الفصل الأول

العلاقة بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية

من المعتقدات السائدة على نطاق واسع أن السياسة والاقتصاد مجالان منفصلان وغير مرتبطين إلى حد بعيد، وأن حرية الفرد تعد شأنًا سياسيًّا فيما تمثل رفاهيته المادية شأنًا اقتصاديًا، بالإضافة إلى أنه يمكن ربط أي نوع من النظم السياسية بأي نوع من النظم الاقتصادية. ويتجلى التمثيل الرئيس المعاصر لهذه الفكرة في الدعوة إلى «الاشتراكية الديمقراطية» من قبل الكثيرين الذين رفضوا تمامًا القيود التي فرضتها «الاشتراكية الشمولية» في روسيا على الحرية الفردية، والمعتقدين في إمكانية تطبيق السمات الأساسية للنظام الاقتصادي المطبق في روسيا، وفي الوقت نفسه، كفالة الحرية الفردية من خلال اتخاذ إجراءات وترتيبات سياسية لهذا الغرض. وموضوع هذا الفصل هو أن تلك الرؤية ليست سوى وهمًا، وأن هناك اتصالًا وثيقًا بين الاقتصاد والسياسة، وأنه لا يمكن الجمع بين النظم السياسية والاقتصادية إلا في حالات معينة، كما يتحدث حديثًا خاصًا عن أن المجتمع لا يمكن أن يكون اشتراكيًّا وديمقراطيًّا في الوقت نفسه؛ وذلك من زاوية كفالته للحرية الفردية.

تلعب النظم الاقتصادية دورًا مزدوجًا في الارتقاء بالمجتمعات الحرة، فمن جهة تعد الحرية في النظم الاقتصادية هي بذاتها عنصرًا أساسيًا في الحرية بمفهومها واسع النطاق، ومن ثم تصبح الحرية الاقتصادية هدفًا في حد ذاتها، ومن جهة أخرى، تعد الحرية الاقتصادية وسيلة لا غنى عنها لتحقيق الحرية السياسية.

ويحتاج أول دور في هذين الدورين للحرية الاقتصادية تركيزًا خاصًا، نظرًا لأن المفكرين بوجه خاص يميلون ميلًا شديدًا إلى عدم اعتبار هذا الجانب من الحرية ذا أهمية؛ فهم يميلون إلى ازدراء ما يعتبرونه الجوانب المادية للحياة وكذلك، إلى النظر إلى سعيهم وراء ما يزعمون أنها قيم أسمى باعتباره مستوىً مختلفًا من الأهمية ويستحق اهتمامًا خاصًا. ومع ذلك، فإن الأهمية المباشرة للحرية الاقتصادية — لدى معظم مواطني الدولة، بمن فيهم المفكرين — تضاهي، على الأقل، الأهميةَ غير المباشرة للحرية الاقتصادية، باعتبارها وسيلة لبلوغ الحرية السياسية.

إن مواطن بريطانيا العظمى الذي لم يسمح له بقضاء عطلته بالولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية بسبب نظام الرقابة على النقد الأجنبي قد حُرم من حرية أساسية لا تقل عن الحرية التي حُرم منها مواطن الولايات المتحدة عندما مُنع من قضاء عطلته في روسيا بسبب آرائه السياسية. ظاهريًا، تعد الحالة الأولى قيدًا اقتصاديًا على الحرية والثانية قيدًا سياسيًا، ومع ذلك لا يوجد اختلاف جوهري بين الاثنين.

ومواطن الولايات المتحدة الذي ألزمه القانون بأن يخصص نسبة تقدر بعشرة في المائة تقريبًا من دخله لشراء نوع محدد من عقود التقاعد الذي تديره الحكومة، يحرم من قدر مماثل من حريته الشخصية. ومدى التأثير السلبي الذي قد يتسبب فيه هذا الحرمان وصلته الوثيقة بالحرمان من الحرية الدينية، والتي ينظر إليها الجميع باعتبارها حرية «مدنية» أو «سياسية» لا «اقتصادية»، قد تمثل في حالة مجموعة من المزارعين المنتمين إلى طائفة الآميش. فمن حيث المبدأ، اعتبرت هذه الجماعة برامج التأمين والتقاعد الفيدرالية الإلزامية للمسنين انتهاكًا لحريتهم الفردية الشخصية ورفضوا دفع الضرائب أو قبول الفوائد المالية. وكنتيجة لذلك، بيعت بعض من مواشيهم ودواجنهم في مزاد علني لسداد ديون رسوم الضمان الاجتماعي التي تراكمت عليهم. صحيح أن عدد المواطنين الذين يعتبرون تأمين المسنين الإلزامي حرمانًا من الحرية قد يكون قليلًا، لكن المؤمن بالحرية لا يحصي عدد المؤيدين له أبدًا.

كذلك، يُحرم مواطن الولايات المتحدة من جزء أساسي من حريته عندما لا يخول له القانون ممارسة مهنة من اختياره ما لم يتمكن من الحصول على تصريح بذلك، كما هو الحال في ولايات متعددة، وكذلك الرجل الذي يريد أن يقايض بعضًا من بضاعته مع رجل سويسري — على سبيل المثال — مقابل ساعة لكنه يحرم من فعل ذلك نظرًا لتطبيق نظام كوتا معين، وأيضًا عندما يزج بمواطن بكاليفورنيا إلى السجن لبيعه أقراص ألكا سيلتزر الفوارة بثمن أقل مما حددته الجهة المصنعة بموجب ما يسمى بقوانين «التجارة العادلة». وكذلك الحال مع المزارع الذي لا يمكنه زرع الكمية التي يريدها من القمح، وما إلى ذلك. ومن هنا يتضح أن الحرية الاقتصادية، في طبيعتها، جزء غاية في الأهمية من الحرية الشاملة.

تعد النظم الاقتصادية مهمة، باعتبارها وسيلة لبلوغ غاية الحرية السياسية، نظرًا لتأثيرها في تركيز السلطة أو توزيعها. كذلك فإن ذلك النوع من النظم الاقتصادية الذي يوفر الحرية الاقتصادية مباشرة، وأعني تحديدًا الرأسمالية التنافسية، يعزز أيضًا من الحرية السياسية، وهذا لأنه يفصل بين السلطتين الاقتصادية السياسية، وبذلك يتيح لكل منهما أن توازن الأخرى.

تتفق الدلائل التاريخية فيما بينها على وجود علاقة بين الحرية السياسية والسوق الحرة، ولا أعرف مثالًا، في أي زمان أو مكان، لمجتمع تميز بقدر هائل من الحرية السياسية ولم يستخدم في الوقت نفسه أسلوبًا مشابهًا للسوق الحرة لتنظيم الجانب الأكبر من النشاط الاقتصادي فيه.

ولأننا نعيش في مجتمع حر إلى حد كبير، فإننا نميل إلى نسيان مدى محدودية الفترة الزمنية والمساحة اللتين ساد فيهما شيء من الحرية السياسية في هذا العالم: فالحال الذي اعتادته البشرية هو الاستبداد والعبودية والشقاء. ويأتي القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين في العالم الغربي كاستثناء لافت في الاتجاه العام للتطور التاريخي. فمن الواضح في هذه الحالة أن نجاح الحرية السياسية صاحب ظهور السوق الحرة وتطور المؤسسات الرأسمالية، كما كانت الحرية السياسية في العصر الذهبي للإغريق وفي الأيام الأولى للعصر الروماني.

ولا يشير التاريخ إلا إلى الرأسمالية فقط كشرط أساسي للحرية السياسية. ولكن من الواضح أنها ليست شرطًا كافيًا؛ فإيطاليا الفاشية وأسبانيا الفاشية وألمانيا على مدى عصور مختلفة خلال السبعين عامًا الماضية، واليابان قبل الحربين العالميتين الأولى والثانية، وروسيا القيصرية خلال العقود التي سبقت الحرب العالمية الأولى، جميعها مجتمعات لا يمكن وصفها بمجتمعات حرة على المستوى السياسي بأي حال. ومع ذلك، ففي كل مجتمع منها، كان القطاع الخاص هو النموذجَ السائدَ في النظام الاقتصادي. وبذا، يتضح تمامًا أنه من الممكن أن يكون هناك نظم اقتصادية رأسمالية بالدرجة الأولى في ظل نظم سياسية غير حرة.

حتى في تلك المجتمعات، نعم المواطنون بقدر أكبر من الحرية عن مواطني دولة شمولية حديثة كروسيا أو ألمانيا النازية، اللتين كانت فيهما الشمولية الاقتصادية مرتبطة بالشمولية السياسية. وحتى في روسيا القيصرية، كان من الممكن لبعض المواطنين تغيير وظائفهم دون الحصول على تصريح من السلطة السياسية في بعض الظروف، وذلك لأن الرأسمالية ووجود الملكية الخاصة وفرا أداة لتقييد السلطة المركزية للدولة.

تتسم العلاقة بين الحرية السياسية والاقتصادية بالتعقيد وهي ليست أحادية الجانب على الإطلاق. في أوائل القرن التاسع عشر، جنح بنتام والراديكاليون الفلسفيون إلى النظر إلى الحرية السياسية كوسيلة لبلوغ الحرية الاقتصادية، فقد أمنوا بأن عامة الناس تقيد حريتهم بواسطة القيود التي تفرض عليهم، وأنه إذا منح الإصلاحُ السياسيُّ الغالبيةَ العظمى من الشعب حق التصويت، سيفعلون ما سيكون في صالحهم، وهو التصويت لسياسة عدم التدخل في الشأن الاقتصادي. وإذا تأملنا الأحداث الماضية لا يمكن أن نقول إنهم كانوا مخطئين. لقد كان هناك قدر كبير من الإصلاح السياسي مصحوبًا بإصلاح اقتصادي نحو تطبيق سياسة عدم التدخل تطبيقًا واسعًا. وقد تبع هذا التغيير في النظم الاقتصادية زيادةٌ هائلة في رفاهية عامة الناس.

كذلك، تلا انتصار الليبرالية البنتامية في انجلترا في القرن التاسع عشر رد فعل تجاه زيادة التدخل الحكومي في الشئون الاقتصادية. وتسارع هذا النزوع نحو الجماعية تسارعًا كبيرًا، سواءً في انجلترا أو في البلدان الأخرى بسبب الحربين العالميتين، وأصبحت الرفاهيةُ، لا الحرية، السمةَ السائدةَ في البلدان الديمقراطية. وعندما أدرك المفكرون المؤيدون للراديكاليين الفلسفيين — أمثال دايسي وميزس وهايك وسايمونز على سبيل المثال لا الحصر — التهديد الضمني الذي يحمله هذا الأمر على الفردانية، خشوا من أن تؤدي الحركة المستمرة تجاه السيطرة المركزية للنشاط الاقتصادي إلى «الطريق إلى العبودية» كما أطلق هايك على تحليله الثاقب لهذه العملية، لذا شددوا على الحرية الاقتصادية باعتبارها وسيلة لبلوغ الحرية السياسية.

مع ذلك تعكس الأحداث التي توالت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية علاقة مختلفة بين الحرية السياسية والحرية الاقتصادية. لقد تعارض التخطيط الاقتصادي الجماعي مع الحرية الشخصية تعارضًا فعليًّا، ومع ذلك، لم تكن النتيجة قمع الحريات في بعض البلدان، على الأقل، بل كانت قلب السياسة الاقتصادية. وتقدم انجلترا مرة أخرى أبرز مثال على ذلك. وربما تمثلت نقطة التحول في «قانون التحكم في التوظيف»، الذي رأى حزب العمال أنه من الضروري فرضه لتنفيذ سياسته الاقتصادية، بالرغم من المخاوف والشكوك التي أحاطت به. وتضمن هذا القانون، الذي طُبِّقَ كاملًا ودخل حيز التنفيذ، توزيعًا مركزيًا للأفراد على الوظائف، وهو الأمر الذي تعارض تعارضًا شديدًا مع الحرية الشخصية لدرجة أنه طُبق بالقوة في عدد محدود من الحالات، ثم ألغي هذا القانون بعد أن كان ساري لفترة قصيرة، وكان إلغاؤه بداية لحدوث تحول واضح ومحدد في السياسة الاقتصادية، تميز هذا التحول بالاعتماد المتضائل على «الخطط» و«البرامج» المركزية، عن طريق حل العديد من القيود والاهتمام المتزايد بالسوق الخاصة، حدث تحول مماثل في السياسة في غالبية البلدان الديمقراطية الأخرى.

إن التفسير المباشر لهذه التحولات في السياسة هو النجاح المحدود للتخطيط المركزي أو لإخفاقه الذريع في تحقيق الأهداف المحددة. مع ذلك، إن هذا الإخفاق في حد ذاته ينسب، على الأقل من زاوية ما، إلى الدلالات الضمنية السياسية للتخطيط المركزي وإلى الإحجام عن تنفيذ منطقه عندما يتطلب التنفيذ تجاهل حقوق الأفراد الثمينة. ولكن أيضًا، قد لا يكون ذلك التحول سوى توقف مؤقت في النزعة الجماعية لهذا القرن، ولكن حتى وإن كان كذلك، فهو يوضح العلاقة الوثيقة بين الحرية السياسية والنظم الاقتصادية.

ولا يمكن أن تكون الدلائل التاريخية وحدها مقنعة، لعله من محض الصدفة أن زيادة نطاق الحريات حدث في الوقت نفسه الذي شهد تطور المؤسسات الرأسمالية ومؤسسات السوق. لماذا يجب أن يكون هناك علاقة؟ ما حلقات الوصل المنطقية بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية؟ عند مناقشة هذه التساؤلات سنناقش أولًا مفهوم السوق باعتباره عنصرًا أساسيًا مباشرًا في الحرية، وبعد ذلك سنناقش العلاقة غير المباشرة بين نظم السوق والحرية. وسنخرج بنتيجة ثانوية من ذلك وهي استخلاصنا لفكرة عامة عن النظم الاقتصادية المثالية للمجتمع الحر.

نعتبر — نحن الليبراليين — حرية الفرد، أو ربما حرية الأسرة، الهدف الجوهري في الحكم على النظم الاجتماعية. إن الحرية كقيمة في إطار هذا المفهوم ترتبط بالعلاقات المتبادلة بين الناس، فهي لا تعني شيئًا بأي حال من الأحوال لشخص يعيش فوق جزيرة منعزلة كروبنسون كروزو «قبل أن يلتقي بفرايداي». إن روبنسون كروزو في جزيرته كان عرضة «للتقييد» فهو يملك «سلطة» محدودة ولا يملك سوى عدد محدود من البدائل، لكن لا توجد لديه مشكلة تتعلق بالحرية بالمعنى المتعلق بموضوع مناقشتنا. على نحو مماثل، في إطار المجتمعات ليس للحرية أي سلطة في تحديد ما يفعله الفرد بحريته، فهي ليست مبدأً أخلاقيًا جامعًا شاملًا، فالهدف الرئيس لليبراليين هو، فعلُا، ترك المشكلة الأخلاقية للفرد ليتعامل معها. تتمثل المشكلات الأخلاقية المهمة «حقًا» في تلك المشكلات التي تواجه فردًا يعيش في مجتمع حر، فماذا عساه أن يفعل بحريته؟ من ثم، هناك مجموعتان من القيم سيؤكد عليهما الشخص الليبرالي: القيم المرتبطة بالعلاقات بين الناس، وهي السياق الذي يحدد فيه أولى أولوياته للحرية؛ والقيم المتعلقة بالفرد في ممارسته لحريته، وهي مجال أخلاقيات الفرد وفلسفته.

يرى الليبراليون الإنسان باعتباره كائنًا غير كامل، وينظرون إلى مشكلة التنظيم الاجتماعي على أنها مشكلة سلبية في منعها «الأشرار» من الناس من إلحاق الأضرار بقدر ما تمكن «الأخيار» من الناس من فعل الخير، وبالطبع قد يكون «الأشرار» و«الأخيار» الأشخاص أنفسهم، وهو ما يتحدد بناءً على من يَحْكُم عليهم.

إن المشكلة الأساسية للتنظيم الاجتماعي هي كيفية تنظيم الأنشطة الاقتصادية وتنسيقها لأعداد كبيرة من الناس، حتى في المجتمعات الرجعية نسبيًا، يعد التقسيم الواسع للعمل وتخصيص الوظائف أمرًا ضروريًا للاستغلال الفعال للموارد المتاحة. أما في المجتمعات المتقدمة، فإن مدى الحاجة إلى التنظيم، للاستفادة الكاملة من الفرص التي يقدمها العلم والتكنولوجيا الحديثة، أكبر بكثير. إن ملايين الناس مشتركين فعليًّا في توفير القوت اليومي لبعضهم بعضًا، ناهيك عن الإنتاج السنوي للسيارات. والتحدي الذي يواجه الشخص المؤمن بالحرية هو التوفيق بين الاعتماد المتبادل واسع النطاق وبين حريته الفردية.

في المقام الأول، هناك سبيلان فقط لتنظيم الأنشطة الاقتصادية لملايين الناس. يتمثل السبيل الأول في التوجيه المركزي المتضمن استخدام الإكراه؛ وهذا أسلوب الجيش والدولة الشمولية الحديثة. والسبيل الثاني يتمثل في التعاون الطوعي بين الأفراد؛ وهذا أسلوب السوق.

إن إمكانية التنظيم عن طريق التعاون الطوعي تعتمد على النظرة الأساسية — والتي، مع ذلك، كثيرًا ما لا تلقى ترحابًا — القائلة إن كلا الطرفين في صفقة اقتصادية ينتفعان منها، شريطة أن تكون الصفقة بالرضا من جانب الطرفين وأن يكون الطرفين ملمين بالأمر.

من ثم يمكن أن يسفر التبادل عن التنظيم دون وجود إكراه، ومن النماذج الفعالة للمجتمع المنظم عن طريق التبادل الطوعي هو الاقتصاد الحر المعتمد على التبادل بين مؤسسات القطاع الخاص، والذي أطلقنا عليه الرأسمالية التنافسية.

يتألَّف مثل ذلك المجتمع في أبسط صوره من عدد من الأسر المستقلة؛ أي مجموعة من أفراد منعزلين كروبنسون كروزو، إن جاز التعبير. تستخدم كل أسرة الموارد التي تتحكم فيها لإنتاج السلع وتقديم الخدمات التي تبادلها بالسلع والخدمات التي تنتجها أسرة أخرى، وفقًا لشروط مقبولة لطرفي المقايضة. وبهذه الطريقة، تتمكن كل أسرة من تلبية احتياجاتها تلبية غير مباشرة عن طريق إنتاج السلع والخدمات للآخرين، بدلًا من تلبية احتياجاتها تلبية مباشرة من خلال إنتاج السلع لاستخدامها الفوري. يكمن الدافع وراء سلوك هذا الطريق غير المباشر بالطبع في المنتجات المتزايدة التي تتوفر عن طريق تقسيم العمل وتخصيص الوظائف. ونظرًا لأن الأسرة لديها دائمًا البديل المتمثل في الإنتاج المباشر لاحتياجاتها الخاصة، فلن تكون مضطرة للدخول في أي تبادل ما لم تحقق استفادة منه. من ثم، لن تحدث عملية تبادل ما لم يحقق الطرفان استفادة منها، وبذلك يتحقق التعاون دون إكراه.

ولن يحقق تخصيص الوظائف وتقسيم العمل نجاحًا كبيرًا إذا كانت الوحدة الإنتاجية الأساسية هي الأسرة. وفي المجتمع الحديث، تخطينا هذا الأمر بكثير، فقدمنا المشروعات التجارية الخاصة والتي تؤدي دور الوسيط بين الأفراد بصفتهم مزودي خدمات ومشتري سلع. وعلى نحو مماثل، قد لا يحقق تخصيص الوظائف وتقسيم العمل نجاحًا كبيرًا إن كان علينا مواصلة الاعتماد على مقايضة منتج مقابل منتج. بناءً على ذلك، جاءت النقود كوسيلة لتيسير التبادل، وللمساعدة في انقسام أعمال الشراء والبيع إلى جزأين.

وبالرغم من أهمية دور المشروعات التجارية الخاصة والنقود في الاقتصاد الفعلي، وبالرغم من المشكلات المعقدة العديدة التي تثيرها، تتمثل الخاصية المركزية لأسلوب السوق في تحقيق التنظيم تمامًا في الاقتصاد التبادلي البسيط الذي لا يتضمن لا المشروعات التجارية الخاصة ولا النقود. وفي ذلك النموذج البسيط، وكذلك في الاقتصاد المعقد القائم على المشروعات الخاصة واستخدام النقود، يكون التعاون فرديًا وطوعيُا تمامًا شريطة أن: (أ) تكون المشروعات خاصة، وبذلك تكون الأطراف المتعاقدة الأساسية أفرادًا و(ب) يتمتع الأفراد بحرية الدخول من عدمه في أي تبادل بعينه، ومن ثم تكون كل صفقة طوعية تمامًا.

من الأيسر كثيرًا ذكر هذه الشروط بوجه عام عن شرحها تفصيلًا أو عن التحديد الدقيق لأكثر النظم المؤسسية إسهامًا في المحافظة عليها. لا شك أن الكثير من أدبيات الاقتصاد التقني معنيّ بهذه القضايا على وجه التحديد. فالمتطلب الأساسي هو المحافظة على القانون والنظام لمنع أي فرد من انتهاك فرد آخر ماديًّا، ولتطبيق العقود التي دخل فيها الأفراد طواعية بما يثري مفهوم «الخاص». وبعيدًا عن هذا، لعل المشكلات الأصعب تنبثق من الاحتكار — والذي يكبت الحرية الفعالة عن طريق حرمان الأفراد من البدائل الموجودة لتبادل تجاري بعينه — وتنبثق كذلك من «تأثيرات الجوار» — وهي التأثيرات الواقعة على الأطراف الثالثة، التي لا يمكن أخذ مال منها أو تعويضها. سنناقش هذه المشكلات مناقشة أكثر تفصيلًا في الفصل القادم.

ما دامت حرية التبادل التجاري الفعالة محفوظة، فإن الميزة المحورية لتنظيم السوق للنشاط الاقتصادي تتمثل في أنه يحول دون حدوث تدخل الفرد في أنشطة الآخرين، فيما يتعلق بمعظم الأنشطة الفردية. يحظى المستهلك بالحماية من إكراه البائع له نظرًا لوجود بائعين آخرين يمكنه التعامل معهم. ويحظى البائع بالحماية من إكراه المستهلك نظرًا لوجود مستهلكين آخرين يمكنه بيع منتجاته لهم. ويحظى الموظف بالحماية من إكراه رب العمل نظرًا لوجود أرباب عمل آخرين يمكنه العمل لديهم، وهكذا. يؤدي السوق هذه المهمة أداءً موضوعيًّا ودون وجود سلطة مركزية.

في واقع الأمر، يكمن سبب رئيس للاعتراض على وجود اقتصاد حر تحديدًا في أنه يؤدي هذه المهمة في كفاءة كبيرة، فهو يمنح الناس ما يريدون بدلًا من أن يمنحهم ما تعتقد مجموعة معينة أنه يجب أن يريدونه. تنطوي غالبية المناقشات المناهضة لإقامة سوق حرة قلة إيمان بالحرية نفسها.

إن وجود سوق حرة لا يستبعد بالطبع الحاجة إلى الحكومات، بل على النقيض، إن وجود الحكومات أمر ضروري فهي تؤدي من جهة دور منبر لتقرير «قواعد اللعبة»، ومن جهة أخرى، تؤدي دور الحكم لتفسير القواعد المقررة وتفعيلها. ما يفعله السوق هو تقليل نطاق القضايا التي يجب البت فيها عن طريق الوسائل السياسية على نحو واسع، وبالتالي، تقليص المدى الذي تحتاجه الحكومة للمشاركة مباشرة في اللعبة. تتمثل السمة المميزة للعمل من خلال قنوات سياسية في أنه يجنح إلى تطلب أو فرض قدر هائل من الإلزام بالقوة، والميزة الرائعة للسوق، على الجانب الآخر، تتمثل في أنها تسمح بوجود تنوع كبير. بلغة سياسية، إنها نظام قائم على التمثيل النسبي، يستطيع كل فرد الإدلاء بصوته للون رباط العنق الذي يريد أن يحصل عليه، إن جاز التعبير، وليس مضطرًا إلى رؤية اللون الذي تريده الأغلبية وبناءً على ذلك إذا كان من ضمن الأقلية عليه الخضوع لهم.

إنها تلك السمة المميزة للسوق التي نقصدها عندما نقول أن السوق توفر الحرية الاقتصادية. لكن هذه السمة أيضًا لها دلالات ضمنية تتجاوز كثيرًا السمات الاقتصادية المحدودة. إن الحرية السياسية تعنى غياب عنصر إكراه الإنسان من قبل إنسان آخر والتهديد الرئيسي للحرية هو وجود قوة الإكراه، والتي تتجمع في أياد ملك أو دكتاتور أو حكم أقلية أو أغلبية مؤقتة. إن الحفاظ على الحرية يتطلب القضاء على تركز السلطة هذا بأقصى درجة ممكنة وكذلك تشتيت أي سلطة لا يمكن إلغاؤها وتوزيعها — وهو ما يسمى بنظام الرقابة والتوازن بين السلطات. وعن طريق تخليص تنظيم النشاط الاقتصادي من قبضة السلطة السياسية، سيقضي السوق على هذا المصدر من القوة الجبرية، وهذا يَُمكِّن القوة الاقتصادية من أن تكون أداة ضبط للقوة السياسية بدلًا من أن تكون تعزيزًا لها.

يمكن توزيع القوة الاقتصادية على نطاق واسع، فليس ثمة قانون بقاء يجبر أن يأتي نمو مراكز جديدة للقوة الاقتصادية على حساب المراكز الحالية. على الجانب الآخر، يعد إلغاء مركزية السلطة السياسية أمرًا أكثر صعوبة، فقد توجد العديد من الحكومات الصغيرة المستقلة، لكن الإبقاء على العديد من المراكز الصغيرة من السلطة السياسية متساوية السلطة في إطار حكومة كبيرة واحدة أصعب للغاية من أن يكون هناك مراكز عديدة للقوة الاقتصادية في إطار منظومة اقتصادية واحدة ضخمة. فقد يكون هناك العديد من أصحاب الملايين في اقتصاد واحد ضخم، لكن هل يمكن أن يكون هناك أكثر من قائد واحد بارز حقًا؛ أي شخص واحد تتركز فيه كل طاقات مواطنيه وحماسهم؟ إذا حازت الحكومة المركزية على السلطة، فمن المحتمل أن يكون ذلك على حساب الحكومات المحلية. يبدو، إذن، أن هناك شيء كمجموع ثابت للسلطة السياسية التي توزع. بناءً على ذلك، إذا اتحدت السلطة الاقتصادية مع السلطة السياسية، سيبدو أن تركيز السلطة أمر حتمي على الأغلب. على الجانب الآخر، إذا ظلت السلطة الاقتصادية في أياد منفصلة عن السلطة السياسية، يمكنها أن تلعب دور أداة رقابة على السلطة السياسية وأداة ضبط لها.

يمكن توضيح فاعلية هذه المناقشة النظرية على نحو أفضل بضرب مثال. لنفكر أولًا بمثال افتراضي قد يساعدنا على توضيح المبادئ المتضمنة في الموضوع، وبعد ذلك سنضرب بعض الأمثلة الواقعية من واقع التجارب الحديثة التي توضح النهج الذي يسلكه السوق للحفاظ على الحرية السياسية.

لا شك أنه من ضمن السمات المميزة للمجتمع الحر حرية الأفراد في تأييد التغيير الجذري في هيكل المجتمع ونشر ذلك صراحةً — ما دام هذا التأييد لا يتجاوز حدود الإقناع، ولا يتضمن القوة أو أي شكل آخر من أشكال الإكراه. إنها لعلامة مميزة للحرية السياسية بمجتمع رأسمالي أن يكون بمقدور الفرد الدفاع عن الاشتراكية والسعي من أجلها. بالمثل، ستتطلب الحرية السياسية بمجتمع اشتراكي أن يكون الناس أحرارًا في تأييد إدخال الرأسمالية إلى المجتمع. فكيف يمكن أن تكون حرية تأييد الرأسمالية مكفولة ومصانة تحت لواء مجتمع اشتراكي؟

كي يتمكن الأفراد من الدعوة لقبول أي شيء، يجب أن يكونوا قادرين على كسب قوت يومهم في المقام الأول، وهذا يثير بالفعل مشكلة في المجتمع الاشتراكي، فنظرًا لأن كل الوظائف تحت السيطرة المباشرة للسلطات السياسية، قد يتطلب الأمر اتباع عمل من أعمال نكران الذات — والذي تأكدت صعوبته بتجربة الولايات المتحدة في أعقاب الحرب العالمية الثانية مع مشكلة «الأمن» بين الموظفين الفيدراليين، مما يعني أنه سيكون من الصعب على حكومة اشتراكية أن تسمح لموظفيها بتأييد سياسات مناهضة تمامًا لمبادئها الرسمية.

لكن لنفترض أن نكران الذات هذا قد تحقق. إذن، لكي يأتي تأييد الرأسمالية بثماره، يجب أن يكون مؤيدوها قادرين على تمويل قضيتهم لعقد اجتماعات عامة، وطبع منشورات، وشراء وقت بث إذاعي، وإصدار صحف ومجلات وهكذا. كيف سيجمعون الموارد المالية؟ قد يكون أو سيكون على الأرجح هناك أشخاص في المجتمع الاشتراكي لهم دخول مرتفعة، ربما رؤوس أموال ضخمة في صورة سندات حكومية وما شابه ذلك، لكن هؤلاء سيكونون بالضرورة مسئولين حكوميين رفيعي المستوى. من الجائز تخيل موظف اشتراكي صغير يحتفظ بوظيفته مع أنه يؤيد الرأسمالية علانية، لكنه أمر يتجاوز حد السذاجة أن نتخيل مسئولًا اشتراكيًا رفيع المستوى يمول مثل تلك الأنشطة «التخريبية».

سيكون المصدر الوحيد للتمويل جمعَ مبالغ صغيرة من عدد كبير من صغار المسئولين، لكن هذا ليس حلًا واقعيًا. فللاستفادة من هذه المصادر، يجب أن يكون الكثير من الناس مقتنعين فعلًا، والمشكلة برمتها تكمن في كيفية إطلاق حملة وتمويلها لفعل ذلك. لم تمول الحركات الراديكالية في المجتمعات الرأسمالية بهذه الطريقة قط، بل تم دعمهم بشكل نموذجي من قبل عدد قليل من الأغنياء الذين أقنعهم فريدريك فاندربيلت فيلد أو آنيتا مكورميك بلين أو كورليس لامونت — وذلك على سبيل ذكر القليلين ممن لمعت أسماؤهم مؤخرًا، أو فريدريك إنجلز إذا عدنا بالزمن إلى أبعد من ذلك. وهذا شيء من عدم المساواة في الثراء في الحفاظ على الحرية السياسية والذي قلما يلحظه الكثير، وهو دور الرعاة.

لا يقتضي الأمر في المجتمع الرأسمالي سوى إقناع بعض الأغنياء بأية فكرة للحصول على الأموال للترويج لها، وهو الأمر الغريب مع ذلك، وهناك العديد من هؤلاء الناس الذين يشكلون بؤر دعم مستقلة، وبلا شك ليست هناك أي ضرورة حتى لإقناع الناس أو المؤسسات المالية التي تملك أموالًا وفيرة بصحة الأفكار التي سيتم ترويجها، بل تتمثل الضرورة في إقناعهم بأن ذلك الترويج سيحقق نجاحًا ماليًا، أي أن الصحيفة أو المجلة أو الكتاب أو أي مشروع تجاري آخر سيكون مربحًا. على سبيل المثال، لا يمكن أن يتحمل الناشر التنافسي تكاليف نشر أي مؤلف لمجرد أنه يتفق معه شخصيًا؛ بل يجب أن يكون معياره احتمالية أن سوقه سيكون ضخمًا بدرجة كافية ليعود عليه بعائد مرضي على استثماره.

وبهذه الطريقة يكسر السوق تلك الحلقة المفرغة ويجعل بالإمكان، في النهاية، تمويل مثل تلك المشروعات التجارية عن طريق جمع مبالغ صغيرة من العديد من الأشخاص دون إقناعهم في البداية، إلا أن مثل هذه الإمكانيات لا تتوفر في المجتمع الاشتراكي؛ حيث تجتمع السلطات كافة في يد الدولة.

لنجمح بخيالنا ونفترض أن الحكومة الاشتراكية تدرك هذا الأمر وبأنها تتألف من أشخاص متلهفين لحماية الحرية، فهل من الممكن أن تقدم الأموال اللازمة لذلك؟ ربما، لكنه من الصعب تخيل كيفية حدوث ذلك. قد تؤسس الحكومة جهة رسمية لتقديم العون المالي للدعاية التخريبية، ولكن كيف ستختار من ستقدم له العون؟ فإذا قررت تقديم الدعم لكل من يطلبه، سرعان ما ستجد نفسها بلا أموال، وهذا لأن الاشتراكية لا تستطيع إلغاء القانون الاقتصادي الأساسي بأن السعر المرتفع بقدر كافي يستدعي طلبًا كبيرًا. وإذا كان تأييد القضايا الراديكالية مربحًا بالقدر الكافي فسيكون دعم المؤيدين لا محدود.

علاوة على ذلك، إن حرية تأييد القضايا التي لا تحظى بقبول واسع لا تقتضي أن يكون مثل ذلك التأييد دون ثمن. على النقيض من ذلك، لن ينعم أي مجتمع بالاستقرار إن كان تأييد التغييرات الجذرية دون ثمن، ناهيك عن أن يكون بلا دعم مالي. من الملائم تمامًا أن يقدم الأفراد تضحيات لتأييد القضايا التي يؤمنون بها من أعماقهم، ومن الأهمية بمكان فعلًا أن ينعم هؤلاء الذين على استعداد لإنكار ذواتهم فقط بالحرية، وإلا ستتدهور الحرية إلى إباحية وعدم مسئولية، والأمر الجوهري هنا أن تكون تكلفة تأييد القضايا التي لا تحظى بقبول واسع مقبولةً وليست عنصر إعاقة.

إننا لم ننتهِ بعد، ففي المجتمعات ذات الأسواق الحرة، يكفي امتلاك الموارد المالية، فموردو الورق على استعداد لبيعه لجريدة ديلي وركر مثلما هم مستعدون لبيعه لجريدة وول ستريت جورنال. على الجانب الآخر، في المجتمعات الاشتراكية، لن يكفي امتلاك الموارد المالية، حيث يجب على المؤيد الافتراضي للرأسمالية إقناع مصنع صنع الورق الحكومي ببيعه له، وكذلك إقناع صاحب المطبعة الحكومية لطبع منشوراته، وأيضًا إقناع مكتب البريد الحكومي لتوزيعها بين الناس، وإقناع الهيئة الحكومية بإيجار قاعة يلقي فيها خطاباته وما إلى ذلك.

لعل ثمة طريقة ما يستطيع المرء من خلالها التغلب على مثل هذه الصعوبات وحماية الحرية في إطار مجتمع اشتراكي، فلا يمكن الجزم بأن ذلك مستحيل تمامًا، ولكن من الواضح أن هناك عقبات حقيقية في طريق إنشاء مؤسسات تحمي بفاعلية إمكانية الخروج عن النص. وعلى حد علمي، لم يتصد بشجاعة أحد من الذين أيدوا الاشتراكية والرأسمالية أيضًا لهذه القضية، أو حتى اتخذ خطوة بداية جديرة بالاحترام على طريق تطوير النظم المؤسسية التي قد تسمح بتحقيق الحرية في إطار الاشتراكية، بل على النقيض من ذلك، فإنه من الواضح كيف أن المجتمع الرأسمالي ذا السوق الحرة يعزز الحرية.

من الأمثلة البارزة على هذه المبادئ النظرية تجربة ونستون تشرشل، فمنذ عام ١٩٣٣ حتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، لم يسمح له بالحديث عبر الإذاعة البريطانية، والتي كانت احتكارًا حكوميًا بالطبع تحت إدارة هيئة الإذاعة البريطانية، على الرغم من أن تشرشل كان مواطنًا مرموقًا في بلاده وعضوًا برلمانيًا ووزيرًا سابقًا ورجلًا يناضل بكل ما أوتي من قوة لإقناع أبناء شعبه باتخاذ خطوات لصد خطر ألمانيا الهتلرية. لم يسمح لتشرشل بالتحدث إلى الشعب البريطاني عبر الإذاعة لأن هيئة الإذاعة البريطانية كانت احتكارًا حكوميًا وموقفه كان «مثيرًا للجدل» أكثر من اللازم.

مثال آخر بارز ما ورد في مجلة التايم عدد ٢٦ يناير/كانون الثاني عام ١٩٥٩ وكان يتعلق ﺑ «تلاشي القائمة السوداء» ورد في قصة التايم ما يلي:

يعد حفل تقديم جوائز الأوسكار أكبر علامات السمو وعلو المكانة في هوليوود، لكن هذه المكانة تضررت منذ عامين، وذلك عندما أعلن روبرت ريتش كأفضل كاتب عن فيلم «الشجاع» ولكنه لم يصعد لاستلام الجائزة، فقد كان روبرت ريتش اسمًا مستعارًا يخفي وراءه واحدًا من بين مائة وخمسين كاتبًا … اعتبرتهم صناعة السينما ضمن القائمة السوداء منذ عام ١٩٤٧ للاشتباه بأنهم شيوعيين أو متعاطفين مع الشيوعية. أثارت هذه القضية تحديدًا حالة من الارتباك وذلك لأن أكاديمية الفنون والعلوم السينمائية قد منعت أي شيوعي أو داعية للتعديل الخامس من المشاركة في مسابقة الأوسكار، لكن في الأسبوع الماضي أعيد صياغة القاعدة الخاصة بالشيوعيين وحل لغز هوية ريتش فجأة.

اتضح أن ريتش هو دالتون ترومبو مؤلف رواية «جوني يلتقط سلاحه»، والذي يعد واحدًا من «عشر مؤلفين في هوليوود» رفضوا الإدلاء بشهاداتهم في جلسات الاستماع عام ١٩٤٧ حول الشيوعية في مجال صناعة السينما، وقد صرح المنتج فرانك كينج، الذي أصر إصرارًا شديدًا على أن روبرت ريتش كان «شابًا ذا لحية يعيش في أسبانيا»، قائلًا: «لدينا التزامًا تجاه المساهمين ينص على شرائنا أفضل نص يمكننا شراؤه، وقد أحضر لنا ترومبو «الشجاع» ولذا اشتريناه.» …

كان ذلك في الواقع النهاية الرسمية لقائمة هوليوود السوداء، أما بالنسبة للكتاب المحظورين، فقد تحققت النهاية غير الرسمية منذ زمن بعيد، فيزعم أن خمسة عشر في المائة على الأقل من أفلام هوليوود الحالية كتبت بواسطة أفراد من القائمة السوداء. ذكر المنتج كينج: «هناك أشباح في هوليوود أكثر من مقابر فوريست لون، لقد استعانت كل شركة بالمدينة بعمل من أعمال كتاب القائمة السوداء، إننا فقط أول من يؤكد كل ما يعلمه الجميع.»

قد يؤمن المرء، مثلي، أن الشيوعية ستدمر جميع حرياتنا، وقد يعارضها المرء بكل ما أوتي من صرامة وقوة، ومع ذلك، يؤمن في الوقت نفسه أنه في مجتمع حر، من غير الممكن ولا المحتمل منع شخص من الدخول في اتفاقيات طوعية مع الآخرين ينجذب كل منهم للآخر، لأن ذلك الشخص يؤمن بالشيوعية أو يحاول الترويج لها، وذلك لأن حريته تتضمن حرية ترويجه للشيوعية. وكذلك، فإن الحرية، أيضًا، تتضمن، بالطبع، حرية الآخرين في عدم التعامل معه تحت تلك الظروف. لم تكن قائمة هوليوود السوداء عملًا حرًا وكانت تدمر الحرية لأنها اتفاق استعان بوسائل قسرية لمنع حدوث تبادلات طوعية. لم تنجح هذه القائمة على الوجه الأكمل لأن السوق جعلت الحفاظ على القائمة السوداء أمرًا مكلفًا. إن التشديد على الأهمية التجارية؛ أي حقيقة أن الأشخاص الذين يديرون مشروعات تجارية خاصة لديهم حافز لجني أكبر قدر ممكن من المال، صان حرية الأشخاص الذين تم إدراجهم ضمن القائمة السوداء عن طريق توفير شكل بديل من التوظيف لهم، وعن طريق تزويد الناس بحافز لتوظيفهم.

إذا كانت هوليوود وصناعة السينما شركات حكومية أو لو كان الأمر في انجلترا مسألة توظيف من قبل هيئة الإذاعة البريطانية، لكان من الصعب تصديق أن «قائمة الكُتَّاب العشرة في هوليوود» أو أمثالهم قد وجدوا وظائف. على نحو مماثل، من الصعب تصديق أنه في ظل تلك الظروف، سيتمكن أنصار الفردانية والمشروعات التجارية الخاصة — أو بالطبع أَخْلَص الأنصار لأية رؤية جديدة بخلاف الرؤية الموجودة — من الحصول على وظائف.

ظهر مثال آخر على دور السوق في الحفاظ على الحرية السياسية خلال تجربتنا مع المكارثية. فبعيدًا تمامًا عما تضمنته من قضايا أساسية والوقائع الموضوعية للتهم التي وُجِّهَتْ، ما الحماية التي نالها الأفراد والموظفون الحكوميون بالأخص ضد الاتهامات غير المسئولة والتحقيقات في أمور كان الكشف عنها مخالفًا لما يمليه عليهم الضمير؟ إن مطالبتهم بالاحتكام إلى التعديل الخامس كانت لتصبح أمرًا عبثيًا، دون وجود بديل للوظائف الحكومية.

تمثلت حمايتهم الأساسية في وجود اقتصاد السوق الخاصة الذي استطاعوا من خلاله كسب قوت يومهم، مع ذلك لم تكن الحماية مطلقة هنا أيضًا؛ حيث كره العديد من أصحاب الأعمال الخاصة المحتملين، بحق أو بغير حق، توظيف هؤلاء المشهر بهم. قد يكون السبب في ذلك أن الأضرار التي ستلحق بالأشخاص المعنيين أكبر بكثير من الأضرار التي عادة ما تلحق بالأشخاص المناصرين لقضايا لا تلقى رواجًا، لكن بيت القصيد هنا أن الأضرار كانت محدودة ولم تمثل عنصر إعاقة، كما كان من الممكن أن تكون في حال كان التوظيفُ الحكومي الاحتمالَ الوحيد.

من الجدير بالملاحظة أن جزءًا كبيرًا من الأشخاص المعنيين اتجهوا على ما يبدو إلى القطاعات الأكثر تنافسية من الاقتصاد — كالمشروعات التجارية والتجارة والزراعة — حيث يكون السوق أقرب ما يكون من السوق الحرة المثالية. لا أحد يشتري الخبز يعلم هلالقمح الذي صنع منه قد زرعه شيوعي أم جمهوري، أم دستوري أم فاشي، أم — من وجهة النظر هذه — زنجي أم رجل أبيض. هذا يوضح كيف يفصل السوق الموضوعي النشاطاتِ الاقتصاديةَ عن الآراءِ السياسيةِ، ويحمي الأفراد من التعرض للتمييز في نشاطاتهم الاقتصادية لأسباب لا علاقة لها بإنتاجياتهم، سواء كانت هذه الأسباب مرتبطة بآرائهم أو بلونهم.

كما يشير هذا المثال، إن أكثر الجماعات عرضة للخطر بمجتمعنا فيما يتعلق بالحفاظ على الرأسمالية التنافسية وتعزيزها هي جماعات الأقلية؛ تلك التي قد تصبح بكل سهولة هدفًا للشك والعداوة من قبل الأغلبية، وهي جماعات كالزنوج واليهود والمتجنسين، وذلك من باب ذكر الحالات الأوضح فحسب. ومع ذلك، وعلى نحو متناقض، فإن أعداء السوق الحرة — الاشتراكيين والشيوعيين — تم تعيينهم بمعايير غير تناسبية من بين هذه الجماعات، وبدلًا من إدراك أن وجود السوق قد حماهم من مواقف أبناء بلدهم، راحوا ينسبون، خطأً، آثار التمييز المتبقية إلى السوق.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤