إلا أن التحولات الخليية أصبحت فوضوية غير نظامية، فأصبحت الحركات الفكرية التي تنتجها فوضوية غير نظامية أيضًا، لا تستطيع أن تعلل التفكير على اختلاف صنوفه نظاميًّا أو غير نظامي إلا بأنه حركة ناتجة عن التحولات الخليية؟

يذهب الروحيون أو بعضهم إلى أن الروح هي جسم غير هيولي، هي جسم أيثري؛ أي: إنه مؤلف من ذرَّات الإيثر على مثال الجسد الهيولاني، حتى متى انحل هذا بقي ذاك والعقل حال في ذاك، فهو تعليل جميل، ولكن لا برهان عليه إلَّا ما يزعمونه من مخاطبة الأرواح بعد الموت، وهو زعم لم يثبته اختبار صادق أمين خالٍ من مجرد دعوى ذويه، وأوهامهم التي ما وقعت تحت امتحان خصومهم إلَّا ظهر بطلانها.

مما يؤيدون به دعواهم هو مسألة توارد الخواطر أي Telebathy، ولكن التوارد هذا يُعلل بالاتصال الأيثري بين مراكز الأدمغة المُتباعدة بواسطة الأمواج الكهرطيسية على نحو طريقة الراديو، فهو أمرٌ مَعقول جدًّا، فإذا ثبت كان حدوثه ممكنًا بين الأحياء لا بين الأحياء وأرواح الموتى؛ لأنَّ ثبوته هكذا يستلزم إثبات وجود الروح المستقلة عن المادة أولًا.

إذا صحَّ أن العقل هو نتيجة حركات الخليات الدِّماغية فقوانين التجمع والتفرع والدورية فيه هي نفسها التي بسطناها في الحياة؛ تجمع خليات خاصة في الجهاز العصبي وتفرعها إلى خليات متنوعة بحسب تنوُّع وظائفها؛ ذلك لأن العقل حركة خليات كما تبسطنا به.

١  استثقل صيغة هذه النسبة بلفظ «خليي». فليعذر الصرفي المدقق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤