الفصل الحادي والعشرون

القدماء والمحدَثون

البساطة من مظاهر الصحة والاستقامة فى الإحساس والنظر. خذ لذلك مثلًا: طفل يسمع من أبيه أن جاره، فلانًا، أشفى على الموت جوعًا، فلا يكاد يعلم ذلك حتى يعمد إلى مال أبيه فيقبض منه قبضة ويذهب بها إلى الجار المتضوّر. فهذه بساطة فى الإحساس، تنم عن صحة فى الطبيعة، وسلامة فى الفطرة، واستقامة فى النظر، لأن الطفل هنا لم يتمثل لخاطره سوى أمرين: بؤس الجار، وأسرع طريقة لإنقاذه من ميتة الجوع الشنيعة، ولم يخطر له أن فى هذه الدنيا شيئًا اسمه حق الملك، وأن هذا الحق ليس قاتما على الطبيعة وحدها، وأنه يسمح بأن يموت من شاء جوعًا، على حين ينعم جاره بالتخمة …!

وقد يكون فيما أتاه هذا الصبى ما يُسخط أباه، ويثير ثاثرته. ولكن الأب على الرغم من غضبه وحزنه على ماله، لا يملك إلا الإعجاب بابنه، وإكبار مروءف، وصدق عاطفته وغرارتها، وإلا الشعور بعجزه عن إقناعه بأن فى عمله هذا عيبًا أو خطأ أو منكرًا.

كذلك عظماء الدنيا يمتازون بالبساطة، ولا يعرفون هذه الأصول المستحدثة التى هى كالإسناد للضعف. وهم كالأطفال فى اعتدال تواضعهم فى غير ذلة، وفى بعدهم عن أدب الرياء، وبراءتهم من المكر والدهاء، وفى إخلاصهم لطبيعتهم وميولهم، وفى جهلهم سرَّ نفوسهم، وفى اجترائهم على الحياة أو انتفاء القلق عنهم، إذ لا علم لهم بمخاوف الطريق الذى تدفعهم الطبيعة فيه.

والبساطة فى أسلوب التفكير، تؤدى لا محالة — كما لا يخفى — إلى البساطة فى العبارة. ولست بواجد فى عظماء الأدب وفحولتهم تلك العناية التى يتحراه! العلماء، لاجتناب الأخطاء ولتصفية الألفاظ والمعانى، بسبكها فى نار المنطق والنحو، وملاحظة القارئ التفكير فيه حتى لايصدمه أو يتعبه شىء. كلا! لا شىء من هذا، وإنما يلقى إليك المطبوع ما يخطر له فى عبارة حرة قوية، فلا تكاد ترى الرمز الذى وضعه لمعناه، وإنما تبصر أو تحس المعنى عاريًا سافرًا، لا يطويه شىء، ولا يحجب حسنه أو قوته عن عقلك وقلبك حجابٌ من المّكلف والأناقة.

والاَن فلنسق لك الأمثال لتوضيح ما نعنى. وسنورد أولها من هومر، إذ كان أقدم من نعرف ممن انحدر إلينا كلامهم أو شىء منه. وهنا يبغى أن ننبه القارئ إلى أننا لسنا فى مقام المفاضلة بين قديم ومحدث، أو غربى وشرقى، فما إلى شىء من هذا نقصد، وإنما غايتنا أن نبين بعض ما يختلف فيه قديم عن حديث، من حيت الروح ووجهة النظر، وأسلوب التناول ليس إلا.

ولم أكن أطيق صبرًا على هومر فى أول عهدى بالأدب، وكان ينفرنى منه، كلما تناولته، جفاؤه، وأنه يقف من موضوعه موقف القصاص أو الراوية الذى لا يعنيه مما يحكى شىء، وأنه يتريث، أو يمسك، حيت أحس الحاجة إلى الانطلاق، أو يمضى على سننه، حين يطيب لى أن أقف أفكر وأعجب، وأنه لا يظهر فى شعره، بل يتوارى وراءه، ولا يحدثنا عن نفسه أو يجلوها علينا، فكأن شعره نبت فى ثرى الأدب بفعل الجو ولم يجر به لسانُ إنسان!

ويعرف من قرأ هومر أن فى الكتاب السادس من إلياذته حادثةً رائعة، يقصها الشاعر بجفوته المعهودة، وبروده المألوف، وذلك حين يلتقى جلوكوس وديوميد فى ميدان الحرب، فيهمان بالتناحر، حتى إذا عرفا أنهما كانا فيما سبق مضيفًا وضيفًا، ألقيا السلاحَ وتبادلا التحايا والهدايا وذلك أن ديوميد يعرف من كلام جلوكوس خصمه، أن جلوكوس هذا كان من عهد أبويهما صديقَ أسرته ومضيفها، فيغرز رمحه فى الأرض، ويقبل على خصمه يحادثه، ويتفقان على أن يجتنب كل منهما صاحبه. وماذا يقول هومر فى هذا الورع الذى يستغرق النفس حتى فى ساحة القتال إكبارًا لكرم الضيافة، وحفظًا لحقوقها؟ لا شىء! حتى ولا كلمة واحدة! بل يدع الحادث ينطق بنفسه، ويكشف عما انطوى عليه من معانى النبل وسمو النفس، ولا يزيد على أن يقول (ونحن ننقل من ترجمة بوب لشاعر الإنجليزى) على لسان ديوميد:

«فأنا مضيفك الأمين فى أرجوس، وكذلك أنت مضيفى فى ليسيا، حين أزور تلك البلاد. ولنتحاش أن تلتقى رماحُنا فى ساحة الحرب. أوَ ليس ثم من أبناء طروادة من أقتلهم غيرك حين يرسلهم إلىّ إلهٌ وتبلغنيهم خطاى؟ وأنت يا جلوكوس، أليس يكفيك من تلقى من الآشيين لتضحى بهم حين تشاء؟ فلنتبادل سلاحنا ليرى الناس كذلك أننا نباهى بأن كنا ضيوفًا ومضيفين على عهد آبائنا». كذلك تكلما ثم نزلا عن مركبيهما، وتصافحا وأقسما على الولاء والإخاء.

يقرأ أحدنا هذا فيود لو تمهل هنا هنيهة ليطوى الكتاب ويتدبر ويقلب خواطره ويَثنيها إلى نفسه وعصره، ولكن هومر جليد يسوق قصصه ولا يعلق عليها، ولا يكاد يفرغ من هذه الحادثة حتى يخبرك فى بساطة، «أن ابن ساترن» (زحل) أعمى جلوكوس الذى تبادل السلاح مع ديوميد وأعطاه أسلحة ذهبية تساوى ماتة ثور وأخذ منه سلاحًا لا يساوى إلا تسعة ثيران»؟!

اقرأ بعد هذا قصة الفارسين المتزاحمين على قلب «أنجليكا» كما رواها «أريوستو» فى الفصل الأول من «أورلندو فيور بوزو»، وهى حكاية ليست دون حكاية هومر دلالة على النخوة ونبل النفس وشرف الفروسية. وخلاصتها أن الفارسين فيرجوس، وهو مغربى مسلم، ورينالدو المسيحى، كانا متنافسين على فتاة، اسمها أنجليكا، وكانت قد فرت، فبعد أن اقتتلا ما شاءا ومزق كل منهما جلد مزاحمه ما استطاع، تصافحا وامتطيا جوادًا واحدًا وذهبا يعدوان به فى إثر أنجليكا.

ولكن أريوستو كان يعيش فى عصر أحدث من عصر هومر، ولم يكن لتلك البساطة الأولى وجودٌ فى زمنه، فوقعت القصة من نفس راويها الشاعر وقعها من نفوسنا نحن القراء، وأكبر فيها تغلبَ الإحساس الأدبى على العاطفة الجامحة، ولم يستطع أن يخفى إعجابه ويكتمه، كما فعل هومر، فبرز من وراء المسرح وترك موضوعه وعقّب عليه بقوله:

«ما أنبل الفروسية القديمة وأكرم عاداتها! إن هذين المتزاحمين كان الدين يفصلهما وكان كيانُهما يكابد مرارةَ الألم الناشئ عن عراك قاسِ، فتأملهما الآن يركبان معًا فى طريق مظلم معوج دون أن تخاَلج أحدَهما ريبة! ويعدو الجوادُ تستحثه أرجلهما الأربع حتى يبلغ بهما مفترق الطرق!».

وكهومر، شكسبير إلى حد كبير، وإن فصلتهما هوة عميقة من الزمن. هذا أيضًا يتناول موضوعه كما يتناول الجراجُ المبضعَ ولا يتحرّج، بدافع من الرقة وطراوة النفس وسقم الذوق، أن يمزج، حتى فى أشجى المواقف كما فى هملت، ويمزجها بهراء مجنون كما فى رواية الملك لير. ومن من الناس يقرأ هملت ولا يستوقفه، فى فاتحة الفصل الخامس، مزاحُ حفارى القبور وهم يُعدون القبر ليتلمَّأ على أوفيليا، ويغنون ويذكرون الحب وحلاوته، والصبا ورونقه وهم يُعملون الفأس وترمون الجماجم! ويسأل هملت أحدهم:

هملت : لأى رجل تحفر هذا القبر؟
الحفار : لا لرجل يا سيدى.
هملت : لأى امرأة إذن؟
الحفار : ولا لامرأة!
هملت : من الذى سيُدفن فيه؟
الحفار : كانت امرأةً يا سيدى، ولكنها، رحمها الله، ماتت!

ثم يسأل هملت: كم لك فى هذه الصناعة؟

الحفار : زاولت هذا العمل فى نفس اليوم الذى تغلب فيه ملكنا الأخير، هملت، على فورتنبراس.
هملت : منذ كم هذا؟
الحفار : ألا تدرى أنت؟ إن كل مجنون يعرف هذا! إنه نفس اليوم الذى ولد فيه هملت الصغير الذى جن وأرسل إلى إنجلترا
هملت : ولماذا أرسل إلى إنجلترا؟
الحفار : لماذا؟! لأنه مجنون! سيثوب إليه عقله هناك. فإذا لم يثب، فليس فى هذا بأس هناك.
هملت : لماذا؟
الحفار : لن يلاحَظ هذا لأن الناس هناك مثله جنونًا!
هملت : وكيف جن؟
الحفار : بشكل غريب على ما يقولون.
هملت : كيف؟
الحفار : بأن فقد عقله!
هملت : كم يظل الرجل فى جوف الأرض قبل أن يبلى؟
الحفار : إذا لم يكن قد بلى قبل أن يموت! — فإنه ترد علينا فى هذه الأيام جثث كثيرة مجدرة لا تكاد تحتمل الدفنَ — فإنه يظل حوالى ثمانية أعوام أو تسعة، والدباغ يمكت تسعة.
هملت : ولماذا يمكث أكثر من سواه؟
الحفار : لأن جلده يا سيدى تدبغه ممارسته لصناعته فيبقى زمنًا لا ينفذ الماء منه. والماء يا سيدى معفِّن شديد لجسمك الميت الحقير. هذه جمجمة. لقد ظلت فى جوف الأرض ثلاثًا وعشرين سنة.
هملت : جمجمة من هذه؟
الحفار : ابن خُنًى مجنون! من تظنه؟
هملت : لا أدرى!
الحفار : يا للطاعون لهذا الوغد المجنون! لقد صب على رأسى مرة زجاجة من نبيذ الرين. هذه الجمجمة يا سيدى كانت ليورك مضحك الملك.

منظر قاس! ولكن الشاعر أعظم وفاءً وأصدق من أن تأخذه رقة أو تنطوى نفسه فيموه الطبيعة الإنسانية. وهذه أبيات لابن الرومى يبكى فيها أوسط أولاده الصغار.

أقرةَ عينى لو فدى الحىُّ ميتًا
فديتك بالحوباء أول من يفدى
كأنىَ ما استمتعت منك بضمة
ولاشمةٍ فى ملعب لك أو مهد
أُلام لما أبدى عليك من الأسى
وإنى لأخفى منه أضعاف ما أبدى
محمدُ ما شىءٌ تُوُهِّمَ سلوة
لقلبى إلا زاد قلبى من الوجد
أرى أخويك الباقيين فإنما
يكونان للأحزان أورى من الزند
إذا لعبا فى ملعب لك لذّعا
فؤادى بمثل النارعن غيرما قصد
فما فيهما لى سلوة، بل حزازة
يهيجانها دونى وأشقى بها وحدى

والأبيات الثلاثة الأخيرة هى المقصودة. وأخلق بغير المطبوع أن يشعر بما يكبحه عن الإعراب عن هذا الجانب من عاطفة الحزن، أو يخشى أن يوصم بالقسوة والتوحش. وابن الرومى لا يجتزئ بهذا بل يقول أيضًا إن بقاء ولديه لا يعزيه عن فقد ثالثهما ولا يسد الخلة التى أحدثها، ويعلل ذلك بقوله:

وأولادنا مثل الجوارح أيها
فقدناه كان الفاجعَ البين الفقد
لكلٍّ مكان لا يسد اختلاله
مكانُ أخيه من جزوع ولا جلد
هل العين بعد السمع تكفى مكانه
أم السمع بعد العين يهدى كما تهدى

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤