الفصل التاسع عشر

في أثناء ذلك كان موقف الجيش الفرنسي يسوء من يوم إلى يوم، وكان البرد القارس، ذلك العدوُّ الرهيب، يُسقِط الجليد إلى عشرين درجة تحت الصفر، فكأنَّ القدر شاء اليوم أن يعبس في وجه نابوليون كما ابتسم له في الماضي. ولكن لم يبق للإمبراطور، بعد جميع الخسائر التي كابدها في معارك سمولنسك وبولوتسك ووياسما التي تلت حريق موسكو، إلَّا شجاعة قوَّاده وجنوده الذين، وإن عصفت عليهم عواصف النكبات بعد تلك الانتصارات العديدة، إلَّا أنهم بقُوا جديرين بالمجد وبالرجل العظيم الذي قادهم من فتح إلى آخر، سوى أن الشجاعة الكبيرة، وإن كانت لا تزال قادرة على إبقاء المجد تحت أعلامها؛ فإنها لا تستطيع شيئًا ضدَّ الحظ الخائن.

المذكِّرة التاسعة والعشرون

«بدأ البرد القارس في السابع من شهر تشرين الثاني، فمنذ ذلك الوقت أخذت كلُّ ليلة تختلس منَّا بضع مئات من الجياد التي فتك بها البرد. ولما وصلنا إلى سمولنسك كنَّا قد فقدنا كثيرًا من الجياد والخيَّالة والمدافع.

كانت الطرق مُغطَّاة بالجليد، أما الجياد فلم تكن تموت بالمئات بل بالألوف حتى إنه لم تمضِ بضعة أيام حتى فني ثلاثون ألفًا منها، عند هذا اضطرَّ الجيش أن يترك قسمًا كبيرًا من المدافع والمئونة على قارعة الطرق.

لمَّا شاهد الأعداء هذا الموقف الفظيع أرادوا أن يغتنموا الفرصة، وكانوا محتلِّين جميع معابر البريزينا، وهو نهرٌ عَرْضُه مائة وعشرون قدمًا، فاستحكموا في منافذ مُختلِفة ظنًّا منهم أن الجيش الفرنسي لا بدَّ أن يمر منها. إلا أن نابوليون، بعد أن خدع العدوَّ بحركات متباينة، زحف إلى قرية ستودزياكا وألقى جسرين على النهر مرَّ عليهما الدوق ده ريجيو فهاجم العدوَّ وقاتله ساعتين متواليتين حتى تمكَّن من إبعاده إلى جسر بوريزوو.

ولكنَّ نابوليون لم يتملَّص من الروسيين إلَّا ليشاهد جيشه متساقطًا تحت قساوة البرد! قال أحد الشهود: كانت الأيدي تجلد على الحديد والدموع تتجمَّد على الخدود، وكنَّا في حالة من الخدر والجمود صعب علينا بها أن نتبيَّن بعضنا بعضًا … وقال الدكتور لاري: كما نمشي في صمتٍ رهيب … وكان الموت مُرتسِمًا على شحوب الوجوه بشيء من البله!»

بعد مرور يومين من إرسال نابوليون هذه المذكِّرة الشؤمى جمع قوَّاده الممتازِين في معسكره العام، وأطلعهم على أنه يرغب في تركهم والذهاب إلى عاصمته التي تُوجِب عليه الظروف أن يُسرِع إليها. قال: «إني أغادركم لأصحب معي ثلاثمائة ألف جندي؛ إذ إننا يجب علينا أن نُشهِر حربًا أخرى؛ لأننا، للمرة الأولى، قمنا بحملة لم تنجز الحرب … لقد قُهِرْنا ولم يكن قاهِرُنا سوى عناصر الطبيعة في هذا الفصل الرهيب؛ إلَّا أن حملة روسيا إنما هي أمجد وأشرف حملة يسجِّلها التاريخ الحالي.»

وفي الخامس من شهر كانون الأول أخذ الإمبراطور طريق باريس تاركًا قيادة الجيش العامة لملك نابولي.

قال بنجمين كونستان: «لقد هدم شتاء ١٨١٢-١٨١٣ الرهيب آمال الجيش الفرنسي، فرأت بولونيا وبروسيا والبافيير والرين نابوليون المنهزِم عائدًا إلى فرنسا! …» لما وصل الإمبراطور إلى باريس أظهر استياءً شديدًا من تصرُّف خِيرة رجال الإمبراطورية، ساعة انتهى إليهم أن نابوليون قد قُتِل في موسكو، فقال: «ولكن ملك روما! قَسَمكم! مبادئكم! أين كلُّ هذا؟ إنكم لتصوِّرون المستقبل مُظلِمًا في عيني.» إلَّا أنه لم يلبث طويلًا أن أخذ يفكِّر في الأمر الضروري الذي جاء من أجله، وما عتم الأمر أن أصدر مجلس الشيوخ مرسومًا بتجنيد ثلاثمائة وخمسين ألف رجل.

في أثناء ذلك كانت بقايا حملة روسيا قد اجتازت بولونيا واجتمعت على حدود ألمانيا، وبالرغم من انكسارها وتشتُّتها ومكابدتها قساوة العناصر الطبيعية لم تقف عن مقاتلة الروسيين في كرونو تحت قيادة المرشال ناي، منذ ذلك الوقت أصبح بلاتوو بالرغم من مطاردته للفرنسيين وقد خشي أن يتبارى وهذه الفئة القليلة من البُسَلاء الذين ما زالوا يمثِّلون شرف الجيش الكبير وشجاعته ومجده. إلَّا أن الفرنسيين كانوا قد وصلوا إلى عهدٍ لم يبقَ فيه شأنٌ للنبوغ والبطولة، فإذا كان النصر لا يزال يماشيهم في وسط آلامهم وتعاستهم فإن الحظَّ ليعاكسهم ويخونهم؛ إذ إنه بعد أن وهبهم حلفاء أقوياء أقدم على سلخهم عنهم واحدًا بعد الآخر وتحويلهم جميعهم إلى أعداء متمرِّدين.

هو ذا الجَحْفل البروسياني المساعِد قد بدأ يتحرك، فلقد شرع قائده الجنرال بورك الذي أخذ تعليماته من وزارة برلين يداول مع الروسيِّين؛ وفردريك غليوم، الذي لا تزال ولاياته تحت تصرُّف الجيوش الفرنسية أو تهديدهم، قد أنكر جَهْرًا ما أمر به سرًّا، على أن يعود فيتظاهر بالعداء عند سنوح الفرصة.

في الثامن من شهر كانون الثاني عام ١٨١٣ ترك مورات الجيش الفرنسي ليعود إلى نابولي بعد أن سلَّم القيادة العامة لأوجين. فلما بلغ الإمبراطور هذا العمل الفجائي الذي اعتبره هزيمةً مريبة كتب إلى شقيقته كارولين ما يلي: «إن زوجكِ إنما هو رجلٌ باسل في ساحات الحروب، ولكنه أضعف من امرأةٍ ساعة لا يرى العدوَّ، إذن فهو لا ينطوي على شجاعة أدبية.» ثم كتب إلى مورات نفسه يقول: «لقد سبَّبت لي جميع الأضرار التي استطعتها منذ سفري من ويلنا، فيظهر أنَّ لقب ملك قد بَرَمَ رأسك.» عندما ترك مورات المركز الخطير الذي وضعه فيه نابوليون، صرف لتاجِه من الاهتمام فوق ما صرف لمجده، وسيجيء يومٌ يخسر فيه أحد هذين من غير أن يستطيع صيانة الآخر. كم أن الحوادث تسرع في سيرها! فلقد ولج نكران الجميل نفوس هؤلاء الذين يرجع إليه فضل مقامهم السامي وشهرتهم وحظهم!

قبل أن يغادر نابوليون باريس، جرَّب أن يضع حكومته في مأمن من الخطر الذي قد يوقعها فيه غيابه، فعَهِد بالسلطة السامية إلى الإمبراطورة ماري لويز، بعد أن أسَّس إلى جنبها مَجْلِسًا نيابيًّا. وكأنه تنبَّأ أن هجومه هذه المرة لن يكون على جيوش القيصر فحسب، بل إن حلفاءه الألمانين والنمسويين وغيرهم، الذين بقُوا دائمًا أعداء سريِّين له، لا بدَّ أن يشهروا العداء في وجهه، فرأى أنَّ الثلاثمائة والخمسين ألف جنديٍّ غير كافِين للحملة، وأصدر أمرًا بتجنيد مائة وتسعين ألفًا أُخَر. أما الشعب، فبالرغم من أن حماسه لم يبقَ كما كان عليه عهدَ مارنغو وأوسترلتز، لم يجد مفيضًا من النزول في أمره على الإذعان للتضحية التي تتطلَّبها الظروف. على أن الفئة الغنية من الأهالي، وإن كانت أشدَّ من غيرها تمسُّكًا بالمدافعة عن أرضها، إلَّا أنها أخذت تسعى إلى التملُّص من التجنيد بدفع المال عوضًا عن الرجال.

في أثناء ذلك كان ملك بروسيا قد أعلن عداءه لنابوليون والدخول في الحملة التي تُجهَّز ضدَّه، إلا أن هناك عدوًّا آخر لم يجد بدًّا من المجاهرة بالخصومة بين سلطات الشمال، وهو برنادوت، الذي عزم على أن يقاتل الفرنسيين بعد أن ضمن له القيصر عرش السويد وجعله ينتظر تاج فرنسا! بعد حملة موسكو وانكسار الجيش الفرنسي خُيِّل لبرنادوت أن الوقت قد حان لبلوغ أربه. ترك نابوليون قصر سن كلود في منتصف شهر نيسان ليسرع إلى الميعاد الذي ضربته له أوروبا الشمالية في ألمانيا.

وصل نابوليون إلى أرفورث في الخامس والعشرين من شهر نيسان، في حين كان المرشال ناي يستولي على ويسنغل بعد موقعة جعلته يقول: «إنه لم يرَ قطُّ حميَّة وثباتًا أشد من اللذين رآهما في فرقة المدفعية.»

حمل الإمبراطور معسكره العام إلى ويسغنل وألقى ثلاثة جسور على نهر السال الذي كان الجيش الفرنسي مُعسكِرًا على شواطئه تحت قيادة أوجين. وفي أوَّل شهر أيار زحف المرشال ناي إلى الأمام مع فرقة سوهام فاجتاز مضيق بوزرنا، الذي تحميه ستة مدافع وثلاثة صفوف من الخيَّالة، وهو يهتف «ليحيَ الإمبراطور!» وتبعته فرق جيرار ومرشان وبرينيه وريكار، وما هي إلَّا بضع ساعات حتى طرد الفرنسيون خمسة عشر ألف خيَّال من خيَّالة القائد ونتزنجرود، كانوا في السهل الممتدِّ من مرتفعات ويسنغل حتى الألب. وحدثت بعد ذلك موقعة لوتزن فكان النصر فيها حليفًا للفرنسيين، الذين أبلَوا بلاءً حسنًا وأظهروا شجاعة لم يُظهِروها قبل ذلك فخاطبهم نابوليون بقوله:

أيها الجنود

إنني مسرور بكم! فلقد اخترقتم كلَّ حاجز بما أُوتيتموه من البسالة! لقد شتَّتم الجيش الروسي والبروسياني، الذي قاده الإمبراطور إسكندر وملك بروسيا، فأضفتم كوكبًا جديدًا إلى مجد نسوري، إذن فستُوضَع موقعة لوتزن فوق مواقع أوسترلتز ويينا وفرييدلان والموسكووا! …

عندما قُهِر جيش إسكندر وفريدريك غليوم أسرع بالمرور إلى شاطئ الألب الأيمن.

في الحادي عشر من شهر أيار كان نابوليون مستوليًا على دريسد، وفي اليوم التالي ذهب لملاقاة ملك السكس الذي دخل إلى عاصمته دخولًا احتفاليًّا. وفي الثامن عشر منه خرج الإمبراطور من دريسد ليتَّجه إلى لوزاس فيتابع وقائعه، وما هي إلَّا أيَّام قلائل حتى قُيِّض له انتصارات عديدة. في التاسع عشر من شهر أيار قاتل لوريستون الجنرال يورك في ويسي؛ في العشرين والواحد والعشرين ربح الإمبراطور بنفسه موقعتي بوتزن وورتشن، وفي الثاني والعشرين طارد الجنرال رينييه فرقة الحرس الروسية وشتَّتها على مرتفعات جبل ريشنباك. إلا أن هذه المعركة الأخيرة لم تنتهِ إلا وقد حمَّلت نابوليون خسارة أفظع من جميع الخسائر التي قاساها حتى اليوم؛ ففي نحو الساعة السابعة من المساء كان مرشال القصر الكبير دوروك يتحدَّث والمرشال مورتيه والجنرال كيرجنر، على مرتفع صغير يبعد مسافة كبيرة عن نيران العدوِّ، فمرت رصاصة فتحت بطن دوروك وألقت الجنرال كيرجنر ميتًا.

لم يكد الإمبراطور يبلغه هذا النبأ الموجِع المشئوم حتى أسرع إلى دوروك، الذي كان لا يزال يتنفَّس بعدُ، فلما أبصر المرشال نابوليون بالقرب منه أخذ يده فضغط عليها وأدناها إلى شفتيه قائلًا: «لقد وقفتُ حياتي لخدمتك، ولا آسف عليها إلَّا لأنها قد تفيدك بعدُ!» فأجابه الإمبراطور: «إن هناك حياة أخرى يا دوروك فستنتظرني فيها وسنجتمع يومًا.» فقال دوروك: «أجل يا صاحب الجلالة، ولكن سيكون ذلك بعد ثلاثين سنة، عندما تنتصر على جميع أعدائك وتحقِّق آمال وطننا … لقد عشت عيشة رجل شريف، فلا أُوبِّخ نفسي على شيء، وأترك ابنةً ستكون جلالتك أبًا لها.» فتفطَّر قلب نابوليون لدى سماعه كلام دوروك وأخذ يده اليمنى بيده، وبقي ربع ساعة ورأسه مستند إلى يد رفيقه اليسرى من غير أن يقوى على التلفُّظ بكلمة، حتى قطع دوروك السكوت ليوفِّر بعض الآلام على روح الرجل العظيم، الذي بقي صديقه عندما أصبح مولاه، فقال له: «آه يا مولاي! اذهب! فهذا المشهد يؤلمك!» فأذعن نابوليون إلى هذا الرجاء الأخير وترك دوروك من غير أن يستطيع أن يقول له إلَّا هذه الكلمات: «وداعًا إذن يا صديقي!» ولقد احتاج إلى الاتِّكاء على المرشال سول وكولنكور ليعود إلى خيمته، التي لم يشأ أن يقابل فيها أحدًا طوال الليل.

في اليوم التالي، انتصر الجنرال رينييه انتصارًا جديدًا على الروسيين في معركة كورليتز، وفي الرابع والعشرين اغتصب المرشال ناي ممر نيس، وفي الخامس والعشرين، صباحًا، كان على مسافة من كيس يستعدُّ إلى دخول بونتزلو التي وصلها الإمبراطور في المساء.

مائتا ألف روسي وبروسياني ونمسوي، يقودهم إمبراطور روسيا وملك بروسيا وأمير شوارتزنبرج، كانوا يعبرون بوهيميا بسرعة عظيمة ليشنُّوا الغارة على السكس ويستحْكِموا على شاطئ الأيلب الأيسر، وكان مائة ألف رجل بقيادة بلوخر وساكن يتحرَّكون في السيليزي، ومائة وعشرة آلاف رجل بينهم كتائب مُتطوِّعة تمثِّل الوطنية الجرمنية يزحفون على جميع الخطوط التي تصل هامبرج ببرلين لملاقاة الفرنسيين.

لم تكن الكتائب الغفيرة يومًا من الأيام لِتستطيع أن تقف في وجه الفرنسيين ما لم تشتِّت شمْلَها الثورة الفرنسية التي يمثِّلها أبرُّ أبنائها نابوليون بونابرت. لقد سعى الحلفاء سنين طوالًا لقهر ذلك الجندي العظيم من غير أن يبلغوا منه لُبانة، حتى لم يبقَ لهم من وسيلةٍ إلا أن يستميلوا إليهم ولدين من أولاد تلك الثورة نفسها، فيتسلَّلوا على يدهما إلى مداخل الفنِّ العسكري والرقية الحربية اللذين شيَّدا عظمة أُمِّهما فرنسا، ولقد أُتِيح للحلفاء ذلك؛ إذ إن مورو آثر أن ينضمَّ إلى إسكندر روسيا ويتفيَّأ ظلال العلم الموسكوي في جيش بوهيميا الكبير على أن يبقى أمينًا للعلم الفرنسي، وإذ إن برنادوت، كما جاء في الجريدة الرسمية «الميموريال»، سلَّم أعداء فرنسا مفتاح سياستها وعلَّمهم فنَّ جيوشها ودلَّهم على طريق الأرض المُقدَّسة.

كان برنادوت يقود جيش برلين! …

ثم إن مورات أيضًا كان على وشك أن يتمرَّد على أمانته ويفقد مجده، فلقد كُتِب على إحدى صفحات مستقبله أنه سيجحد ويخون المُحسِن إليه، صديقه وأخاه! إلا أن ساعة الخيانة والعار لم تكن قد حانت بعدُ، ففي الرابع عشر من شهر آب ظهر مورات مرة أخرى في ساحة الحرب في دريسد ليحارب أعداء نابوليون وفرنسا.

زحف نابوليون لملاقاة الإسكندر وملك بروسيا، فاغتصب معابر بوهيميا واستولى على كوبل ورمبرج وجور جنثال، وبعد أن دنا إلى مسافة عشرين ميلًا من براغ، عاد إلى زيثو ليلحق بجيش السيليزي. في الواحد والعشرين، وصل إلى لوونبرج صباحًا فألقى جسورًا على نهر بوبر وعبره، بالرغم من نيران العدو الذي قهره وطارده إلى كولدبرج. وفي الثالث والعشرين جرى قتالٌ جديد؛ فإن الجنرال جيرار شتَّت شمل كتيبة مؤلَّفة من خمسة وعشرين ألف بروسياني، وما هي إلَّا مدة قصيرة حتى انهزم الحلفاء أمام الكتيبة المائة والخامسة والثلاثين، إلَّا أن جميع هذه الانتصارات لم تؤثِّر على تقدُّم جيش بوهيميا الكبير الزاحف إلى عاصمة السكس زحفًا هائلًا.

عندما علم نابوليون بحركة جيش بوهيميا، ترك قيادة جيش السيليزي للمرشال ماكدونالد، وأسرع مع ناي لنجدة دريسد. أيصل في الوقت المُعيَّن؟ كانت المدينة مزنَّرة بكتائب لا يُحصَى عددها تعبر من جميع الجهات لسَحْق الجيش الضعيف الذي يقوده المرشال سن سير. في تلك الآونة كان الملك المسنُّ شاخصًا من نوافذ قصره إلى خرائب القرى الجميلة التي تحيط بعاصمته، وقد مزج أحزانه وآلامه بالحزن والألم اللذين سبَّبهما انكسار كتائبه. كان كلُّ شيء يبشِّر بأن دريسد ستقع في قبضة الجيش النمسوي-الروسي، وأن المرشال سن سيرلن يستطيع أن يقاوم طويلًا بعدُ في شوارتزنبرج.

ولكن ظهر نابوليون فجأةً؛ في السادس والعشرين، الساعة العاشرة صباحًا، اجتاز الإمبراطور جسر دريسد على صهوة جواده تتبعه كتائبه الباسلة، فعادت الآمال إلى الصدور وأشرقت الوجوه ببريق من القوَّة كأن شعب دريسد قرأ على هذه الأسرَّة الحربية دلائل السلام والراحة. وأول ما قام به نابوليون أنه صعد توًّا إلى القصر وطمأن الأسرة المالكة التي كانت تفكِّر في الهرب، ثم خرج من القصر وملْء رغباته، أن يعرف بنفسه، كم هو عدد الأعداء، وما هو مركزهم وحركاتهم، فمشى مُسرِعًا لهذه الغاية إلى أحد أبواب المدينة.

في الساعة الواحدة وصل نابوليون إلى أطراف ضاحية بيلنيتز، وفي الساعة الثالثة أُعطِيت إشارة القتال بثلاث إطلاقات من مدافع الجيش النمسوي-الروسي فهبَّ العدو الكامن على جميع المرتفعات المزنَّرة بها المدينة ووثب إلى السهول صارخًا: باريس! باريس! إلَّا أن الجندي الفرنسي ما لبِثَ أن أُشعِر بقوته وبسالته أمام إمبراطوره الحارس على شرف نسوره، فما هي إلا هنيهة حتى حمي وطيس المعركة وتساقطت القنابل على المدينة، عند هذا فهم نابوليون أن الوقت أصبح حرجًا جدًّا، وأنه لا ينبغي أن يتهامل في إنقاذ عاصمة الحليف الوحيد الذي بقي له فأشار إلى مورات وخيَّالته بأن يهجموا على جناح العدوِّ الأيمن، وإلى فرقة الدوق ده تريفيز بأن تهاجم الجناح الأيسر، ثم أشار إلى أربع فرق من الحرس الحديث يقودها قوَّادها البسلاء دوموتيه، باروا، ديكوز وروجه الذين وُضِعوا هم أنفسهم تحت أوامر أمير موسكووا الباسل بأن تمرَّ من بابي بيزنا وبلوين.

غيَّر ظهور هذين الصفَّين مشهد الحرب؛ إذ انحنى كلُّ شيء أمام الحرس الحديث وتقهقر، وطُورِد العدو في جميع طرقه هاجرًا السهول التي أغار عليها بحمية وبسالة؛ عند هذا صرخ أمير شوارتزنبرج قائلًا: «الإمبراطور في دريسد! فلم يبقَ سبيل إلى الشك، ولا ينبغي لنا إلا أن نجمع بعضنا بعضًا.»

لا نجد بدًّا هنا من اجتزاء فقرة صغيرة، وردت في قصَّة ما حدث في دريسد كتبها أحد السكسونيين، وهو الماجور أودلوبن، الذي شهد الموقعة بنفسه، قال: «اخترق نابوليون على جواده نيران الحرب تحت رذاذٍ من القنابل ليستولي على باب البحيرة وحاجز ليبوديسولد، وبعد أن توقَّف فترة من الوقت هجم إلى ساحة القتال! قُتِل أحد الضباط إلى جنبه وجُرِح كثيرون من معاونيه.»

لم يقف دويُّ المدافع إلَّا في الساعة التاسعة من المساء. أمَّا نابوليون فبقي على صهوة جواده حتى الساعة الحادية عشرة يتفقَّد ساحات القتال، ويتعرَّف إلى مراكز العدوِّ لكي يهيِّئ خططه لموقعة اليوم التالي. في منتصف الليل، دخل إلى القصر؛ إلا أنه قبل أن يأوي إلى سريره نادى إليه برتيه وأملى عليه أوامره، التي بُلِّغت في الحال إلى جميع القواد، لكي يكون كلٌّ منهم على أتمِّ الاستعداد. منذ الصباح كان الإمبراطور على جواده بالرغم من الوحول والأمطار، وما هي إلا بعض ساعات حتى نشبت معركة هائلة شُوهِد فيها مورات مُمتشِقًا حسامه ووشاحه المُزركَش بالذهب يتطاير على كتفيه، وقد هجم بنفسه على فرقة المشاة النمسوية … ومرت ساعات، وإذا بجناح الحلفاء الأيسر قد انسحق، وإذا بالجناح الأيمن قد انسحق أيضًا. وفي الساعة الثالثة بعد الظهر كان نابوليون قد ربح موقعة دريسد، فخشي الأمراء المحالفون أن يفقدوا مواصلاتهم مع بوهيميا، فاضطُروا أن يتقهقروا تاركين في قبضة المنتصر ثلاثين ألف أسير، وأربعين علمًا، وستين مِدْفعًا.

أصابت القنبلة الأولى التي انطلقت من مدافع الحرس الإمبراطوري الجنرال مورو فجرحته جرحًا مُمِيتًا، كأن السماء أبت على قاهر هوهنلندن أن يجسِّم جريمته وعاره في ساحات الحروب، فأوقفته عند حدِّه في وسط الروسيين في أول موقعة عالج فيها حسامه الخائن في سبيل أعداء وطنه، عند هذا خُيِّل لنابوليون أن العناية الإلهية قد رجعت إليه؛ إذ رأى الخيانة تُطعَن في صميمها وتُعاقَب في أحد أخصامها القدماء، ولكن ما خُيِّل إليه وهْمٌ إنما هو سيزول قريبًا، فهو ما لبث أن شعر بأن يدًا تجرِّده من مركزه الأول وقد تنحَّى عنه الروح الحرُّ الذي انتصب ضده في وسط الشباب الألماني؛ سينتهي الرجل السياسي في نابوليون. ولكن بما أن النبوغ سيبقى وفيًّا له، والشعب الفرنسي مجسَّدًا فيه، سيهوي عن العرش من غير أن يهوي عن مجده، ويسقط من غير أن يقف عن الذهاب صُعُدًا في سماء الأجيال.

إن قيصر روسيا وملك بروسيا وأمير شوارتزنبرج هربوا مرَّة أخرى من وجه نسر فرنسا حاملين معهم مورو يحتضر، إلَّا أن أحد قوَّاد نابوليون الجنرال فاندام، الذي يُتَّكل كثيرًا على بسالة كتائبه وشجاعته الذاتية، حاول بقبضةٍ من الجنود أن يقطع المرور عن جيش كامل، ويَظْهَر أنه نَسِيَ ملاحظة الإمبراطور وهي «أنه يجب أن يُبنَى للجيش الهارب جسرٌ من ذهب أو يُشيَّد في وجهه حاجز من نحاس.» وذهب عنه أن القوة التي لديه عاجزة عن أن تُشيِّد هذا الحاجز النحاسي فألقى بنفسه في مضايق كولم، وحاول أن يوقف هناك الجيش الكبير القهور في دريسد، ولكن بعد جهود عظيمة ومقاومة يائسة حمَّلت العدوَّ خسائرَ لا تُحصَى رأى القائد الفرنسي نفسه ملتويًا تحت قوة الجيش الغفير فتوارى في المعركة وظُنَّ أنه قُتِل، وما هي إلا فترة من الوقت حتى أُسِرتْ فرقته بكاملها، وعُلِم بعد ذلك أنه هو نفسه سقط أسيرًا في قبضة الجيش النمسوي-الروسي، فهذا الانكسار الذي كلَّف الجيش الفرنسي أكثر من عشرة آلاف رجل عكَّر موقعة دريسد.

زحف نابوليون إلى السيليزي تاركًا جيش بوهيميا فالتقى بفرقة ماكدونلد على مرتفعات جبل هوشكيرش في الرابع من شهر أيلول. وفي اليوم نفسه قاتل الجيشُ العدوَّ فهزمه من مرتفعات جبل وولنبرج وطارده طوال نهار اليوم الخامس حتى أوصله إلى كورليتز، وفي اليوم السادس عاد إلى دريسد، على أن المرشال أودينو لم يكن حظُّه في زحفه إلى برلين أسعد من حظِّ ماكدونلد في السيليزي، فلقد قُوتِل في كروس برن في الرابع والعشرين من شهر آب، وناب عنه المرشال ناي الذي، بعد أن انتصر بعض انتصارات في اليوم الخامس من شهر أيلول، أُصِيب في اليوم التالي بكسرة فظيعة في جوتربوك حيث قاتله برنادوت وبولوف.

جرت بعد ذلك حوادث أليمة ساعدت على إضعاف الإمبراطور نابوليون، فلقد نهج ملك البافيير نهج إمبراطور النمسا بخرقه حرمة المعاهدات والقيام في وجه فرنسا، وطُرِد ملك ويستفالي، جيروم بونابرت، من عاصمته، واضطر أن يهرب إلى الرين، فأدرك نابوليون آنئذٍ أن موقفه على شواطئ الأيلب أصبح مُهدَّدًا بخطر عظيم، وأخذ يفكِّر في أن يدنو من حدود فرنسا مُحتفِظًا قدر إمكانه بمظهره المنتصر، ولكنه أدرك أيضًا أن قوَّاته لا تستطيع أن تقف طويلًا في وجه جيش لا يُحصَى عدده؛ لأن أوروبا جميعها تغذِّيه برجالها كلَّما ضعف ورق، فشعر أنه بحاجة قصوى إلى تجنيد عسكريٍّ جديد، وطلب من مجلس الشيوخ مائتين وثمانين ألف رجل، فلم يرفض مجلس الشيوخ طلب الإمبراطور.

في الخامس والعشرين من شهر تشرين الأول وصل نابوليون إلى ليبزيك، حيث كانت مجتمعة فِرَق فيكتور وأوجرو ولوريستون، فتَبِعَه الحلفاء عن كَثَب، وتمكَّنوا أن ينضمُّوا كتلةً واحدة حول الجيش الفرنسي الذي أوقفه عن زحفه شوارتزنبرج وجيولاي بننكسن وكوللوريدو وبلوخر وبرنادوت وسدُّوا عليه الجهات الأربع.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤