الفصل الثالث

شكسبير فى اللغة العربية

تاجر البندقية (١)

ما هو الابتكار؟ سؤال نحس بالحاجة إلى الإجابة عنه لما ركب الناس فى أمره من الخطأ، ودخل عليهم فيه من الوهم، حتى صاروا يفهمون من الابتكار أن يأتى المرء بشىء جديد لا صلة قربى له بالقديم ولا لحمة نسب بينه وبين الحاضر الذى يكتنفه. فإذا قيل «فلان» شاعر أو كاتب مبتكر، توقع جمهور القراء وعامة الخواص منهم الذين لا قِبل لهم، لسبب ما، بالتقصى فى البحت والتدقيق فى النظر — أن يفجأهم الشاعر أو الكاتب بما يختلف عن كل ما قرءوه أو سمعوا به اختلاف الإنسان عن النبات! وذهبوا يطالبون هذا الشاعر أو الكاتب بأن يكون «كالعنكبوت لا ينسج خيوط بيته إلا مما تؤتيه إياه أمعاؤه».

ولكن الطبيعة مقتصدة غير مسرفة، وهى لا تكترث للفظ نحته الناس وأرادوا أن يفهموا منه معنى معينًا يخالف قوانينها وسننها ولا يتسع له ضيق الحياة الفردية وقصرُ الآجال الشخصية. فهى تأبى إلا أن تجعل أعظم الشعراء أكبرهم دينًا. وتعجبنى كلمة لأمرسون شبه فيها نبوغ الشاعر فى قومه بظهور البطل فى إبان المعركة، وعنفوان الوعكة. وليس أمامى كتابه فأسوق ما قاله بحروفه ولكن هذا مفاد التشبيه وليس أعون منه على تصور حقيقة الواقع وعلى إصلاح الخطأ الشائع.

فكما أن البطل مدين لغيره من سابقيه ومعاصريه، ولظروف الأحوال، بأدوات القتال وبمادة الحرب وبجانب من أساليبها وبإلهاب نار الحماسة وبتمركز الخواطر واستجماع شتاتها، وإنما يكون فضله فى حسن استخدامه لذلك كله، والانتفاع به على أصلح وجه وأكفله بالنجاح، وفى حذقه وأستاذيته فى توجيه الجهود وتصريفها، وفى قدرته على الاستيلاء على النفوس بما رزق مَن قوة الجذب — كذلك ليس على الشاعر أن يخلق مادته ويوجد من العدم بضاعته، وإنما يُلفى الطين مهيأ، والحجر منحوتًا، والقاعدة مرصوصة، فيشيد على هذه بذاك ويخرج لك مما وجد بناءً ليست قيمته فى انقطاع النظائر بل فى مبلغ اتساع الأفق وبعد المدى والإحاطة.

وماذا عساها كانت حال الإنسان تكون لو أنه كان على كل فرد أن يخلق مادته التى يستخدمها؟ كانت إذًا كل حياة تكون تجارب لا ينتفع بها أحد، تضيع فيها الأعمار ولا تكون فيها عائدة على الفرد ولا على الجماعة. ولكن الطبيعة لحسن الحظ تأبى هذه الفردية الضيقة وترفضها ولا تسمح بالعظمة للفرد إلا مستلخصةً من قوى الجماعة وقائمةً على جهودها.

وماذا كان شكسبير يستطيع كما يتساءل أمرسون أيضًا لو أن الطبيعة لم تُزخر له تيار الحياة ولم تخرج كيد ومالون وجرين وجونسون وشابمان وديكر وهيوود ومدلتون وبل وفورد وما سنجر وبومنت وفلتشر؟ بل ماذا كان يصنع لو لم يكن المسرح فى عهد ظهوره مستوليًا على هوى الجمهور؟ بل لو لم تكن قد تكدست قبله كل تلك الروايات التى لا يعرف أحد تاريخها ولا حفظ الزمن أسماء واضعيها أو مؤلفيها أو منقحيها، والتى ظلت زمنًا وهى ملك خالص للمسارح يأخذ منها كل شاعر ويحوّر فيها كما شاء قلمه واستوجب زمنه؟!

وكأنا بالطبيعة مع حفظها حقوق التأليف لنوابغ الأفراد الذين يكون من حسن طالعهم أن يظهروا بعد انقضاء عصور الاستيحاش والظلمة — كأنا بها لا تحب أن تغمط الجَماعة حقها أو تسلبها فضلها. ولكن تاريخ فن الشعر مع ذلك هو تاريخ لجور الفرد على حق الجماعة. ومن الذى يخطر له أن يعزو شيئًا من فضل شكسبير أو هومر أو إيسكيلاس إلى غيرهم؟ لقد كان الشعر الأول أغانى تشترك فيها الجماعة كلها.. وكان الشعر — إذا صح استقراؤنا — ينظم فى ظروف اجتماعية وينشد فى اجتماع القبيلة أو العشيرة كلها، وكإن الرقص والغناء والموسيقى شيئًا واحدًا، وكانت الألفاظ أقل شأنا إذ كانت العاطفة أسبق إلى إيجاد التعبير عنها من الفكر، ولم يكن التأليف معروفًا فى هذه الدرجة من تاريخ البشر.. ثم أخذ الفرد يظهَر لما أحس أن له عواطف وخواطر خاصة به وحده وأن له استقلالًا عقليّا، وصار على قدر ظهوره واستقلاله اختفاءُ الجماعة وغموض أثرها حتى صارت طائفة تجتمع لسماع قصيدة تُنشد أو تُغنى وهى لا تحس أثرها فيها بعد أن كانت فيما خلا من العصر هى المؤلفة لها، شأنها فى ذلك كشأنها مع رجال السياسة والحكومة.

ولا ريب فى أن الجماعة تظل زمنًا مشاركةً للشاعر فى حالته النفسية، ولكنها لا تلبث أن يستبد بالأمر الفنىُّ الماهر ويروح يوحى إليها — وإن كان ما زال يستمد منها — ويبعثها على مشاطرته هذه الحالة النفسية ويحيى فيها راقد مشاعرها كما يرسل المرء الصوت فتتجاوب بأصدائه أركان الكهف — وهذا تطور طبيعى فإن المدنية معناها «كلّ له عمل» أى الأخصاء. ومتى انتقل مركز الثقل فى حياة الجماعة، بعد أن تتألف تأليفًا سياسيّا، انتقل معه المركز الأدبى، ولكن أثر الجماعة لا يزول وإن كانت لا تدريه ولا تحسه، وقد لا يحسن أحد التفطن إلى تقدير مبلغ هذا الأثر إلا بعد جيل أو أجيال.

•••

قدمنا هذا على سبيل التوطئة للكلام على رواية «تاجر البندقية» التى نقلها إلى لغتنا الأستاذ خليل مطران الشاعر المعروف. ومن قبل ذلك ما نقل رواية عطاء الله أو عطيل كما آثر أن يسميها وهى لشكسبير كذلك كما يعرف القراء، وإنه لطماح مشكور له على كل حال، وتسام محمود عن الإسفاف إلى الروايات والقصص الفاترة السخيفة التى تخرجها مطابع الغرب والتى كلف بترجمتها بعض شبابنا المساكين.

ولكن هناك مسألة معضلة يجدر بكل ذى رأى أن يفكر فى حلها خدمة للغة العربية نفسها: ذلك أن رواية شكسبير كلها شعر وليس فيها من النثر إلا صفحات معدودة يجريها على ألسنة بعض أشخاصه من حين إلى حين لغرض مفهوم وعلة واضحة. ولكن الأستاذ أسبغ على رواية تاجر البندقية حلة من النثر كستها من فاتحتها إلى ختامها ما عدا بضعة عشر بيتا، وحل بهذه الطريقة مشكلًا نراه نحن أعوص وأشد تعقيدا من أن يحل على هذا الوجه.

ونحن ممن يقولون بأنه يجب أن تكون هناك، إلى جانب الترجمة الشعرية، ترجمه نثرية حرفية.. ونقول إلى جانب الترجمة الشعرية لأن النثر، وإن كان أدعى إلى الدقة فى النقل وأعون على الاحتفاظ بما فى الأصل، يجرد الرواية من مزية الشعر، وليست هذه بالضئيلة التى لا يقام لها وزن. ولو كان يستوى أن تسوق الكلام نثرًا أو شعرًا لما نشأت الحاجة إلى الشعر بل لكان الشعر قيدًا اختياريّا لا معنى له ولا مزية فيه، ولكن الواقع أن الشعر فن قائم بذاته لم يخترعه الإنسان، ولكن سبق إليه وتدفقت عواطفه — وهى الأصل فى كل شعر — على أوزانه، ونشأ مع الجنس الإنسانى مذ صار الإنسان حيوانًا اجتماعيّا.

فنقل الشعر من لغة إلى أخرى نثرًا لا ينفى وجوب ترجمته شعرًا. ولكن كيف يكون ذلك فى لغتنا العربية؟ هذا هو محل الإشكال. وأى البحور تختار لشعر شكسبير وغيره من الروائيين؟ إنهم يستخدمون فى لغات الغرب الشعر المرسل وهو بحر سلس التدفق لا يكاد القارئ يحس مقاطعه فضلًا عن إطلاقه من قيد القافية. وبحور الشعر العربى أصلح ما تكون للشعر الغنائى أو ما يطلقون عليه فى الغرب لفظة «ليريك» وهو لا يصلح لحوار الروايات التمثيلية لفرط غلبة الموسيقية عليه. والحوار التمثيلى أحوج ما يكون إلى بحر لين لا يظهر فيه التوقيع الموسيقى كما يظهر فى سواء. أضف إلى ذلك أن البيت من الشعر فى القصيدة العربية «وحدة» تامة فى ذاتها قائمة بنفسها من حيت التأليف اللفظى وتعلق الكلام بعضه ببعض على معانى النحو، وليس يربطه بما قبله وبعده من الأبيات — إذا ربطه شىء — إلا المعنى.. وليس كذلك البيت أو «السطر» فى الشعر الغربى، فهو هناك ليس بوحدة ولا يجب فيه أن يكون مشتملًا على جملة أو جمل تامة من حيت التأليف اللفظى، وكثيرًا ما تستوعب الجملة الواحدة عدة أبيات أو «أسطر» متلاحقة. وإمكان مثل ذلك فى الشعر العربى عسير إلى الآن. وواضح من موجز ما بينا أن ترجمة شكسبير وأمثاله شعرا تستوجب اختراع بحر جديد شبيه بالوزن «الأبيض» كما يسمونه، وتستدعى ألّا يكون البيت أو السطر وحدة كما هو إلى الآن. ولم نشر إلى القافية لأن قيدها مما يسهل صدعه والتحرر منه. فليفكر معنا من يعنيهم الأمر — وهو يعنى كل أحد.

تاجر البندقية (٢)

«أصل هذه القصة أحدوثة جرت على الألسنة فى إيطاليا محصلها أن فتاة ذات مال وافر، وجمال باهر، وعقل كالكوكب الزاهر، مات عنها أبوها فخطبها إلى نفسها ملك مراكش وأمير أراغون فى جملة النبهاء ممن خطبها. ولكنها وجدت نفسها أميل إلى شاب رقيق الحال من مسقط رأسها استدان المال الذى أنفقه فى الزلفى إليها بضمان صديق له رهن لليهودى الذى أقرضه ذلك المال رطلًا من لحم صدره. فاستخارت الفتاة الله فى مستقبلها وناطت أمرها بثلاثة صناديق: ذهبى. وفضى. ورصاصى. جعلت فى الأول منها جمجمة ميت، وفى الثانى رأس هزأة أبله، وفى الثالث رسمها. ومن اختار «الأخير» أصبحت له حليلة. وقد جاء فى هذه الحكاية ما يجىء عادة فى أمثالها: أن حبيب الفتاة هو الذى ألهم الصواب ففرحت به واحتالت لإنقاذ صديقه من تبعة ضمانه لليهودى بأن تزيت بزى عالم قانونى وقضت على المرابى».

صدق الأستاذ المترجم فإن مصدر القصة إيطاليا. ولكنها لم تكن قصة واحدة، كما جعلها شكسبير، بل عدة قصص جمع هو شتاتها وألف بينها من خمسة مصادر على ما يظن الشراح، أولها «جستا رومانورام» وهى مجموعة حكايات باللاتينية، وفيها قصة الضمان ورطل اللحم والنصول من شرط الضمان بنفس الحيلة. وثانيها «آل بيكورونى» وهى كالأولى طائفة من القصص وردت فيها، فضلا عن حكاية الضمان، حادثة تبادل الخواتم. وثالثها «الخطيب» لسلفين وفيه فصل عن يهودى يريد فى مقابلة دينه رطلًا من لحم رجل مسيحى. ورابعها «قصة جرنوتوس يهودى البندقية» وفيها زيادة على ما سبق أن اليهودى «يشحذ سكينه» استعدادًا لقطع رطل اللحم. وخامسها «يهودى مالطة» لمارلو، وفيها نظير لعلاقة لورنزو المسيحى وجسكا اليهودية، وذلك أن براباس اليهودى، فى رواية مارلو، له ابنة تحب مسيحيّا وتتنصر لأجله. ومن المعروف أن مارلو كان له تأثير كبير فى صدر حياة شكسبير.

هذا إلى مصادر أخرى عديدة لا يعقل أن يكون شكسبير قد اطلع عليها. ومهما يكن من الأمر فإن الثابت الذى لا مجاز إلى الشك فيه هوأن شكسبير لم يخلق حكايته. ولكن ما قيمة هذا؟ وكيف يغض من قدر الشاعر ويطأ من منزلته التى تبوأها وحده؟

إن القصص والحكايات التى تصلح للروايات التمثيلية لا يأخذها حصر ولا ينالها حساب. وهى كالحجارة ملقاة فى طريقنا جميعًا، ولكن ليس كل أحد يستطيع أن يخرج من إحداها رواية كتاجر البندقية. فإن كان أحد يشك فى ذلك فما عليه إلا أن يجرب! هذا أصل القصة موجود فى أكثر من كتاب واحد، وتلك رواية شكسبير قريبة المنال ممن شاء، فليأخذ هذه وتلك وليضع هو رواية مثلها ليقيس عجزه إلى قدرة شكسبير وعبقريته!

وليس فضل شكسبير ومزيته فى أنه ما من خصلة من خصال الخير أو الشر إلا أحسن تصويرها، أو كما يقول الأستاذ المترجم: «تجد الطمع فتقول لا يصور بأدق من هذا. تجد الجبن فتقول لو تمثل رجلًا لكان هذا. تلمح الحقد فتقول كأننى بفلان وفلان وفلان وقد كشف كلٌّ عن جزء من الحقد الذى فى قلبه، فاجتمع من الثلاثة الأجزاء هذا النوعُ التام من الحقد، بل النوع الأتم. وهكذا الحكم فى كل ما تصدى شكسبير لإظهاره بمظهره البشرى».

نقول ليس الأمر كذلك لأن النفس الإنسانية ليست خزانة مرصوفة فيها الفضائل والرذائل — أو الصفات — كما ترصف الكتب بحيت تستطيع أن تنتزع إحداها من بين أخواتها ثم تصورها كأنها شيء قائم بذاته لا صلة بينه وبين أخواته. وإنما النفس ميدان لتنازع الغرائز والعواطف. والمزية كل المزية فى رسم الخلق الحادث من تفاعل هذه الغرائز والعواطف والصفات ومؤثرات البيئة والنشأة. خذ مثلًا لذلك شيلوخ فى هذه الرواية التى هى موضوع كلامنا والتى عليها مدار البحث.

يهودى فى القرون الوسطى — ومن ذا الذى لا يعرف ما كان اليهودى يعانيه فى تلك العصور المظلمة؟ — مهدد فى كل ساعة من عمره، ككل أبناء جلدته، بأن يحرق حيا وأن يُسطى عليه وتُنهب ماله وُتنفى ويشرد عن بلده وعياله.. وهبه نجا، لحسن طالعه من ذلك، فهو ليس بمنجاة من الامتهان والسب والضرب واللعن. ولم يكن اليهود إذ ذاك أقل تعصبًا ومقتًا لأديان غيرهم، ولا أكثر تسامحًا من حيث العقيدة والجنس، ولكنهم كانوا الضعفاء الذين لا حول لهم ولا سلطان. يضطرهم الحرمانُ من الأعمال الاجتماعية المباحة لغيرهم أن يقصروا همهم على استرباء المال.. ولا بدع إذا تعلم شيلوخ، من طول الاضطهاد واليأس من الإنصاف، أن يتظاهر بالخنوع وأن يداجى وأن يكتم ما ينطوى عليه من مقت وتحفز وألّا يُجرى لسانه إلا بالمعسول من الألفاظ. وإذا تفلتت منه كلمةٌ واشية بمرارة نفسه وبما ضُمت عليه أضالعه من النزوع إلى التمرد على هذا الظلم، عاد فمسح من خصمه فى الذروة والغارب. انظر هذا الحوار الذى استدعاه طلب الاقتراض منه، والذى كأنما أراد به شكسبير أن يليح للقارئ بنية اليهودى وإسراره الانتقام.

شيلوخ : «يا سنيور أنطونيو! كثيرا ما قرعتنى فى الريالتو (المصفق) على أعمالى المالية ومراباتى، ولقد احتملت ذلك أبدًا صابرًا وكنت أقابله برفع الكتفين؟ إذ كان الصبر شعارًا لأمتنا. وطالما نعتنى بالكفر والكلب العقور، وبصقت على عباءتى التى تنطق بيهوديتى، وكل ذلك لأننى أستربى مالى الذى هو ملكى. فالآن يظهر أن بك حاجة إلى معونتى: تأتى إلى وتقول: «شيلوخ! نريد مبلغًا من المال!». أنت تقول ذلك. أنت يا من أفرغ فى لحيتى لعابه، وضربنى برجله كما تطرد الكلب الغريب عن عتبة بيتك:المال طلبتك. فماذا ينبغى أن أقول لك؟ ألا ينبغى أن أقول: «أعند الكلب.مال؟! أيمكن أن يُقرض الكلب ثلاثة اَلاف دوقى؟»،أم يكون على أن أنحنى وأقول بلهجة العبد وصوته الخافت وذلته الهامسة «يا سيدى الجميل! لقد بصقت فى وجهى يوم الأربعاء المنصرم، وطردتنى ضربا برجلك يوم كذا ودعوتنى الكلب يومًا اَخر، فوفاء بحق هذه المكارم سأقرضك هذا القدر من المال!!»
أنطونيو : «من المحتمل أن أسميك كذلك مرة أخرى، وأن أبصق فى وجهك ثانيًا، وأن أطردك برجلى أيضَا. فإذا كنت مقرضًا هذا المال فلا تقرضه كأنك تجامل به صديقًا. ومتى كانت الصداقة تستولد المعدن العاقر؟! ولكن أقرضه عدوك حتى إذا قصَّر فى الوفاء كنت فى حل من إلزامه العقوبة.
شيلوخ : «انظر كيف تعصف! أرتد أن أكون صديقا لك وأن أنال حبك، وأن أنسى المعائب التى لطختنى بها، وأن أقضى لك حاجتك الراهنة، وألا أتقاضاك دانقًا من الربا على مالى، ومع ذلك تأبى أن تستمع إلى!!».

وهو لهذا أيضًا سئ الظن، يخشى كل شىء، ويتوهم الغدر من كل ناحية يطمئن إليها غيرُه، ولا يثق حتى ببنته، لأن سوء المعاملة أفسد عليه نفسه، ولذلك تراه يخشى أن يكون بينها وبين خادمه لونسلوت اتفاقٌ أو مؤامرة، ولا يكتم قلقه لدعوة مسيحى له أن يتعشى معه.

«ولكن لماذا أذهب؟ … إنهم لا يدعوننى عن حب!». ويطلب إلى ابنته — إذ يذهب — أن تحكم إيصاد الأبواب والنوافذ التى يسميها «آذان بيته» ويحذرها أن تطل بوجهها من الكوة إذا هى سمعت طبلًا أو زمرًا إذ يطوف «أولئك النصارى البلهاء».. ويزعم أنه قد لا يلبث أن يعود كأنّ من عادته أن يراقبها مستريبًا. فيا لها من حياة ليس فيها ذرة من الطمأنينة!

وإنه للمرءُ الذى حب المال عنده سواء والسجود، حتى لقد حإل قانون الأخلاق عنده قانونًا ماليا! فأنطونيو «رجل طيب» أى قادر على الوفاء إذا اقترض! ولئن كان يكره أنطونيو لنصرانيته فهو أشد كرهًا له «لأنه أبله يقرض المال بلا ربح ويسقط قيمة الربا هنا بيننا فى البندقية». ولقد سوى بين المال وابنته لما فرت به وجعل يصيح: «بنيتى! دوقياتى! وابنيتاه! فرت مع نصرانى! وا دنانيرى المتنصرة!». ولكن حب المالى عفَّى حتى على غريزة حب الاَباء للأبناء، فصرخ وبه من خسارة المال مثلُ الجنون: «ليت بنتى ميتة عند قدمى وفى أذنيها الماستان!».

وقد برح به ما لاقاه من صنوف الأذى والتحقير فنزعت نفسه إلى الانتقام، واحتج له احتجاجًا قويّا فصيحًا مقنعًا يُشعر القارئ بأنّ فى مرارة مقته لأنطونيو إحساسًا قويّا عميقًا بالعدل ممتزجًا بهذه المرارة. وهل تكاد تنفصل الرغبةُ فى الانتقام عن الشعور المتغلغل بوقع الظلم؟ إن المرء ليحس عطفًا على هذه الروح المتمردة تحت هذه العباءة «اليهودية» — روح استفزها إلى الجنون الألمُ من تكرر الاستثارة بلا مسوغ، ودفعها إلى معالجة اطراح ثقل الظلم بالالتجاء إلى الانتقام عن طريق القانون. وكأن شكسبير أراد إثارة هذا العطف حين أجرى على لسانه هذه العبارة البديعة ردّا على بسانيو النصرانى إذ سأله ماذا تفيده بضعة من لحم أنطونيو.

شيلوخ : «أتخذُ منها طعمًا للسمك! وحسبى بها قوتًا لغليل انتقامى إذا لم تصلح قوتً! لشىء اَخر! لقد جلب علىّ التحقير، وحال دون اكتسابى نصف مليون، وسخر من خسائرى وهزأ بمكاسبى، وامتهن قومى، واعترض أعمالى، وفتَّر أصدقائى وألهب علىّ أعدائى. وما دافعه؟ أنى يهودى؟! أليس لليهودى عينان؟ أليس لليهودى يدان وأعضاء وجسم وحواس ومودات وعواطف؟ أليس طعامه كطعام النصرانى؟ ألا يجرحه نفس السلاح؟ وتصيبه عين الأدواء؟ ويشفيه نفس الدواء؟ ويكر عليه الحر والبرد فى الصيف والشتاء، كالنصرانى سواء بسواء؟ وإذا شككتنا ألا ندمى؟ وإذا جمشتنا ألا نضحك؟ وإذا سممتنا ألا نموت؟ وإذا اذيتنا ألا نثأر؟ وإذا كنا مثلكم فى الباقى فنحن مشبهوكم فى هذا! ما جزاء اليهودى إذا اذى نصرانيّا؟ الانتقام! وإذا أساء نصرانى إلى يهودى فماذا ينبغى أن يكون جزاؤه على ما سن النصارى؟ إنه الانتقام! وإنى لعامل بالنذالة التى تعلموننى، وسيفدح الأمر إن أنا لم أحذق الدرس الذى تلقيته عليكم».١

وجدير بمثل هذه الحدة فى طلب الانتقام أن تنبه راقد المواهب وتبعث كامن الذكاء، ولذلك ترى شيلوخ متحفز الذهن ساهد القلب يعصف بكلام خصومه بحججه الدامغة المحتذاة على مثال مبادئهم وأساليبهم. انظر كيف يفحم الدوج.

الدوج : «أى رحمة يجوز لك أن ترجوها وأنت لا ترحم؟!
شيلوخ : «أى عقاب أخشى وأنا لم أصنع شرّا؟! إن بينكم من لهم أرقاء كثيرون يستخدمونهم كحميرهم وكلابهم وبغالهم فى أعمال حقيرة مذلة لأنهم مما ملكت أيمانهم بالشراء. فهل أقول لهم: «أعتقوهم وزوجوهم ورثتكم؟ لماذا يتصببون عرقًا تحت ما يوقرون به من الأثقال؟ لتكن أفرشتهم وثيرة كأفرشتكم. ولتنعم حلوقهم بكذا وبكذا من الأطعمة؟» لو قلت لكم هذا لأجبتم: «إن الأرقاء ملكنا»، وكذلك أجيبكم! إن رطل اللحم الذى أطلبه (من أنطونيو) قد ابتعته بثمن غال. وهو لى ولا بد لى منه! فإن أبيتم علىّ ذلك فواخجلتا لقوانينكم! وما أضيع أوامر البندقية. وأعجزها! إنى أطلب الحكم! تكلموا! هل اَخذه؟»

وهو ككل الضعفاء المضطهدين، إذا تمكن طغى ولم يرحم. ومن هنا كان رفضه مرة بعد أخرى أن ينزل عن رطل اللحم وأن يأخذ دينه مضاعفًا أو مثله أضعافًا كثيرة. ولكن شيلوخ ليس بوحش! وإنه لإنسان تعجبك منه نعرة قومية صادقة. لا يذكر قومه إلا واصفًا إياهم بأنهم «أمتنا المقدسة» وليس بغضه للنصارى شخصيّا بل إن العامل فيه جنسى. ومظالم الفرد عنده متسربة فى مظالم الجنس كله. ومع استهوالك أن يذهب شيلوخ إلى المحكمة مستعدّا بسكينه وميزانه، واستبشاعك شحذه السكين على نعله كأنما تجرد من كل إحساس بشرى — مع كل هذا، وعلى الرغم منه، تحس إذ تنهار قضيته ويخرج من المحكمة مصادرة كل أمواله كأن الرجل مظلوم!

هذا هو شيلوخ كما صوره شكسبير. وإلى جانب هذه الصورة التامة الرائعة البارزة ماذا عسى أن تكون قيمة المصادر التى أخذ منها هيكل الحكاية العريان؟

١  القطع المنقولة من الرواية من ترجمتنا نحن عن الأصل الإنجليزى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤