الفصل الرابع

إن نابوليون الذي لم تعد الحرب والمداولات لتبقيه على حدود النمسا أخذ يزور فتوحاته ويطوف في لومباردية التي احتفت به واستقبلته كمنقذ لها، لقد تبعته الابتهالات الشعبية حيثما حل، وعندما اضطره أمرٌ من باريس أن يتجه إلى راستات١ ليرأس فيها السفارة الفرنسية صادف في سويسرا الابتهال نفسه الذي صادفه في كل مكان، قبل أن يترك بونابرت ميلان، أرسل إلى مجلس الشعب على يد جوبير علم جيش إيطاليا، وقد عرض على أحد جانبيه خلاصة العجائب المدهشة التي قام بها ذلك الجيش، وعلى الجانب الآخر هذه الكلمات: «إلى جيش إيطاليا إقرار الوطن بالجميل»، وكان نابوليون، لدى مروره بمانتو في المرة الأخيرة، قد احتفل احتفالًا مأتميًّا مهيبًا على شرف هوش الذي مات، وعُجل بإنجاز التمثال المشيد لذكرى فرجيل.٢

وجد بين المعجبين والمتطفلين الذين ازدحموا على طريقه في ذلك العهد، رجلٌ نقَّاد ملؤه روح وذكاء أرسلت ملاحظاته إلى باريس حيث أدرجت في إحدى الجرائد في شهر كانون أول سنة ١٧٩٧، جاء فيها: «لقد أبصرت بانعطاف شديد وانتباه فائق هذا الرجل العظيم الذي قام بأعمال كبرى، وهو ما زال يخيل إليه أن عمله لم ينتهِ بعد، لقد وجدته كثير الشبه برسمه، صغيرًا، نحيفًا، شاحبًا، تظهر عليه أمارات التعب، إلا أنه ليس مريضًا كما زعموا، ولقد خيل إلي أنه يصغي بذهول أكثر مما يصغي لفائدة، وأنه أكثر اهتمامًا بما يفكر منه بما يقال له، إن في سيمائه لعقلًا راجحًا، والشاخص إلى وجهه يتبين فيه سمة تأملات اعتيادية لا تكشف شيئًا مما يجري في داخلها، إنه من المستحيل أن لا يظن الناظر إلى ذلك الرأس الراجح والروح القوية، أن هناك فكرات لا تقمع ستؤثر على مستقبل أوروبا.»

عندما وصل نابوليون إلى راستات تبين له أن مركزه الجديد لا يوافقه قط، ففي باريس، في وسط الحركة السياسية، أو على رأس جيشه، أجل، هناك كان يتسع لهذا الرجل العظيم أن يجد مركزًا جديرًا به، إلا أنه لم يحتج إلى طلب العودة إلى العاصمة؛ لأن مجلس الشعب أرسل إليه كتابًا يستدعيه فيه، لم يكن السيد بوريين، كاتم أسراره؛ ليجرؤ على مرافقته، فآثر المكث في ألمانيا، فقال له بونابرت: «تعال اعبر الرين من غير خشية فإنهم لا يسلخونك عني، وسأتكفل بك.»

كان الاحتفاء بنابوليون في باريس عظيمًا جدًّا؛ فإن مجلس الشعب الذي كان الواسطة المرغمة لإظهار عواطف الشعب لم يجد بدًّا من كتم مخاوفه وحسده وإقامة احتفال عظيم لقاهر إيطاليا في حظيرة لوكسانبرج، وكان تاليران هو الذي قدم البطل إلى المديرين ولفظ بهذه المناسبة خطابًا تضمن روحًا جمهورية صرفة، قال: «لا شك في أن البعض الأكبر منكم كان يلاحظ بشيء من الدهش جميع مساعيَّ التي قمت بها لأحط من مجد نابوليون، إلا أنه لن يسيء إليه ذلك، أقول … لقد خشيت عليه فترة ذلك القلق الجفول الذي كنت إخاله ضربة على المساواة في جمهورية لا تزال في نشوئها، ولكن كنت مغترًّا يوم ذاك؛ فإن العظمة الشخصية إنما هي بعيدة عن أن تضر بالمساواة بل هي شرف المساواة وانتصارها الجميل، وفي هذه الساعة نفسها يحق للجمهوريين الفرنسيين أن يروا نفوسهم أكبر مما كانوا عليه.»

فأجاب نابوليون، وقد أعطى للمرة الأولى لقب «الكبيرة» للأمة الفرنسية، متفوهًا بهذه الكلمات:

أيها المديرون الوطنيون

كان من حق الشعب الفرنسي أن يحارب الملوك ليكون حرًّا.

كان من حقه أن يقهر ثمانية عشر قرنًا من الأوهام لينال مركزًا مؤسسًا على العقل.

لقد مر عشرون قرنًا والدين والأشراف والملكيون يحكمون بالتتابع في أوروبا جمعاء، إلا أن الحكومات التمثيلية قد بدأ عهدها منذ الصلح الذي عقدتموه.

لقد قُيض لكم اليوم أن تنظموا الأمة الكبرى التي لم تحدَّد أرضها إلا لأن الطبيعة قد وضعت لها الحدود بنفسها.

لقد عملتم أكثر من ذلك، فإن الجهتين اللتين هما أجمل جهات أوروبا، واللتين كانتا في الماضي مزدهرتين بالعلوم والفنون والرجال العظام الذين كانتا لهم مهدًا، إن هاتين الجهتين لتريان اليوم بآمال كبيرة روح الحرية العظمى خارجة من قبور الأجداد.

لي الشرف أن أضع بين يديكم المعاهدة الممضاة في كامبو-فورميو والموقعة بإمضاء صاحب الجلالة الإمبراطور.

عندما تقوم سعادة الشعب الفرنسي على أفضل الشرائع المنظمة، تصبح أوروبا جمعاء حرة.

أظهر نابوليون بعض التواضع بهذه الكلمات التي قالها لمجلس الشعب، إنما اللياقة كانت تقتضي ذلك الإكرام الرسمي، والذين تقبلوه لم يكونوا أكثر غرورًا به من الذي ظن نفسه مضطرًّا إلى تأديته، كان نابوليون منذ ذلك العهد قد وضع نفسه مكان حكومة الجمهورية تجاه المداولة الأوروبية، وكان يمثل الدولة بشخصه ويعير فرنسا الموقف واللغة اللذين كان طمعه الكبير وعقله السامي، وليس تعليمات مجلس الشعب، يدلانه أنهما جديران بالشعب الكبير، وموافقان كل الموافقة لنظرياته المقبلة، كان منذ دخوله إيطاليا، وخاصةً منذ لودي، قد سعى لأن ينزع من السياسة الفرنسية ذلك الخُلق الوحشي الذي طبعته فيها ثورة ٩٣ الهائلة، فلم يكن يريد أن يكسب بلاده صلحًا مجيدًا ونفسه شهرة عظيمة باسم ثورة شعبية غضبى حقودة، ولقد تبين له أن الوقت قد حان لتسكين التعصب الثوري الذي كان فيما مضى شاعرًا بضرورته.

أظهر نابوليون نفسه في مداولاته مع ملك سردينيا ومع البابا والإمبراطور، أنه مستشاطٌ بتلك الروح المُستمِيلة المتساهلة، التي تميز الرجال الذين هم فوق مطاليب الأحزاب وشهواتها، إلا أن سعيه في تقديم الجمهورية الفرنسية لملوك أوروبا كعدوَّة كريمة لا تخالجها الأحقاد العمياء ولا تحمل في مبادئها وآرائها نوعًا من أنواع التهديد للحكومات الأجنبية، كان بنوعٍ خاص في المداولات التي دعت إلى معاهدة كامبو-فورميو.

كانت العظمة الحقيقية التي روضها هذا الرجل في أن مجلس الشعب، الذي كان نابوليون ينكر عليه سلطته المطلقة ويتعدى على مقاماته، لم يكن ليجرؤ أن يحاسبه على احتقاره وجسارته، بل إنه وجه إليه، بنوع التعظيم، وبلسان رئيسه، هذا المديح الفخم، قال باراس مجيبًا القائد: «إن الطبيعة التي تضن بعجائبها لا تعطي الأرض رجالًا عظماء إلا في الندر، إلا أنه من واجبها أن ترغب في إظهار فجر الحرية على يد إحدى أعاجيبها، ومن حق ثورة الشعب الفرنسي العظمى، تلك الثورة الجديدة في تاريخ الشعوب، أن تظهر نابغةً جديدًا في تاريخ الرجال العظماء.»

هذا التمليق الذي نُزل به عند رغبة الشعب، إنما هو أكبر دلالة للمقام السامي الذي كسبه نابوليون، ومن الواضح أن رئيس الجمهورية قد اعتقد نفسه مضطرًّا أن يخاطب قائدًا بسيطًا هو تحت سلطته، كما خاطبه فيما بعد، وفي المكان نفسه، رئيس مشيخته، أو الخادم الأول من بين خدمه.

أما الباريسيون فقد تظاهروا بالنسيان؛ إذ كان قاهر أركول قد محا رامي قنابل فنديميير، وكان نابوليون موضوع احتفاء الجماهير حيثما ظهر، ففي المسارح، عندما كان الحضور يشعرون بوجوده، كانوا يطلبونه بأصوات مرتفعة، حتى أصبحت هذه الدلائل تزعجه جدًّا، فقال ذات مرة: «لو كنت عارفًا أن «اللوجات» مكشوفة لما حضرت»، رغب ذات يوم في حضور مغناةٍ مضحكة كانت موضوع إقبال الشعب، فطلب إعادتها بهذه العبارة الوضيعة: «إذا كان لا يستحيل ذلك»، فأجابه مدير الجوقة أنه ما من مستحيل على قاهر إيطاليا الذي حذف هذه الكلمة من القاموس منذ عهد بعيد، إلا أن نابوليون، بالرغم من تهافت الشعب إليه، لم يكن ليدع للبخور المرتفع إليه سبيلًا لإسكاره، فكان يخشى انقلابًا فجائيًّا يفقده تذكار خِدَمه القديمة ويفتِّر حماسة المعجبين به، وكان كثيرًا ما يقول: «إن الخلق في باريس لا يحفظون تذكار شيء، فإذا ما بقيت زمنًا بدون عمل لا ألبث أن أُنسى وأضيع، وتأتي شهرةٌ أخرى فتحل محل شهرتي، فبابل هذه لا تبقي شهرةً منسية من غير خلف لها»، ثم يردد كلمة كرومويل عندما يبينون له كم أن وجوده يهيج حماسة الشعب فيقول: «إن الشعب ليتهافت حولي بمثل هذا التهافت فيما لو أخذت إلى المشنقة»، ولقد رفض حضور حفلة أقامتها له إدارة «الأوبرا»، وعزم ألا يحضر مشهدًا من المشاهد إلا في «لوج» مشبك بالأخشاب.

في ذلك العهد بدأت تنشأ التعصبات ضده، وذات يوم أرسلت إليه إحدى النساء تعلمه أنهم يحاولون دس السم له، فأوقف الرجل الذي جاءه بهذا الإنذار واقتيد مصحوبًا بقاضي الصلح إلى منزل المرأة التي أرسلته، إلا أنه عندما أدخل المنزل كانت المرأة المسكينة مضرجة بدمها، ذلك أن القتلة، عندما تناهى إليهم أنها كشفت سرهم المشئوم، عمدوا إلى التملص من شهادتها بجريمة أخرى.

عندما تنحى بونابرت عن مجلس الشعب أراد أن يوطد له مكانًا في مجلس العلماء، بالرغم من أنه كان بحاجة إلى غير المهمات العلمية والأدبية، فقبل مكان كارنو الذي كان ١٨ فروكتيدور قد لحقه، وانخرط في سلك العلوم والفنون. نعطي الآن الرسالة القيمة التي أرسلها إلى الرئيس كاموس:

أيها الرئيس المواطن

إن رضا الرجال الممتازين الذين يؤلفون المجلس ليشرفني.

وإنني أشعر بأن سأكون تلميذهم قبل أن أكون نِدَّهم.

لو كان لديَّ عبارة أبلغ من هذه أعبر بها عن احترامي الفائق لذواتكم لما ترددت عن استعمالها.

إن الفتوحات الحقيقية، تلك التي يتاح لها وحدها أن تسبب حسرةً وألمًا، إنما هي التي يعالَج بها الجهل.

وإن أنبل عمل وأَفْيَده للأمم إنما هو المساعدة على توسيع الأفكار البشرية.

وإن من حقِّ عظمة الجمهورية الفرنسية أن تتوقف من الآن فصاعدًا على ألا يكون هناك فكرة واحدة لا تكون هي مالكتها.

بونابرت

كان هذا الكلام جميلًا في فم رجل توصَّل إلى قمة المجد بأعمال عسكريَّة صرفة، إلا أن نابوليون كان يرغب رغبة شديدة في أن يبيِّنَ أن حظَّه وتعشُّقَه المهنة يعمِّيان عليه السبيلَ القويمَ، ولكي يبلغ السموَّ الذي شعر به نبوغه اللمَّاع، كان بحاجة إلى أن يظهر بمظهر أكبر من القائد الكبير الكَلِف بانتصاراته، كان ملْء نفسه أن يرى الأمَّة الكبرى، ملكةَ العالم التي كان يودُّ أن يستولي عليها بنفسه، ناظرةً إليه كما تنظر، ليس فقط إلى رجل جدير بأن يدافع عنها بالسلاح فحسب، بل إلى رجل جدير بأن يصون نموَّ ثروتها الأدبية والحماية العالمية التي كانت تمارسها بما أوتيت من التفوُّق الأدبي والنفوذ العسكري.

ولكن هل حان الوقت لإظهار المطاليب السريَّة التي كان يغذِّيها في نفسه منذ حملة إيطاليا؟ لم يفكِّر نابوليون في ذلك، سوى أنه كان من حقِّه أن يفكِّر في الخروج بأسرع ما يمكن من الخمول الذي يعرِّض شهرته الرَّحْبة للخطر، وما هو إلَّا وقت قصير حتى تُقرِّر رحيله إلى مصر، أما مجلس الشعب فلم يرفض ذلك؛ لأنه كان يرغب في إبعاد ذلك المحارب الشهير لما في إبعاده من الخطر عليه، من غير أن يفكِّر في أن الانتصارات الجديدة إنَّما تَزيد في دهشة الأمة وإعجابها، وترحِّب وتنمِّي استمالة الشعب التي كانت تخشاها وتعمل على إطفائها، وأمَّا بونابرت، الذي كان وضع الخطة، فقد هيَّأ وحده المعدات اللازمة وأخذ على نفسه تنظيم الجيش لتلك الحملة، ولقد اختار هو أيضًا عمدةً من العلماء ورجال الفن الذين كان من واجبهم أن يرافقوا الجيش ليقوموا بخدمة الانتصارات في ترقِّي الحضارة. عندما سُئِل نابوليون عما إذا كان يرغب في البقاء طويلًا في مصر قال: «بعض أَشْهر أو ستِّ سنوات، ذلك يتوقَّف على الظروف.» وحمل معه مكتبة كاملة، تحتوي على مجلدات كثيرة في العلوم والفنون والجغرافية والأسفار والتاريخ والشعر والقصص الروائية والسياسة، كان يُرَى في قائمته: بلوتارك، بوليب، توسيديد، تيت ليف، تاسيت، راينال، فولتير، فريدريك الثاني، هوميرس، لوتاس، أوسيان، فرجيل، فينلون، لافونتين، روسو، مرمونتيل، لوساج، غوتي، العهد القديم، العهد الجديد، القرآن، روح الشرائع واللاهوت.

عندما أوشك بونابرت أن يترك باريس كادت تُوقِفه مشاجرةٌ، حدثت بين برنادوت والديوان النمسويِّ، تتعلَّق بالعلَم المثلَّث الألوان الذي كان السفير الفرنسي قد رفعه فوق مَرْكَزه فأهانه شعب فيينا، فأراد مجلس الشعب أن ينتقم من هذه الإهانة بأن يشهر حربًا جديدة يقودها قاهر إيطاليا، إلَّا أن هذا بيَّن بحقٍّ صُراح أن على السياسة أن تسوسَ العوارِض وليس على العوارض أن تسوس السياسة، فلم يجد مجلس الشعب بدًّا من الخضوع لهذه الملاحظة الصحيحة، وزحف نابوليون إلى طولون.

في الثامن من شهر أيار عام ١٧٩٩ وصل بونابرت إلى تلك المدينة التي كانت مَهْدَ شُهْرتِه ومجده، فبلغه أن الشريعة الدراكونيَّة التي هيَّجتها المهاجرة، والتي نفَّذها ١٨ فروكتيدور تنفيذًا شديدًا لا تزال تذيع الحزن في الفرقة العسكريَّة التاسعة، وبما أنه لم يكن يحقُّ له أن يُصدِر أوامر في مدينةٍ ليست تحت سلطته كتب إلى مجلس الجنوب العسكري، بصفته عضو مجلس العلماء الوطني؛ ليرشده إلى استشارة الحلْم والإنسانية في أحكامه، قال: «لقد تناهى إليَّ بألمٍ عظيم أن هناك شيوخًا تتراوح أعمارهم بين السبعين والثمانين، ونساءً بائساتٍ حبالى يحفُّ بهنَّ أطفال صغار قد قُتلوا قتلًا فظيعًا لاتهامهم بالمهاجرة.

هل انقلب جنود الحرية إلى سفَّاحين؟ وهل ماتت في قلوبهم تلك الشفقة التي حملوها حتى إلى ساحات القتال؟

إن شريعة ١٩ فروكتيدور إنما كانت حِكْمة السلام العام، وكان قصدها أن تنال من التعصُّبات المَشِينة وليس من النساء البائسات والشيوخ العجَّز.

إنني أرشدكم أيها المواطنون، كلما قدَّمت الشريعة إلى محكمتكم شيوخًا يجاوزون الستين من أعمارهم، أو نساءً أن تصرِّحوا علنًا أنكم قد احترمتم شيوخ أعدائكم ونساءهم في وسط الحرب.

فالجندي الذي يُصدِر حكمًا بحق شخص عاجز عن حمل السلاح إنما هو جبان.»

هذا العمل الكريم أنقذ حياة مهاجرٍ شيخٍ كان المجلس العسكري الطولوني قد حكم عليه بالموت، جميلٌ أن يُرى جنديٌّ تعوَّد هرق الدم البشري في ساحات القتال يأمر جنوده بأن يحترموا ذلك الدمَ في ضعف الشيخوخة والمرأة، جميلٌ أن يُرى، هو، ذلك المحارِب الأوَّل بين المحاربين، داعيًا رجال الحرب إلى الإنسانية، ومعتمِدًا بإرشاداته المُخلِصة، ليس على سلطته أو على شهرته العسكرية، بل على الحقوق التي نالته إياها مقدرته العقلية، ومواهبه السامية، ومعارفه الواسعة، وأعماله السلمية. إن في هذه الرسالة، التي أرسلها بونابرت وهو عضو مجلس العلماء إلى مجلس الجنوب العسكري، لعاطفة عميقة تُوجِب على السيف أن يُذعِن للفكرة حين يكون العمل في سبيل الرقيِّ العالميِّ.

عندما جُهِّزت معدَّات السفر، ودنا وقت الرحيل، وجَّه نابوليون إلى جيشه هذه الخطبة الآتية:

أيها الضباط والجنود

جئت أقودكم منذ سنتين: في ذلك العهد كنتم في نهر جنوا، في أبعد ما يكون من الفقر، لا تملكون شيئًا، وقد ضحَّيتُم حتى بساعاتكم لأجل القوت الضروري، فوعدتكم بوضع حدٍّ لبؤسكم، وقدْتُكم إلى إيطاليا، هناك، مُنِحتم كل شيء … ألم أفِ بوعدي؟

فأجاب الجنود بصوتٍ واحد هاتفين: أجل!

واستطرد نابوليون قائلًا: «إذن فاعلموا أنكم لم تعملوا شيئًا بعدُ في سبيل الوطن، والوطن لم يعمل شيئًا بعدُ في سبيلكم.

إنني لأقودكم الآن إلى بلاد يُقيَّض لكم فيها، بما تأتونه من الأعمال، أن تفوَّقوا على الذين يُدهِشون اليوم جميع المُعجَبين بكم، وتؤدُّوا إلى الوطن الخدم التي من حقه أن يتوقعها من جيش لا يُقهَر.

إنني لأعد كلَّ جنديٍّ منكم بأن سيُتاح له لدى عودته من تلك الحملة أن يشتري ستَّ قطع من الأرض.

ستجتازون أخطارًا جديدة يشاطركم إياها إخوتُكم البحريُّون، فهذا لم يُدِبَّ الخوفَ في أعدائكم حتى الآن، وأعماله لم تضارع أعمالكم؛ لأن الظروف أخطأته، إلَّا أن شجاعة هؤلاء البحريين إنما هي كشجاعتكم، وسيُتاح لهم أن ينالوا الفوز العظيم باتحادهم معكم.

ألا فشاطروا ذلك الأمل القاهر الذي قيَّض لكم النصر في كلِّ حين، عاونوهم في جهودهم، احيَوا حياة إخاءٍ بذلك الذكاء الذي يشيع خلق الرجال المخلصين الموقوفين للقيام بصالح واحد، إنهم لقد استحقوا مثلكم ثناء الشعب في فنِّ النوتية الشاق.

عوِّدوا نفوسكم التدرُّبات البحرية، كونوا صاعِقة أعدائكم في البحر والبر، واحذوا حَذْوَ الجنود الرومانيين الذين عرفوا أن يقاتلوا في الوقت نفسه قرطجنَّة في السهل وقرطجنَّة على مراكبها.»

كان الهتاف: «لتحيَ الجمهورية!» جواب الجيش على كلام القائد، كانت جوزيفين قد رافقت زوجها إلى تولون، فكان وداعهما في أبعد ما يكون من التأثير؛ إذ إن جوزيفين كانت تحبُّه محبة تقرُب من العبادة، كان من حق الزوجين أن يخشيا على فُرْقتهما أن تكون أبديَّة إذا هما فكَّرا في المخاطِر التي على القائد أن يجتازها، وأقلع الأسطول في التاسع عشر من شهر أيار.

عندما خرج الأسطول من تولون اتَّجه نحو مالطة. فذات مساء، بينما كان يمخَر عباب بحر سيسيليا، خُيِّل إلى كاتم أسرار القائد العام أنه يرى قِمَم الألب من خلال الشمس المنحدِرة إلى المغيب، فأفضى باكتشافه هذا إلى بونابرت الذي لم يُجِب بسوى إشارة، إلَّا أن الأميرال بروه أخذ نظَّارته الصغيرة وصرَّح بأنَّ بوريين إنما كان مصيبًا في نظرته، عند هذا صرخ بونابرت قائلًا: «الألب!» وبعد أن مرَّت عليه فترةُ تفكير عميق قال: «لا، إنني لا أستطيع أن أرى أرض إيطاليا من غير أن أشعر بجزع! هو ذا الشرق! فأنا ذاهب إليه! إن هناك لمشروعًا خطرًا يدعوني! وهذه الجبال تكتنف السهول التي قُدِّر لي مرارًا عديدة أن أقود فيها الفرنسيين إلى النصر، ومع هؤلاء سنقهر طويلًا بعدُ.»

كان يحلو لنابوليون في وسط البحر أن يتحدَّث إلى العلماء والقوَّاد الذين يرافقونه، فيخاطب كلًّا منهم بالمادة التي انصرف إليها، وبعد الغداء، كان يحلو له أن يقترح أسئلة صعبة في أهمِّ المواد، فتحتكُّ الآراء بعضها ببعض، وتحْتَدِم المناقشة، حتى إذا استوى رأيه على ما كان أكثرهم حذقًا في إثبات المستحيل والبدع الغريبة وقف عنده وقدَّمه على غيره، وكان يحب أيضًا أن يطرح السؤال المزدوج الذي يتعلَّق بعمر الكون وبإبادته الممكنة؛ إذ إن مُخيِّلته وفكرته لم تكونا ترتاحان إلَّا إلى الأسئلة الرَّحْبة السامية.

بعد سفر هادئ دام عشرين يومًا ظهر الأسطول الفرنسي، في العاشر من شهر حزيران، أمام مالطة التي استسلمت من غير مقاومة، ما جعل كافاريللي يقول لبونابرت بعد زيارة الحصون: «إننا لسعيدون، يا قائدي، بأن قُدِّر لنا وجود واحد في المدينة يفتح لنا الأبواب.» لم يقف بونابرت في مالطة سوى أيام قلائل، وسار الأسطول نحو كاندي، هذه الدورة خَدَعَتْ نلسون وحالت بينه وبين ملاقاة الحملة الفرنسية أمام الإسكندرية كما حسب قبلًا، فكان هذا من حظِّ الجيش الفرنسي؛ إذ إن بروه كان قد صرَّح بأن الأميرال الإنكليزي لم يكن بحاجة إلى أكثر من عشرة مراكب ليتمَّ له النصر المُؤكَّد.

وقبل أن يبلغ بونابرت الشاطئ الإفريقي أراد أن يخاطب جنوده مرة أخرى لكي يُضْرِم حَمِيَّتهم بقوله لهم إنهم من الفتح العظيم على خطوة، ولكي يحذِّرهم من مخاطر خمود الهمة وحرق النظام، وهذا هو النداء المشهور الذي وجَّهه إليهم بهذه المناسبة:

بونابرت، عضو مجلس العلماء الوطني، وقائد عام
٤ مسيدور عام ٦
أيها الجنود

إنكم ستقدمون على فتح عظيم لا تُحصَى نتائجه العائدة بالخير على تجارة العالم وحضارته، إنكم ستُحمَلون إلى إنكلترا الطَّعْنة الواثِقة حتى يُتاح لكم أن تحملوا إليها الطَّعْنة القاضِية.

سنقوم ببعض أعمال شاقة، فنشهر مواقع عديدة، ونفوز في جميع مشاريعنا، إن المستقبل إنما هو في قبضة يدنا! أما البكوات والمماليك الذين يساعدون التجارة الإنكليزية، ويتعدَّون على حقوق تُجَّارنا، ويرهقون سكان النيل المساكين بالظلم؛ فإنهم سينقرضون بعد وصولنا ببضعة أيام.

إن الشعب الذي سنعيش معه لشعب مسلم، وعقيدته الأولى هي هذه: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» فلا تناقضوه، وانهجوا معه كما نهجنا مع اليهود والطليان، أكرموا أئمته ومُفْتِيه، كما أكرمتم الحاخامين والأساقفة، تساهلوا مع الشرائع التي يأمر بها القرآن والجوامع، كما تساهلتم مع الأديرة، ومحافل اليهود، وشريعة موسى والمسيح.

إن الفِرَق الرومانية إنما كانت تصون جميع الأديان، سترون هناك عاداتٍ تختلف عن عادات أوروبا فيجب أن تتعوَّدوها.

ثم إن الشعب الذي سندخل عليه يعامل المرأة معاملةً تختلف عن معاملتنا إيَّاها، ولكن مَن يتعدَّى إنما هو في جميع البلدان وحش ضارٍ.

والنهب لا يُغني سوى عددٍ من الرجال قليل، فهو يهْتِك حرمتنا ويهدم وسائلنا ويجعلنا أعداء الشعوب التي مِن مَصْلحتنا أن نتخذهم أصدقاء، أما المدينة الأولى التي سنَنْتَحِيها فقد شيَّدها الإسكندر؛ فإننا لنجد لدى كلِّ خطوة نخطوها ذكرياتٍ كبرى جديرة بأن تهيج حماسة الفرنسيين.

عُقَيب هذا النداء أصدر نابوليون نشرةً ضمَّنها الحكْمَ بالإعدام على كلِّ فرد من أفراد الجيش يقدم على النهب والهدم، أو يضع جزية، أو يرتكب اختلاسًا ما؛ ما جعل القوَّاد يتحمَّلون عاقبة كلِّ أمر مَشِين.

كان نابوليون يحذو حَذْوَ الرومانيين بهذه الصرامة، إلَّا أن الشيء الجديد الذي تضمَّنته تلك النشرة المشهورة، والذي كثيرًا ما استوحاه بونابرت في نشراته التي أصدرها في حملة مصر، إنَّما هو مشهد فاتح لا يسير، في جميع المواقف التي احتاج فيها إلى مخاطبة جنوده أو الشعوب التي يخترق أراضيها، على خُطُى مَنْ تقدَّمه فيستفيد من سلطة كبرى أو هائلة تدبُّ الذعر والهول، بل يتكلَّف في إظهار احترامه للشعوب بصفته عضو مجلس علماء لا ترتكز سلطتُه إلَّا على الفكرة الهادِئة والعقل الإنساني.

كان الإسكندر، في مصر نفسِها، قد أعلن نفسَه أنه ابن جوبيتير، وكان القيصر أيضًا قد شاء أن يتحدَّر من صُلْب الآلهة، كما أن أتيلا سمَّى نفسه ضربة الله، وكما أن الحكمة السامية نفسها، في الأجيال الوسطى للمسيحية وفي عهد الوثنيين القديم، قد اتخذت من خاصِّيَّاتها ومن قبل اللاهوتيين والشعراء مُسْتَوْدع الصاعقة، وقيادة الجيوش، وإدارة الحروب.

كان بونابرت يفهم حقَّ الفهم العصر الذي كان من واجبه أن يعالج فيه سلطة الذكاء ليسحر المجموع، وبما أنه كان يرغب في أن يُظهِر بشكل ساطِع وبقدوته الخاصة أن الرُّقي العالمي الذي بشَّرت به الفلاسفة وهتفت له الشعوب إنَّما يُناط بخضوع السيف لسلطة الفنون المُهذَّبة، وقوة التجارة والعلوم، عَمَدَ — وهو الأول بين المحاربين في أعظم أمَّة حربية في العالم — إلى وضع مقامه العسكري العظيم بعد مقامه البسيط كعضوٍ في مجلس علميٍّ، فكتب في مقدمة رسائله ونشراته الرسمية هذه الكلمات: «بونابرت، عضو مجلس العلماء الوطني.»

رسا الأسطول أمام الإسكندرية في الأول من شهر تموز، كان نلسون قبل يومين في ذلك المكان، إلَّا أنه استغرب عدم التقائه بالحملة الفرنسية فقدَّر أنها اتجهت إلى شواطئ سوريا لِتُبْحِر منها إلى إسكندرونة، أما بونابرت، الذي أُشْعِر بظهور الأميرال الإنكليزي وتوقَّع عودته القريبة، فقد عزم على تتميم إبحار جيشه بأسرع ما يكون، إلَّا أن الأميرال بروه، الذي كان يرى محذورًا في ذلك، مَانَعَ تتميمَ الإبحار بكلِّ قواه، فأصرَّ نابوليون وخاطب بروه الذي كان قد طَلَبَ مُهْلةً اثنتي عشرة ساعة قائلًا: «أيها الأميرال إن الوقت ضيق لدينا فيجب ألَّا نتردَّد، ثم إن الحظ لا يهبنا إلَّا ثلاثة أيام لا غير فإذا لم نستفد منها فقَدْنا كلَّ شيء.» فلم يجد الأميرال بدًّا من الإذعان لحسن حظِّ أسطوله؛ إذ إن نلسون، الذي لم يجده في النواحي التي بحث عنه فيها، لم يتردَّدْ أن عاد إلى الإسكندرية، إلَّا أن الوقت كان قد فات، فإصرار بونابرت وحدَّة مزاجه كانا قد أنقذا الجيش الفرنسي الذي كان جميعُه على اليابسة.

أبحر الأسطول إلى مرعبو، التي هي على مسافة ثلاثة فراسخ من الإسكندرية في الليل الذي بين اليوم الأول والثاني من تموز، في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل، ثم زحف الجيش بعد ذلك إلى تلك المدينة واضطر أن يتسلَّق جدرانها، أمَّا كليبر، الذي كان يُدِير القتال، فقد جُرِح في رأسه، لم يكلِّف هذا الفتح إلَّا جهودًا قليلة، ولم يحدث في الإسكندرية من النهب والقتل شيء قطُّ.

عندما وضع بونابرت قدمه على الأرض، كتب إلى باشا مصر هذه الرسالة الآتية:

«إن المجلس التنفيذي في الجمهورية الفرنسية قد خاطب الباب العالي مرارًا عديدة ليسأله معاقبة بكوات مصر الذين يُرهِقون التجار الفرنسيين بالظلم، إلَّا أن الباب العالي قد صرَّح أن البكوات، وهم قوم طمَّاع يذهبون في مذاهب هواهم، يُصْغُون إلى شرائع العدالة، ولم يكتف فقط بأن لا يمنع الإهانات التي يلحقها هؤلاء الفرنسيين أصدقاءهم القدماء، حتى عَمَدَ إلى تجريدهم من حمايته.

إذن فالجمهورية الفرنسية قد عزمت على إرسال جيش عظيم ليضع حدًّا لمظالم بكوات مصر، كما صنعت مرارًا عديدة مع بكوات تونس والجزائر في هذا العصر.

أما وأنت سيِّد البكوات المطاع، وأما وهم ينهجون في القاهرة من غير سلطة ونظام، فيجب عليك أن تنظر إلى وُصُولي نظرة مُستحسِن فرح.

إنك ولا شك تعرف كلَّ المعرفة أنني لا أقصد في مجيئي القيام بعمل يحطُّ من قدر القرآن والسلطان، وتعرف أن الأمة الفرنسية هي السلطان الوحيد في أوروبا.

إذن فتعال إلى ملاقاتي، والْعَنْ معي نسل البكوات الجاحد.»

عندما دخل نابوليون إلى الإسكندرية أسرع بنشر نداء على السكان، وهذا هو:

بونابرت، عضو مجلس العلماء الوطني، قائد عام للجيش الفرنسي

منذ زمن طويل والبكوات الذين يحكمون في مصر يُهِينون الأمة الفرنسية ويُرْهِقون تجَّارها بالمظالم، ولقد حانت ساعة العقاب.

منذ زمن طويل وهؤلاء العبيد اللقطاء الذين بِيعوا في أسواق قوقاز وجيورجيا يضطهدون أجمل قِسْم في العالم، إلَّا أن الله الذي بيده كل شيء قد أمر بانقضاء سلطانهم.

شعوب مصر، سيقال: إنني جئت لأهدم دينكم، فلا تصدِّقوا! بل أجيبوا أنني إنما جئت لأردَّ عليكم حقوقكم، وأعاقب المُخْتلسِين، وأنني أحترم أكثر من المماليك الله ونبيَّه والقرآن، قولوا لهم: إن الرجال جميعهم سواء عند الله، وإن الحكمة والذكاء والفضائل هي وحدها التي تميِّز الرجل عن الآخر، فأيَّة حكمة أم أيُّ ذكاء وفضيلة تُميِّز المماليك ليحقَّ لهم كلَّ ما في الحياة من اللذة؟

إذا كانت مصر أرضًا لهم فليبرزوا الإيجار الذي عمله لهم الله، ولكن الله عادل ومُشفِق على الشعب.

سيُدعى المصريون جميعُهم لإدارة شئون ملكهم، فالعقلاء والمتَّفقون والفضلاء منهم يحكمون، ويصبح الشعب سعيدًا.

كان فيما مضى مدنٌ كبرى، وقنوات واسعة، وتجارة عظيمة، فمن هَدَمها غير نسل المماليك وظلمهم واضطهادهم؟

أيها القضاة، والشيوخ، والأئمة قولوا للشعب: إننا أصدقاء المسلمين الحقيقيين، أمَا نحن الذين أهلكوا البابا الذي كان يقول إنه من الواجب أن تُشْهَر الحرب على المسلمين؟ أمَا نحن الذين أهلكوا فرسان مالطة؛ لأن هؤلاء البُلَهاء كانوا يعتقدون أن الله يرغب في أن يحاربوا المسلمين؟ أمَا نحن الذين كانوا في جميع العصور أصدقاء السيِّد الأعظم — حقَّقَ الله أمانيَه — وأعداءَ أعدائه؟ أمَّا المماليك فبالعكس، ألم يتمَّردوا على سلطة السيِّد الأعظم الذي كانوا لا يزالون يُنكِرونه؟ إنهم لا يتَّبعون سوى أطماعهم.

ثلاث مرَّات؛ سعداء هم الذين ينضمون إلينا! فسيفلحون في ثروتهم ومقامهم.

سعداءُ هم الذين يكونون على الحياد، فسَيُتاح لهم أن يعرفونا فينضموا إلينا، ولكن! الويل، ثلاث مرات؛ الويل للذين يتقلَّدون السلاح مع المماليك ويقاتلون ضدنا! فإنهم لَييأسون، وينقرضون!

بعد أن عهد بونابرت إلى كليبر٣ بقيادة الإسكندرية، ترك هذا المركز في السابع من شهر تموز، وأخذ طريق دمنهور من وسط الصحراء حيث الجوع والعطش والحر المُرهِق، جعلت الجيش يكابد أوجاعًا وعذاباتٍ لا تُطاق، وأمَاتت الكثير من عساكره، إلَّا أنهم وجدوا بعض الراحة في دمنهور حيث وطَّد بونابرت مكانًا لحاشيته عند الشيخ، وهو رجل مُسِنٌّ كان يتظاهر بالفقر لئلا يَلْحَقه الظلم إذا هو كَشَفَ عن غناه، ثم وَالَى الزحف إلى القاهرة، ولم يمرَّ أربعة أيام حتى قاتل المماليك في الرمَّانية وأتلف بناية البكوات وخيَّالتهم.

كان القائد العام في هذا القتال الأخير قد نظَّم فرق الجنود إلى صفوف مُربَّعة، كانت خيَّالة الأعداء تتحطَّم عليها بالرغم من قتالهم الجسور وشجاعتهم المتقحِّمة.

هذه الانتصارات العديدة التي رَبِحها بونابرت لم تكن سوى فاتحةِ انتصارٍ عظيم فَتَحَ أبواب القاهرة للجيش الفرنسي، وفي أواخر تمُّوز كان الجيش أمام مراد بك، في سفح الأهرام، فاستوحى بونابرت تلك الآثار الشاهقة القديمة، وفي حين أوشكت الحرب أن تنطلق من بركانها صرخ نابوليون قائلًا: «أيها الجنود، إنكم ستقاتلون ولاة مصر، فاذكروا أن أربعين قرنًا تشخص إليكم من أعالي هذه الآثار.»

أربعون قرنًا بالحقيقة كانت تشخص إلى الفرنسيين من أعالي تلك الأهرام! أربعون قرنًا أبصر الأوَّل منها أيدي الطوائف المصرية، تلك الأيدي المستعبَدة، تضع أساس هذه القبور الملكيَّة العظمى، وأبصر الأخير منها أيدي الفرنسيين الأحرار تفتح آثار الاستعباد القديم في سبيل الرُّقيِّ العام، إن الخطبة الموجزة التي تلفَّظ بها بونابرت إنما كانت تُشِير إلى المسافة التي تفرِّق بين المؤسِّسين والفاتحين؛ فالأوَّلون، إنما هم القاسطون أو العبيد منذ نشأتهم، والآخرون، إنما هم الأحرار المتساوون، قوَّادًا أو جنودًا، كلٌّ بحسب استحقاقه، إن بين الفراعنة، أسيادَ الطوائف الخاضعة بالإرث لأكثر الأعمال مشقة، والقائد العظيم الذي قَدِم ليقول للمصريين: «إن الخلق لسواءٌ عند الله.» ويبشرهم بحكم الفضائل والذكاء، إن بين هؤلاء لسلسلة من الرُّقيِّ البطيء الشاقِّ، تتصل حَلْقتُها الأولى بالحجر الأول من الأهرام الذي وضعه البؤس الوراثي، والحَلْقَة الأخيرة بنداء المحارب الذي لا يعترف بسوى الحكمة والجدارة لقيادة البشر، والذي يُظهِر نفسَه أكثر رغبة وفخرًا بنفوذ معارفه النَّيِّرة من عظمة سيفه، عندما قال بونابرت لجنود الجمهورية: إن أربعين قرنًا تشخص إليهم، في حين كانوا أمام الطوائف التي استعادت بقايا الاستعباد القديم، هيَّج حماسة كتائبه؛ لِيمدُّوا في خيرات رُقيٍّ كلَّف الإنسانية أربعة آلاف سنة من الجهود والتضحيات، أمَّا هذه الشواهد المهيبة فلم تكن بدون جدوى؛ إذ إن الجيش الفرنسي أجاب بانتصار عظيم على خطاب قائده البليغ.

ونعطي هنا وصْفَ المعركة الهائلة كما كتبها بونابرت بنفسه: «في الثالث، عند مَطْلع النهار، التقينا بالحرس الذين دفعناهم من قرية إلى قرية.

وفي الساعة الثانية بعد الظهر، وجدنا أنفسنا أمام مَتارِيس الجيش العدوِّ، فأشرت إلى فِرْقتي القائدَيْنِ دوزه وراينر بأن تتَّخذ مركزًا لهما في الجهة اليمنى من الجيزة بشكل أن تَقْطَعا عن العدوِّ مواصلات مصر العليا التي كانت مَلْجَأه الطبيعي.

عندما شعر مراد بك بحركة القائد دوزه عزم أن يَهْجُم عليه، فأرسل أحد بكواته البُسَلاء مع جيش من صَفْوة الجنود، أمَّا نحن فتركناه يقترب منَّا حتَّى إذا ما أصبح على قَيْد خمسين خطوة قابَلْناه برذاذٍ من القنابل أَسْقَط منه عددًا كبيرًا في ساحة القتال، وما هي إلا فترة حتى كُسِر شَرَّ كسرة.

إذ ذاك استفدتُ من الظرف، فأمرت فرقة القائد بون التي كانت على النيل بأن تهاجم المتاريس، وأشرت إلى القائد فيال الذي يقود فرقة القائد مينو بأن يَهْجُم بين الفرقة التي جاءت تهاجمه والمتاريس، بشكل أن يحقِّق الثلاث: مَنْع الفِرْقة من الرجوع، قطْع خطِّ العودة على العدوِّ، والهجوم على المتاريس من اليسار إذا كان من مُوجِبٍ لذلك.

لمَّا استعدَّ القائدان فيال وبون الاستعدادَ كلَّه أصدرا أمرَهما إلى الفرقتين الأولى والثالثة من كلِّ جَحْفل بأن تصطفَّا للقتال، وأَنْ تبْقَى الثانية والرابعة على ما كانتا عليه، تؤلِّفان دائمًا الجَحْفل المُربَّع فتتقدَّمان لِتُعضِّدا صفوف الهجوم.

أمَّا صفوف القائد بون، التي يقودها القائد الباسل رامبون، فقد هجمت على المتاريس بشجاعتها المعهودة بالرغم من نار المماليك، وما هي إلَّا هنيهة حتى غُطِّيت ساحة القتال بالقتلى والمجاريح، وقُيِّض لكتائبنا أن تسْتَولِي على المتاريس، وأمَّا المماليك فقد تشتَّتَ مَنْ بَقِي منهم، وسَقَط منهم عددٌ كبير في مياه النيل فأُغرِقوا جميعًا.

قُدِّر لنا أن نَغْنَم أكثر من أربعمائة جَمَلٍ مُحمَّلة وخمسين مِدْفَعًا، ولقد قدِّرت خسارة المماليك بألفي رجل من صفوة الخيَّالة وعددٌ لا يُحصَى من البكوات المجاريح والقتلى، وأما مراد بك فقد جُرِح في خدِّه، وقُدِّرت خسارتنا بنحو عشرين أو ثلاثين قتيلًا، ومائة وعشرين جريحًا، وفي الليلة نفسها أُخْلِيت لنا مدينة القاهرة، ولقد أُحْرِقت زوارق العدوِّ جميعها ونقائره وباخرة، وفي الرابع من الشهر دخلت كتائبنا إلى القاهرة. في الليل، أحرق الشعبُ منازلَ البكوات وارتكب تعدِّيات كثيرة. إنَّ شعب القاهرة، التي تضمُّ أكثرَ من ثلاثمائة ألف من السكان، إنَّما هو أمْقَت شعب في العالم.

لم أكن لِأمْدَح الكتائب التي أقودها لو لم تتَّخِذ شعارها الصبر والتجلُّد في تلك المواقع فتستسلم لحميِّتها وشدَّتها المتهوِّرة؛ إذ إنها لو استسلمت لفطرتها الخطرة لما قُدِّر لنا النصر الذي من شروطه الأولى، في مثل تلك الظروف، أن يُتَّخذ له الصبرُ والتجلُّد عدَّة.

لقد أبْدَت خيَّالة المماليك بَسَالة عُظْمى، فقد كانت تُدافِع بِشدَّة وشجاعة عن ثَرْوتها، ولقد وجدت عساكرنا على كلِّ فَرْد من هؤلاء لا أقلَّ من ثلاث أو أربع أو خمسمائة ليرة ذهبيَّة.

إنَّ ثروة هؤلاء القوم إنما هي في جِيادهم وأسلحتهم، أمَّا منازلهم فهي أبعد ما يكون من الفقر، وإنَّه لمن الصعب أن تُرَى أرضٌ أخصبُ من أرضهم، وشعبٌ أكثرُ بؤسًا من شعبهم. إنهم ليؤثرون زرًّا من أزرار جنودنا على قطعة توازي ستة فرنكات، وأمَّا في القرى فالشعب لا يعرف ما هو المِقصُّ، إن بيوتهم من الحمأ، وأثاثها فراشٌ من القشِّ وقربتان أو ثلاث من التراب. إنَّهم يعيشون عيشة مُدْقَعة، ويجهلون طريقة الطواحين حتى إننا استولينا على كوم من القمح عظيمة من غير أن نحصل على طحين، نحن نَقْتات من الثمار والخضر واللحوم، وأمَّا القليل من الحبوب المجروشة بالحجارة، ففي بعض القرى الكبيرة طواحين حجرية يديرها الفدادين.

لقد كنَّا في كلِّ فترة مُهدَّدِين بجماعاتٍ من العرب، هم أكبر لصوص الأرض، ولقد شاء سوءُ الطالِع أن يُقتَل قائد الحرس مويرور وكثيرٌ غيره من المعاونين والضبَّاط بيد هؤلاء الأشراء الذين كانوا يكمُنون وراء الحواجز وفي الحفر مُمْتطِين ظهور جِيادهم الصغيرة الجميلة؛ ويلٌ للذي يبتعد مائة قدم عن المعسكر. إن الجمهورية قد خسرت خسارة عظيمة بموت مويرور، فقد كان من هؤلاء القوَّاد الذين لم أقع على أشدِّ بسالة منهم.

لا يمكن للجمهورية أن تقع على مُسْتعمَرة أكثر غنًى من مصر، فالهواء فيها نقيٌّ لأن لياليها رطبة، إننا بالرغم من الأتعاب التي كابدناها في السير والجوع وحِرماننا من النبيذ لم نشعر بألم قطُّ، ولم يمرض أحدٌ منَّا.

إنِّني أسألكم رتبة قائِد فرقةٍ للقائد دومارثين الذي أبلى بلاءً حسنًا، ثم إن القائد زاينوشيك قام بخدم جديرة بالالتفات في كثير من المواقف المهمَّة التي عَهِدْتُ بها إليه.

منذ سَفَرِنا إلى مصر لم نتلقَّ خبرًا واحدًا من فرنسا …

أرجو منكم أن تدفعوا إنعامًا قدْرُه ألف ومائتا فرنك لامرأة المواطن لاري، جرَّاح الجيش، فلقد خَدَمَنا في وسط الصحراء خدمًا جليلة بنشاطه وغيرته، وهو الضابط الصحي الذي لا نجد أفضل منه لمستشفيات الجيش.»

في الصباح، ٤ ترميدور (٢٢ تموز) قَرُب بونابرت من القاهرة ونشر النداء الآتي:

«شعب مصر، إنني مسرور من تصرُّفكم، فلقد أحسنتم برفْضِكم الاشتراك في مُقاتلتي، لقد جِئتُ لأمْحقَ نسْلَ المماليك، وأصون تجارة البلاد، فلْيطمئن كلُّ مَنْ حدَّثتْه النفسُ بسوء، ولْيعُدْ إلى مأواه كلُّ مَن ابتعد عنه، عودوا إلى الصلاة كما كنتم، ولا تخشَوا على عِيالكم شرًّا، لا تخافوا على بُيُوتكم، وأملاككم ودِينِ النَّبِيِّ الذي أُحُبُّه، لقد شكَّلت دِيوانًا من سبعة أشخاص يجتمعون في جامِعٍ هناك لحراسة الشعب، والمحافظة على الأمن العام.»

في الرابع والعشرين من تموز دخل بونابرت إلى عاصمة مصر، وفي الخامس والعشرين منه كتب إلى شقيقه جوزيف عضو مجلس الخمس المائة ما يلي: «سترى في الجرائد مُذكِّرات مواقع مصر وفتحها، ذلك الفتح الذي أضاف صفحة بيضاء على مجد الجيش الفرنسي، إن مصر لأغنى بلدان الأرض بالقمح والأرز والخضر واللحوم على ما هي عليه من الوحشيَّة وسوء المصير، إنما المال فيها قليلٌ جدًّا، إذن فسأكون في فرنسا بعد شهرين، فكن قريبًا من باريس، كن في بورغونيه التي عزمت على تمْضِية فصل الشتاء فيها.»

إن هذه الرسالة لَتُبَيِّن أن نابوليون إنما كان يعتقد كلَّ الاعتقاد بتحقيق فتحه، ولكن فيمَ هذه العودة إلى فرنسا؟ أبودِّه أن يبحث هناك عن وسائل عسكرية جديدة وعناصر للاستعمار كما ظنَّ البعض؟ أم إن غايته الوحيدة إنما كانت دنوَّه من المسرح الذي يدعوه القَدَرُ إليه لِيلعب الدور الأول فيه، وقد تبيَّنت له قريبة الحوادث التي تنبَّأ عنها ورغب فيها منذ أمد بعيد؟ يُخيَّل إلينا أن القياس الأخير إنما هو الأقرب للتصديق.

١  مدينة في ألمانيا عقد فيها مؤتمران: الأول (١٧١٣-١٧١٤) وضع حدًّا لحرب إسبانيا، وعُقد الآخر (١٧٩٧–١٧٩٩) ليتم الصلح بين فرنسا وألمانيا.
٢  أعظم الشعراء اللاتين، ولد قرب مانتو في العام السبعين قبل المسيح.
٣  قائد فرنسي وُلِد في ستراسبورج، خدم في الفانده ثم في مصر حيث قتله أحد المماليك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤