الفصل الحادي والعشرون

لم تُسفِر جهود الملوك منذ خمس وعشرين سنة إلَّا عن انتصار واحد سينقلب عليهم بعد حين! إن الرجل الكبير لن يهبط من المركز السامي الذي يشغله في التاريخ إذا هبط عن العرش؛ لأنه إذا فقد تاجًا فهو يبقي كل مجده وكل نبوغه وكل عظمته الأدبية، وهكذا الشعب الكبير فإنه سيبقى شعبًا ثوريًّا فيحافظ على سلطته الحضرية ويثابر على سيادته في العالم الراقي. هذا هو سلوك الحكمة العلياء! فإن تحرير البشرية التدريجي، وتحرير العمل، وتقديس حقوق الأهلية، وتأسيس أريستوقراطية الفضائل والنبوغ والخِدَم، أعني تنظيم الديموقراطية الحقيقية، إنما هي الغايات السامية التي شخصت إليها فكرتها النبيلة — فكرة الحكمة العلياء — والتي ستثابر على تحقيقها في كرور الزمن!

لقد أصبحت عاصمة الإمبراطورية وقد احتلَّتها الجيوش الغريبة، فلم يبقَ الحلفاء يكترثون بنابوليون ولا بأسرته، سوى أن إمبراطور النمسا بقي وحده يفكِّر في ملك روما وأمِّه؛ وأما الإسكندر فقد اتَّخذ موقفًا يمتُّ إلى الاعتدال والكرم، وصرَّح أنه سيحترم مشيئة الشعب الفرنسي، ودعاه إلى تأليف حكومة ملائمة له، دعوةً وهمية تقيم فئة من عملاء العصبة الملكية تراجمينَ للأمنية الوطنية.

مَثَل لدى إمبراطور روسيا وفدٌ بين أعضائه الكونت فرَّان١ الخطير ليجيب دعوة القيصر ويقول له ما ترغب فرنسا! أمَّا الكونت ده نسلرود، الذي يعرف فكرة سيده، فقد أطلع الوفد على أن رغبته إنما هي أمنية الرجل الأوتوقراطي،٢ الذي وإن كان صرَّح بسلطة فرنسا الحرَّة مُعترِضًا على تالليران الراغب في عودة البوربونيِّين، لم يكن ذلك التصريح إلَّا مشهدًا من رواية مُضحِكة، إلَّا أنه إنما كان في غنًى عن إلحاح أمير بنيفان (تالليران) ليعلم أن لويس الثامن عشر كان مبدأً، وأن العصبة حاربت لأجل هذا المبدأ؛ ولكنه أراد أن يخفي فكرته الخصوصية وفكرة حلفائه وراء نفوذ إحدى الفِرَق الكبيرة في الأمة، التي كانت تُعتبَر كعنصر الشعب الوحيد؛ وعندما أسمعه تالليران مطاليبَ بعض العصب الفرنسية، التي تنادي بعودة البوربونيِّين، طمأنه إلى أنَّه سيحقِّق جميع ذلك حتى سقوط نابوليون نفسه، وإصعاد لويس الثامن عشر إلى العرش على يد مجلس الشيوخ، الذي لم يكن في الماضي يرفض شيئًا من نابوليون، وفي الثاني من شهر نيسان تمَّ رجاء تالليران؛ فإن مجلس الشيوخ صرَّح بسقوط نابوليون بونابرت وأسرته عن عرش فرنسا، ثم نادى زعيم أسرة البوربون ليسترجع تاج آبائه. وفي حين كان تالليران مالكًا في العاصمة لصالح الغُرَباء والبوربون بصفته رئيس حكومة مؤقتة، كان نابوليون في فونتنبلو تحفُّ به فرقةٌ من الحرس الأُمَناء تتحفَّز لتنتقم من العار الذي لَحِق بباريس، ولكن يُحيط به أركانُ جيشٍ لا يُبْدون مثْلَ الحماس الذي يبديه الحرسُ النشيط.
في الليل الواقع بين الثاني والثالث من شهر نيسان قَدِم الدوق ده فيسانس وأعلن لنابوليون أن الأمراء، الذين عفا عنهم مرارًا عديدة أيَّام كان يستطيع أن يُوصِد في وجوههم مُقدَّراتهم الملكية بعد أوسترلتز ويينا ووكرام، يرفضون أن يتداولوا معه ويطلبون تنازُلَه؛ فسخط سخطًا شديدًا لدى سماعه هذا الادِّعاء وحدَّثته نفسه بادئ ذي بدء بالعودة إلى السلاح، ولكنَّه لم يجد حوله إلا سكونًا كالحًا؛ فإن رفاقه القُدَماء الذين رفعهم إلى أقصى مراتب الجندية أصبحوا اليوم من رجال حكومةٍ سقطت لا يريدون أن يشتركوا في سقوطها. قال مونتسكيو،٣ الفيلسوف الفرنسي الكبير: «أسبغْ على رجلٍ نِعَمًا فأوَّل فكرةٍ توحيها إليه، هي أن يبحث عن الوسائل التي تمكِّنه من المحافظة عليها.» فهذه الفكرة التي اختبرها نابوليون اضطرته أن يكتب بيده الأسطر التالية:

لقد صرَّحت السلطات المتحالِفة أن الإمبراطور نابوليون إنما هو العَثْرة الوحيدة في سبيل إعادة الأمن إلى أوروبا؛ إذن فالإمبراطور نابوليون الذي يودُّ أن يكون أمينًا على قَسَمِه، يصرِّح بأنه مستعدٌّ أن ينزل عن العرش ويغادر فرنسا لا بل الحياة لأجل طمأنينة الوطن، غير مُنفصِل عن حقوق ولده وحقوق الإمبراطورة وتثبيت شرائع الإمبراطورية.

كتب في قصرنا في فونتنبلو، ٤ نيسان ١٨١٤
نابوليون

وعُهِد إلى كولنكور بأن يأخذ هذه الفتوى إلى باريس وصحبه ناي وماكدونلد. إلَّا أن الدوق ده فيسانس (كولنكور) لم يصحب إلى نابوليون في فونتنبلو إلَّا طلب تنازُلٍ آخر، وهو أن يُجرَّد من حقِّ الملك الأمير الإمبراطوري وسائر أسرة نابوليون، فلم ينزل الإمبراطور عند هذا الطلب الصارِم، وصحَّت عزيمته على مواصلة الحرب فأخذ يفكِّر في القوات الباقية له في الشمال والجنوب وفي الألب وفي إيطاليا، إلَّا أن آماله بقيت من غير تحقيق بالرغم من أنه حثَّ رجاله على الزحف إلى الألب؛ إذ إن رفاقه القُدَماء لم يوافقوه على عزمه هذا …

شعر نابوليون أن جنود لودي وأركول ليسوا إلى جنبه ليتبعوه، وأنَّ أشراف الحكم الإمبراطوري الوراثيين تَعِبوا من حمل السلاح بعد أن ذاقوا عذوبة القصور ورفاهيَّتها فأخذ القلم، وما هي إلا بعض ثوانٍ حتى سلَّم كولنكور الفتوى التي طلبها الحُلَفاء، وهذه هي:

لقد صرَّحت السلطات المتحالِفة أن الإمبراطور نابوليون إنما هو العَثْرة الوحيدة في سبيل إعادة الأمن إلى أوروبا، إذن فالإمبراطور الذي يودُّ أن يكون أمينًا على قَسَمِه يصرِّح بأنه يتنازل هو وأولاده عن عرشي فرنسا وإيطاليا، وأنه ما من تضحية، حتى التضحية بالحياة، تتردَّد أمام مصالح فرنسا.

نابوليون
قال البارون فن:٤ «آه! لو أن نابوليون الساخط رضي في تلك الآونة أن ينزل من مركزه السامي إلى مركز القواد الثانويين، لوجد هناك شبانًا يتحفَّزون للنزول عند رغائبه! كان عليه أن يخطو بضع خطواتٍ ليُحيِّيَه جميع جنوده في أسفل سلالمه! ولكان حماسهم أنعش روحه لو عمل تلك الخطوات! إلَّا أن نابوليون ينوء تحت عادات مملكته، ويُصوَّر له أنه يسقط إذا هو مشى من دون القوَّاد العظام الذين أعطاه إيَّاهم التاج.»

كان الإمبراطور يريد القوَّاد البواسل، الذين أقسموا له في الماضي أن يتبعوه إلى مصر، ولكنه لم يجدهم حوله، ذلك لأن الجمهورية التي رفعته وهبته موكبًا من الأبطال؛ ولأن الإمبراطورية رفعت هؤلاء الأبطال إلى مقام الأسياد العظام الذين لم تبقَ لديهم القوَّة ولا الإرادة ليَحُولُوا دون سقوط تلك الإمبراطورية!

ماذا يحلُّ الآن بسيِّد أوروبا المخلوع؟ أيُّ حظٍّ يُفرَض للرجل الذي وُضِع عاليًا جدًّا والذي تستطيع ذراعه أن تحرِّك العالم في كلِّ حين؟ إلى أيِّ مكان يجب أن يُبعَد؟ بقي الحلفاء متردِّدين بين أن يُبْعِدوه إلى كورفو أو إلى كورسكا أو إلى جزيرة ألبا،٥ إلى أن اختاروا هذه الجهة الأخيرة، وصحَّت عزيمتهم على إجراء معاهدة تقرِّر مُقدَّرات الأسرة الإمبراطورية جميعها. إلَّا أنَّ نابوليون سَخِط سَخَطًا شديدًا، وقال: «ماذا تفيد المعاهدة ما زالوا يرفضون أن يقرِّروا معي ما يتعلَّق بمصالح فرنسا؟» ثم حاول أن يسترجع تنازُله، إلَّا أن الوقت كان قد فات وتمَّت التضحية، في الحادي عشر من شهر نيسان وقَّع الحلفاء المعاهدة التي رفضها نابوليون، وفي اليوم التالي دخل الكونت دارتوا إلى باريس. كان البوربونيُّون يُدرِكون كلَّ الإدراك، أن الفرح الذي استولى على الشعب، إنما هو بعودة السلام إلى فرنسا لا بعودة السلالة القديمة، فوعدوا الشعب بتنظيماتٍ حرة وباحترام مصالح فرنسا الجديدة، لم تُظهِر الثورة يومًا من الأيام نفوذَها العظيم بأجلى ممَّا أظهرته اليوم؛ إذ إنه في الحين الذي سقط فيه النبوغ لانحيازه عن تلك الثورة بعد أن أوصلها إلى أقصى درجات العظمة والمجد، وجد أعداؤها أنفسهم مُضطرِّين أن يؤيدوها ويمْهَروها بضمانات وآمال!

في الليلة التي تلت وصول الكونت دارتوا إلى باريس، جرى في فونتنبلو حادثٌ خطير لا يزال سرُّه مجهولًا إلى يومنا هذا، فلقد شُوهِدت حركة غريبة في القصر، فأسرع خدم نابوليون إلى غرقته الخاصة به وظهرت عليهم أقصى درجات القلق والحزن، ثم جيء بالأطباء وأُوقِظ الأصدقاء الأمُنَاء برتران وكولنكور وماره من نومهم! كان الإمبراطور، الذي رفض توقيع معاهدة نيسان والذي انتهى إليه أن امرأته وولده قد مُنِعا من الذهاب إليه، يقاسي أوجاعًا شديدة إلى درجة أنهم ظنُّوا أن هناك تسميمًا، إلَّا أن الأدوية التي عُولِج بها خفَّفت من آلامه، وما برحت أن شفته شفاءً تامًّا. أما الكَتَبة وبعض المؤرخين، الذين حاولوا أن يؤكِّدوا أن نابوليون شاء أن ينتحر في ذلك الوقت، فقد زعموا أنه قال ساعة شفائه: «إن الله لا يريد!» ولكن بعض ملازمي الإمبراطور صرَّحوا أن الآلام التي كابدها في تلك الليلة السرية إنما هي نتيجة طبيعية للضيقة الروحية التي يقاسيها منذ أكثر من عشرة أيام، ونفَوا الإشاعة التي راجت حول فكرة التسميم. أما الإمبراطور فلم يُظهِر شيئًا ممَّا قاساه في الليل، وكان نهوضه في الصباح كسائر أيَّامه، سوى أنه أظهر نفسه أكثر رضوخًا من ذي قبل؛ إذ طلب المعاهدة التي أشاح عنها بوجهه حتَّى الآن ووقَّعها بإمضائه.

لم تكن ماري لويز، التي استقبلت في رامبولليه إمبراطورَيِ النمسا وروسيا اللذين منعاها من الذهاب إلى فونتنبلو، تنتظر إلَّا رحيل زوجها حتى تتَّجه إلى فيينا مع الأمير الطفل الذي اشترك الإمبراطور فرنسوا، جدُّه العظيم، في سحق مستقبله. إذن فلقد انتهى كلُّ شيء معًا! لذَّة العظمة السياسية النبيلة، وتعزية الحياة الزوجية العذبة! عبثًا حاول الكولونيل، مونتولون أن يؤكِّد للإمبراطور غيرة كتائبه واستعدادهم لإعادة الحرب، فلقد أجابه السيِّد المخلوع: «فات الوقت ولا أرغب في شهر حرب أهلية!» ولقد فات الإمبراطور أن آخر قنبلة قد أُطلِقت في العاشر من شهر نيسان، في معركة تولوز، على يد المرشال سول، الذي لم يطَّلع على حوادث باريس وفونتنبلو، والذي وضع ختم المجد على الصفحة الأخيرة من المواقع الخالدة التي شهرها الجيش الكبير!

كان على بعض المفوِّضين الذين اختارهم الحلفاء أن يصحبوا نابوليون إلى جزيرة ألبا، ففي العشرين من شهر نيسان، الساعة الثانية عشرة ظهرًا، نزل الإمبراطور إلى فناء «الجواد الأبيض»، حيث كان يجتمع الحرس الإمبراطوري، فلم يجد حوله إلَّا بعض الأُمَناء بينهم الدوق ده باسانو والجنرال بليار؛ فلما دنا الإمبراطور من الجنود ارتعشت قلوبهم وامتلأت أعينُهم بالدموع! أمَّا هو فأعلن بإشارة أنه يريد التكلُّم، وساد سكوتٌ مهيب كأنما شاء الجنود أن يلتقطوا الكلمات الأخيرة من فمِ الرجل العظيم، قال: «أيها القوَّاد، والضبَّاط، ويا جنود حرسي القديم إنني أودِّعكم؛ إني مسرور بكم منذ عشرين سنة، فلقد وجدتُكم في كلِّ حين على طريق المجد الخالد!

لقد سلَّح الحلفاء أوروبا بأسرها ضدِّي، وخان قِسْمٌ من الجيش واجباته، ورَغِبَت فرنسا نفسها في مُقدَّرات أخرى!

كنت أستطيع معكم ومع البواسل الذين بقُوا أمناء على عهدي أن أمدَّ الحرب الأهلية ثلاث سنوات بعدُ، ولكن هذا كان جرَّ على فرنسا ويلاتٍ لا تنطبق على الغاية التي سرت في سبيلها!

كونوا أمناء للملك الجديد الذي اختارته فرنسا، لا تهجروا يومًا هذا الوطن الغالي الذي قاسى آلامًا وتعسًا! أحبِّوه دائمًا، أحبِّوه بإخلاص، هذا الوطن الغالي!

لا تحزنوا على حظِّي، فسأكون دائمًا سعيدًا عندما أعلم أنكم سعداء!

كنت أستطيع أن أموت، فلا شيء أهونُ لديَّ من ذلك، ولكني سأتبع دائمًا طريق الشرف؛ عليَّ أن أكتب الأعمال التي قمنا بها.

ليس بوسعي أن أعانِقَكم جميعًا، إلَّا أني سأُعانِق قائدَكم … اقترب يا جنرال … (يضمُّ الجنرال بتي بين ذراعيه) جيئوني بالنسر! … (يقبِّله). أيها النسر المحبوب! ألا فلتدوِّ هذه القبلات في قلوب جميع البواسل! … وداعًا يا أولادي! … فستتبعكم تمنِّياتي إلى حيث تكونون، حافظوا على تذكاري.»

عند هذا تصاعدت الزفرات من صدور الجنود، وتساقطت الدموع من جميع الأعين المحيطة به؛ أما هو فسلخ نفسه عن هذا المشهد المؤلِم وقفز إلى مركبة كان فيها الجنرال برتران. توارى نابوليون عن فونتنبلو يصحبه المرشال الكبير والقائدان دروو وكامبرون وبعض الذين أرادوا أن يشتركوا في إخلاص هؤلاء المحاربين البواسل. كان نابوليون يسمع أينما وصل هتاف «ليحيَ الإمبراطور!» مُتصاعِدًا في طريقه، فيتفطَّر ويدبُّ العزاء في قلبه، وكأنه فهم أن الشعب، بالرغم من سقوطه، لا يزال مُتعلِّقًا به، فقال في نفسه: «لن يقوى البوربونيُّون أن يمحوا في فرنسا عبادة اسمي!»

التقى الإمبراطور، بين ليون وفالنس، بالمرشال أوجرو، الذي كان قد تناوله بفلتة لسانه في إحدى خطبه؛ إذ قال: «إن نابوليون لم يعرف أن يموت كجندي!» ولكن الإمبراطور الذي كان يجهل تلك الإهانة المُضحِكة التي وجَّهها إليه رفيقه في معركة أركول نزل من مركبته ليعانقه، فلمَّا دنا منه نزع قبعته عن رأسه، في حين أن المرشال تكلَّف إبقاء قبعته مدة المقابلة حتى في ساعة التوديع أيضًا. وبعد مرور ساعة من الزمن، أبصر نابوليون في طريقه بعض شرذمات من فرقة أوجرو حيَّته التحية التي كانت تقوم بها وهو على العرش، وقال له بعض جنودها بصوت عالٍ: «مولاي، إن المرشال أوجرو باع جيشك!»

اضطرَّ نابوليون أن يتجنَّب المرور في أفينيون التي هيَّج فيها العصاة، الذين قتلوا المرشال برون قبل سنة، تمرُّدًا في الأفكار يُنبِئ عن مقصد مشئوم! وفي مساء السادس والعشرين وصل إلى مقربة من لوك، فبات ليلته عند أحد أعضاء الفرقة التشريعية، ولما كان من غدٍ واصل سيره إلى فريجوس، فأقام أربعًا وعشرين ساعة بهذه المدينة، ثم أبحر إلى جزيرة ألبا في الساعة الثامنة مساءً.

يا للمطابقة الغريبة بين وجوه حياة البطل العظيم التي تدهش أحيانًا في تبايُنها! لقد رأته فريجوس، لدى عودته من مصر، وقد واكبه مارمون ومورات وبرتييه وغيرهم، مُبحِرًا إلى فرنسا لينزع السلطة السامية من ممثِّليها ويضع أساس إمبراطورية رحبة عظمى، ورأته بعد خمس عشرة سنة، وقد جرَّده الغرباء من تلك السلطة، مُبحِرًا من فرنسا لا ليتولَّى زمام أمَّة كبيرة، أو ليحاول أن يقبض على ناصية أعظم عرش في العالم، بل لينزوي في أعماق جزيرة صغيرة من جزر البحر المتوسط، وقد خانه أو تخلَّى عنه رفاقه القدماء وأقرباؤه. خانه مورات ومارمون، وتخلَّى عنه برتييه وغيره! … هكذا شاءت الحكمة العلياء، والله لا يُجرِي شيئًا من غير تدبير! فلْنتركْ عظمته تعمل ما بدا لها!

في الثالث من شهر أيار، في اليوم نفسه الذي وصل فيه لويس الثامن عشر إلى باريس، حلَّ نابوليون في مَرْفأ بورتو-فراجو، فخفَّ كبارُ موظفي جزيرة ألبا لتحيَّة سيِّدهم على الباخرة الإنكليزية التي أقلَّته، وفي اليوم التالي نزل الإمبراطور إلى اليابسة فحيَّته مائة مِدْفَع ومِدْفَع، وأسرع لملاقاته جميع الأهلين يتقدَّمهم المجلس البلدي والإكليروس.

شرع نابوليون يهتمُّ بتنظيم دوائر الجزيرة كأنَّ إقامته بها ستطول كثيرًا، وكأن نشاط نبوغه لن يضجر في محيط ضيِّق كهذا، ثم جدَّ في درس منتوجات الأرض ومصادر الصناعة، وطاف جميع جهات الجزيرة مهيِّئًا في كلِّ مكان معدَّات لتحسينٍ هامٍّ. وفي السادس والعشرين من شهر أيار وصل كامبرون مع بُسَلاء الحرس القديم، الذين شاءوا أن يشاطروا الإمبراطور منفاه، وما هي إلَّا أيام حتى قدمت الأميرة بولين والسيدة ليثيثيا إلى جزيرة ألبا وعزمتا ألَّا تفارقا نابوليون بعدُ.

كان نابوليون ينتظر بفارغ صبر وصول أنباءٍ من فرنسا، ومثلما كان في الماضي يطالع جرائد أوروبا بلهف عظيم، وهو على شواطئ النيل؛ ليعلم هل حان الوقت لعبور البحر والذهاب إلى فرنسا لقلب «الديركتوار»،٦ مجلس الشعب، هكذا اليوم فإنَّه يطالع الصحف اليومية ليعلم كيف تتحمَّل الأمة الفرنسية الغرباء والبوربون، وكيف ينهج البوربون والغرباء مع الأمة الفرنسية، أمَّا من جهة التجاديف اليومية، التي كانت الجرائد توجِّهها إليه، فلم يكن يُعِيرها اهتمامًا كبيرًا. قال ذات يوم للجنرال برتران الذي جاءه بالصحف الفرنسية: «أتُراني مُمزَّقًا اليوم؟» فأجابه المرشال الكبير: «لا يا مولاي، فليس لجلالتك ذِكْر اليوم.» فقال نابوليون: «إذن فإلى الغد، إنها لحمَّى مُتقطِّعة ستزول قريبًا.»
إلَّا أن الحكومة، التي ندبتها العصبة إلى فرنسا، ظهرت بمظهر جدير بمصدرها. فإن وعود الكونت دارتوا بقيت من غير تنفيذ، وأسَّس لويس الثامن عشر شرائعه التنظيمية La charte٧ على الملذَّات والحق الإلهي، وعاد الأشراف إلى عسفهم وجورهم، والإكليروس إلى مظالمهم وموبقاتهم، ووقعت امتيازات السلطة على رأس المهاجرين، وسقطت أحقادها واحتقارها سقوطَ الصاعقةِ على الجيش القديم، وراح الأشراف يُشِيدون بذكر كادودال الذي نُفِّذ فيه حكم الإعدام سنة ١٨٠٤ لاشتراكه مع بشاغري بتهيئة الآلة الجهنمية لقتل نابوليون،٨ ويطنبون بمورو الذي قُتِل في دريسد في حين كان يحارب ضد وطنه في صفوف الروسيين، وينادون برفع تمثال لبيشاغري! ثم إن جميع الأعمال الخطيرة التي قام بها الشعب الكبير في عهد الجمهورية والإمبراطورية حُذِفَت من تاريخها، أو بقيت فيه مُلطَّخة بالاختلاس والتمرُّد اللذين عزيت إليهما؛ كما أن الأمير، الذي كان يعيش خاملًا بين أعداء فرنسا في حين كانت الجيوش الفرنسية تنتصر في فلوروس ولودي ومارنغو وأوسترلتز، أصبح يزعم أنه ساد في فرنسا عهد أوسترلتز ومارنغو! فضلًا عن أن الصحافة، التي كان من واجبها أن تقف في وجه المذاهب الخطلة وتتمرَّد على الميول المشئومة، استسلمت إلى القوة التي وضعت لها كمامة في فمها، وعالجت المراقبة نفوذها بالرغم من الشرائع التنظيمية.

كان الإمبراطور قد تنبَّأ عن هفوات البوربونيِّين، في الوقت نفسه الذي تنازل فيه، وتوقَّع احتمال عودته إلى العرش. ننقل عن الميموريال (مذكِّرات نابوليون) هذه الفقرة التي تكلَّم فيها عن آخر أيامه في فونتنبلو قال: «قلت في نفسي إذا أراد البوربونيون أن يبدءوا بسلالة خامسة، فلا يبقى عليَّ أن أقوم بشيء هنا؛ إذ تكون مهمَّتي قد انتهت، ولكن إذا أصرُّوا صدفةً على إكمال الثالثة فلا أتأخَّر عن الظهور، إلَّا أنهم تمسَّكوا بعاداتهم القديمة فكانوا أولئك الأسياد الإقطاعيين، وأبوَا إلَّا أن يكونوا زعماء ممقوتين لحزب ممقوت!»

إذا قيل عن نابوليون عام ١٨١٤ إنه جدَّد سرير البوربون؛ فإن البوربون في دورهم سيفتحون له طريق العرش. لم يكد نابوليون يتعرَّف موقف فرنسا ويبلغه ما سيئول إليه أمره بعد معاهدة فيينا، حتى صحَّت عزيمته على الخروج من جزيرة ألبا من غير أن يُطلِع أحدًا على عزمه هذا إلَّا القائدين دروو وبرتران.

في السادس والعشرين من شهر شباط عام ١٨١٥، الساعة الواحدة بعد الظهر، نبَّه نابوليون حرسه إلى تهيئة معدَّات السفر، فعلا الهتاف من جميع الجهات، واهتزَّ هؤلاء البواسل اهتزازًا باسلًا زاده هيجانًا ظهورُ والدة الإمبراطور وشقيقته في شرفة القصر، ولم يكن يُسمَع في تلك الآونة إلَّا هذه العبارة خارجة من أفواه الأبطال: «باريس أو الموت!» وما هي إلَّا فترة من الوقت حتى نُشِر على أهالي جزيرة ألبا نداءٌ مؤدَّاه أن الإمبراطور نابوليون سيفترق عنهم، ولقد جاء في هذا النداء ما يلي: «إن الإمبراطور نابوليون مُضطَرُّ إلى مغادرة جزيرتكم، ولقد عُهِد بقيادتها إلى الجنرال لابي، الذي شاءت الحكمة العلياء أن ينخرط في سلك المجد، وعُهِد بالإدارة إلى مجلس مؤلَّف من ستة من الأهالي، وبحماية القلعة إلى شجاعتكم وغيرتكم. إن الإمبراطور مسرورٌ جدًّا من تصرُّف الأهلين، ولكي يؤكِّد لهم ثقته بهم يترك والدته وشقيقته تحت حمايتهم، ثم إن أعضاء المجلس وجميع الأهالي يستطيعون أن يتَّكلوا على محبَّة نابوليون لهم، وعلى حمايته الشخصية.»

في الساعة الرابعة مساءً كان الأربعمائة رجل من الحرس القديم على ظهر الباخرة أنكونستان، في حين كانت خمس بواخر صغيرة أخرى تقلُّ مائتين من المشاة، ومائة من الخيَّالة الخفيفة٩ البولونية، وكتيبة من الجنود، وفي الساعة الثامنة تمامًا صعد الإمبراطور إلى الأنكونستان يصحبه القائدان برتران ودروو، وما هي إلَّا هنيهة حتى بشَّر المِدْفع بأوان الرحيل وسارت البواخر في عرض البحر.
كانت الريح في البدء هادئة ساكنة، إلَّا أنها ما لبثت أن أخذت تعصف بشدة حتى خِيف على المراكب من خطر داهم، وفكَّر بعضهم في الرجوع إلى المرفأ، أما نابوليون فلم يذعن، واستمرت المراكب في جريها؛ وكان الإمبراطور مهتمًّا بإملاء نداءاته للشعب والجيش فينسخها جنوده، حتى إذا كان أول آذار، الساعة الثالثة، دخل خليج جوان حيث نزع عن قبعته شارة جزيرة ألبا وأشار إلى جنوده بنزعها عن قبعاتهم، ورفع العلم المثلث الألوان بين هتاف «ليحيَ الإمبراطور! لتحي فرنسا!» وفي الرابع من شهر آذار وصل الإمبراطور إلى دينيي١٠ حيث نشر النداءات الباهرة التي أملاها على ظهر الباخرة أنكونستان، والتي ستهيِّج بشدة، وطنية الشعب والجيش. نعرِّب هنا قطعتين منها مؤرَّختين عن خليج جوان في أول آذار، عالج فيهما نابوليون كلَّ ما أُوتيه من قوَّة الإنشاء السامي والبيان الساحر الخلَّاب.

نداء إلى الشعب الفرنسي
أيها الفرنسيون

إن خيانة الدوق ده كاستيكليون سلَّمت ليون إلى أعدائنا من غير مقاومة، ولقد كان الجيش الذي عَهِدْتُ بقيادته إليه يمثِّل، بعدد كتائبه، بسالة الجحافل ووطنيتها، اللتين كانتا تستطيعان أن تقاتلا فِرَق الجيش النمسوي بفوز عظيم، وتدركا مؤخِّرة الجناح الأيسر من الجيش العدوِّ الذي كان يهدِّد باريس.

إن انتصارات شامبوبير، ومونميرايل، وشاتو تييري، وفوشان، ومورمان، ومونترو، وكروان، ورنس، وأرسيس سور أُوب، وسن ديزييه؛ وإن تمرُّد الفلاحين البواسل في لورين، وشمباني، والألزاس، والفرانش كونته، وبورغونيا، ثم إن المركز الذي اتخذته في مؤخِّرة الجيش العدوِّ، بعد أن نحَّيته عن مخازنه، وحظائر ذخائره، وجميع عُدته وأمتعته، كلُّ ذلك كان يضعه في موقف مقنط ويؤكِّد لنا النصر. لم يوشك الفرنسيون يومًا من الأيام أن يصلوا إلى عظمةٍ أبعدَ من تلك، ولكانت صفوة رجال الجيش العدو قد فُقِدَت من غير وسيلة، وصادفت قبرها في تلك الأرجاء الرحبة التي كثيرًا ما أغارت عليها من غير شفقة، لو لم تسلِّم خيانةُ الدوق ده راغوز العاصمة وتهدم نظام الجيش. إن التصرُّف غير المُنتظَر الذي تصرَّفه هذان القائدان اللذان خانا وطنهَما وأميرَهما والمُحسِن إليهما معًا قلب مُقدَّرات الحرب ظهرًا لبطن.

ألا إن قلبي، وإن تمزَّق لدى هذه الأنباء والظروف الخطيرة، إلَّا أن نفسي بقيت ثابتة لم تتزعزع. لم أنظر يوم ذاك إلَّا إلى صالح الوطن، ونفيتُ نفسي على صخرة في وسط البحار! لقد كانت حياتي مفيدة لكم، ويجب أن تبقى بعدُ. لم أسمح للعدد الكبير من المواطنين الذين أرادوا أن يرافقوني بأن يشاطروني حظِّي؛ إذ اعتقدت أن وجودهم في فرنسا يفيدها، ولم أصحب معي إلا نَزْرًا من البواسل لحراستي.

لقد اصطفيتموني للعرش فأصعدتموني إليه، وكلُّ عمل أجراه غيركم هو عمل غير شرعي! منذ خمس وعشرين سنة وفرنسا تذهب صُعُدًا في مذاهب الرقي، فتتسلَّق مراقي نُظُم جديدة ومجد جديد، لا يضمن ثباتها إلَّا حكومة وطنية وسلالةٌ نشأت في هذه الظروف الجديدة. إن أميرًا يتحكَّم في شأنكم وتُجلِسُه على عرشي، القوةُ نفسها التي هدمت حدودَنا، قد يحاول عبثًا أن يدعم نفسه بمبادئ الحقِّ الإقطاعي، وقد لا يستطيع أن يضمن الشرف والحقوق إلَّا بفئة قليلة من أعداء الشعب الذي أنكرها منذ خمسٍ وعشرين سنة في جميع مجالسنا الوطنية، عند هذا يُصبِح أمْنُكم الداخلي وحُرْمَتكم الخارجية وقد عُبِثَ بهما إلى الأبد.

أيها الفرنسيون، لقد سمعت من منفاي شكاياتكم وأمانيكم، إنكم تنادون بالحكومة التي اخترتموها لكم والتي هي وحدها شرعية؛ إنكم تشكون سُباتي الطويل، إنكم توبِّخونني على تضحيتي بمصالح الوطن الخطيرة في سبيل راحتي.

فها أنذا قد اجتزت البحار في وسط ألوان من المخاطر، وجئت إليكم أسترجع حقوقي التي هي حقوقكم. أمَّا جميع الذي عمله الغرباء منذ الاستيلاء على باريس، فسأنكره في كلِّ حين!

أيها الفرنسيون، ما من أمَّةٍ، مهما كانت صغيرة، لا يحقُّ لها أن تتملَّص من عار الرضوخ لأميرٍ انتدبه عدوٌّ انتصر انتصارًا وقتيًّا. عندما دخل شارل السابع إلى باريس وقلب عرش هنري الخامس الزائل، عرف جيِّدًا أنه يتناول عرشه من شهامة بُسَلائه لا من أمير إنكلترا.

أما أنا فلأجلكم وحدكم، لأجل بسلاء الجيش، أخرج من كلِّ واجبٍ مجدًا خالدًا!

نداءٌ إلى الجيش
أيها الجنود

إننا لم نكن مقهورين؛ فإن رجلين خرجا من صفوفنا قد عبثا بأكاليل غارنا، ببلادهما، بأميرهما وبالمحسِن إليهما.

أيزعم هؤلاء، الذين شاهدناهم طوال خمس وعشرين سنة يطوفون أوروبا بأسرها ليهيِّجوا علينا الأعداء، هؤلاء الذين صرفوا حياتهم في مقاتلتنا في صفوف الجيوش الغريبة، لاعنين فرنسا الجميلة، أيزعم هؤلاء أن يقودوا نسورنا ويوثقوها، في حين أنهم لم يكونوا يستطيعون أن يُثبِّتوا أنظارهم فيها؟ أنطيق نحن أن يرثوا من ثمرات أعمالنا المجيدة؟ وأن يستولوا على انتصاراتنا وممتلكاتنا، ويفتروا على مجدنا ويبهتوه؟ آه لو بقي حكمهم لفقدنا كلَّ شيء، حتى تذكار تلك المواقع الخالدة!

بأيِّ عنادٍ وتصلُّب يفسدونها، ويحاولون أن يذعفوا ما ينظر إليه العالم بدهشةٍ وإعجاب!

أيها الجنود، لقد سمعت صوتكم من منفاي، وجئتكم خلال جميع العراقيل والمخاطر!

إن قائدكم، الذي دُعِي إلى العرش باختيار الشعب وصعد على أعلامكم، قد رُدَّ إليكم اليوم فتعالَوا إليه.

اسلُخوا تلك الألوان التي ألفتها الأمة، والتي كانت طوال خمس وعشرين سنة سببًا للتوفيق بين أعداء فرنسا جميعهم، وارفعوا هذه الشارة المثلثة الألوان فلقد حملتموها في مواقعنا المجيدة!

يجب علينا أن ننسى أننا كنَّا أسياد الأمم، ولكن يجب علينا ألا نتحمَّل أحدًا يتحكم في شئوننا! استرجعوا تلك النسور التي حملتموها في أولم، وأوسترلتز، ويينا، وإيلو، وفرييدلان، وتودلا، وأكموهل، وأسلنغ، ووكرام، وسمولنسك، والموسكوا، ولوتزن، وورتشن ومونميرايل! أتعتقدون أن هذه القبضة من الفرنسيين المتجبِّرين تستطيع أن تتحمَّل نظراتِ تلك النسور؟ لا! فسيرجع هؤلاء من حيث أتَوا، وهناك، إذا شاءوا، سيحكمون كما زعموا أنهم حكموا منذ تسع عشرة سنة.

إن ممتلكاتِكم، ومقاماتِكم، ومجدَكم، وممتلكات أبنائكم ومقاماتهم ومجدهم لم تُؤتَ أعداءً ألدَّ من هؤلاء الأمراء الذين انتدبهم الغرباء عليكم؛ فهم أعداء مجدنا، لأن تاريخ تلك الأعمال المجيدة، التي خلَّدت الشعب الفرنسي الذي وقف في وجههم ليتملَّص من عبْء نِيرهم، إنما هو الحكم عليهم وإنكارهم!

إن قدماء جيش سامبري-موز، والرين، وإيطاليا، ومصر، والمغرب، والجيش الكبير إنما هم في أشد حالة من حالات خفض الجناح، لقد هُتِكَت حرمة جراحاتهم الشريفة، وخُصَّ بالجزاء والشرف هؤلاء الذين قاتلوا في سبيل العدوِّ!

أيها الجنود، تعالَوا اصطفُّوا تحت أعلام قائدكم؛ فإن وجوده لا يتكوَّن إلَّا من وجودكم وليست حقوقه إلا حقوقكم وحقوق الشعب، وما صالحه وشرفه ومجده إلا صالحكم وشرفكم ومجدكم. سيمشي النصر مشية الخُيَلاء، وسيطير النسر بالألوان الوطنية من جرسٍ إلى جرس حتى قبة نوتردام،١١ عند هذا يحقُّ لكم أن تشيروا إلى جراحاتكم بشرف ومجد، عند هذا يحقُّ لكم أن تطنبوا بالذي تكونون قد عملتموه، عند هذا تصبحون مُنقِذي الوطن.

وعندما تَشِيخون، ويحيط بكم مواطنوكم مُصغِين إليكم باحترام، تحدِّثونهم عن أعمالكم المجيدة، تستطيعون أن تقولوا بفخر: وأنا أيضًا كنت جنديًّا في هذا الجيش الكبير! الذي دخل مرتين أسوار فيينا، وروما، وبرلين، ومدريد، وموسكو، والذي أنقذ باريس من اللطخة التي لوثتها بها الخيانة واحتلال العدوِّ! المجد لهؤلاء الجنود البواسل! وعارٌ دائم على الفرنسيين المجرمين الذين قاتلوا خمسًا وعشرين سنة مع الغُربَاء ليمزِّقوا أحشاء الوطن!

كانت هذه اللهجة تبشِّر فرنسا الجديدة بعودة ممثِّلها العظيم إليها، وتُعلِن لها أن الديموقراطية قد وجدت بطلها وحامِيَها، أما الشعب والجيش فأسرعا بحماس شديد لملاقاة المنفيِّ العظيم!

في الخامس من شهر آذار وصل نابوليون إلى مدينة كاب، فاستقبلتْه هناك مظاهراتُ الفرح التي انطلقت في جميع الجهات التي مرَّ فيها، وعندما مرَّ بسن بونه خفَّ الأهلون لاستقباله، وطلبوا إليه أن يتطوَّعوا في خدمته ويصحبوه إلى باريس، أما هو فأجابهم: «لا، إن شعوركم الشريف ليؤكِّد لي أني لم أنخدع، فهو خير ضمان لتعلُّق جنودي بي، فابقَوا في بيوتكم براحة وأمان!» ولكنَّ نابوليون عندما قرب من غرونوبل، توقَّع حدوث مظاهرات عدائية من قبيل رجال السلطة والقائد العسكري. كان الجنرال مرشان قد جرَّد كتيبته على طريق لامور ليقطع المرور على نابوليون، فالتقى حرس الإمبراطور بهذه الكتيبة بالقرب من لافريت، وعبثًا حاول أن يقنعها بأن تفتح له الطريق وتنضمَّ تحت علم الجيش القديم. فلما علم نابوليون بهذا الحادث، خفَّ بنفسه إلى الحرس، ووقف أمام الكتيبة قائلًا: «ماذا يا أصدقائي، ألم تعرفوني، فأنا إمبراطوركم، فهل فيكم من يريد أن يقتل قائده وإمبراطوره؟ إنه لقادر فها أنذا!» عندما تلفَّظ بهذه الكلمات كشف عن صدره، أما ضابط الأوامر فأراد أن يستفيد من هذا ليشير بإطلاق النار، إلَّا أن صوته لم يلبث أن خنقه هتاف: «ليحيَ الإمبراطور!» الذي ردَّده الفلاحون المتألِّبون على حافَّات الطريق ألف مرَّة مع الجنود! وما هي إلا لمحة عين حتى كانت الكتيبة قد انضمَّت إلى بُسَلاء جزيرة ألبا، وحتى كان ضابط الأوامر قد توارى عن الأعين بفضل سرعة جواده، ثم والى الإمبراطور سَيْره في جهة غرونوبل بين الجموع الغفيرة، التي كانت تزداد حينًا بعد حين، ولما وصل إلى فيزيل رأى حماس الشعب الدوفينوازي ينمو شيئًا فشيئًا، وسمع الجميع يصرخون من مختلف الجهات: «هنا وُلِدَت الثورة، هنا طالب آباؤنا في الأول بامتيازات الرجال الأحرار، وهنا أيضًا تنبعث الحرية الفرنسية وتخفي فرنسا شرفها واستقلالها!» أما نابوليون فلما مر أمام قصر لستيكيير الجميل، الذي عُقِدَت فيه الجمعية الوطنية للمرة الأولى في سنة ١٧٨٨، لم يتمالك أن صرخ بدوره: «أجل، من هنا خرجت الثورة الفرنسية!» وكأنه قال في نفسه: «وهنا أيضًا ستنال الثورة الفرنسية نصرًا جديدًا على الحكومة القديمة!»

أجل، بينما كان الإمبراطور مستسلمًا لمشاعره وتأمُّلاته في وسط تلك السكرة العمومية التي أحدثها وجوده في كلِّ مكان، اخترق الجمع ضابط من الكتيبة السابعة، وأعلن لنابوليون أن كتيبته، وعلى رأسها الكولونيل، تتقدَّم بخطًى سريعة لتحيي بطل فرنسا. كان من عادة الإمبراطور أن يبقى هادئًا، في الظاهر، في مثل هذه المواقف المجيدة في حياته، ولكنَّه لم يتمالك أن أظهر التأثير العميق الذي استولى عليه، وقد خُيِّل إليه أن هذا الحادث سيحمله إلى التويلري، وبرز وجهه مُتألِّقًا بالفرح والآمال، ذلك الوجه الذي اشتركت أتعاب الجسد وآلام الروح في إعطائه لونًا أشهب كالحًا! وبعد أن أظهر للضابط حبَّه واحترامه للكتيبة وقائدها الكولونيل، وخز جواده فانطلق به إلى الأمام، كأنما هو يرى أمامه قوس نصر كاروسيل، وما هي إلا مدَّة قصيرة حتى سمع هتاف الكتيبة السابعة ممزوجًا بهتاف الجموع الغفيرة التي تواكبه، كان الكولونيل سائرًا في الطليعة، وهو رجل طويل القامة جميل الطلعة، خرج من غرونوبل في الساعة الثالثة بعد ظهر السابع من شهر آذار، ولمَّا كان على بعض خطوات من المدينة أخذ نسرًا، فنشره على مرأى من الجنود، وصرخ قائلًا: «هو ذا العلم المجيد الذي كان يقودكم إلى المواقع الخالدة! والذي قادكم مرارًا عديدة إلى النصر يتقدَّم نحونا الآن لينتقم من البلايا العديدة التي حلَّت بنا! فلقد حان الوقت لنطير تحت علمه الذي ما برح علمكم أنتم! إن مَن يحبُّني يتبعني! ليحيَ الإمبراطور!» فردَّد الجنود بحماس عظيم: «ليحيَ الإمبراطور!» واندفعوا كالسيل الجارِف للسلام على أعظم الفاتحين، أما الكولونيل الباسل النبيل لابيدوايير، فقد ترامى بين ذراعَيِ الإمبراطور، الذي ضمَّه إلى صدره قائلًا له بعطف شديد: «كولونيل، إنك تعيدني إلى العرش!»

قال لاس كاز: «لم يكابِد الإمبراطور في جميع المواقع التي شهرها أخطارًا كالتي كابدها وهو داخل إلى غرونوبل؛ فلقد هجم عليه الجنود بكلِّ ما في الغضب من الهول حتى ظنَّ بادئ ذي بدء أنه سيُمزَّق إرْبًا إرْبًا، ولكن ذلك لم يكن إلَّا هذيان الحب والفرح.»

بقي نابوليون يومين في هذه المدينة، وفي التاسع من شهر آذار غادر غرونوبل فوصل إلى ليون في اليوم التالي، في الوقت نفسه الذي تركها به الكونت دارتوا، بعد أن قام بجهود خائبة ليقنع الجنود بالدفاع عن قضية البوربونيِّين، ولكن بينما كان نابوليون يجتاز فرنسا في وسط الهتاف المتواصِل، كان البوربونيون يحاولون أن يضعوا ثمنًا لرأسه، ونادت معاهدة فيينا أوروبا بأسرها للانضمام تحت السلاح، إلَّا أن جميع ذلك لم يمنع نابوليون عن الدنوِّ من باريس يومًا فيومًا، ففي اليوم الثالث عشر من آذار بات ليلة في ماكون، في حين كان المرشال ناي يستعد للانضمام إليه، وفي الرابع عشر منه وصل إلى شالون، وفي الخامس عشر إلى أوتون، وفي السابع عشر إلى أوكسير، حيث وجد الكتيبة الرابعة عشرة وقد قَدِمت من أورليان لتلاقيه، وحيث اجتمع بالمرشال ناي باسل البُسَلاء، الذي جاء يكلِّل عمل لابيدوايير، والذي ملأ وجوده آمال الإمبراطور.

كانت الحكومة الملكيَّة في إبَّان ضيقة شديدة، فطلبت إلى المجالس أن تنقذها بوضع قوانين مؤقَّتة، وأجبرت كبرياء الكبار أن تتدلَّى إلى ملاطفة الجنود في دورهم. ولكن ذهب جميع ذلك أدراج الرياح … إذ إن المجالس أصبحت عديمةَ النفوذ في الأمة، وإذ إن الأمراء أصبحوا ولا نفوذ لهم على الجنود، الذين لم يكونوا ليجيبوهم غالبًا بسوى الرفض الممزوج بعبارات قاسية مُرَّة. إذن فما من شيء كان يستطيع أن يُوقِف نابوليون.

في التاسع عشر من شهر آذار ترك نابوليون أوكسير، ووصل إلى فونتنبلو في الساعة الرابعة من صباح اليوم العشرين. كان لويس الثامن عشر قد غادر العاصمة في الليلة نفسها ليبلغ الحدود البلجيكية بسرعة. إذا قلنا إن زحف الإمبراطور من خليج جوان إلى باريس لم يكن سوى فوزٍ مستمِر، فإن تقهقر الملك من باريس إلى غاند لم يكن سوى هربٍ سريع. كان البوربونيون قد انخدعوا بأسباب سقوط نابوليون وطابعه؛ إذ خُيِّل إليهم وصرَّحوا أن الذي يتصرَّف بالعروش والإمبراطوريات، قد وسم انقلاب السيادة الإمبراطورية بالطابع الإلهي؛ ليبطل في فرنسا سلطة ما يسمونه التمرُّد والكفر؛ ولقد قالوا أكثر من مرَّة إن الحكمة العلياء قد ضربت في نابوليون روح العصر والثورة والفلسفة الجديدة. أما الحكمة العلياء التي أشاحت بنظرها عن الماضي وشخصت به إلى المستقبل، والتي قادت جميع الثورات لتدعم الشعوب لا لتجدِّد الملوك؛ الحكمة العلياء التي لم تنزع حمايتها من الرجل العظيم، الذي كثيرًا ما ماشَتْه، إلا لتقاصصه على اقترابه كثيرًا من أفكار المجتمع القديم ورجاله، فقد كان من واجبها أن تُعلِن عن مقاصدها بوضوح وجلاء وتكشف، ببعض حوادث خطيرة، غرورَ الأمراء الذين استطاعوا أن ينخدعوا بمقاصدها الثابتة. وإذن فقد سمحت للإمبراطور الذي تركته يسقط بأن ينهض فجأة من سقوطه، ويسترجع الصولجان، لا ليجدِّد سلالته ويدعمها، بل ليؤدِّي إلى العالم شهادةً بسلطة الثورة السامية، وبضعف الحكومة القديمة. أما الآن، وقد أُدِّيَت هذه الشهادة، فإن الحق الإلهي الذي جاء من الخارج يعود إليه مع البوربون، وستدخل سلطة الشعب إلى التويلري مع نابوليون بفوز مبين!

في العشرين من شهر نيسان سنة ١٨١٤ أبصرت فونتنبلو الإمبراطور المخلوع، وقد تركه رفاقه القدماء، ينفصل عن حرسه ليذهب أسيرًا إلى جزيرة ألبا، وفي العشرين من شهر آذار سنة ١٨١٥ رأت فونتنبلو نابوليون في وسط حرسه، تُحِيط به الكتيبة المقدسة،١٢ ويتبعه هتاف الشعب والجيش، وهو على وشك أن يذهب إلى عاصمته لكي يسترجع السلطة السامية التي فوَّضتها إليه الأماني الوطنية مرة أخرى.
١  (١٧٥١–١٨٢٥) رجل سياسي وكاتب فرنسي، عضو المجمع العلمي.
٢  الأوتوقراطية هي حكومة سلطان مطلق، والأوتوقراطي هنا هو إمبراطور روسيا.
٣  (١٦٨٩–١٧٥٥) هو البارون ده مونتسكيو. كاتب فرنسي عظيم وُلِد في الجيروند. مؤلِّف الرسائل العجمية، وعظمة الرومانيين وانحطاطهم، وروح الشرائع. كان أكبر العاملين على انطلاق الثورة الفرنسية بما بثَّه في تآليفه من الروح الثورية.
٤  (١٧٧٨–١٨٣٧) هو البارون فن، مؤرِّخ فرنسي وُلِد في باريس، كاتم أسرار نابوليون الأول.
٥  جزيرة صغيرة في البحر المتوسط، واقعة في شرقي كورسكا، عدد سكانها ٢٥٠٠٠ ألف، فيها مناجم حديد عديدة.
٦  اسم أُعطِي للحكومة التي تشكَّلت في فرنسا في ٢٧ تشرين الأول سنة ١٧٩٥، والتي قلبها الجنرال بونابرت في ١٨ برومير (٩ تشرين الثاني سنة ١٧٩٩).
٧  تطلق كلمة «شارت» في اللغة الفرنسية على الكتب القديمة والصحائف التي لها علاقة بالتاريخ والحق العام. ولكن تُخصَّص هذه الكلمة بالفتوى التي يُمنَح بها الشعب بعض أساس للحرية. يذكر التاريخ اثنتين: La grande charte d’Angleterre وهي أساس الحرية الإنكليزية التي أعطاها الملك جان سان تير سنة ١٢١٥، وLa cahrte constitutionnelle de France التي أعطاها لويس الثامن عشر سنة ١٨١٤.
٩  اسمهم بالفرنسية: Les chevaux-légers وهم جنود من فرقة الخيالة خدموا في الجيش الفرنسي من القرن السادس عشر إلى سنة ١٨١٥.
١٠  مدينة واقعة على مسافة سبعمائة وأربعة وستين كيلومترًا من شرقي باريس، عدد سكانها ٧٣٢٠.
١١  كاتدرائية في باريس، إحدى عجائب الهندسة «الغوتيك». وضع إسكندر الثالث والملك لويس السابع الحجر الأول لهذه الكنيسة سنة ١١٦٣، انتهى بناؤها عام ١٢٣٠. يُعجَب العالم ببابها الخارجي وأبراجها الشاهقة والنقوش المُدهِشة التي فيها. وفي هذه الكاتدرائية كنوز ثمينة جدًّا. كانت هذه الكنيسة مسرحًا لجملة حوادث تاريخية خطيرة.
١٢  تألَّفت هذه الكتيبة في الطريق من جمع من الضباط الذين جاءوا لملاقاة الإمبراطور.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤