الفصل الثاني عشر

الادب والفنون

الأثار فى مصر

الحجر لا يحس الحجر. هذا — فيما نظن! — لا نزاع فيه. ولقد غبر بنا زمنُ انحطاط كانت فيه آثار الفراعنة والعرب وغيرهم ممن حفظت مصرُ ذكرهم، حجارةً، وكان الناس شبهها لا يتنزلون إلى نظرة يلقونها عليها، وإذا أخطرها شىءٌ ببالهم عجبوا للقدماء وما تجشموه من جهد، وأضاعوه من وقت ومال فى نقل هذه الحجارة ورصفها وتوطيدها وتلوينها. وكان أهل الغرب يفدون إلى هذه الحجارة ويوسعونها نظرًا وتدبرًا وإعجابًا، ويوسعهم أهلُ مصر عجبًا وتهكمًا واستسخافًا! ويهزون رؤوسهم وهم يقولون — وعلى شفاههم ابتسامةُ الفطنة الساخرة! — «رزق العبطاء على المجانين»!

فالآن تغير كل شىء. حلنا نحن وحالت الحجارة. نطقت لنا ووعينا منطقها، وارتسمت على ألواح صوانها معان ندركها ونتحرك لها، وتجسدت لعيوننا وقلوبنا وعقولنا صورُ مجدٍ قديم وعز باذخ تالد نتعشقها ونكبرها ونحنُّ إلى مثل الحياة التى أنتجتها. وإذا جاءت وفود الغرب إليها ألفونا أشد منهم «جنونًا» بها ووجدوا من بيننا من لهم فى أصل المصريين وعلاقتهم بالعرب الأقدمين نظرية لا يبعد أن يحققها ما يقال إنه ظهر فى سبأ من الاَثار الشبيهة بآثار الفراعنة الأولين. ومن من المصريين لم يحرك أغوار نفسه وأعمق أعماق قلبه ما سمعه من العثور على جثث محنطة على الطريقة المصرية فى أمريكا؟! من ذا الذى لم يشعر بأن قامته اعتدلت لما صافح أذنه هذا النبأ؟! أى حجر — ذلك الذى لم تشع فى جوانب نفسه الخيلاءُ وزهو الفخر ولم يحس أن أمته أخت الدهر؟

ومن شاء فليفرض أن هذا الخبر طُير إلى مصر منذ مائة عام: أكان فى ظنك أحد يعبأ به؟! وإذا عبأ أكان يعرب إلا عن إعجابه بهمة رجال «الغرب» وصبرهم على التنقيب؟!

ألا لقد حلنا حقّا! وهذا هو الذى يطمئننا على حركتنا القومية ويذيع فى نفوسنا الإيمان بها واليقين فيها والثقة بحسن مصيرها — لا شىء سواه، وما كان بحّ الأصوات بالهتاف بالاستقلال، ولا اللجاجة فى المطالبة به، وما يبدو من التصميم على نيله كاملًا غير منقوص — ما كان لهذا وحده أن يقنعنا بأن هبتنا صادقة وحركتنا صميمة عميقة. فما رأينا فى تاريخ بلد ما، نهضةً قومية لم يكن يريدها نهضة فنية. ولعمر الحق هل يعقل أن يحس المرء بحقوقه وواجباته ووظيفته فى الحياة قبل أن يحس بنفسه وبما حوله وقبل أن يعرف ماذا هو؟ وماذا كان من شأنه؟ وقبل أن ينشئ هذا الإحساس والذكر فى نفسه الآمال؟!

(١) فى معرض الفنون

الفنون على نقيض السياسة لا تثير ضجة، ولا تحدث ضوضاء، ولا تخلق اللغط إلا فى الأوساط التى تُعنى بها وتفهمها وتقدرها، وإلا بين من يعرفون لها قيمتها وفعلها ويفطنون إلى دلالتها، وهؤلاء فى كل أمة قليلون، وليس ذلك لأن لها أصولًا يجهلها من لم يدرسها، إذ لو كان الأمر كذلك لما اكترث لبراعات التصوير والحفر وما إليهما إلا العارفون بهما أى رجالهما وحدهم. وهو ما يخالفه الواقع وتنقضه: وشبيه بهذا الخطأ أن يقول قائل إنه لا يقدر الشعر ولا يفهمه إلا العارف ببحوره وأصول الصناعة فيه، ولا يطرب للموسيقى إلا واضعوها والواقفون على ضروبها، وهو كلام يرفضه العقل وتنكره الغريزة والبديهة وإنما يقل من يفهمونها فهمها لاتصالها بفلسفة الحياة العالية وبأسرار الجمال العويصة.

ونضرب لذلك مثلاً بسيطًا قريب التناول لا يُحفى قلمنا ولا يكد ذهن القارئ — صورة «الأمل» لجورج فردريك واطس، وهى عبارة عن فتاة على كرة، وعيناها معصوبتان ورأسها مائل إلى قيثارة فى يسراها لم يبق بها إلا وتر واحد تعالجه بأصابع يمناها، والجو جهم والسماء محلولكة. ماذا تفيدك قواعد الفن فى فهمها؟! إن هذه القواعد ليست فى الواقع إلا كالنحو فى اللغة، وكما أن النحو وظيفته أن يعصم الكاتب من الخطأ فى تعليق الكلام بعضه ببعض، ويردك عن رفع المنصوب وجر المرفوع وعن جعل المبتدأ خبرًا والحرف فعلًا، كذلك قواعد الفن لا عمل لها إلا فى بابه الصناعى على الأكثر، لا فى مجاله المعنوى والروحى. وكما أن بحور الشعر لا تخلق الشاعر إذا أعوزته روحه، كذلك قواعد التصوير والحفر وحدها لا تجعل من المرء مصورًا أو مثالًا ولو كان فيها ما كان الخليل فى العروض.

وارفع هذه الصورة لعيون الناس تجدهم لا يسعهم إلا أن يدمنوا النظر إليها والتحديق فيها وإطالة الفكرة فى معانيها حتى ولو لم يعدّها أكثرُهم صورةً صادقة «للأمل». وما قيمة هذا الاسم؟ إنه رمزٌ لرمز فإحذقه إن شئت! وحسبك الصورة ففيه! الكفاية للعبارة عن ذلك الشىء الغامض الذى لا يزايل النفس مدى الحياة حتى فى أعصب الساعات المزلزلة للإيمان والأمل وإرادة الحياة. ولا ريب فى أن هذا تصوير رمزى ولعله من أشق ما يعالج الفنى وأدناه دائمًا من الإخفاق. ولم ينشأ بعد هذا الضربُ من التصوير فى مصر، ولكنا سقنا المثل منه لنطمئن القارئ غيرَ الفنى ولنقوى قلبه وننفخ فيه من روج الثقة بنفسه والاعتداد بذوقه إلى الحد المعقول. وإذا كان لا يستطيع أن يعرف وجه الإجادة والإتقان من ناحية الصناعة وأصولها فإنه يستطيع دائمًا أن يلتذ جمالها ويستمتع بمعانيها وبحسن التأليف فيها وبالبراعة فى أداء فكرتها وإبراز الغرض منها.

•••

وأمامه الآن فرصة سانحة لا تتاح له إلا مرة فى كل عام. فقد افتتح أمس معرض القاهرة للفنون المصرية «بدار الفنون والصنائع المصرية». وفيه أعمال ثمانية عشر مصريّا وثلاثة عشر أجنبيّا.

فى المعرض أكثر من مائتى قطعة كثيرٌ منها صور لأشخاص وليس بالقليل بينها ما هورسم للمناظر الطبيعية. ولكنها كلها على العموم نقل عن الطبيعة. ولم نر إلا قطعتين اثنتين أراد بهما صاحبها شيئًا غير مجرد النقل، ونعنى بذلك أنه جعلهما «درسًا» كما يسمون ذلك. والصورتان للأستاذ أحمد أفندى صبرى وإحداهما لغلام متشرد والثانية لخفير. ولا نتصدى للحكم عليهما من وجهة الأصول الفنية فالله ورجال الفن أعلم بذلك وأدرى. ولكن الذى ندريه أن صورة الخفير ناطقة بفراغ رأسه وخلوه من كل ما يسمى عقلًا أو خيالًا، وبامتلاء نفسه بالرضا بحاله، والتجرد من كل رغبة فى تحسينها أو التماس تغييرها. وقد خيل إلى وأنا أتأمله أنى لو نقرت بأصبعى على دماغه هذا لتجاوبت فيه أصداء النقرة! وهو ما أظن مصورنا قصد إليه من رسمه.

والأولى رأس غلام فى نحو العاشرة من عمره الضائع سدى، وهو وسيم الوجه، تقول لك عينه إنه وطن نفسه على هذه الحياة الضالة إذ كان لا عهد له بغيرها ولا حيلة له فى تغييرها، وتقول لك محيّاه، الذى بواجهك بخد ويثنى عنك خدّا، وشفتاه المضمومتان، إن تحت هذه الأطمار نفسًا فيها خير كثير واستعداد قوى، ولو أن يدًا مدت إليها وساعفتها لكان لها شأن اَخر، ويا له من جمال مخبوء فى أوحال، ونفس مستعدة مطوية فى أسمال! ومن ذا الذى يرى انفراج ثوبه عن نحره وصدره ولا تتمثل لعينه صورةُ الصراع الهائل الذى يدور بين هذه النفس الغضة وبين عواصف الحياة، ومرارةُ هذا العراك وفظاعته، بين قوى شاكية مستعدة وروح عارية عزلاء مزجوج بها فى أحرّ أتون وليس لها مفزع ولا نصير لا من العلم ولا من التجربة ولا من العطف!

ومما راقنا كذلك صور هزلية بالمكعبات (كيوبزم) رسمها الأستاذ محمد أمين عالى بك العمرى، وهى عبارة عن مستقيمات وأقواس لا غير.. وقد صور على هذه الطريقة أشخاصا عديدين نخص بالذكر منهم سعد باشا ورشدى باشا وحافظ بك إبراهيم الشاعر ولويد جورج. وهو أسلوب فى التصوير يحتاج إلى درس طويل للوجه، وكد شديد للذهن لمعرفة هندسته وتركيبه. وصاحبها حقيق بكل حمد وثناء. ولم تعجبنا صور الأستاذ محمود بك سعيد فى هذا العام. وقد كنا، ونحن فى طريقنا إلى المعرض، لا نفكر فى غيره، وكان الذى نتوقعه أن نشهد فى أعماله اَية التقدم، وأن نلمح فيها ما يدل على اطراد التحسن. ولقد أفردنا له وحده فى العام المنصرم مقالًا برمته.. وتسوءنا أننا مضطرون إلى أن ننقده هذه المرة. والنقد يصلح المستعد، ولو كان لا أمل لنا فيه لما عبأنا به. نعم إنه من «الهواة» ولكن له ميزة محرومًا منها رجال الفن المصريون. فإن هؤلاء لم يروا براعات الغربيين وليس أمامهم منها إلا صور منقولة عنها لا تغنى غناء الأصل. وهو يراها بمتاحف أوربا العديدة كلما ذهب إليها. ونحب أن نقول له إنه لا فائدة من التصوير إذا كان عبارة عن فوتوغرافية بالألوان، وإن مزية التصوير أنه يجمع بين الطبيعة — إذا كان نقلًا — وبين جمال الفن، وإن الوجه، ما لم يبرز المصور فيه معنى، ليس له مزية على الفوتوغرافية. وقد رأينا له صورة سيدة إنجليزية باسمة خيل إلينا أن فيها معانى قصَّر المصور فى إبرازها، وأن المرء لو غرز أصبعه فى جانب خدها لما صادف عظامًا تقاومه، وهذا خطأ فى التخييل بلا ريب، فإن الجسم عظام ولحم، ومهما بلغ من امتلاء الخدين على جانبى الفم فإن من الغلط أن يصورا بحيث تنتفى فكرةُ وجود عظام الشدقين مستورةً تحت اللحم. وليس حول السيدة جوّ ما ولا هواء فكأنها ملصقة بستار، أوكأن ظهرها ورقة على ورقة. ويجب أن يشعر الناظر بأن حول السيدة هواء كما يشعر إذ ينظر إلى صورة الغلام المتشرد، وهى مقارنة يجب على المتفرجين أن يقوموا بها ليدركوا الفرق. هذا فضلا عن الدرس الذى فى الألوان فى صورة الغلام، والمقابلة بين الوردى الباهت فيها وبين البنفسجى هى مقابلة تلذ العين وتروق النظر.

(٢) صورة الوجوه

قضيت فى هذا المعرض ساعات رجحت عندى بقفر العام الذى صارت تاجه وختامه. وليس ما يُلزم المرءَ أن يقسم مراحل حياته على دورة الفلك، وأن يقيسها أبدًا بمسطرة جريجوار فلا تسبق واحدة منها يناير ولا تنلكأ بها الخطا وراء ديسمبر. وما أجمل أن يصادف المرءُ فى فيافى العمر، من حين إلى حين، واحة جمال يستروح فى ظلها ويتريث عندها، ويعتدها مغنمًا تنسيه حلاوةُ الطفر به مرارةَ السعى إليه ووحشة الجدب دونه!

ساعات رخية من أمتع ما يمر بالنفس وأنداه وأحلاه، وجدت فيها من السرور باستيعاب المحاسن أضعاف أضعاف ما أنا واجد من الاهتداء إلى المعايب. نعم إن استقراء المآخذ واجتلاء العيوب يرضيان غرور المرء من ناحية إظهار ذكائه وفطنته، ولكن للتفطن إلى الحسنات لذةً لا تعادلها لذة ومتعة أنعم بها من متعة. ألست ترى أننا لو كنا لا تغيب عنا محاسنُ الحياة، ولا تتخطاها عيوننا وهى تبحث عنها وتبغيها فى كل ناحية، وتنشدها من وراء كل سعى وأمل وفكر — نقول لو أنا استطعنا أن نلتذ دائمًا محاسن الحياة لخفت وطأتها وارتفع ثقلها، ولوجد المرء فى الإعجاب بالحسنات سلوى عن سيئاتها وعزاءً عن شرورها وملهاة عما ينعاه منها ويثيره عليها ويرمض نفسه إذ يتدبرها.

وفى المعرض وجوه ومناظر. وإذ كنت لا أستطيع أن أجمع فى ان بين الخواطر المختلفة التى تحركها صورة الوجه وصورة المنظر فقد جعلت وكدى فى الساعات التى أتيح لى أن أقضيها هناك أن أخص كلا بحصة كاملة من وقتى، وسيكون كلامنا هنا على الوجوه دون المناظر.

لذيذ جدّا أن يحس المرء أن مصورًا رأى فيه معنى يبعث عاطفته الفنية ويغريه بإبرازها، وأن يشعر بأن نفسه ليست صفحة بيضاء خالية مما يستحق أن يُقرأ بل كتابًا حقيقًا بأن تعبره العينُ وتنقّب فيه، وتختزل ما حواه بين دفتيه فى تقويسة هنا، أو ضغطة هناك، أو لمعة يشيعها المصور فى العينين. وأن يعلم أن هذا المعنى الذى لمحه المصور سيخلد على الأيام فلا يلحقه تغيير ولا تعدو عليه الصروف — لا كالمرآة تريك حاضر أمرك وما يتفق لك ساعة النظر إليها من فتور أو نشاط ومن توقد أو خمود — نعم لذيذ هذا لأنه راجع فى أصل الإحساس به إلى طلب النفس الإنسانية للتعدد ومتصلٌ فى مرد أمره بغريزة حفظ النوع التى تدفع المرء إلى التماس النسل والخلود فى الذرية.

ولكن لهذا جانبا آخر حالكًا. فإن كل نفس صندوقُ أسرار، وقد لا يحب الإنسان أن يكشف عنه ويفتحه لعيون النظارة. والمصور ذو نظر فاحص منقب يفتش السريرة لينتزع منها سرها ويلقى ظله على الوجه، وما أحرى المرء أن يحس، وهو جالس إلى المصور، كأنه متهم فى حضرة محقق بحاوره ويداوره ويقلب معه البحث على كل وجه — ولكن بالعين فى الأكثر — ليهتدى إلى سر الجريمة أوبراءة الضمير.

وفى هذا الشعور — إذا نشأ — ما يغرى المرء بكتمان نفسه. وقد يعجز الجالسُ إلى المصور عن جلاء شخصيته فى وجهه وعن حصر خصائصه فى معارف طلعته، فتخرج الصورة، برغم المصور، فاترة ليس فيها إلا معالم وجه مغلق لا ينطق بشىء. ولا يكون هذا راجعًا إلى ضعف المصور بل إلى عجز الجالس.

دارت فى نفسى هذه الخواطر وأنا أتأمل صورة — عليها أثر التعب الذى عاناه المصور والجهد الذى بذله لانطلاق الوجه حتى عاد ظاهر تعبه فيها من عيوبها الملحوظة. وماذا يصنع المصور إذا كان صاحب الوجه أحرص على ستر نفسه من أن يدع عين أجنبى تنفذ إلى صميمها؟! ما حيلته إذا كان الجالس لا يريد أن يُطلعنا على رأيه فى نفسه؟! لا حيلة البتة! وهذا عيب الصورة فإن عليها ستارًا غير مرسوم! وليس أعجب ممن يؤاتيه النوم وهو جالس إلى المصور! هذا، ولا ريب، رجل ناصب النفس جافُّ معين الشخصية ليس فيه قطرة من الحياة المشبوبة. وإلا لما وسعه أن يطبق جفونه وأمامه رجل يشرحه ويدرسه كأنما الأمر لا يعنيه؟ ومن هذا القبيل صورة رجل ساذج، تراه فى الصورة فتشفق لتدلى رأسه — على صدره — أن ينكسر عنقه وتسأل نفسك: أليس لهذه العين جفنان ينفتحان؟ أليس فى رقدة الأبد الطويلة ما يزهدنا فى الرقاد فى أحفل الساعات بحركات النفس وأشدها اكتظاظا بالعواطف المتنوعة؟! ساعة يدرسك المصور ويحتثّك على درس نفسك والتفتيش فيها مثله باحثًا عن المعنى الذى وجده بلا عناء، ويبعث فيك كامن الغرور وتخلق بينك وبينه فى لحظة تعاطفًا متولدًا من اشتراككما فى موضوع ليس أهم منه فى نظريكما فكأنكما زوجان حبيبان بينهما غلامهما!

ويقرب من هذا ويتصل به من الطرف الاَخر الأطفالُ. وهؤلاء كما لا يخفى، كل ما لهم من حيوية فى أعضائهم لا فى رؤوسهم، أما عواطفهم فساذجة لم تصقلها الحياة ولم يعقدها النضوج. فإذا ألزمتهم السكونَ — ولا بد منه فى التصوير — كادت دماؤهم تقف فى عروقهم وتركد الحيوية التى كانت منذ برهة واحدة شائعة فى أعضائهم متدفقة كالسيل، ولعل من أصدب الأمور على المصور أن يرسمهم، وكأنى به يحتاج إلى أن يداعبهم إذ كان كل حديث جدى أوهزلى معقول لا محل له معهم.

ويقول بيرك فى كتاب «الجليل والجميل» إن أجمل ما فى الطبيعة جيد الحسناء البريئة — أو ما هو فى معنى ذلك — فإذا كان هذا هكذا — وأحسبه على الأقل فتنة العين — فإن المصور معذور إذا اقتصر على جانب فتنة دون جانب، فليس أخطر من رسم الوجوه وإدمان النظر إليها وإثارة حيائها بطول التحديق والفحص وتعليق العين بالعين، ولا ينقذ الفريقين من حرج الموقف إلا أن المصور يستغرقه الفن، وهو أبدًا ينتقل بينه وبين الطبيعة، وبين حياة المادة وجمود الظل. فيحول الأصل الجالس صورة تدرس ويتحول الإحساس بالمعانى إلى إحساس لذيذ بالواجب. وفى صعوبة الأداء ومشقة التعبير ما يكفى لانصراف الذهن إلى العمل. ولولا ذلك لما أمكن لمصور مثل الأستاذ ألفريد كمبيولة أن يرسم «الهانم» — أعنى أن يتمها — وهى صورة سيدة إفرنجية فى ملاءة مصرية، وعلى وجهها النقاب، وثوبها الأحمر القانى تحت الملاءة يزلّ عن كتفها. والصورة من أحسن ما رأيناه للفنيين الأجانب فى هذا العام وإن كان عليها بعض التصنع فى كتفها اليسرى.. وهى فى جملتها وتفصيلها صورة امرأة بالمعنى الجنسى!

وقد كان كبار الفنيين الغربيين مثل تيتان ورفائيل يتحسرون على عجزهم عن محاكاة جمال الجسم العارى ويذهبون إلى أنه لا سبيل إلى نقل جماله إلى اللوح. وأراهم على حق لأن الجسم العارى مجمعُ كل المعانى والعواطف والإحساسات الإنسانية، دقيقها وجليلها، وساذجها ومهذبها، وعنيفها ولينها، وعميقها وخفيفها. وقد حاولت السيدة أرمه بانجية الفرنسية تصوير أخرى نصف عارية فلم تأت بشىء. جسم كل شىء فيه أسطوانى، ولونه على رغم احمراره كلون البرنز وكأنما نزعت كل العظام قبل الرسم. وتركيب العينين والأنف غير طبيعى، فلعلها تعنى بدرس تركيب الجسم الإنسانى فلا بد منه لكل مصور.

(٣) الحدود الطبيعية

زارنى ذات يوم شاب أزهرى النشأة لا تنسجم البذلةُ الإفرنجية على جسمه، ولا يعتدل الطربوش على رأسه، وكان يحمل تحت «إبطه» كراسة مما يستعمل التلاميذ فى المدارس محشوّة بكلام كثير فى الشعر عامة والشعر الوصفى خإصة. وما هو إلا أن جلس حتى استأذن فى قراءة ما كتب فى كراسته.. ولم يكد يفعل حتى قلت لنفسى إنه لم يغير شيئا حين غير ثيابه! ولم يزد على أن ردد بعبارة تعتورها الركاكة، ما كتبه ابنُ رشيق وأضرابه بلغة جزلة. ولست أدرى لماذا عنيت بأن أبين له أن ما سمعت من كلامه لا يؤدى إلى شىء تطمئن إليه النفس ويسكن إليه العقل، لكن الذى أدريه أن ظنه أن الأدب شىء يستطيع المرء أن يخبط فيه خبط العشواء، فإذا وفق كان التوفيق عفوًا، وأنه ليس هناك مقاييس عامة ولا محك مضبوط — أقول إن هذا الظن صدمنى فأنشأت أشرح له خطأه وأريه أن هناك على الأقل جدّا، مقياسًا عامّا وميزانًا لا يكاد يغل شعيرة، وأن ثم شيئًا اسمه الحدود الطبيعية، فى دائرتها يقع الإمكانُ وتكون الاستطاعة. وأعيد هنا الآن مع الإيجاز ما ضربته له من الأمثلة إيضاحًا لذلك.

لنفرض أن مصورًا أراد أن يرسم الفجر، فماذا يسعه؟ إذا كان المنظر الطبيعى هو المقصود بالذات فليس يدخل فى مقدوره سوى أن يجمع لك فى رقعة اللوح الصغيرة ما تأخذه عينه من مميزات هذا المشهد الرائع الجميل. وأن يضيف إليه ويزيد عليه، جمالَ الفن نفسه وهو جمال تجتليه فى اختيار وجهة النظر، وفى الألوان وتنسيقها والمزاوجة بينها، وفى القطعة المنتقاة من المشهد الطبيعى، وفى الروح التى يصور بها هذا المنظر. ولكنه لا يخفى أن فى وسع الفنان أن يمثل لك معنى «الفجر» بأسلوب اخر وعلى نحو مختلف جدّا. فلا يعمد إلى منظر الطبيعة كما هو فى الواقع، لأن غايته قد لا تكون نقل الواقع المعجب، بل يستعين الخيال ويستوحى الوجدان والمشاعر ويضع لك على اللوح، لا منظرًا، بل رمزًا يشير به كما أسلفنا إلى ما يفهمه من الفجر: أى إلى الإحساس الذى يحركه والخالجة أو الخوالج التى يولدها — إلى فجر الحياة، لا فجر الأرض والسماء، وإلى وهج الشعور الأول الساذج بالدهش والعجب، وإلى النور الذى لم يغمر قط لا برّا ولا بحرًا والذى لا ينفك. مع ذلك مراقًا على كل شىء لا مضيئًا من خلاله — النور الذى يُليح لك بالدنيا ويثير فى نفسك الإعجاب بها وإكبارها والتيقظ لها — وبعبارة أخرى مختزلة — يرفع لعينيك صورة رمزية ليس فيها نقل عن مشاهد الطبيعة بل عن الحقائق الروحية المركزية الخالدة التى يحوم ويلوب حولها الأدب والفلسفة أيضًا ولكن من ناحية أخرى وبأسلوب اخر، أى تصوير الفكرة كما فعل فريدريك جيمس واطس حين رسم شيئا كالرباوة المعشوشبة وقفت عليها امرأة يزل ثوبها عن ظهرها إلى فخذها، وقد أمسكته بشمالها إلى جنبها، وبيمينها على يافوخها، وشعرها منهدل مرسل يعبت به النسيم الندى، وهى كالذى يتمطى من سبات (وقد منحتك ظهرها البادى إلى الردفين وانصرفت بوجهها وصدرها إلى الحياة التى يتنفس فجرها ولا تزال نجومها طالعة، وعند قدميها طائر ناشر جناحيه ينفض عنه الطل ويوقظ روحه ويعدها للحياة.

قد تنظر إلى هذه الصورة فلا تدرك الغرض منها والمقصود بها لأول وهلة، ثم تقرأ كلمة الفجر تحتها فيخطر لك أن هذا الاسم كتب خطأ، وقد يجرى ببالك بعد ذلك أن المصور مجنون! ولكنك لا تلبث أن تنيم هذه الخواطر الجامحة التى تفجؤك فى أول الأمر ثم تُدمن النظر إلى الصورة الملفوفة فى مثل الضباب الرقيق الشفاف فيدب فى نواحى نفسك معنى غامضٌ قوى، وتحس أن هذه الصورة تمثل شيئا يعجز عنه التعبيرُ لأنه أعمق وأوسع من أن تأخذه العين جملة، وأخفى وأغرب من أن يكشف لك عنه كلام، وتدرك أنك واقف ترنو إلى حقيقة كبيرة تذكرك بها هذه السماءُ السوداء التى فتر فيها توامضُ النجوم الباهتة، وذلك الكوم من الرباوة والعشب، وتلك المرأة المتجردة إلى نصفها فكأنك أمام القوى والعناصر الأولى قبل أول يوم من أيام الخلق!

وعلى أنه لا شأن لنا بهذا التصوير الرمزى وإن كنا قد استطردنا إلى ذكره بطبيعة الحال. وكلامنا هو على التصوير من حيث قدرته على نقل المشاهد الطبيعية. وليس من شك فى أن المصور يستطيع أن ينقل لك المنظر كما هو بادٍ لعينيه، وأن يُريك على اللوح وبالألوان ما رأى هو فى الواقع، وأن يضعك بذلك موضعه، وأن يعينك على أن تأخذ فى لحظة واحدة وبنظرة واحدة جملةً ما اكتحلت به عينه هو وتفاصيله. وليست كذلك قدرةُ الشاعر أو الكاتب، فما يستطيع مهما بلغ من تمكنه من ناصية اللغة وافتتانه وتصرفه وعلمه ودقته أن يرسم لك منظرًا كما هو أو أن يعينك بما يصف على تأليف المنظر وتخيله من أشتات العناصر والنعوت التى يقدمها إليك ويعرضها عليك. فالفرق من هذه الوجهة بين التصوير والشعر هو أن للتصوير لحظةً فى الفضاء وللشعر لحظات فى الزمن، أى أن المصور فى مقدوره أن ينقل لك المنظر الذى رآه وراقه كما هو كائن فى الطبيعة ولكن الشعر لا قبل له بذلك ولا طاقة له عليه وإنما يسع الشاعر أن يُفضى إليك «بوقع» هذا المنظر وبما يثيره فى النفس من الإحساسات والمعانى والذكر والاَمال والآلام والمخاوف والخوالج على العموم بأوسع معانى هذا اللفظ. وعلى العكس من ذلك يسع الشاعر أن يصف لك الحركات المتعاقبة فى الزمن وأن يُحضرها إلى ذهنك ويمثلها لخاطرك وذلك ما لا سبيل إليه فى التصوير.

وليس من همنا أن نستقصى حدود الفنون، وأن نقيم ما بينها من الفواصل العديدة والفروق الكثيرة وأن نبيِّن ما يدخل فى دائرة كل منها، ولكن الذى نقصد إليه هو أن نقول إن الحدود التى تقيمها طبائع الأشياء مقياس أولى يكفى المبتدئ ليستطيع أن يقول هل من الميسور أن ينجح هذا الشاعر أو المصور فيما يعالج؟ وماذا عسى أن يبلغ من نجاحه فيما يزاول؟ وإلى أى درجة من الإجادة يسعه أن يوفق؟ فإذا رأى شاعرًا يحاول أن يتخذ من قلمه ريشة مصور أو فوتوغرافية كان له أن يوقن أنه مخفق لا محالة، وإذا رأى مصورًا معنيّا بأن يرسم لك على اللوح حركات متتابعة فى الزمن أو وقعَ المشاهد فى النفس فإن من حقه أن يجزم بأن الفشل نصيبه.

وإلى هنا يتبين أن للمصور نقلَ المنظور وأن للشاعر وصفَ الوقع والحركات المتتابعة لا تصوير المنظر، فأين يكون مجال الموسيقى مثلا بين هذين؟ ونحسب أن ليست بنا حاجة إلى التنبيه إلى أننا إذ نذكر الموسيقى لا نعنى الشرقية منها أو المصرية إذ كانت هذه لا تزال فى الواقع شعبةً من الشعر أو الرقص لا فنّا ناضجًا مستقلا كما صارت عند الغرب. ومعلومٌ أن الموسيقى ضرب من التعبير الصوتى، وأن الأصوات أسبق فى تاريخ النشوء الإنسانى من اللغات، وأنها هى الأداة الرئيسية التى تتوسل بها الحيواناتُ الراقية أو أكثرها إلى العبارة عن إحساساتها وإثارة مثلها فى غيرها. كذلك كانت الألوان فى عالمى الحيوان والنبات أسبقَ من التصوير وأقدم. وليس يخفى ما لصيحات التحذير أو التوعد من الأهمية فى تاريخ غريزة حفظ الذات، وهى أصوات تخرجها الغريزة حين تتنبه، عفوا وبغير تفكير أو تلكؤ، كما ترى الواحد منا يثب وتقفز فجأة إذا باغته الشعور بجدارٍ ينقض أو نحو ذلك مما هو مظنةُ التهديد للحياة وهذه الحقائق وأمثالها، مما جَعل التعبير الموسيقى ظاهرة قديمة فى تاريخ الحياة، هى، فيما نرى، التى أكسبت هذا الضرب القديم من التعبير قوته السحرية وتأثيره البالغ فى نفسى السامع والموسيقى جميعًا، لأنه يوقظ غرائز أقوى — إذ كانت أقدم وألزم — من كل ما عسى أن تحركه بضعةُ خطوط يرسمها المرء بعد التفكير على سطح مستو ويذكر العينَ بواسطتها بمنظر المرئيات فى الفضاء. وما يعجب بعد ذلك أن تظل الموسيقى، على الرغم من نقصها وسذاجتها على الأقل فى الشرق، هائلة السلطان على النفوس.

وكل أداة للتعبير ناقصة، ومن العسير أن يحاول امرؤ أن يعبر بالألفاظ أو غيرها من الأصوات، أو بهذه وتلك جميعًا، عن كل ما فى الأرض والسماء والجحيم من الحقائق، وعما فى النفس من الحركات ودرجاتها وظلالها التى لا يأخذها حصر، وعن أسرار الذاكرة وآلام الرغبة، ولكن الموسيقى، على كونها أداة للتعبير تُسمع ولا ترى، على خلاف التصوير، لا تصلح أن تكون وسيلة للتفاهم والتحادث، فلا تستطيع أن تقول ببضعة ألحان متعاقبة كما تقول بالألفاظ: «قمت اليوم مبكرًا وأكلت رغيفًا وشربت شايًا بغير سكر، وبعت وشريت وربحت كذا قرشا». ومن هنا قالوا إن الموسيقى لغة الروح.

وهى بطبيعتها أقرب إلى الشعر وأمس به رحمًا لأن كليهما مُعوَّلُه على الأداة الصوتية وإن اختلفت اللغتان وتباينت حدود قدرتهما. ونعود الآن بعد هذه التوطئة الوجيزة التى لا مندوحة عنها إلى المثل الذى ضربناه، فنقول إن الموسيقىّ، إذا خطر له أن يؤلف قطعة موسيقية عن الفجر، لا يسعه — كما يسع الشاعر — أن يصف لك بطريقة مباشرة وقع هذا المنظر فى النفس وما يثير من الإحساسات ويوقظ من الذكريات أو ينشئ من الخواطر والآمال، ولا يدخل فى طوقه أن يرسم المنظرَّ على حقيقته كما يفعل المصور، ولكنّ له مع ذلك مضطربا واسعا يستطيع أن يصول فيه ويجول، وأن يكون له فيه عمل جليل، وإذا كان يعيبه أن «يحدثك» عن الخوالج المتنوعة التى يحركها منظرُ الفجر فى النفس وُيجيشها فى الصدر، أو أن يرسم لك المنظر بطائفة من الخطوط والألوان تريكه كما خلقه الله وأبدعته قدرته، فليس يعجزه مثلًا أن يُسمعك من الأصوات ما يذكرك به ويخطره ببالك ويجريه فى خيالك، كأن يحكى لك حفيفَ النسيم الوانى البليل إذ يهب مع الفجر ويوسوس فى آذان النبات والشجر، وتغاريدَ العصافير التى تنبه فيها ساعته الغريزةَ المغردة، وأغانى الرعاة الذين يستيقظون مع العصافير ويستولى على نفوسهم مثلها جماله وروعته فيحيونه ويناجونه بالغناء وبألحان المزامر — وبهذا وأشباه هذا، يحضر إليك الموسيقى منظرَ الفجر بما ينتقيه من الأصوات المألوفة فى ساعته والتى من شأنها أن نذكرك به، ويُعرب لك من ناحية أخرى عن الخوالج التى يبعثها ولكن بطريقة غير مباشرة يجمع فيها بين شىء من التصوير التخيلى وشىء من الشعر، وذلك أنه لا يرسم لك المنظر ولكن يسمعك أصوات الحياة المميزة له فى جميع مظاهرها الممكنة، ولا يصف لك خوالجه هو بل يُطلق عليك من الأصوات ما يحرك هذه الخوالج ويشعرك إياها بكل قوتها.

وهنا نمسك القلم إذ ليس من وكدنا أن نتقصى وإنما أردنا كما قلنا أن يبين للقارئ أن هناك حدودًا طبيعية لا سبيل إلى إغفالها ولا خير فى تخطيها واهمالها. فليقس القارئ على هذا فقد دللناه على النهج، وأحْرِ به إذا سار على الدرب أن يصل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤