الفصل السابع

ماكس نورداو

(١) رأيه فى مستقبل الأدب والفنون

أصبحت يومًا على ذكر ماكس نورداو.. وأكثر ما أذكره إذا جنحت نفسى إلى الرضا واستشعرت التفاؤل، أو إذا برمت بهذر الأدعياء وسفسطائيتهم، أو أكثرتُ من قراءة القصص.. فهو عندى دواء أجرع منه على قدر الحاجة، وأكافح به وبأمثاله عدوى أساليب التفكير الشائعة، وأدفع فتور النفس. وليس ذلك لأنه من المتطيرين، فإنه على نقيض ذلك يذهب إلى التفاؤل ويلج به الأمل على الرغم مما يشهر به وينعاه من الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والدينية، ومما يعرضه على قرائه من مظاهر الانحطاط والهستيريا فى الفنون والشعر والفلسفة. وهو ناقد ينشد الإصلاح بقوة البيان، ومرارة اللسان، ودقة التحليل، ووضوح التدليل، لا متسخط ممن يكلفون بذم كل ظواهر الوجود المعروفة ولا يرون الحياة إلا حالة سخيفة لا غاية لها ولا معنى فيها. غير أن تفاؤله هذا لا يعدى القراء ولا يكاد يتردد له فى جوانب النفس إلا صدى يذهب بأسرع مما جاء، ولكن للكلام فى هذا أوانًا لا نستعجله.

ذكرته فامتدت يدى إلى كتابه الذى طبق فيه نظرية موريل ولمبروزو فى الانحطاط، على المؤلفين ورجال الفنون ليصحح ما يأخذه الجمهور عن الكتاب والفنيين والشعراء من المثل العليا للجمال والآداب، وفتح الكتاب من اخره فأخذت عينى قوله متكهنًا بالمستقبل البعيد للشعر والفنون:

«فى وسعى أن أثبت — أو على الأقل أن أظهر — أن الفنون والشعر لن تشغل إلا مكانًا ضئيلًا جدّا فى الحياة العقلية للقرون البعيدة. ذلك أن علم النفس يقول لنا إن التطور طريقه من الغريزة إلى المعرفة، ومن العاطفة إلى الموازنة والحكم، ومن التفكك إلى الانتظام فى اتصال الخواطر. فيحل الالتفات محل العفو فى نشوء الفكرة، وتأخذ الإرادة — يهديها العقل — مكان الهوى. وحينئذ يزداد تغلب الملاحظة على الخيال والرموز الفنية، أى أن التفسيرات المغلوطة للوجود يعفى عليها فهم قوانين الطبيعة. هذا، وخليق بسير المدنية إلى الآن أن يعيننا على تقدير المصير الذى لعله مذخور للفنون والشعر فى المستقبل البعيد جدّا. ذلك أن ما كان من أهم مشاغل الرجال الراشدين وأنضج أعضاء المجتمع وخيرهم وأحكمهم يصبح شيئًا فشيئًا ملهاة ثانوية حتى يعود اَخر الأمر سلوى الأطفال، فقد كان الرقص فى الزمن الغابر على أعظم جانب من الأهمية … وليس هو اليوم إلا ملهى النساء والشبان وسيقتصر آخر الأمر على الأطفال. وكانت القصص الخرافية أسمى ما يخرجه العقل الإنسانى وكانوا يضمنونها أخفى حكمة القبيلة وأغلى تقاليدها، وهى اليوم ضرب من الأدب لا يتخذ إلا للأطفال. وكان الشعر فى الأصل النوع الوحيد من الأدب فاقتصر اليوم على تصوير العواطف وغلب النثر فى كل ما عدا ذلك. ونحن فى عصرنا هذا نرى الراية تزداد انحطاطًا ولا يكاد أهل الجلد والتثقيف يرونها خليقة بالعناية، ووقعها يزداد اقتصارًا على النساء والشبان. ولنا أن نستخلص من هذه الأمثلة أن الفنون والشعر بعد بضعة قرون ستصير آثارًا بحتة لا يتخذها غير من تغلب عليهم العاطفة أى النساء والشبان، بل الأطفال فيما يحتمل».

قرأت هذا، ثم طويت الكتاب ومضيت إلى عملى وجعلت أفكر فى الطريق فى هذا الذى يستشفه نورداو من أستار غيب الله المسدلة دون المستقبل البعيد فخيل إلىّ أن ما نقلته من كلامه يمثل موطن الضعف فيه وفى أمثاله من العلماء لحاجة فى الاستقراء المنطقى ومبالغة فى التعويل على ما عرف إلى الآن من الحقائق العلمية وما ظهر من قوانين الطبيعة.

وظاهر أن الخطأ فى هذا التقدير مرجعه إلى أمور كثيرة: منها افتراضه أن الأدب لم يلحقه هذا التطور الذى وصفه وقال إن علم النفس يقرره. ومنها إغفال العامل الإنسانى فى حسابه وإسقاطه طبيعة الحياة البشرية من تقديره.. وإنه لمن دواعى العجب أن يغفى هذا العقل الكبير هذه الإغفاءة فيحسب أن الحقائق لا تتعدى معامل الطبيعة والكيمياء وأن كل ما تخطى هذه الحدود انتقل إلى عالم الوهم واللهو الزائل. ومنها اعتباره الأدب والفنون سلوى وملهاة، وما هى فى شىء من هذا ولا هى تتخذ لهوًا إلا فى عصور الاضمحلال التى تعترى الأمم، وإنما هى فى الصميم من الجد بأدق معانى الكلمة. وإنى لأعجز عن تصور الأدب والفنون كيف تكون لهوًا زائلًا وسلوى يقطع بها الوقت ويقتل الفراغ. إذن فأنت تلهو إذا عشقت وإذا كرهت، أو غضبت أو خفت، أو راعك منظر فاتن، أو أقضك خاطر مخامر أو هم باطن.. وهذا الذى تراه من ظواهر الطبيعة وتنوع لبوسها فى الصباح والمساء وتحت نور الشمس وفى ضوء القمر وعند ركود الجو وهبوب الرياج وما تحسه من وقع الحوادت والشخصيات — كل هذا وهم وخدعة وأكذوبة، وهذه الحياة بخيرها وشرها وسعودها ونحوسها باطل ومحال ولا حق إلا المعدة يرحمنا الله، ولا جد إلا مكرسكوب العلماء!

على أن الناس عاشوا وما يزالون يعيشون بالطبع أكثر مما يعيشون بالعقل وحقائق العلم، والحياة قائمة على طبيعة النفس والغرائز. وسبيل المدنية أن نجعل قياد الغرائز البشرية والعواطف الإنسانية فى يدها وأن تتخذ منها قوى دافعة تستخدمها لإنتاج ما ليس فى الغالب من الغايات الأولى لهذه العواطف التى لولاها لآض الإنسان كتلة من اللحم والعظم لا خير فيها ولا غناء عندها كما بين ذلك نورداو نفسه فى كتاب اخر. ولا بد من تحرك هذه العواطف تحركا جديّا فى بادئ الأمر لينتفع المجموع من الفرد. وأنت قد تعلم أن العادات والأنظمة الاجتماعية ليست إلا أقنية ومسارب تتدفق فيها العواطف لتنظم وينتفع بها ويتأتى تسخيرها. أليست عاطفة الحب هى الأصل فى بقاء النوع عامة وفى نظام الزواح خاصة؟ وعاطفة الرحمة أليست هى مبعث هذا النظام الاجتماعى على ما فيه من مظاهر الأثرة والظلم وقلة ما يبدو لمتأمله من التعاطف الذى هو أصله؟ ثم أليست الأنانية هى أصل الوطنية؟

والطبيعة البشرية ثابتة لا يلحقها نقصان ولا يطرأ عليها زيادة، وهى مثل الكاليدسكوب تدير الكف قطع زجاجها الملون التى تمثل عواطفنا وامالنا ومخاوفنا ومباهجنا ومطامحنا ونزعاتنا إلى الخير والشر وغير ذلك وتزاوج بينها وتشكلها أشكالًا مختلفة ولكن العناصر المكونة لها تبقى على حالها وتبقى القطع الزجاجية لا يطرأ عليها نقص ولا زيادة.

والقوانين الطبيعية التى يقولون إن المستقبل سيكون قائمًا عليها مبنيّا على فهمها كانت أبدًا موجودة فعالة منذ كانت الدنيا. ومن ذا الذى يظن أن هذه القوانين كانت غير موجودة أو معطلة قبل أن يهتدى إليها الباحثون والمفكرون؟ أكانت العوالم والأشياء متنافرة متدافعة قبل أن يوفق نيوتن إلى نظرية التجاذب وقانونه؟ أكانت العين لا تلتذ ما تأخذ من الألوان والأذن لا ترتاح إلى ما يرد عليها من الأنغام، فلم تستشعر العين لذة الألوان ولا الأذن حلاوة الألحان إلا بعد أن وقفنا على ما نشره «هلمهولتز» و«بروكه» من نتائج بحثهما، وإلا بعد أن قررا أن الإحساس بالألوان والأنغام رهن بالنسب الحسابية والهندسية البسيطة أو المركبة بين حركات الأثير أو المادة؟

وغير منكور ولا مردود أن العقل سبيله أن ينفى عن الشىء كل ما هو أجنبى منه، وأن أبحاث العلماء قد صيرت أفق المدارك أوسع، ومرامى الفكر أبعد. ولا شك فى أن أهل النظر والاجتهاد المخلصين قد أحصوا وسجلوا واجتلبوا المنافع واستدروا المرافق، غير أننا مع هذا — على قول شيللى — لا نعجز أن نتصور حال العالم لو أنهم لم يكونوا ولم يخلقوا، أو لم يبحثوا ولم يحققوا — لا يعيينا أن نتخيل العالم خلوًا من خطوط الحديد والمصانع على تعدد شكولها، ومن المعارف العلمية والاقتصادية والسياسة، ومن اراء الفلاسفة وعشاق الإنسانية. أليس كل ما كان يحدثه فقدان ذلك أن العالم كان يمضى فى هذره القديم وخلطه الأول وعنجهيته السابقة قرنا أو عدة قرون أخرى؟ وإن عددًا من الرجال والنساء والأطفال كان يرمى بالكفر والإلحاد والمروق ويحرق؟ ولكنه من وراء الطاقة أن يتصور المرء حال الدنيا لو أن الشعراء لم يكونوا، والفنيين لم يخلقوا، ولم ينقل إلينا شعر العبرانيين، ولم يستأنف الناس دراسة الأدب الإغريقى، ولم يتغلغل فيهم شعر الأديان القديمة البائدة مع عقائدها. وبالجملة خلو العالم من كل أسباب الحياة. أكان عقل الإنسان يبعثه من رقاده شىء لولا هذه؟ أكان يتاح له أن يحيط بما أحاط أو أن يخوض حيث خاض؟

ومعلوم أن الآداب والفنون إنما أتت النفس أولًا من طريق الطباع والحواس ثم من جهة النظر والروية، فهى أمس بقوانين الطبيعة رحمًا وأقوى لديها ذممًا، وأقدم لها صحبة، واكد عندها حرمة. وليس هذا الرقى إلا تطورًا فى الحق. والفرق بين حياة الإنسان فى عهده الحديث وبينها فى ما سلف ليس فى الكيف ولكن فى الكم، وفى المقادير وليس فى الصفات الغريزية. هذه هى القضية المبرمة الثابتة. فإن قلت: فماذا عساك تقول فى مخترعات العصر الحاضر وفى امتلاك الإنسان رق الطبيعة بها؟ قلنا لك ليس من قصدنا أن نتنقصها، وما ننكر ما لها من شرف المحل وجلال الخطر وعظم الأثر، وإنما نروم أن نبين لك أنها لا تدل على ميزة اختص بها هذا العصر وانفرد، واستأثر بها زمننا واستبد، ذلك لأن الاختراع والاكتشاف إنما يؤدى إليهما النظر وحب الاستطلاع المركوزان فى الطبائع المركبان فى الجبلات، وهما خاصتان فى الإنسان لم تزايلاه فى كل ما مر به من الأطوار وكر عليه من الأدوار.. ولئن اخترع اليوم الطيارة وكشف عن الكهرباء، لقد اخترع قديما المساكن والثياب وفطن إلى النار. فالخاصة الإنسانية والقدرة الطبيعية اللتان أفضتا إلى الاختراع والاكتشاف ثابتتان لم يعدمهما الإنسان فى زمن من الأزمان، وإنما الذى يقع عليه الاختلاف وتتباين فيه العصور، الأعداد والكميات وما كانت هذه لتكسب الإنسان الحديث مزية تحيله عن أصله وتخرجه عن فطرته.

وقد نسى نورداو — فيما قاله عن القصص الخرافية — أن الزمن إذا كان قد عفى عليها فلقد نشأت مكانها الروايات السيكولوجية وشاعت على نحو لا نظير له فى ما مضى، ولم ينج من تأثيرها ولا قاومه حتى العلماء أمثال نورداو نفسه الذى وضع عدة روايات وإن كان يقول إن أهل الجد والثقافة لا يرونها حقيقة بالعناية!

•••

دارت بنفسى هذه الخواطر. وما هى إلا ساعة وإذا بالبرق ينعى إلينا ماكس نورداو! فعجبت لهذا الاتفاق ولما كان عسى أن يقول فى مثله! وكم فى الدنيا من أسرار وألغاز لم يستطع العلم أن يحلها!

وقد بدا لى أن أسوق هذه الخواطر فى مستهل الكلام عن نورداو. وما يتسع مقال واحد لذلك، فإن الرجل لم يدع بابًا من أبواب النظر والبحث إلا طرقه ونفذ منه إلى مقالة حق، ومذهب صدق.

(٢) القوة الدافعة ومقاومة الجماهير

نظرية الحاجة
قال ماكس نورداو فى كتاب «المتناقضات»:

«من حيل الكلاميين أن يقسموا الإنسانية إلى شطرين: رعية كبيرة وطائفة قليلة من الرعاة، ولكن من الخطأ أن نقول إن بضعة عقول خاصة هى القوة الدافعة الوحيدة وأن نصور الجماهير كأنها العقبة المعترضة أبدًا. ولا يسعنى إلا أن أعترف أنى ظللت زمنًا طويلًا أشاطر القائلين بهذا خطأهم، وكنت أذهب إلى أن الجنس الأبيض كله يمكن أن يرد إلى مستوى العصور الوسطى، بل إلى ما هو وراءها أو قبلها لو أن عشرة الاَلاف الذين هم أمهر معاصريى وأذكاهم، والذين يخيل إلينا أنهم عماد مدنيتنا الوحيد، فصلت رؤوسهم عن أجسادهم. غير أنى الآن لم أعد أعتنق هذا الرأى وذلك لأن أسمى صفات الإنسانية ليست ميراث الشواذ القليلين دون سواهم وإنما هى صفات أساسية موزعة على الناس جميعًا، شأنها فى ذلك شأن الأعضاء والأنسجة والدم ومادة الدهن والعظام، ولا شك فى أن لبعض الأفراد نصيبًا أو فر ولكن لكل فرد حظا من هذه الصفات..

صور لنفسك طائفة من الأوساط العاديين ليس لهم مواهب عقلية خاصة أو معارف فنية غير ما يفيده المرء من مطالعة مقالات الصحف أو أحاديت المجالس، وهبهم تحطمت بهم سفينة وقذف بهم الحظ إلى جزيرة جرداء. فماذا يكون مصيرهم؟ لا شك فى أنهم فى بادئ الأمر يكونون أسوأ حالا من مستوحشى البحار الجنوبية إذ كانوا لم يتعودوا أن يستخدموا مواهبهم الطبيعية ولا يدرون أن فى الوسع أن يتناول المرء طعامه دون أن يقدمه إليه الخدم، وأن الأغذية توجد فى حيث لا أسواق.. ولكن هذه الحالة لا تطول، وأخلق بهم أن يفطنوا إلى ما كان خافيا عليهم من نفوسهم وأن يوفقوا بعد ذلك إلى اختراعات مهمة، فيظهر لهم أن لأحدهم مهارة فنية عظيمة، وأن لآخر مواهب فلسفية، وأن ثالثًا قد رُزق القدرة على التنظيم، فلا يلبثون أن يعيدوا فى خلال جيل أو جيلين تاريخ التقدم الإنسانى كله. ولما كانوا قد رأوا الآلات التجارية — وإن كانوا على الأرجح لا يعرفون على وجه الدقة كيف تركيبها — فسرعان ما يهديهم التفكير إلى أصل المسألة فيصنعون لأنفسهم الة من هذا النوع.. وهكذا فى غير ذلك، فيصبح هؤلاء الأوساط صورًا مصغرة من نيوتون ووطسن وهلمهولتز، وجراهام بلز لأنهم بين ظروف المدنية كانت تعوزهم تلك الفرصة التى أتاحتها لهم الجزيرة الجرداء».

ويقول نورداو فى ذيل هذا: «ولا أحتاج إلى عناء كبير لأعتقد أن فى كل رجل عادى النضوج، مواهب يمكن أن تجعله عاملًا كبيرًا فى تقدم المدنية، وكل ما يحتاج إليه الأمر هو أن يضطر إلى أن يصير كذلك. كما يمكن اتخاذ الجذور من أغصان الأشجار إذا دُليت وغرست رؤوسها فى الأرض وأكرهت بهذه الطريقة على امتصاص الغذاء اللازم لها من الثرى».

وبعبارة أخرى يقول نورداو: (١) إنه ليس ثم قوة دافعة من شواذ الأفراد وعقبة معترضة من كتلة الجماهير، و(٢) إن الصفات الإنسانية يشترك فيها الناس جميعًا وإنما تتفاوت الأنصبة، و(٣) إن الضرورة «مدعاة الجد ومبعث التفكير العميق وأم الاختراع»، و(٤) إن تاريخ الرقى الإنسانى خليق أن يتكرر هنا على وجه مختزل وهذا هو ما لا خلاف بيننا وبينه فيه. وفى كلامه فيما عدا هذا مواضع للنظر.

إذا صح أن من الخطأ أن يذهب أحد إلى أن المتفوقين هم القوة الدافعة وأن الجماهير عقبة معترضة، فليتصور القارئ حال الدنيا — دنيا الإنسان — كيف تكون وأى رقى يحدث إذا لم يظهر فيها أناس يمتازون بجرأة أو أمل أو إرادة أو عقل، أى بنصيب أوفر من نصيب الرجل العادى من المواهب والملكات والصفات الإنسانية كما يقول نورداو، لا علماء يخدمون النوع بما يحصون ويقيدون ويستنبطون، ولا أدباء أو فنيين يوقظون الحواس الراكدة، والمشاعر الخامدة، ويملئون الصدور، ويحركون الطبيعة البشرية، ويبتعثونها على نشدان الكمال والتماس تحقيق المثل العليا التى ينزعون إليها، ولا يفتحون العيون ويوقظون القلوب على عظمة الجلال والأبد والحق، ولا زعماء ولا قادة يغرون الناس بالمجد. ماذا تصير الحياة؟ هشيمًا يابسًا ولا شك. وأخلق بالجنس الإنسانى إذن أن يعود كغيره من أجناس الحيوان. وأن يروح الآدميون ولا عمل لهم فى الحياة سوى الطعام والشراب والتناسل. لا يتميز بعضهم عن بعض إلا بضخامة الأجسام أو ضالتها، ومتانة العضلات أو رخاوتها، وحدة الأنياب أو كلالها.

ثم ليتصور القارئ بعد هذا أن الجماهير الإنسانية لا تقاوم ولا تقف عقبة فى سبيل سعى، ولا يحتاج الشواذ الأفذاذ أن يجروها ويعالجوها بمختلف الوسائل وشتى الأساليب لتتبعهم وتسايرهم، بلِ تجيب كل مهيب، وتعتنق كل جديد، وتلبى كل دعوة. ونضرب مثلَا متطرفًا بعض التطرف لنعين القارئ على تصور الحال ولنحضر فى ذهنه مثال ما ندعوه إلى تخيله. فنقول إن الحج فى الإسلام أشق قواعده والذى لا طاقة لكل امرئ به، ومن أجل هذا لم يحتمه الشارع تحتيمًا لا مفر منه ولا معدى عنه بل فرضه على المطيق دون ظاهر العجز عنه. فهب رجلا منا قام يدعو إلى دين هو كالإسلام فى كل ما دق وجل من أحكامه وأصوله واَدابه وأوامره ونواهيه ولا يختلف عنه إلا فى إسقاط الحج وتحريمه على أتباعه: أتظن الناس يسرعون إلى الدخول فى هذا الذى ليس فيه من جديد على الحقيقة والذى لا يختلف عن الإسلام إلا فى هذه القاعدة وحدها؟ ولا نفيض فى المسألة بل ندع للقارئ إتمام هذه الصورة التى رسمنا له معالمها الكبرى.

ولو أن الجماهير تبذل قيادها لكل مهيب بها لعاد المجتمع ريشة فى مهاب الرياح لا استقرار له ولا انتظام، يساق ويدفع إلى كل ناحية، ويتقدم ويتأخر فى كل اتجاه. لأنه لا يكون فى هذه الحالة على الأفراد الممتازين إلا أن يفكروا ويريدوا، ولا على جمهرة الناس إلا أن يترجموا خواطرهم إلى العمل، ويخرجوا إرادتهم فى صورة محسوسة ملموسة كائنة ما كانت هذه الفكرة أو الإرادة. ولا أدرى حينئذ لماذا يكد الرجل الممتاز ويتعب ذهنه وتكلفه التفكير ويعالج إنضاج الرأى وليس ما يدعوه إلى كل ذلك والأمر لا يكلفه إلا أن يريد فيكون ما أراد؟ ونورداو نفسه لا يخفى عليه أن الأمر ليس كذلك. وهو يقول فى موضع اخر من كتاب المتناقضات الذى نأخذ منه اليوم ونسرد: «وماذا غير ذلك مما يتهم به الرجل العادى؟ إنه لا يبادر إلى التسليم أمام حملات الرجل العبقرى؟ ألا إن هذا لهو المطلوب! ومن أجل هذا ينبغى أن يبارك الرجل العادى. فإن ثقله أو اتزانه الوطيد الذى لا يسهل إزعاجه يجعله نوعًا من الجهاز الرياضى أو ضربًا من الأثقال إذا عالجه الرجل الممتاز استطاع أن يختبر قوته وأن يضاعف كذلك مُنته. ولا شك فى أن من أشق الأمور ابتعاث الأوساط على الحركة ولكن معالجة هذا تدريب نافع فلا يزال يجرب حتى يفوز بالنجاح».

وهذا صحيح فإن المقاومة التى يلقاها الجديد هى التى تكشف عن مزيته وتظهر فضله. وهى كذلك الضامن ألّا ينجح إلا الأصلح والذى أوتى القوة الكافية ورزق النصيب اللازم من ملاءمة الاستعداد له، وقد لا يفوز الأفضل؟ لأن الصلاح والملاءمة، لا الفضل، شرط النجاح.

وليس على القارئ ليدرك مبلغ المقاومة التى تبذلها كتلة الجماهير إلا أن يفكر فى بطء التغير الذى يلحق الأنظمة من معاشية وحكومية وقانونية، وكيف أن فيها كثيرا من المسخطات ومن بواعث الألم والكرب والضيق، وكيف أن المرء مهما كان رأيه فى العرف الذى ألفه الخلق، ومبلغ استقلاله واعتداده بنفسه، لا يسعه على هذا إلا النزول على حكم الجماعة فى كثير من العادات. وما الذى يصون القانون؟ أهو قوة الحكومة أم الرأى العام أى قوة العادة والعرف؟ والقانون نفسه ماذا هو إن لم يكن رأى الجماعة فى صورة أوامر ونواه؟ والأنظمة الديمقراطية أليست مظهر ا من مظاهر نزوع الجماعة إلى مقاومة الفرد الذى تحدثه نفسه بتسييرها كما يشاء؟ وتأمل كيف كانوا فى الأزمنة السالفة يحرقون أهل الابتداع ويحتشدون حولهم اَلافًا مؤلفة وهم يشتوون! لا شك فى أن الجهل له دخل كبير فى هذا ولكن ذلك لا يحيل المسألة عن أصلها.

•••

وأرى نورداو قد تابع القدماء وحاكاهم فى اعتبار الحاجة أمَّ كل اختراع، والضرورة مبعث الفكر ومدعاة الجد.. وقديما صورها اليونانيون أم الحظوظ وزوجة «دميورجاس» — صائغ العالم ومكيفه — وأم القدر كذلك، وجعلوا سلطانها الأعلى، وسطوتها التى لا ترد ولا تدفع وجعلوا بأسها فوق بأس الآلهة أنفسهم، وعزوا إليها حروب العمالقة التى دارت أرحاؤها بينهم فى قديم الزمان قبل أن يلى «الحب» حكم العالم. ومثلوا الأرض تدور حول مغزلها الذى فى حجرها. وكان المصريون القدماء يعدونها أحد أرباب أربعة يحضرون مولد كل ادمى، والثلاثة الاَخرون هم الروح الحارس والحظ وإيروس — وكان للضرورة أو الحاجة فى قلعة كورنثة معبد يشاطرها «العنف» إياه، ولا يؤذن لأحد أن يلجه. وقد وصفها هوراس فى إحدى قصائده بأنها «رائد الحظ ورفيقه» وأنها تحمل فى كفها النحاسية مسامير هائلة ورصاصًا مصهورًا، رمزًا لقوة الشكيمة والثبات.

وإنها لكذلك إلى حد لا سبيل إلى المبالغة فى بعد مداه، ولكن من الإغراق فى رأينا أن نزعمها أصل كل اختراع، وسبب كل اكتشاف، وسر كل فكر، ووحى كل عمل. ولا شك فى أن الإنسان أحس الحاجة إلى ما يقيه الحر والبرد فاتخذ الثياب، واضطر إلى المساكن فبناها وأراد التحصن والوقاية فشادها طبقات وأحاطها بالأسوار. واحتاج إلى ما يعجز الحيوان عن الفرار ويقعده عن الكر على مطاردته فاخترع السهام واستعمالها ضد خصومه وعداته. ولا ريب كذلك فى أن الحاجات الجوهرية التى تُعين ضعف الإنسان على مقاومة الطبيعة، أو تجعل الاحتفاظ بالنفس أسهل، أتت الإنسان بدافع من الضرورة. ولكن من الغلو أو من السهو أن نضع القدماء فى مواضعنا وأن نتصور أن حاجاتهم هى عين ما نحس الآن من الحاجات. وأن نقيس حياتهم على حياتنا. فالنار مثلًا لا غنى بالإنسان عنها والحياة بدونها لا ندرى كيف تدوم. وعلى أنها جوهرية فى حياتنا لا نظن أن الحاجة هى التى أغرت الإنسان القديم بالتماسها والتفكير فيها حتى اهتدى إليها. نعم إنه كان لا بد له من نشدان الدفء بشكل من الأشكال — بالثياب والمساكن والعدو والوثب، والحركة على إِلعموم، ولكن اهتداءه إلى قدح النار كان محض اتفاق لا عمد فيه، وإن كان بعد أن عرف ذلك رقاه وهذب طرقه. وهو ما يمكن أن يقال حتى عن المساكن والثياب. وكان الإنسان يأكل اللحم نيئًا كالحيوان ولا نحسبه شعر بإلحاح الحاجة إلى الشىّ فشوى طعامه وطهاه. بل جاءه ذلك وما هو إليه اتفاقًا. وتأمل فى عقب هذا، الاختراعات والاكتشافات الحديثة التى يفتح بعضها بعضًا، والتى يكون من المبالغة ولا شك أن نزعم الإنسان حتى فى حاضره الحافل تلج فيه الحاجة إلى نشدانها.

على أنه ينبغى أن نميز بين حاجة الجماهير وحاجة الأفراد الممتازين الذين لا يجتزئون بالواقع ولا يقنعون بالحاضر والذين تسبق عقولهم ومطالب نفوسهم، عصورهم. هؤلاء هم أول من يشعر بالنقص وبضغط الضرورة وثقل وطأة الحاجة، وهم الذين ينبهون الجماهير إلى ذلك ويشعرونها بما يعوزهم، ولا يزالون بها حتى يتنبه فى نفوسها مثلُ إحساسهم فتطلب ما يطلبون. وقد مرت بالأمم عصور ركود كثيرة انقطع فيها مدد العظماء والممتازين فبقيت الجماهير حيث خلفها اَخرُهم، ولبثت على هذه الحالة الشبيهية بالجمود حتى تداركها الله. وقلما ينجح أول ممتاز يظهر كل النجاح، وحسبه من الفوز أن يقطع حجرًا أو اثنين من جبل هذا الجمود، ثم يأتى بعده من يواصل عمله ويتقدم خطوة أو خطوات أخرى فى التمهيد وفى زحزحة كتلة الإنسانية وفتح عيونها المغمضة، أو المفتوحة كالمغمضة، وفى تنبيه مشاعرها وإذكاء نار الحياة فيها. وهكذا حتى تتهيأ الفرصة للمجدود من الممتازين فيلفى كل شىء حاضرًا مهيأ لظهوره. ولو أنه كان فى وسع الجماعة المؤلفة من الأوساط أن تستغنى بحظها من الصفات الإنسانية الأساسية، وأن يضطرها عدم وجود الممتازين إلى استخدام ما لها من مواهب، وإنضاج ما رزقت من قدرة وملكات، لما بدت فى التاريخ هذه الفترات، فترات الركود والكلال والجزر، التى تطول أحيانًا عدة قرون حتى تتاج قوة دافعة ممن يظهرون بعد ذلك من الممتازين والنوابغ والعظماء. على أن باب التخريج والتفسير هنا واسع، ومجال الجدل الكلامى رحيب، وهو يمتد إلى غير غاية.. ولكن الذى لا يسعنا أن نؤمن به هو أن الحاجة وحدها هى أصل كل رقى، وأن العظماء ليسوا قوة دافعة تلقى البرحَ والعنت من نزعة الجماهير إلى الاحتفاظ بالقديم، وأن الإنسان كالنبات يمكن أن يُفسر قسرًا.. والمثل الذى ضربه نورداو خلاب، ولكن عيبه عيب غيره من الأمثال المنقولة من دائرة إلى أخرى، ولا يخفى أن الحيوان والنبات مختلفان، وإن اشتركا فى صفة الحياة وفى كثير من مظاهرها.

ويرى القارئ من النبذ التى أوردناها من كلام نورداو أن له «متناقضات»! فبينما هو ينفى مقاومة الجماهير إذا به فى موضع اخر من الكتاب عينه يعترف بهذه المقاومة وتعللها ويذكر نفعها، وكأنا به يغتر بقدرته على نصر الموقف الذى يقفه، ويسحره بيانه وتفتنه خلابة منطقه وقوة حجته، فيمضى إلى أبعد من المدى، ويسوقه تيار علمه ومقدرته إلى حيت ينأى عن موقفه قبل صفحات. ولعله بعدُ معذور، فإن وجوه النظر كثيرة وللحياة أكثر من صفحة واحدة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤