الفصل الثامن عشر

الواجب

تلقيت كتابى الآنسة مى — الصحائف، وظلمات وأشعة — فى ساعةِ نحس! وكنت قد باعدت بينى وبين الأدب وطلقته ثلاثًا، أو على الأصح فترتُ عنه وضعفتْ عندى بواعثه، ثم قلبت القضية وعكست المسألة وحملت الأدب عيبى وزعمته أصل البلاء والداء العياء. وإذن فالنجاء منه النجاء! وفى الكتب، كما فى الناس، المجدود والمنحوس، والموموق من القلوب والبغيض إلى النفوس، وما أصدق قول الرصيف القديم إذا نقلت معناه إلى الكتب.

عش بجد فلن يضرك نوكٌ
إنما عيش من ترى بالجدودٌ

وهى تلقى من تصاريف الأيام وانتقال الأحوال مثلَ ما يلقى كتابها وقراؤها — وغير كتابها وقرائها — سواء بسواء، فكم من كتاب جليل لازمه الخمول فكأنه حين خرج من المطبعة سقط فى جب! وكم من مؤلَّف قيم عبر «هولاكو» على جثته، وأفاض روحه فى وثبته! فليس الناس وحدهم يموتون، ولكن هى الكتب أيضًا تحيا وتموت، وتطول آجالها وتقصر، وتبيت جميعة وتصبح مفرقة. ويارب كتاب أخمل آخر كما يخمل الرجلُ الرجل. قد يجنى الفضل على الكتاب جنايته على الإنسان، وتسىء إليه صراحته، وتكسده رجاحته، ويقعد به ثقل اَرائه المعوصة، وتؤخره دقة أفكاره الممحصة. وامض أنت فى القياس إذا شئت، واعكس الصورة إذا أحببت، فلن تلفَيها إلا طبق الأصل.

وقلت لما تلقيت الكتابين: يا لها من ثرثارة! وأحسب أن الواجب يقتضى أن أقرأهما وأعنى بتدبرهما ثم أكتب عنهما! لاشك فى أن هذا هو واجبى — على الأقل فى رأى آنستنا! فما أثقل الواجب! وما أعظم شكى فى إخلاص من لا يفتئون يتغنون بحمده ويشيدون بحسنه وجلاله! من الذى يحب «الواجب» لذاته؟ أين هذا الفنانُ الذى يزاول «الواجب» ويتوخاه إرضاءً لعاطفته الفنية؟ لست أنا به على كل حال! وما أظن بالقارئ إلا أنه مثلى. وإذ كنا من الأوساط فسبيلنا أن يدفعنا الإحساس بالواجب إلى مباشرة أعمالنا والقيام بما هو مفروض علينا، وإلى مجانبة المغريات التى نلاقيها فى طريقنا ومقاومة المفاتن. ونحن إذ نفعل ذلك نعترف بالحاجة التى تحمل على النهوض بعبء الواجب، وبالضرورة التى تحتم الإذعان لأمره، ولكنا لا نحس «الحب» لهذا الواجب وإنما نحس ثقله من الفاتحة إلى الخاتمة! وقد لا نقاوم أو نناهض — بعنف — غير أنّا على هذا نود لو أن الأمر لم يكن كذلك، والحال لم تكن تقتضى ذلك!

ويفتح أحدنا كتابًا — قبّح الله الكتب! — فيُلفى «وردزورث» مثلا قد نظم فى هذا «الواجب» قصيدة من أجف ما قرض وأصلبه وأبعده عن الإقناع! فلا يصدق — أو أنا على الأقل لا أصدق — أن هذا الشاعر صافحت عينه ابتسامة على وجه هذه الآلهة القاسية! وينتقل إلى «كانت» فإذا به يقارن الواجب، فى جلاله وروعته، بصفحة السماء المجلوة، ويجد نفسه مكرهًا على الاعتراف بأن هذا الفليسوف قد يجيش صدره بمثل هذه العاطفة الصادقة، فقد كان «كانت» يرى فى الواجب جلالًا ويستشعر له روعة، ولكن «كانت» و«وردزورت» أبعد عن حد الأوساط وأرفع مستوى من أن يصح اتخاذهما مقياسًا عامّا لهذا الناس.

ويقلب كتب الفلسفة الحديثة فإذا هى تعالج أن ترد إليه القدرة على الإيمان بالواجب، وتقول له إن الواجب يمكن أن يحبه كل امرئ! ولماذا يا ترى؟ قالوا لأنه مرتبط بالحياة العالية أو هما شىء أحد! فأما من خبروا هذه الحياة العالية وعرفوها فيفضلونها لا محالة على الحياة الواطية! نعم إن «الواجب» يتصارع مع المتع واللذاذات التى هى أحط، ولكن هذا الصراع يفتر فى النهاية ويتطابق الواجب والرغبة.

ونقرأ هذا، نحن الأوساط، فلا نرى فيه سوى تلاعب بالألفاظ وشعوذة بما لا يُفهم. والحق أقول إنى ما استطعت أن أسيغ الفلسفة فى يوم من أيام حياتى! وكثيرًا ما اتهمت نفسى بكثافة الذهن وضعف الاستعداد حتى رأيت من يحبون الفلسفة ويعكفون على كتبها يقفون مثلى حيارى أمام من لا أفهم من رجالها مثل هجل وشاجل ممن لا يصلح بعض كلامهم إلاليعزم به المرء على الجن.

والرجل من الأوساط محقّ حين يقول: إذا صار الواجب مطلوبًا مرغوبًا فيه، فإنه لا يبقى «واجبًا» لأن الأصل فيه أنه فرضٌ علينا من غير أنفسنا. وأكثر ما يكون الواجب، سلبيّا أو نواهى مفرغة فى مثل هذا القالب «لاتفعل كذا» «وإياك وكذا». حتى حين «نريد» ألّا نعمل إلا طبقا لما يفرضه الواجب، لا يكون هذا منا إلا إيثارًا لأهون الشرين. ولو أن أحدنا استطاع أن يخلق الدنيا على ما يحب ويشتهى، لما أبقى لكلمة «الواجب» أثرا فى معاجمنا، ولعفى عليها هى ونظائرها من مثل يجب وتنبغى وما هو إليهما أو منهما بسبيل، ولما أبقى سوى «أريد»، ومتى خرجت «أريد» من القلب فقد انتسخ آخر ظل للواجب!

والواجب يتطلب جهدًا، وطبيعة الحياة تدفع إلى توخى أسهل السبل، وكما أن الماء إذا صادفته فى تحدره الصخورُ يدور حولها ويحفر مجراه فيما هوألين وأقل استدعاء للمغالبة، كذلك المرء فى سلوكه فى حياته اليومية يؤثر أن يوفق إلى أقصى السهولة والسلاسة، وأن يتقى كل جهد متعب. هذا، على الأقل، مطلب. وإن كان الواقع أنه لا سبيل إلى انتفاء الجهود انتفاءً تامّا، ولكن هناك بونا عظيمًا بين الجهد يبذل حين تكون الرغبات الأولية معترفًا بها وكل مطلب آخر لا يُواجه إلا بالمقاومة والخضوع الجبرى، وبينه حين تكون القيمة الحقيقيةُ للحياة العالية مدركة تمام الإدراك. وليس ثم من فضيلة فى الخضوع مع النفور والتكره، كما أنه لا خير فى التعليم الذى يتلقاه المرء كارهًا مضطرّا. وأخلق بالمرء ألّا يفيد شيئًا من درس يُلقى عليه إذا كان يقاوم السعى لتعليمه. ومن الذى صار خيِّرًا بالاضطرار إلى فعل الخير على رغم أنفه؟ ولو أنك ألزمت ابنًا لك بكرهه أن يجود فى كل صباح على متسول بقرش لما صار بذلك كريمًا ولا رحيمًا، ولكان الأرجحُ أن يكف عن هذا التسخِّى متى رفعت عنه يدك التى تقسره على البذل للمساكين. ولا شك فى أنه يجدر بكل امرئ أن يقوِّى فى نفسه عواطف الرحمة، وأن يبث مثلها فى نفوس الصغار، ولكن ذلك لا يتأتى بالقهر. والأنانيةُ الصارخة خير فى النهاية وأقل ضيرًا من الاستمرار على إجبار غير المستعد.

وأكثر ما يكون فعلُ الواجب، نزولا على مقتضيات الجماعة التى نعيش فيها. وأكثر ما يكون الباعث على امتثال أمر الواجب أو القعود درجَ نواهيه، الخوفَ من الرأى العام وعدم الرغبة فى معارضة مألوف الجمهور. أى أن الناس، فى الأغلب والأعم، إنما يؤدون الواجب إجابة لمهيب أجنبى منهم غريب عنهم، ولكن الأصل فى الواجب، بأسمى معانيه، أن يكون الداعى إليه من النفس ومن الخارج جميعًا. ويكون من النفس بمعنى ألّا يفعل المرءُ غير ما هو فاعل ولو اتفقت الدنيا كلها على خلاف ذلك؟ وتكون من الخارج لأن هناك دخلًا لما هو فوق الإرادة الفردية والرغبة الشخصية. وعلى هذا لا يكون «الواجب» بغيضًا أو محبوبًا إلا باعتبار هذا العامل الخارجى ومبلغ بعده عن النفس أو قربه منها وقابليته للتطابق مع رغباتها. وعلى أنه مهما بلغ من مسايرته لنفوسنا، يظل واجبًا. وكفى بهذا إشعارًا لها بسلطان عاملٍ أجنبى حتى حين يطيعه وهو جذل، كما أفعل الآن.

•••

كذلك كنت أحدِّث نفسى قبل أن أفض الغلاف عن الكتابين. وقد مضت على ذلك أسابيع كنت أقدر أن تكون كلها معاناةً للإحساس بمرارة الإذعان لعامل أو باعث من غير النفس. ولكنى ما كدت أتصفحهما وأقرأ من هذا فصلًا ومن ذاك صفحة حتى شعرت كأن الواجب قد استحال رغبة. وزايلنى انقباضى عن الأدب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤