الفصل الرابع عشر

التصوير والشعر الوصفى

(١) الحركة والسكون — وصف المناظر ورسمها — الجمال ووقعه

مذهب الأمبرشنزم
يقول ابن الرومى:١
ما أنسَ لا أنس خبازًا مررت به
يدحو الرقاقةَ وشكَ اللمح بالبصر
ما بين رؤيتها فى كفه كرةً
وبين رؤيتها قوراءَ كالقمر
إلا بمقدار ما تنداح دائرةٌ
فى لجة الماء يُلقى فيه بالحجر

وهى أبيات مشهورة، فيها — كما يرى، أو كما سيرى، القارئ — صورة مركبة.. ونعنى بذلك أن فى هذه الصورة التى رسمها، منظرين: أحدهما منظر الخباز يتناول قطعة العجين كرة ولا يزال بها يبسطها ويدحوها حتى تعود رقاقةً مستديرة مسطحة يصنع بها بعد ذلك ما شاءت صناعته لإنضاجها مما لا شأن لنا به الاَن. والمنظر الثانى الماءُ يُلقى فيه حجر فيُحدث وقوعُه فيه دوائرَ تتسمع شيئًا فشيئًا حتى تضعف قوةُ الدفع ويفتر الاضطرابُ الذى سبَّبه سقوطُ الحجر. وفى كلا المنظرين حركة، أو قل إن كلّا منهما مؤلف من عدة مناظر متعاقبة سريعة التوالى. إذا أراد المرء أن يثبتها بالرسم على اللوح احتاج إلى أن يصنع فيها صورًا كثيرة تمثل كلّ منها واحدًا.

ولكنه بعد أن يفعل ذلك لا يكون قد صنع شيئًا على الحقيقة ولا أمكننا من النظر إلى جملتها كما فعل ابن الرومى بأبياته الثلاثة. لأن ههنا حركةً هى مجال الشعر، وليس للتصوير قبل بها أو قدرة على إثباتها. وإنما كان هذا هكذا لأن الشاعر يسعه أن يتدرج وأن ينتقل من وصف حركة إلى وصف أخرى وثالثة وإن كان لا يسعه أن يفعل ذلك بمثل السرعة التى تتوالى بها الحركاتُ. ولكن تسامح القارئ أو السامع هنا قليل، وما يطلبه الشاعر من خياله أو يعول فيه عليه ليس بالكثير، وما عليه إلا أن يغتفر البطء الذى فى طبيعة اللغة التى هى أداةُ الشاعر. وهو بطء قد اعتاده المرء فى حياته وفى كل مظهر من مظاهر اتصاله بالناس. ولكن هذا البطء الطبيعى المغتفر يحول فى التصوير جمودًا غير مقبول ولا سبيل إلى احتماله أو اغتفاره، لأن وظيفة التصوير أن يعطيك المنظرَ دفعة واحدة لا على أقساط، وأن يمكنك، بنظرة واحدة، من أخذ جملة المنظر بكل ما فيه من تفاصيل. وكما أن المصور يخفق إذا عالج تصوير الحركات المتعاقبة، كذلك يخفق الشاعر إذا هو حاول أن يرسم لك، بالألفاظ المتعاقبة، منظرًا ثابتًا خاليا من الحركة. خذ مثلا أبيات أبى تمام فى وصف روضة فى مقدمة المصيف:

يا صاحبىّ تقصيا نظريكما
تريا وجوه الأرض كيف تُصَوَّرُ
تريا نهارًا مشمسًا قد زانه
زهرُ الربى فكأنما هو مقمر
دنيا معاش للورى حتى إذا
حلَّ الربيعُ فإنما هى منظر
أضحت تصوغ بطونُها لظهورها
نورًا تكاد له القلوب تنور
من كل زاهرة ترقرق بالندى
فكانها عين إليك تحدر
تبدو ويحجبها الجميمُ كأنها
عذراءُ تبدو تارة وتخفر
حتى غدت وهداتها ونجادُها
فتتين فى خلع الربيع تبختر
مصفرة محمرة فكأنها
عصب تيمّن فى الوغى وتمضر
من فاقع غضّ النبات كأنه
در يشقق قبلُ لم يزعفر
أو ساطعٍ فى حمرة فكأنما
يدنو إليه من الهواء معصفر
صبغ الذى لولا بدائع لطفه
ما عاد أصفر بعد إذ هو أخضر

والأبيات فى ذاتها، وبالقياس إلى أمثالها مما فى الشعر، حسنة جميلة، ولكنها من حيث القدرة على تصوير المنظر للقارئ وإحضاره إلى ذهنه ليست إلا مظهرًا للفشلٍ التام والعجز البيّن الذى يُمنى بهما من يريد أن يتخذ من القلم ريشة كريشة المصور. وخيال القارئ هنا هو الذى يفعل كل شىء ويتناول العناصر التى سردها الشاعر ثم يرتب منها صورة على مثال ما يروقه من المناظر المألوفة. وفى وسعه أن يرسم لنفسه من هذه الأبيات ألفَ صورة لا تشابه واحدة منها أختها. وفى مقدور كل امرئ أن يتصور اَلافًا من هذه المناظر. وقد يكون ذلك حسنًا وجميلًا، وربما ذهب البعض إلى أنه مزيةٌ وإلى أن فيه فضلًا، ولكنا لم نقصد إلى هذا ولا أردنا شيئًا سوى أن اللغة عاجزة عن أن ترسم لك جملة المنظر الذى تأخذه عينك حين تقع عليه.

غير أن هذا الذى لا يتيسر للشاعر أو الكاتب يتهيأ للمصور كما لا يتهيأ سواه. وهنا موضع التحرز من خطأ قد يقع فيه القارئ أو يتوهم أنا نقوله. ذلك أن المصور، حين يرسم لك مثل هذا المنظر، لا يرسم فى الحقيقة أغصان النبات وألياف أوراقه وغلائلَ الأزهار وما إلى ذلك من التفاصيل وإنما هو يُحدث من تأليف ألوانه والمزاوجة بينها ما «يوهمك» أنك ترى كل ورقة وكل عود. ونقرّب المسألة قليلًا فنقول هبه يرسم لك وجهًا تتدلى منه لحية، فإنه لا يرسم كل شعرة فى هذه اللحية، ولو حاول ذلك لرام المستحيل، ولكنه «يوهمك» بألوانه وبإثبات الضوء والظل أنه فعل ذلك وُتدخل فى روعك أنك ترى شعرات اللحية وأن فى وسعك أن تمسك كل واحدة منها وتفتلها إذا شئت. وهذا «الإيهام» أو التخييل الذى يتأتى فى التصوير لا سبيل إليه فى الشعر والكتابة على هذا الوجه وإن كان فى الشعر نوع اخر من الإيهام.

فالمصور له لحظة فى الفضاء والشاعر له لحظات متعاقبات فى الزمن، ومن أجل ذاك كان على المصور أن يتخير أحفلَ اللحظات بالمعانى والدلائل وأنمَّها — إذا استطاع — على اللحظة التالية مباشرة وأدلها، إذا تيسر له هذا، على اللحظة السابقة. ولكن ليس له أن يطمع فى تصوير أكثر من لحظة واحدة أو رسم التعاقب الذى يقع فى الزمن. غير أنه يستطيع، بحسن تخيره وانتقائه للحظة الحافلة، أن يجمع بين لحظتين متعاقبتين متداخلتين فى الحقيقة. ومن هذا القبيل صورة (العمامة) فى المعرض المقام فى القاهرة. وهى للأستاذ صبرى وفيها يرى الناظر رجلًا من عامة المصريين فى سروال أبيض، وقميص مثله ينسدل إلى الركبتين، وفوقه صدرية مفتوحة الأزرار، وطربوشه على ركبته اليمنى، وكفاه على طيات العمامة. والناظر إلى هذه الصورة يرى من وضع اليد اليمنى من أين جاءت فى لفّها حول العمامة، وتكاد يحس أنها ستتحرك ماضية فى طريقها. فالمصور هنا استطاع أن يُنبئك عن الحركة التالية التى لم يرسمها، وتلك قدرة ولا شك وأستاذية لا خفاءَ بها. ولكن المصور مع هذا أخطأ فيما عدا ذلك فى رأينا. ذلك أنه لم يختر اللحظة التى تتناسب مع إشعار الناظر إلى الصورة باستمرار حركة الكفين. وهذا لأن العمامة تامة حول الطربوش، وأنت ترى من الصورة أن عملية اللف قد انتهت وأن هذه الحركة الواضحة من رسم الكفين والمرادَ بها توجيه طية العمامة، لا محل لها تقريبًا، ولو أن جانبًا من العمامة كان باقيًا لم يُلف لتناسبت هذه الدلالة على الحركة مع استمرار عملية اللف. على أنه قد يعتذر له بأن الرجل يسوّى عمامته وبحبكها بعد أن أتم لفها، وهو اعتذار مقبول ولكنا كنا نحب أن نربأ بهذه الصورة البديعة المتقنة عن الاعتذار لها مما يبدو لنا فيها من عدم تحرى أنسب اللحظات فيما نرى.

ولكن الشعر يستطيع مع ذلك حين يعالج وصف المناظر ألّا يقصّر عن التصوير وأن يبذه ويفوته. ذلك أن المصور إنما يُلقى إليك المنظرَ مجردًا من خوالج النفس ومن وقعه فى الصدر. نعم إن فى اختياره معنى، وقد يحرك المنظرُ المرسوم خالجة أو عاطفة أو إحساسًا فى قلبك، غير أن المصور لا يسعه أن يضمِّن المنظر إحساسه هو أو يُنهى إليك كيف كان وقعه فى نفسه كما يستطيع أن يفعل الشاعرُ لأن الشعر بطبيعته مجاله العاطفة. خذ مثلاً أبيات البحترى فى الربيع:

أتاك الربيعُ الطلق يختال ضاحكًا
من الحسن حتى كاد أن يتكلما
وقد نبَّه النيروزُ فى غلس الدجى
أوائل ورد كنّ بالأمس نوّما
يفتّقها برد الندى فكأنه
يبث حديثًا كان قبلُ مكتّما
ومن شجر ردّ الربيعُ لباسه
عليه كما نَشَّرت وشيًا منمنما
أحل فأبدى للعيون بشاشة
وكأن قذى للعين إذ كان محرما
ورق نسيم الريح حتى حسبته
يجىء بأنفاس الأحبة نُعَّما
فما يحبس الراح التى أنت خلها
وما يمنع الأوتارَ أن تترنما

فلم يحاول أن يرسم لك صورة وإنما أفضى إليك بما أثاره الربيعُ من المعانى فى نفسه وبما حرَّكه من طلب الانشراح فى عيد الطبيعة. ولو أنك جئت بأبدع صورة مرسومة ووضعتها إلى جانب هذا الكلام أو غيره مما يجرى مجراه لما أغنت شيئًا. فإن لكل من الفنين دائرة إذا عداها ضعف وسمج ولحقه الوهنُ وقصّر عن الغاية.

•••

وأجمل ما فى الطبيعة وأرقى ما فيها الإنسان، وما أحسبنا نكترث لشىء فيها إلا من أجله. وأقوى ما فى الإنسان عواطفه التى مردُّها إلى غريزة حفظ النوع، وكما يعجز الشعر عن رسم جمال الطبيعة بما يعالجه من الوصف، كذلك يعجز الشاعر عن إثبات صورة من يحب من الناس مهما أوتى من القدرة والحذق. بخلاف التصوير فإن بضعة خطوط مجتمعة، وألوان مؤتلفة، تحضر إليك الصورة دفعة واحدة.. ولكن الجمال ليس مظهرًا فحسب، وليس كل ما فيه ألوانًا مؤتلفة وأصباغا متناسقة حتى ينفض الشاعر يده من تصويره يائسًا ويدع كل أمره للمصور.. وإذا كان من السخف أن يجور شاعر، كبشار بن برد مثلًا على مجال المصور ويقول:

بنت عشر وثلات قُسمت
بين غصن وكثيب وقمر

ويحاول بهذا الجمع السخيف بين هيف الغصن وضخامة الكثيب وبياض القمر أن يحدث صورة معقولة لها معنى أو من ورائها محصول أو لها دلالة سوى العجز المستبين والتقليد السمج، إذ كان القمر مثلًا ليس جميلًا لأنه أبيض أو مستدير بل لأن لياليه شائقة ولذكراها نوطة فى القلب وعلوق بضمير الفؤاد ولأن حسنها محرك للأشجان متير للرغبات وكذلك الغصن ما أسخف أن يكون قدّ إنسان كقده وإنما يكون جميلًا بما حوله من حاشية المعانى — نقول إذا كان ما يعالجه الشاعر من هذا القبيل ليس فيه خير ولا وراءه فائدة، فإنه يستطيع أن يأتى بخير كثير إذا نظر إلى الجمال باعتباره حركة. أى إذا مثّل لك رشاقته وسحرَه ووقعَ محاسنه العديدة كما فعل بشار إذ يقول:

كأن لسانًا ساحرًا فى كلامها
أعين بصوت للقلوب صيودِ
نمُيت به ألبابنا وقلوبنا
مرارًا وتحييهن بعد همود

أوإذا صور لك ما تثيره الملاحةُ فى نفس رائيها من الرغبة والطلب كما يظهر من قول النواسى:

مقسومة فيه ملاحتُه
ما بين مجتمع ومفترق
فإذا بدا اقتادت محاسنه
قسرًا إليه أعنةَ الحدق

والبيت الثانى هو المقصود. فهذا مجال إذا زج المصورُ بنفسه فيه استهدف لكل عيب وجعل نفسه أضحوكة. وتصور البيت الثانى مرسومًا! امرأة بارعة الجمال وحولها نفرٌ من الرجال تكاد عيونهم تخرج من وجوههم! غاية السخف ولا شك. لأن وظيفة المصور ليست أن يؤدى إليك التأثيرَ بل أن يدع الصورة تؤثر بذاتها وبما تنطق به دون أن يعالج أداءَ الأثر الذى تحدثه.

لا. ليس بالشاعر حاجة إلى أن يسرد لنا أوصاف الجميل وأن يذكر لنا مثلًا ما لونُ عينيه وكيف حمرة خده ونضوج صدره واعتدال قوامه، بل يكفينا أن يقول مثل ابن الرومى:

ليس فيما كسيت من حلل الحسن
ولا فى هواى من مستزاد

لنعلم أننا هنا نقرأ عن جمال نتخيله وفق هوانا ولا نحتاج إلى صورة قد تكون أقل مما تصورناه فتخيب أملنا. وحسبك أن نقرأ له هذا السؤال:

أهى شىء لا تسأم العينُ منه
أم له كل ساعة تجديد؟

لتغرى بأن تصور لنفسك المثل الأعلى للجمال ولتعد كل صورة مرئية دون ما تتخيل، أو قوله فى مغنية:

ذات وجه كأنما قيل كن فر
دا بديعًا بلا نظير فكانا
ومتى ما سمعت منها فشدو
يطرد الهمَّ عنك والأحزانا
هى حلمى إذا رقدتُ وهمى
وسرورى ومنيتى يقظانا

•••

ومن العبث ولا شك أن يعالج المصور رسم وقع المنظور كما أسلفنا، أو أن يحاول أن يلف لنا الصورة فى مثل الضباب وأن يقول لنا إن هذا هو ما تعلقت به عينى من معنى ما أرى. وقد نشأ مذهب الأمبرشنزم من الخطأ فى فهم وظيفة التصوير. إن وظيفة التصوير هى أن ينقل المرئى نقلا تتوافر فيه معانى الجمال مع مراعاة قوانين الرسم والأصول التى ترجع إلى السنن المقررة. أما التأثير والوقع فشىء خارج عن دائرة المصور. نعم إن للأمبرشنزم أصلًا صحيحًا فى ذاته. ذلك أنك قد تنظر إلى الشىء وتتأمل تفاصيله، واحدًا واحدًا، وتُدير فيه عينك على مهل لتأخذه فى جملته وفى تفصيله، أو قد تنظر إلى الشىء نظرة عامة لا تتوخى فيها تأمل التفاصيل. أو قد تنظر إلى جزء معين منه تعلق به عينك وتترك ما حوله يبدو لك فى غير وضوح لأنك لا تقصده بنظرك ولا تعتمد بلحظك إلا الجزءَ الذى أَتْأَرت إليه بصرك. والمصورون على طريقة الأمبرشنزم يتوخون الحالتين الأخيرتين لا الأولى، ولكنهم يضحون فى هذا السبيل بالرسم ذاته مقابل الحصول على المنظر جملة أو على جانب منه على الخصوص مع ترك باقيه ملفوفًا فى ضباب عدم الالتفات إليه مع العناية إلى جانب ذلك بالألوان الزاهية، ولو أنهم دققوا فى الرسم وعُنوا به أيضًا لجاز عملهم، ولكن الألوان تذهب على الزمن فلا يبقى على اللوح شىء لأنه لا رسم هناك أى لأن الأصل غير موجود. فهو مذهب يقوم على خطأين: الخروج عن دائرة التصوير أو تجاوز حده، وإهمال الرسم الذى هو قوامه. ومن الغريب أن ينشأ هذا المذهب فى مصر وأن يتعلق به بعض مصورينا. وأحسبهم يؤثرونه لأنه لا يكلفهم مر اعاة ا لأصول التى لايحسنونها على ما يظهر!

(٢) الدمامة — الإحساسات المركبة — المضحك — التصوير الهزلى

نعود فى هذا الفصل إلى مثل ما بدأناه من الكلام على الشعر والتصوير وإظهار فرق ما بينهما فى طريقة التعبير عن المعانى التى يكون لهما أن يتناولاها، معتمدين فى ذلك على ما قرأناه فى هذا الباب وعلى ما يمكن استخلاصه من درس براعات القدماء، وهو موضوع يدق فيه الكلام، ولا يؤمن معه الغموض والاستبهام، ولا يتيسر استقصاء بحثه من جميع جهاته فى بضعة أنهر أو أعمدة. فعلى القارئ أن يُتم النقص ويسد الفراغ، فما نطمع أن نقدم له أكثر من بذرة إذا هو تعهدها ربت واهتزت واتته ثمرًا كثيرًا وخيرًا وفيرًا.

الشعر والتصوير لبوسهما الجمال. والدمامة فى الدنيا كثيرٌ بل أكثر من أن تحتاج إلى وصف أو تصوير، والناس أحس بها، وأشد نفورًا منها، وأعظم اتقاء لما تثيره من الإحساسات المنغصة من أن يرتاحوا إلى تمثيلها أو يطلبوا أن يروها مصورة. فهل للشعر والتصوير أن يتناولاها؟ سؤال لا نجرؤ أن نجيب عنه بالنفى الشامل، ولكنا مع ذلك نقول إن الدمامة، من حيث هى، لا ينبغى أن تكون مما يعتمد الشاعر أو المصور تمثيله لذاته فقط. ولا شك فى أن التصوير باعتباره فنّا تقليديّا، له أن يفعل ذلك وأن ينقل القبح ويصوره على اللوح ولكنه باعتباره فَنّا جميلًا ليس له أن يتخذ الدمامةَ فى ذاتها غرضًا، وإنما هو يتخذ منها أداة إلى استثارة إحساسات أخرى غير التى تبعثها الدمامة نفسها. وإنما كان هذا هكذا لأن المصور يستطيع أن يجمع على اللوح كلَّ مكونات الدمامة فتأخذها العينُ دفعة واحدة. وقد يكون صدق التصوير ودقةُ الحكاية مصدرَ سرور للناظر ولكنه سرور أو ارتياح مبعثه قدرةُ الفن ذاته لا الصورة، فهو عرضى لا يتصل بأصل الموضوع بل يأتى من طريق العمل، ولهذا لا يكون إلا وقتيّا لا يلبث أن يزول. ولما كانت قدرة الفن مفروضة سلفًا وصدقُ النقل والأداء مقدرًا من قبل، فإن الناظر لا يطول تأمله لهذه القدرة التى كانت محسوبة وكان من أمرها على ثقة، ولا يلبث أن يتحرك فى نفسه النفورُ الناشئ عن منظر القبح الدائم الذى هو أصل الصورة وقوامها لا عرض جاء من غير طريقها.

والأمر ليس كذلك فى الشعر إذ كان لا يسعه أن يقدم للقارئ جملةَ الدمامة مجتمعة، بل هو يسردها عليك متفرقةً ويؤديها إليك على أقساط ويسوقها مقطعة الأوصال، فيضعف فى أثناء أدائه لها ذلك الإحساسُ بالنفور الذى تستشعره حين تقع عينك على جملة ذلك مجتمعة على اللوح. فالتنغيص المستفاد من الصورة يضعف ويفتر فى الشعر حتى لا يكاد يحس. وإذا كان الشاعر يفسد عليك الأمرَ إذا هو عالج وصفَ الجمال فإنه يهوّن عليك التغثية حين يسرد أوصاف الدمامة. بخلاف المصور فإنه يُغثى النفس ويكرب الصدر بتصوير الدمامة ويسر بتمثيل الجمال.

وعلى أن الدمامة ليست مطلوبة لذاتها ولا هى ينبغى أن تكون من أغراض الشاعر أو المصور وإنما هما يبغيانها — إذا احتاجا إليها — وسيلة إلى غيرها وأداة يستعينان بها على تحريك إحساسات متزاوجة أو مركبة غير التى ينبهها منظرُ الدمامة. وقد تعلم أنه قل من بين الإحساسات البغيضة — كما يقول نيقولاى — ما لا يكون مختلطًا بغيره أو نقيضه، فالخوف مثلًا قلما يخلو من خيط من الأمل كما يقول ابن الرومى:

أخاف على نفسى وأرجو مفازَها
وأستارُ غيب الله دون العواقب
ألا من يرينى غايتى قبل مذهبى؟
ومن أين والغاياتُ بعد المذاهب؟

والغضبُ تزامله الرغبةُ فى الأخذ بالثأر. ومن الأمثلة الواضحة لذلك فى الشعر ثورةُ ابن الرومى على ابن المدبّر لما أحقده بتخييب أمله، فقال فيه قصيدته التى مطلعها (يا بن المدبر غرنى الرواد) وفيها يقول:

أدعو على الشعراء أخبثَ دعوة
إذا مجدوك، وغيرُك
قل لى بأية حيلة أعملتها،
هتفوا بأنك، لاحفظت
لكن أخال معاشرًا خيبتهم
نصبوا الحبائل للأسى فأجادوا
أثنوا عليك ليستميحك غيرُهمٍ
فيخيب خيبتهم وتلك أرادوا
لتلاقين شتائمى نارية
لا يجتوتك حريقها الوقاد
ولأرمينك بعدها بقصائد
فيها لكل رميّة إقصاد
شنعاء تضرم فيك نارَ شناعة
تبقى نوائرها وأنت رماد

والحزن أبدًا مرتبط بذكرى ما سلف من الأيام الحسان والساعات المحبوبة. وأظهر ما تجد ذلك فى شعر ابن الرومى أيضًا. تأمل قوله فى رثاء ابنه محمد — وكان طفلًا — وكأنه هنا يحب أن يتعزى بابنيه الباقيين وإن كان ينفى ذلك، ولكن حسبك أن تسأل نفسك لماذا يذكر هما؟

وإنى وإن منعتُ بابنىّ بعده
لذاكره ما حنت النيب فى نجد
وأولادنا مثل الجوارح أيها
فقدناه كان الفاجع البين الفقد
لكلٍّ مكانٌ لا يسد اختلاله
مكانُ اخيه من جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفى مكانه؟
أم السمع بعد العين يهدى
أقرة عينى لو فدى الحى ميتًا
فديتك بالحوباء أول من
كأنى ما استمتعت منك بضمة
ولاشمة فى ملعب لك أومهد

والبيت الأخير هو الشاهد. وأظهر من ذلك وأدل على ارتباط الحزن والأسى بذكريات السعادة قصيدته فى رثاء بستان المغنية، وهى طويلة جدّا نختار منها لما نريده من التمثيل هذه الأبيات:

إنا إلى الله راجون لقد
كال الردى سيرةً من السير
يامشربًا كان لى بلاكدر
يا سمرًا كان لى بلا سهر
ما كنت أدرى أطعم عافيتى
أعذبُ أم طعم ذلك السمر
لهوٌ أطفنا ببكر لذته
وما فضضنا خواتمَ العذر
ولم ننل من جناه نهمتنا
وإن حظينا بمونق الزهر
كأننى ماطلعتِ مقبلة
علىَّ يومًا بأملح الطرر
فى كفك العودُ وهو يؤذن بالإ
حسان إيذان صادق الخبر
كأن عينى ما أبصرتكِ ضحى
فى مجلسى — والوشاةُ فى سقر
كأنها ما رأتك صادحة
والصّدَّحُ الورق عكّف الزمر
كأننى ما استعدتُ مقترحى
يومًا فكررته بلا ضجر
لولا التعزى بذاك اونة
لا نفطر القلب كل منفطر

فالقلب كما ترى يتعلق مرة بالسار وأخرى بالسىء من عناصر العاطفة، ويتنقل من هذه إلى تلك تنقلًا هو أشجى وأكثر إمتاعًا من عاطفة السرور الخالصة، ومن هنا يقول نيقولاى إن المَغيظَ المحنق يكون أشد تعلقًا بغضبه، والحزين بحزنه، وأعظم زهدًا فى كل ما نحاول أن نسكنه به ونسرِّى به عنه. ولكنّ الاشمئزاز المنبعثَ عن الدمامة شىءٌ اخر، والنفس لا تحس من ناحيتها ما يمزج بهذا الاشمئزاز شيئا من السرور، ولهذا نرى الشعراء والمصورين الذين يدركون غايات فنيهما لا يطلبون الدمامة لذاتها وإنما يتخذونها سلمًا إلى تحريك الإحساسات المتزاوجة، مثال ذلك أن يضيفوا إليها تكلف الرشاقة أو تصنع الوقار أو مبالغة الدميم فى رأيه فى نفسه أو غير ذلك مما يُخرج لنا صورة مضحكة.

وهنا موضع التحرز من خطأ. ذلك أن الدمامة ليست إلا نقصًا أو عدم استواء قد يكون باعثًا على العطف، ولكن الروح قد تعوض ذلك وتسد النقص كما يسده العلم أو الفضل أو غيرهما، ولكن إثارة الإحساس بالضحك لا تكون فى الغالب إلا من طريق الدمامة التى هى نقص إذا اتُّخذ دعوى كمالٍ فتح الباب للسخرية. وقد فطن ابن الرومى إلى ضرورة الدمامة فى حيثما أراد أن يُحيل المهجوَّ مضحكًا وموضعَ استهزاء. وقد هجا كثيرين ولكنه إذا أراد أن يركب المهجوَّ بالسخرية والفكاهة ألزمه صفة الدمامة. وقد تفرد هو والمتنبى من بين شعراء العرب بدقة التفطن إلى هذا. تأمل قوله فى أبى بكر الرقى:

لأبى بكر كلام
واحدٌ لا يتعدى
ضرب الله عليه
دون لفظ الناس سدَّا
لا يرى من وصفه البس
تانَ بالبصرة بُدَّا
وإذا ناظر خصمًا
ذات يوم فأجدا
مطّ للخصم جبينًا
كجبين الأ.. صلدا
وادعى الإجماعَ فيما
كان للإجماع ضدا
وله أبيات شعر
أُلفت زوجًا وفردا
مقويات مكفاَت
صلحت للفرد عِقدا
جمع الإعرابَ طرّا
فى قوافيهن عمدا
مثل ما مضت سبيل
من شعوب الناس وفدا
ثم من أحلفِ خلق الله
أن لا يتغدى
وألج الناس ما دام
يُحْمَى ويفدى
فإذا أعرضتَ عنه
جاء نحو الزاد شدا
كصبى السوء يلقى
منه من قاساه جهدا
وإذا قال «رسول الله»
مدّ الصوتَ مدا
فعلَ ساسىّ من القصاص
أعمى يتجدى

فانظر كيف وصفه بالقبح وشبهه بالقصاص الأعمى المستجدى ونعته بتكلف العلم والشعر والعزوف عن الطعام وتصنع التأبى والزهد ثم الإقبال عليه من تلقاء نفسه إذا تركه الداعون وكيف جعله يمط جبينه ويمد صوته ويفخّم لفظه ليخرج منه صورة مضحكة. وانظر قوله فى اخر:

أقصر وعور
وصلع فى واحد؟
شواهد مقبولة
ناهيك من شواهد
تخبرنا عن رجل
مستعمل المقافد
أقمأه القفدُ فأضحى
قائمًا كقاعد

أى أن كثرة الصفع — القفد — صغرته حتى صار قائمًا كقاعد، أو قوله فى مغن:

تخاله أبدًا من قبح منظره
مجاذبًا وترًا أو بالعًا حجرا

أو قوله فى وصف اَخر:

أو شكل ميزان قتّ، جانبٌ صعد
وجانب ثقَّلوه فهو منحدر
وليس للتصوير يدانِ بهذه المعانى كلها لأن أكثرها مظهرُ حركةٍ تصاحب الدمامة فتحيلها مضحكة، والدمامة إذا اجتمع معها الضعف والعجز صارت كذلك، كما تصير مرعبة إذا توافرت لصاحبها القدرةُ على الأذى كما ترى من قول شكسبير على لسان دوق جلوستر الذى وصل على العرش بأفظع الفظائع:

«ولكنى أنا — أنا الذى لا يصلح شكلى للعب ولا لأن أجتلى مراَى فى صقال مراَة.. أنا الذى خدعتنى الطبيعةُ عن نصيبى من حسن الطلعة.. أنا المشوه المخدج الناقص الخلق الذى أرسل قبل الأوان فى هذه الدنيا المتنفسة — أنا الذى تنبحنى الكلاب إذا وقفتُ حيالها.. لا أفيد لذة من قضاء الوقت اللهم إلا فى النظر إلى ظلى تحت الشمس والتعليق على تشوه خلقتى — ولما كنت لا أستطيع أن أكون عاشقًا — فقد اعتزمت أن أكون نذلًا».

فهذه دمامة مرثية ومسموعة، ونقص فى الوجه وطغوى فى النفس. والشعر أقدر على تصوير ذلك لأنه يسعه أن يفرّق المجتمعَ وأن يتناوله شيئًا بعد شىء، وأن يضم إلى ما يتناول من مظاهره وجوهًا أخرى من المعانى والحركات لا تتأتى فى التصوير، بيد أن التصوير مع هذا يستطيع، بخروجه بعض الشىء عن غايته، أن يعطينا لمحة من بعض هذه المعانى، ومن هنا نشأ التصوير الهزلى حتى صار فنّا قائمًا بذاته مستقلّا فى الحقيقة عن التصوير.. ذلك أن القواعد والأصول المتعلقة بالرسم والنسب الطبيعية والتلوين لا تُراعى فيه وإنما يكون هم المصور أن يُبرز إلى جانب الرسم الذى يريد أن يدلنا به على المرسوم صفةً تُحيل المنظر مضحكًا. ولكن هذا ليس إلا شعبةَ لهو من فن التصوير وليس له إلا قيمة زائلة وهو عرض من أعراض المًدنية فيه متعة ولذة، ولكنه فيما عدا ذلك لا يخلد ولا يبقى ولا يفهمه ويلتذه الناظرُ إلا إذا كان عارفًا بالأصل الذى يُراد التهكمُ عليه، ملمّا بالعادة التى تعلق بها الرسامُ وأثار بسببها الإحساس بالمضحك فى نفوس الناظرين.

إذن فهل فن التصوير عاجز عن مجاراة الشعر فى إحالة الدمامة مضحكة أو فظيعة؟ وجوابنا على ذلك: إنه عاجز إلى حد كبير. نعم يستطيع أن يضم مظهرَ العجز إلى الدمامة على نحوٍ ما فيحدث الإحساس بالمضحك، أو أن يضيف إليها الطغوة فيروع. ولكنه لا يستطيع أن يأتى بما يقارب ما يستطيعه الشعر لأن الدمامة تفقد كثيرًا فى أثناء وصف الشعر لها حتى تكاد تتجرد منها ولاشيما إذا زاوج الشاعر بينها وبين معان أخرى من مثل ما أسلفنا القول عليه والتمثيل له.

أما فى التصوير، فالدمامة مجتمعة بكل قوتها، ولما كانت هى الأصل وكانت المعانى المضافةُ إليها ليست من الكثرة والتنوع بحيث تستغرق الخاطرَ فإن الفكر لا يلبث أن يرتد إلى هذا الأصل وأن ينسى المضحك أو غيره ويطويه فى ثنايا الدميم.

١  هذا الفصل قائم على أصول مقررة، وقد تحرينا بصفة خاصة أن نتبت ونشرح ونطبق نظريةً للسنج يعرفها من قرأ كتابه «لاؤكون».

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤