الفصل الثالث عشر

فى معرض الفنون

(خواطر وملاحظات شتى) فن التصوير والمشاهد الجليلة — الغاية الاجتماعية — عنصر الجمال

أكتب هذا الفصل وحولى صحراء ما لها فى رأى العين انتهاء كأنها التى قال فيها ابن الرومى:

خلاء قواء خيرُ مرعى مطيةٍ
وموردهافيه النجاءُ الغشمشمُ
ينوح به بوم وتعزف جِنَّةٌٍ
فيعوى لها سيد ويَضْبَح سَمْسَم

وأذكر قول مسلم فى فدفد مثل هذا:

تمشى الرياحُ به حسرى مولهةً
حيرى، تلوذ بأكناف الجلاميد

وأسأل نفسى ترى أللتصوير قبل بهذا المنظر؟ أيسع المصورَ أن ينقل لنا على اللوح هذا الفضاء المترامى العازف بأنفاس الرياج الذى:

يُقصر قابَ العين فى فلواته
نواشزُ صفوانٍ عليها وجلمد؟
أيستطيع أن يحرك فى نفسك معانى الجلال التى يثيرها هذا المشهدُ فى الطبيعة؟ وكالصحراء القصورُ السامقة والمهاوى العنيفة التى تورث الرعب وتدير الرأس، وقطعُ الجبال الناتئةُ المشرفة كأنها معلقة. إن الصورة، مهما كبرت وذهبت طولًا وعرضًا، محدودةُ السعة ضئيلة بالقياس إلى هذه المشاهد. وترامى الأبعاد، لا تقاربُها، هو الذى يثير معانى الجلال فى النفس وإن لم يكن وحده كل ما يبتعثها. والمصور مضطر أن يصغِّر المشهد حتى تضمه رقعةٌ صغيرة، ومن شأن هذا أن يحول دون الإحساس بالجلال، بخلاف الشعر، فإنه يستطيع أن يحركه فى النفس إلى حد كبير كما ترى فيما أوردناه لك من أبيات ابن الرومى ومسلم وكما استطاع شكسبير فى رواية «الملك لير» حيث وضع على لسان إدجر — وهو يقود جلوستر إلى حافة الصخرة المطلة على المهواة — قوله:

«تعال يا سيدى. هذا هو المكان. قف ولا تتحرك. ما أهول أن يومئ المرءُ لحظة إلى هذا العمق! وما أشد عصفه بالرأس! إن الغربان الطائرة فى منتصف هذا المهوى لا تكاد تبلغ حجم الخنافس: وثَمَّ طائر يلتقط الأعشاب النابتة على الصخور. ما أخوف ما يعالج! إنه لا يبدو أكبر من رأسه! والصيادة الذين يمشون على سيف اليم أراهم كالجرذان، وذلك الزورق الطويل الراسى قد تقلّص حتى لتكاد العين تخطئه.. ولايسمع المرء من هذا العلو الشاهق صوت الماء المرغى على الحصى الراقد الذى لا يعد. سأكف عن النظر إلخ.. إلخ».

فههنا ترى شكسبير قد صور لك علوَّ الصخرة وبعدَها عن مستوى الماء بأن صغَّر لك، ما تأخذه العينُ من فوقها، وبأن مثَّل لك أحجام هذه المرئيات بما تعرف ضآلته. فإذا استعنت تجربتك الشخية استطعت أن تحضر إلى ذهنك مقدار البعد أو العلو الذى تبدو منه الأشياء فى مثل هذه الضؤولة وينقطع عنده صوتُ الماء المنظور.

قارن بين هذا وبين وصف ملتون — فى الكتاب السابع من الفردوس المفقود — للهاوية التى لا قرار لها حين يقف على حافتها «الابن» فى حاشيته السماوية، وذلك حيت يقول:

«وقفوا على أرض سماوية ونظروا من الشاطئ إلى الهاوية السحيقة التى لا يقاس لها غور — طاغية كاليمّ، مظلمة قواء تبعث من أعماقها الرياحُ الدائرة والأواذىُّ المصطخبة مثلَ الجبال تريد أن تناطح السماء وأن تمزج بمركز الأرض قطبها».

فهِذه هاوية أعمق وأهول من هاوية شكسبير بطبيعتها، ولكنّ وصف ملتون لها لا يحدث التأثير الذى يحدثه وصف شكسبير ولا يعينك على تمثل هذا القرار السحيق الذى لا يبلغ مداه، إذ كان لم يذكر ما يجعلنا نحسه الإحسإس الواجب. وإن يكن، فيما عدا ذلك، قد أحسن تصوير الموج المشرئب الطامح وجسَّم لك اشرئبابه وإلهاب الرياح له بأن قال إنه كالمريد أن ينطح السماء وأن يمزج بقطب الأرض مركزها.

ونعود إلى التصوير فنقول إنه لا قبل له بمثل هذا ولا طاقة له عليه، إذ كانت رقعة الصورة محدودة، وكان التصغير الذى يضطر إليه الرسامُ لا يحرك الإحساس بالجلال تحريك الضخامة وترامى الأبعاد على الرغم مما يصنعه المصور ومما يستطيع أن يقوم به خيال الناظر. ولكن المصور مع ذلك يسعه، إلى حد، أن يعطينا فكرة عما لا يقوى على المحافظة على حقيقة أبعاده، وذلك بواسطة المقارنة بمقياس معروف مقرر فى البداءة، وخير مقياس هو الإنسان، على الرغم من تفاوت أطوال الناس واختلاف أجرامهم. وقديمًا جعل الإنسان نفسه مرجع المقاييس، واتخذ بالنسبة إلى نفسه «القدمَ» و«الذراع» و«الشبر» و«القامة» و«الخطوة» وعلى أن أمامه أشياء أخرى غير الإنسان ألفتها العين وفى الوسع اتخاذها مراجع. ولكنه بغير هذا أو ذاك لا سبيل له إلى إعطائنا ولا شبه فكرة عن المشاهد الطبيعية الضخمة. ومن السخافة الواضحة أن يعمد أحد إلى منظر جليل رائع فيصغره ويدعه على لوحة وحده، وليس إلى جانبه لا إنسان، ولا حيوان ولا منزل أو شجرة أو غير ذلك مما يناسب المشهد ويعين على تصور ضخامته.

جرى هذا بذهنى وأنا أتأمل ما فى معرض التصوير الذى فتح منذ أيام من الصور التى تمثل ما فى طيبة والأقصر من المشاهد الطبيعية والمناظر الأثرية مثل صورة وادى الملوك التى رسمها عياد أفندى، ومثل منظر بهو الأعمدة فى معبد الأقصر لمصور اخر نسيتُ اسمه. كلا الرجلين اجتزأ بالمنظر الذى رسمه ولم يعن بأن يهيئ للناظر وسيلة تعينه على تصور الحقيقة الجليلة بكل ما فيها من روعة أو ببعضه. فهل تراهما لا يفهمان حدود فنهما؟

•••

أيمكن أن يخدم التصويرُ غاية اجتماعية؟ لم لا؟ ماذا يمنعه أن يؤدّى هذا الواجب فيما يؤديه ويبلغ إليه من الأغراض والغايات؟ أى شىء من العلوم أو الفنون أو غير هذه وتلك لا يخدم المجتمع؟ عسى من يقول: «ولكنك بهذا تجعل الفنون الجميلة منفعية». فتقول:

إننا لا نكترث لهذه التقسيمات العرفية المتداخلة على الرغم من كل الفروق التى يضعونها والحواجز التى يقيمونها. وعلى أن الذى نعرفه هو أن التصوير قوامه عملان: أولهما وأسبقهما فى الوجود الرسم، أى التخطيط الذى تتضح به المعالم ويبدو به المرسوم، وثانيهما التلوين، أو طبقة اللون التى تنشر على صفحة الصورة. والباعث الأول على كليهما منفعى أو هو على كل حال غير فنى. قال «جرالد بولدوين براون» مؤلف كتاب الفنون فى إنجلترا القديمة: «قد لوحظ أن الهمج إذا أراد أحدهم أن يؤدى إلى زميل له وقعَ حيوان أو شىء فى نفسه، رسم بأصبعه فى الهواء المميزات التى يعرف بها هذا الحيوان أو الشىء. فإذا لم يفده ذلك ولم يبلغ به غايته، رسمه بعصا مدببة على الأرض. وليس بين هذا وبين الرسم على رقعة تنقل وتحفظ ما ينقش عليها، إلا خطوة».

وقال عن التلوين: «إن الجسم الإنسانى — وهو أول ما يعنى الإنسان — رقيق حساس. والخشب — وهو من أقدم أدوات البناء والذى تتخذ منه كل السفن — عرضة للتداعى ولا سيما إذا تعرض للرطوبة. كذلك اَنية الطين القديمة نضاحة لأنها لم تكن تُحرق الإحراق الكافى. ومن هنا كان خليقا بالإنسان أن يلتفت بسرعة إلى خواص بعض المواد الصالحة لأن يُتخذ منها دهان شديد اللصوق بما يُراد وقايته أو تقويته. وبعض الهمج يدهنون أجسامهم بأنواع من الزيوت وما إليها بعد أن يمزجوها بغيرها من المواد لينالوا من وراء ادِّهانهم بها الدفء المطلوب فى المناطق الباردة، ولتحميهم من لدغ الحشرات فى الأقاليم الحارة. والقطران أو الشمع أو ما إليهما، إذا أذابته الشمس أو النار، صلح لطلى الخشب به وجعله بذلك موقى من الرطوبة. وقد اهتدى الإنسان إلى الدهانات التى تطلى بها الأوانى المصنوعة من الطين لسد مسامها. وليس هذا كله من الفن فى شىء إلا بمقدار ما يكون التخطيط أصلًا للفن. ولكن هذا يكتسب صبغة فنية متى أدّى التلوين دوره. وهناك أسباب فزيولوجية تجعل للون الأحمر تأثير الإهاجة، وللألوان القوية على العموم وقعًا فى النفس، وهذا الاستعداد للتأثر بالألوان أصل ثان بيِّن لفن التصوير».

والتصوير فن «ذهنى» كالشعر، غرضه العاطفة وأداته الخيال أو الخواطر المتصلة التى توجهها العاطفة وجهتها، وإذا كانت ريشة المصور لا تستطيع أن تجارى القلم فى إيضاح القوانين التى ينبغى أن تجرى على مقتضاها حالات المعيشة وأنظمة الاجتماع وغير ذلك، فإنها تستطيع ولا شك أن تمثل بما تسعه قدرتها الام الفقر وحنان المرزوئين به ونزاعهم إلى السعادة، ومكافحتهم لقوى الطبيعة ونظام الاجتماع، وتسامى نفوسهم وتعاليها عن الدرك الذى هم فيه إلى جو أرقى وأمجد وأحفل بمعانى الحياة الحقيقية. وبذلك تحرك فى نفوس النظارة العواطف التى تتولد منها الرغبة فى التغيير والنزوع إلى الإصلاح.

ومن أجل ذلك سرنا أن نرى فى المعرض صورة من صنع الأستاذ أحمد أفندى صبرى يريد بها شيئًا غير مجرد الرسم وإثبات ملامح الوجه ومعارف السحنة بالغًا ما بلغت الدقة فى ذلك والقدرة عليه. وهى صورة تمثل صبية بائسة قذرة شعثاء الشعر. يخيل إليك أنها تهم بالبكاء، وتكاد تلمح فى حملاقها الدمعة المترقرقة. وقد رسمها مرة أخرى بعد أن أصلح من حالها، وأبدلها من أقذارها وأسمالها ثوبًا نظيفًا ومنديلًا تعصب به رأسها وتجمع تحته شعرها مضفرًا، فجاءت على دقة الشبه وكأنها إنسان اخر، فيه أمل وخير، لا كتلك المتمرغة فى الفاقة التى تثير رثاثتها وبؤسها العطف والألم والرغبة فى المواساة وفى إصلاح هذا النظام الغريب الذى كم شقيت به من نفس مستعدة.

•••

والتصوير فى أصله فن تقليدى، ولكن ليس معنى ذلك أن تمثيل الطبيعة، تمثيلًا لا يتجاوز مجرد النقل من دون زيادة أو نقص، هو كل ما يطلب من التصوير. ومن المسلم به أن إثبات صورة الشىء ليس عملًا فنيّا، وإنما يصبح كذلك إذا كان الإثبات بحيث يبرز صفة الشىء ويؤكد مميزاته وينفث فيه روحًا. أو بعبارة أخرى لا يكون الرسم فنيّ! إلا إذا ظهر فيه عنصرُ الجمال فى الترتيب أو التأليف، وإلا إذا صار إبرازُ الفكرة والأداءُ وعناصر التمثيل والجمال وطابع المصور فى عمله — كل ذلك واحدًا فى جوهره بحيث تصبح الصورة وليست عبارة عن فكرة رُسمت وأُلبست عمدًا هذا الثوبَ الفنى، بل فكرة خليقة ألا يكون لها وجود إلا بمقدار ما تستطاع العبارة عنها بالتصوير.

ويقول لنج: «إن غاية كل فن لا يمكن أن تكون إلا ما يستطيع هذا الفن أن يبلغه دون الاستعانة بسواه من الفنون». والتصوير، على أنه فن تقليدى، لا غنى به عن عنصر الجمال، حتى ليصح أن يقال إن الجمال هو غايته التى ليست وراءها غاية. وأسمى ما يكون الجمال فى الإنسان، من ناحية واحدة هى ناحية وجود مُثل عُليا له، وذلك ما لا يكاد يكون له وجود فى الحيوان، وما لا وجود له على التحقيق فى النبات والجماد، ومن هنا كان مصورُ المناظر الطبيعية ورسامُ الأزهار والورد دون غيرهما ممن مجالهم الإنسان، إذ كان ما فى الطبيعة والأزاهر وما إليها من الجمال، عاجزًا عن كل مَثل أعلى، وكان المصور الذى يجعل وكده إثباتَ هذا الجمال لا يعدو أن يشتغل بعينه ويده.

وليس أكثر فى هذا المعرض من صور الناس ولكنا لم نجد إلا صورةً واحدة نستطيع أن نقول إنها فنية. وتلك صورة للأستاذ أحمد صبرى لشابة جميلة استطاع المصور أن يثبت فى وجهها حالة مخامرة لا زائلة، وشعورًا باطنا ملازمًا، وكأن هذه الشابة تدرك أنها جميلة، ولا تخفى عليها مزاياها وما تؤهلها له هذه المزايا والمفاتنُ، ولكنها مع ذلك تشعر بأن شيئًا ينقصها، وأن حياتها تعوزها كلمة واحدة يخطها قلم المقدور. غير أنها لا تدرى ما هو هذا الذى ينقصها ويمنع حواسَّها أن تثمل بنشوة الحياة، ولا يُفيض على الدنيا أضواء الفراديس، نعمٍ لا تدرى وإن كانت تحس. وليست لجهلها ما تبغى، أقلَّ تبرمًا ومللا ونزوعًا إلى الإشاحة بوجهها عن متع الحياة، على فرط ما تنطق عيناها به من الشوق إلى ارتشاف كأس الاستمتاع الذى يعدها له، وتغريها به، نضوجُها واستيفاؤها حظّا وافيًا من تمام الجسم وجماله، بل لعلها لهذا السبب أشدُّ تبرمًا وأكثر أسى، وإن كان تبرمها التبرم الذى قد يذهلها عنه، بين آن وان، ما لا بد أنها موفَّقة إليه، ظافرة به. ولعل خير ما تسمى به هذه الصورة «النفس الظامئة».. ولكن غير هذه من الصور لا ترى فيه إلا حالة زائلة ليست هى بالتى ينبغى أن يطلبها المصور ويعالج أن يؤديها ويثبتها، إذ لم يكن فى إثباتها مزية خاصة أو براعة شاذة وقدرة وتجويد فى أدائها. وليس الحال كذلك فى تلك الصورة التى لا تكاد تمضى عنها حتى تنساها كأنك ما رأيتها. ذلك إلى عيب فى الرسم كالذى وقع فيه الأستاذ ناجى فى صورة «مدام اَدم» إذ جعل ما ينسدل على ساقيها من ثوبها وهى جالسة كأنه قطعة من الجلد الغليظ ملتفة عليهما تحسّ بعينيك سمكه وغلظه.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤