الفصل التاسع عشر

الكتب والخلود

ماذا يصنع أحدنا إذا قُدمت له صحفةٌ فيها طعام هذا أول عهده به؟ قد يكون هذا اللون الجديد الذى يُطاف به عليه أشهى ما ذاق أو يذوق فى حياته. ولكن جهله به حقيق أن يكون مدعاة للتهيب، فتراه يود لو سمع من إنسان كيف طعمه؟ وما هو؟ ومن أى شىء رُكب؟ ليطمئن ويقبل عليه امنا واثقا من التذاذه جامعًا بين متعة الخيال وحسن الحقيقة. ثم هو — حتى بعد أن يسمع ما ينفى قلقه — لا يملك إلا أن ينظر إليه ويحدق فيه من قريب ومن بعيد. ويمد إليه يده، ولكن فى إشفاق. ولا يتناول ويأكل كما يفعل المجرب العارف بما ينتظر، بل يقلبه ويقدم ويؤخر، فعل الفاحص المتقصى، ويحمل إلى فمه اليسير من هنا وههنا فى حذر وأناة، وتحرص على ألّا يتجاوز النزر الذى لا يملأ الفم، ثم يلوكه ويتذوقه، وعينه ثابتة الحملاق، وعلى وجهه سماتُ التفكير، حتى إذا اطمأن مضى …

كذلك أرانى مع الجديد من الكتب: أخشى التغثيةَ وأخاف إضاعة الوقت فيما لا طائل تحته ولا محصول وراءه، أو فيما هو شر من ذلك. ولو أنى لم أكن قرأت شيئًا لما تهيبت جديدًا، ولا أشفقت أن يفسد علىَّ لذةً قديمة أفدتها. ولكن إلفى للجيِّد من براعات الكتاب والشعراء يدفعنى إلى الضن بها أن أنغص على نفسى متعتها بهذا الجديد الذى لا أدريه كيف يكون.

ولا يتعجل القارئ فيحسب أنى أُكبر القديم لأنه قديم، وأمقت الجديد لأنه جديد، فما لهذا محل فى نظرى. وليس من فضل أحدنا أن يتقدم به الزمن أو يتأخر. وقد أتردد فى قراءة الكتاب مضى على موت صاحبه مئاتٌ من السنين لأنه يكون جديدًا بالقياس إلىّ وإن كان قديمًا من حيت عمره فى هذه الدنيا.. ومع ذلك هبنى كنت أؤثر كل قديم على كل جديد. فماذا إذن؟ من الذى يستطيع أن يتجرد من المودات والخصومات وما إلى ذلك وأن يُنصف معاصرًا له الإنصاف الواجب؟ من الذى يسعه أن يكون على يقين جازم من أن الزمن سيؤيد رأيه فى معاصره بعد عشرة أعوام أو عشرين أو مائة؟ كتابك يا معاصرى بديع رائع. أعترف بذلك ولا أنكره. ولكن أنفك الضخم يجعل شكلك مرذولا أو مضحكا، فتقل روعةُ آرائك وحسنها كلما تصورت هذا الأنف الذى رُكب على وجهك، وليس يسعنى إلا أن أتصوره وأحضره أمام عينى! وهذا الكاتب الآخر رجل فإضل عظيم المواهب ولكنه صريح جرىء يتقحّم على الناس بآرائه فيهم ولا يبالى من رضى ممن سخط منهم، وأنا من الساخطين أو المزاحمين له فى ميدانه، فليس يروقنى أن أرى كلامه مطبوعًا. ولا سبيل إلى شىء من هذا وأشباهه حين تتناول كتابًا عليه جلالُ القدم وبعيدًا عن عصرك بكل ما فيه من الجلائل والصغائر.

•••

وكم كتابا تخرجه المطابع فى العام، لا بل فى الأسبوع أو اليوم؟ ليكن محصول المطابع أو ثمراتها — إن صح هذا التعبير — كثيرًا أو قليلًا، فما من شك فى أن ما تُخرجه فى اليوم أكثر مما يسع أشرهَ الناس أن يقرأ فى اليوم. وما أكثر ما نتلهف ونتحسر لأن الوقت أضيقُ من أن يتسع لقراءة ما نود أن نقرأ! من منا لا تضطره المشاغل أو العلل أو الملل أو غير هذا وذاك إلى طىّ كتاب يريد أن يلتهمه، أوإلى الاكتفاء بواحد من مئات؟ بل من منا لم يخطر له خاطر لم يجد وقتًا لتقييده، ثم كرت الأيامُ واستسرَّ الخاطر فى ظلام النسيان، فكأنه ما مر بالذهن؟

والزمن ماض لا يثقِّل رجلَه ولا يتوقف. والمطابع دائرة لا تكف عن إخراج الكتب ولا تبالى أقرأها كل شراتها، أم أهملوها على رفوفهم. وإذا كان الناس اليوم لا يقدرون أن يقرءوا كل ما يكتب فأحر بهم أن يكونوا فى مقبل الأيام أعجز!

فكرت فى ذلك حين وردنى كتابا الآنسة مىّ وقبل أن أقرأهما، ودارت فى نفسى هذه الخواطر وأنا أتأمل غلافيهما وورقيهما، وتمثلت لعينى المطابعُ. فوثب بى الخيالُ إلى جبل أوليمبيا١ أو طار بى إليه! وتصورت المخلدين من الكتاب والشعراء على قممه وسفوحه وفى مخاومه، وقد غص بهم وشرق بجموعهم الوافدة عليه من كل أمة. فأدركنى العطفُ عليهم والمرئيةُ لحالهم ولما يعانونه من الضيق والكرب. وتراءى لى كأنهم ضاقوا صدرا بهذا الحال فحشدوا أنفسهم مؤتمرًا وقام فيهم الخطباء يشرحون آلامهم ومتاعبهم ويفصلون أسبابها. ويصفون العلاج ويطرحون الاقتراحات، وكأنى أسمعهم يذكرون من أسباب هذا الزحام الذى لم يعد يطادتى، فشوَ التزييف فى مؤهلات الخلود، وانتشارَ المطابع والصحف على ظهر الأرض التى لا تزال تتعقبهم مصائبها، ويقولون إن الصحف دأبها أن تقرظ وتمدح، وإنها قلما تعنى بالتفلية والنقد، أو تكثرت للتمييز بين الجيد والردىء، حتى اجترأ الضعفاء واغتر الأدعياء، وزادت الكتب بأنواعها حتى عن حاجة الأسواق! وحتى صار كل امرئ بعد موته يأتى إلى الجبل ومعه حمل بعير من شهادات الصحف! فكثر بين الخالدين الواغلون ومن لا يستحقون إلا النار طعامًا لما سوَّدوا من ورق! وأصيب سكان الجبل بغلاء الآكال والأشربات الأولمبية غلاءً فاحشًا مزعجًا يهدد بحدوث قحط عام!

ثم بدا لى كأنما أجرى الانتخاب لتأليف لجنة تتولى التحقيق ويوكل إليها أن تراجع مؤهلات كل من فى الجبل للتثبت والتحقق من أنه أهل للخلود، وإعلان كل ساكن بإبراز أوراق اعتماده والمستندات التى يثبت بها حقه، مخافة أن تكون الأغراض الشخصية قد فعلت فعلها وحشرت بين الخالدين من لا يستحقون إلا جحيم تارتاروس التى يقذف فيها بالعاصين!

•••

ثم أفقت من هذا الحلم، وابتسمت، وتناولت الصحائف وأنا أسائل نفسى: ترى غدًا كيف يكون حظ كاتبتك؟ ليس فى مصر من لا يشهد لها بالبراعة، وما من صحيفة إلا وهى تثنى عليها، فهل تكفى هذه الشهادات للسكنى على جبل أوليمبيا؟ وفتحت الكتاب لعلى أهتدى إلى رأى تسكن إليه نفسى، فقرأت فيه:

«ومن الكتاب من هو ملخصُ جلسات ومدونُ وقائع. ومنهم «كولمب» جاء لاقتحام البحار وركوب الأخطار واكتشاف عوالم مجهولة».

وهذا صحيح. والزمن يؤخر الملخصين والمدونين ويُخملهم، ولا يقدم وتضع تاجَ الخلود إلا على مفارق من يكونون فى عالم الأدب ما كان «كولمب» فى عالم الارتياد.

وقد عهدنا الزمن لا يرحم ولا يعرف وسطا، فإما النبوغ فالخلود، وإما الخروج من الشعر العربى، ولكنا مع ذلك نحيل القارئ على جيمية ابن الرومى التى قالها لما قُتل يحيى بن عمر بن حسين بن يزيد بن على، ومطلعها:

أمامك فانظر: أى نهجيك تنهجٌ
طريقان شتى، مستقيم وأعوجٌ

وفيها يصف طغيان العباسيين وضلالهم فى الفتك بالعلويين واستهتاكهم وضعفهم إلى حدٍّ استباح لنفسه معه أن يقول «لرجالهم»:

لا تجلسوا وسط المجالس «حُسرًا»
ولا تركبوا إلا ركائب «تحدج»!

فإنه فى هذه القصيدة يُشرف على ضعةٍ من مرقب عال يرفع إليه القارئ بقوة روحه وسمو نظرته. وهو يشعرك بمطلع القصيدة أن قتل أبى الحسين هذا قد أثار مسألة تقتضى الفصل، ويرسم لك طريقى الضلال والواجب، ويهيج إحساسك الأدبى بالتمرد على الانتكاس الخلقى الذى أنطقه بهذه القصيدة. ولولا أن المقام يضيق عن ذلك لأوردنا القصيدة كلها على طولها ولتناولناها بيتا بيتا!

وغير منكور أن الموضوع الجدى يسمو بنفسه ويساعد الشاعر الذى يتناوله. وليس الحال كذلك حين يعالج الشاعر الفكاهةَ. وأنت حين تجدُّ قد لا يشق عليك أن تحلِّق، ولكنك حين تجنح إلى الفكاهة لا يعود من السهل أن تحافظ على الاستواء الواجب، وأن تتقى الهبوط، وتجنب الإهاجة، وتكبح عواطفك، وترخى العنان لعقلك وأن تشيع الجمال فى موضوعك لتسد نقصه وتملأ فراغه وتعوض تفهه.. ومن هنا قالوا إن غاية الفكاهة هى أقصى ما هو مقدور للإنسان. ويعنون بذلك التحررَ من تأثير العواطف العنيفة، والقدرةَ على التأمل فى سكون واطمئنان، والنظر إلى ما يقع، لا إلى القدر أو الحظ أو الاتفاق، ومنح الحماقات والسخافات والمتناقضات ابتسامةً رضية.

١  هو جبل يقول القدماء إن الخالدين يعيشون عليه بعد موتهم.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤