خاتمة

بقلم  إبراهيم عبد القادر المازنى
٢٨ يناير سنة ١٩٢٥

أخطأ حسابى وحسابُ الناشر، فجاوز الكتاب ما كنا نتوقع له، وما كان العزم أن نقصره عليه، فمعذرة إذا كنا قد أسأنا بالإطالة، وضاعفنا بها بواعث الملالة!

والكتاب، كما هو الاَن فى يد القارئ، يمثِّل منزعَ الناشر أكثر مما يمثل نفسَ الكاتب. فقد أبى إلا أن يخليه من نقد المعاصرين ليريح نفسه من حماقات المعاتبين! وحسنًا فعل، أو شرّا فعل، كما تريد! ومن الذى يستطيع الراحة ولا يستريح؟ غير أن الكتاب بهذه الصورة يعرض منى جانبًا وتطوى جانبًا، ويصور للقراء لين ملمسى ويستر أظافرى، ويبدينى مفترَّ الثغر منزوع النيوب مقلوع الضروس! ولست أبالى كيف أبدو للقارئ! وما كنت لأعنى بجمع هذه أو تلك من مقالاتى ونشرها، بعد أن طويت مع الصحف التى ظهرت فيها، لولا أنى فرَّجت بذلك أزمة كانت مستحكمة! وما أرانى أنقذتها أو أحييتها، بل بعثتها من قبورها لتلقى حسابها! ولعله كان خيرًا لها أن تظل ملفوفة فى أكفانها!

وأحسبنى بعد أن صارحت القارئ بهذا الذى لم يكن يعلمه، لا أحتاج إلى أن أقول إنى لا أكتب للأجيال المقبلة، ولا أطمع فى خلود الذكر. وهل ترى ستكون هذه الأجيالُ المقبلة محتاجةً — كجيلنا — إلى هذه البدائه؟ أليست أحق بأن يكتب لها نفرٌ منها؟ أَمِنَ العدل أم من الغبن أن نكلَّف الكتابة لجيلنا ولما بعده أيضًا؟ تالله ما أحق هذه الأجيال المقبلة بالمرثية إذا كانت ستشعر بالحاجة إلى ما أكتب!! ليتهمها غيرى بالعقم إذا شاء!

ويرى القارئ فى كتابى هذا مقالًا كان فى الأصل مقدمة لكتاب جمعتُ فيه ما نقدتُ به شعر حافظ منذ أكثر من عشر سنين. وللقارئ الحق أن يستغرب أن أنقل مقدمة كتابٍ مطبوع وأن أدسها هنا. ولهذا سبب لا أرى بأسًا من إيضاحه: جمعت فيما مضى نقدى لشعر حافظ وطبعته ونشرته، وبعت منه عددًا ليس بالقليل، ثم أخذ الشراةُ يبطئون علىّ، فضقت ذرعًا بما بقى من نسخه، فحملتها إلى بقال رومىٍّ اشتراها منى بالأقة! وعزيت نفسى عن ذلك بقولى لنفسى إن جبن الرومى وزيتونه أحق بهذا النقد!! ثم مضت عشرة أعوام وبعض عام وشرعنا نطبع «حصاد الهشيم» هذا، وإنا لماضون فى ذلك إذ جاءنى صديق يعودنى، وكنت مريضًا، وأطلعنى على صحيفة ينشر فيها بعضهم نقدًا لشعر حافظ، وأكثره مسروق من قديم نقدى!! وسألنى الصديق: «أأنت الكاتب؟» قلت: «كلا».

قال: «إذن فهى سرقة يحسن التنبيه إليها».

وألحّ علىّ فى ذلك، فقلت له «اسمع! زعموا أن لصّا تسلل إلى بيت فألفاه أفرغ من فؤاد أم موسى! وعز عليه أن ينقلب صفر اليدين، أو كما يقول العربُ رحمهم الله، أو ما شاء فليصنع بهم، خالى الوفاض بادىَ الأنفاض، فواصل البحث وهو مغيظ محنق، فما راعه إلا رجل فى بعض الغرف مختبئ فى ركن، ووجهه إلى الحائط. فلما ثابت إليه نفسه بعد الدهشة، قال لعله لص مثلى وضحك! ودنا منه فلم يتحرك، فوضع يده على كتفه فى رفق وسأله: «من أنت يا هذا؟ وماذا تصنع هنا».

فاستدار الرجل وقال، ووجهه إلى الأرض: «أنا صاحب البيت!! وقد شعرت بدخولك وأدركت غرضك فتواريت منك خجلًا!!».

وأنا يا صديقى كصاحب هذا البيت العارى! أستحيى أن أنبِّه إلى سطو صاحبنا المتلصِّص على نقدى، مخافة أن يتنبَّه الناس إلى ما أرجو مخلصًا أن يكونوا قد نسوه من أنى أنا كاتب ذلك الهراء القديم! ومن أجل ذلك أهب للصِّنا ما عدا عليه وبزَّنى إياه، وما أسهل أن يهب المرءُ غير شىء!!

فضحك صاحبى وانصرف! وخطر لى بعد أن وهبت النقد لسارقه أن أستنقذ المقدمة.

ولم يبق مما أريد أن أقوله فى هذه الخاتمة سوى كلمة واحدة: هى أنى مستغن عن رضا النقاد المتحذلقين عن كتابى هذا، وقانعٌ باستحسان أمثالى من الأوساط المتواضعين وهم بحمد الله كثيرون فى هذا البلد الأمى! بل أكثر مما يلزم لى!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤