الفصل السادس

الأدب ينهض فى عصور المشادة لا عصور اللين والامن

كتاب الفصول

مجموعة مقالات فى الأدب والاجتماع، وطائفة من الخطرات والشذور فى موضوعات شتى، ينظمها فى سلك واحد تيارُ الفكر الذى أنضجها وما بينها من التناسب والاشتراك فى المنحى: فمن نظرات فى فلسفة المعرى إلى نقد لسير الرجال وتقدير لحياتهم وأعمالهم، ومن مقال فى الألعاب الرياضية إلى ساعات مقضية بين الكتب واَراء فى الشعراء وخارجياتهم، ومن تحليل للإحساس بجمال الطبيعة وتبيين لمواضع الملاحة فى الإنسان، إلى وصف لمغنى المجالس، ومن «جولة فى الماء محدودة وجولة فى السماء غير محدودة» إلى اراء فى الأساطير ونقد للكتب وتعليل لما يلقاه مثل شارل شابلن من الحفاوة فى حيثما حل.

ولو شئنا، وكان ذلك يلائم مزاجنا ويليق بمهمة النهضة بالأدب وتحريره، لباهينا بالمذهب الجديد فيه وبفوزه على صنوف الاستبداد التى همت به وعالجت خنقه، فقد خرج من كل ما خاض من المعارك.

إلى هذه الساعة، صادقَ الرجولة تام الاتزان، مبرأً من عيبين على وجه الخصوص: مجال الماضى البائد، وطيش الانتقال وما تغرى به أدوار الانقلابات الأدبية من التعلق بالتطرف ومجاوزة المدى المعقول والحد الطبيعى. وناهيك به من فوز على الاستبداد السياسى الذى تعانيه الأمة، وتجرع مرارته، وتضج من أذاه منذ سنين على فرض تشددها، وعنتِ التحيز الذى يأبى إلا أن يقضى — لو استطاع — على ما لا يجب أو يخاف أن يظهر، واستبداد التعصب حيال الجديد، واستبداد الشهرة الذى يمكّن صاحبها من تخطى الرقاب والاستغناء عن الإخلاص والصدق، واستبداد الأغلبية العمياء التى يفتنها العابثون والمحتالون بالكلام الخلاب والعبارات الجوفاء، ثم استبداد الجهل الذى يجعل كل ضرب من ضروب الاستبداد الأخرى ميسورًا مستطاعًا.

فاز المذهب الجديد على هذه وغيرها من صنوف العنت وضروب الاستبداد. ولكنّ العراك العنيف الذى دارت أرجاؤه لم يستثر — كما يحدث كثيرًا — العواطفَ الدنيا ولا شيئًا من الشهوات المرذولة أو الطغيان الذى يحيل النصر فى اخر الأمر شرّا من الهزيمة، لأن دعاة هذا المذهب يفهمون الحرية على حقيقتها ويبغون الحقيقة وحدها، ولا ينشدون سوى تنبيه خير ما فى الطبيعة الإنسانية، ولا يطلبون أن يرفعوا نير الجهل ويفكوا القيود العارقة ويتحرروا ليستبدوا بغيرهم ويضعوا اللجم كأسلافهم فى الأفواه، والأصفاد حول الأعضاد، والعقبات فى سبيل النفوس الناشئة السائرة على الدرب. وما خير أن يحتذى المرء مثال رجال الثورة الكبرى فى فرنسا حين نفضوا عنهم استبداد البورين ثم لم يلبثوا، لما عاد المجد القومى على يد بونابرت، أن أقاموا مقامه الاستبداد العسكرى!

ومن المظاهر الغريبة لهذا العراك والصراع أن دعاة المذهب الجديد كانوا — وما يزالون — مستعدين لمنازلة من شاء ومقارعته بالحجة الدامغة والبرهان القاطع، ولكن المذهب القديم لا يعول على حجة ولا يستند إلى عقل، فكان وما يزال حسبه من المقاومة الاعتماد على الجهل الفاشى وعلى غفلة النفوس وعلى اعتياد الجماهير الطريقة القديمة وعلى الصعوبة الطبيعية التى تواجه كل من يعالج تحويل التيار وصرف النفوس عما ألفت والقلوب عما اعتنقت، بالغًا ما بلغ ذلك من الخطل والضلال. ولا شك فى أن الأدب على الخصوص خطا خطوات واسعة فى هذا الجيل وأن نهضته هذه لم تكن فى ظل الحرية! أفليس من العجيب أن ينشأ فى مصر أدب صحيح وأن تصبح هذه البلاد مهد الأدب والتهذيب فى الشرف على الرغم مما ترسف فيه من الأغلال؟ ولكن هذه الظاهرة ليس فيها شىء من الغرابة، ولا هى فذة نادرة فى تاريخ الأدب فى الأمم الأخرى. والواقع الذى يهدى إليه الاستقراء هو أن من المشكوك فيه جدّا أن تستطيع أمة اَمنة طامحة إلى الرخاء القومى والرفاهية المادية أن تأتى جليلًا فى عالم الأدب والفنون. ولقد كانت أزهى وأمجد عصور الأدب فى إنجلترا ورومية هى العصور التى كانت فيها هاتان الدولتان تذودان عن كيانهما وتناهضان ما يتهددهما بالقضاء عليهما وينذرهما بالإلواء بهما.

ألم يكن عصر اليصابات مقاومة مستمرة لعدوان إسبانيا فى الخارج ولشتى الخصوم فى الداخل؟ ألم يُخرج فيرجيل وهوراس وليفى وغيرهم من كتاب «العصر الذهبى» فى رومية براعاتهم فى إبان الحرب الأهلية الكبرى التى جعلت أغسطس إمبر اطورًا أو بعده! مباشرة؟ وتأمل بعد هذين، ألمانيا أيام تفككها وانحلالها، وحين كانت تر هقها عشرات الحكومات الصغيرة المستبدة وا لأوليجاركيات والإمارات والأسقفيات ومدن الإمبراطورية «الحرة»؟ لم يكن فى ألمانيا لذلك العهد من حر سوى الفكر. ولقد كان فردريك الكبير يفخر بالاتفاق بينه وبين رعاياه على أن يفعل ما يشاء وأن يدعهم أحرارًا فيما يرتئون ويقولون. أما فرنسا فكانت منغمسة فى التوسع غارقة فى لجج النظريات السياسية، أسيرة لشهوة الفتح.. وأما إنجلترا فكانت تُثرى وتفعم جيوبها وتنقاد إلى شهوة الرخاء المادى على حين كانت ألمانيا المنقسمة المتدابرة المتطاحنة التى تقيمها وتقعدها الدسائس والأحقاد الوراثية — خالصة لها دولةُ العقل أو «ملك السماء» كما شاء بومةُ ألمانيا، جان بول رختر، أن يقول — وشبيه بهذا ما حدث فى إيطاليا قبل نيف وثلاثمائة عام حين أخرجت للعالم أساتذة النهضة الأدبية والفنية فيما يسمونه عصر الرينسانس. ومثل هذا أيضًا وقع فى بلاد الإغريق قبل ألفى عام أو أكثر. وهذه الروسيا خير أدبائها وأفحلهم من نبغوا فى ظل الاستبداد القيصرى مثل تولستوى وديستويفسكى وتورجينيف وجوركى وهاتزيباشيف ولينين أيضًا!

وتعليل ذلك سهل. فإن عصور الأمن عصور طراوة ودعة لا تحفز النفوس ولا تستثير قواها الكامنة. وعلى النقيض من ذلك عصور المشادة والجهاد التى تحرك أعماق النفوس وتزخر كل تياراتها، وتبتعث رواقدها، لما تتطلبه طبيعة العراك من استمداد كل قوة. نعم إن عهد الاستبداد يغرى النفوس بالتماس الفرار من الإحساس بوقع الظلم ومرارة العسف، فيكثر الإقبال على أسباب التلف، والإفراط فى معاقرة المتع الضئيلة واللذاذات الحقيرة. ولكنه لا يكلف بذلك إلا النفوسُ الجدباء التى لا خير فيها فى أى عصر، أما ما عداها فسلواها تأمل نفسها وما حولها، ودرس هاتيك جميعًا، وقياس بعضها إلى بعض، ومعالجة جعل ظروف الحياة وفق مطالبها وآمالها. وقد لا يبيح لها الاستبدادُ إلا توخى ما يحسبه أسلمَ الأعمال وآمنها مغبة، كوضع الروايات وهو ما جرى فى الروسيا. ويظن المستبدون أن لا ضير فى هذه ولا بأس منها! كأن تصوير ظروف الحياة ووقعها للقارئ الغافل أو العاجز عن تأليف هذه الصورة لنفسه وجمع شتاتها وتقدير أثرها — لا أثر له فى تكوين إرادة الجماعة وحفزها إلى نشدان ما ينقصها ودفع ما يرهقها. ولقد حدث أن بعض القياصرة كان يستمع إلى روايات ديستويفسكى — أو غيره — ويضحك ويعجب لمهارة الكاتب وصدق تصويره ودقة تحليله. ولم يكن يدرى أن هذه الروايات بعينها هى التى ستثل عرش أسرة رومانوف بما نفثت فى النفوس ونبهت! كما كان لويس الرابع عشر يشهد روايات موليير وتغرب فى الضحك وإن كانت على هذا من أول بواعث الانقلاب الاجتماعى!

إذن فلا عجب أن ينهض الأدب فى مصر، وأن تكون نهضته قوية جارفة تعفى على القديم وتفتح أبواب الفكر، التى أغلقها التقليد، والمتنفسات التى سدتها السخافة والجهل. وإن المرء لتعروه هزة جذل حين يرى كتابًا جامعًا كهذا الذى أخرجه أخونا الأستاذ العقاد وكتب به للمذهب الحديث نصرًا جديدًا، وفوزًا آخر مبينًا. ومن ذا الذى لا يفرج لتحرر العقل وخفق أجنحته فى الفضاء الطليق؟

ولقد كانوا يعيبون على المذهب الجديد أنه يهدم ولا يبنى، كأنما يمكن أن يبنى المرء قبل أن يزيل الأنقاض ويصلح الأرض ويهيئها للبناء. فاليوم ما عساهم أن يقولوا؟ هذا كتاب كله بناء وتشييد، فهل يفرح الجاحدون كفرحنا به؟ لا نظنهم يستطيعون ذلك! وما كنا لنطالبهم بما يفوت ذرعهم ويخرج عن طوقهم. إذن فليغصّوا به إذا شاءوا!!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤