الحكومات والصحافة

اتضح لنا أنَّ تاريخ الصحافة إنما هو تاريخ التقدم البشري منذ وُجِدت المطبعة إلى الآن، وكان تاريخَ نضالٍ في سبيل الحرية من ناحية الصحافة، ونضالٍ في سبيل كتم الأنفاس من ناحية الطغاة والمستبدين، وكان الفوز سجالًا بين الناحيتين المتناضلتين، وبلغ الأمر حين كانت تفوز الصحافة على الحكومات المستبدة أن اعتبرت الصحافة سلطة رابعة، حاولت أن تفرض نفسها على السلطات الثلاث الأخرى التشريعية والتنفيذية والقضائية، وحاولت السلطات التشريعية والتنفيذية أن تتحكما في الصحافة، حين كان المستبدون يفوزون في المناضلات، واستمر الحال على هذه الوتيرة إلى حد أن أصبحت حالة الصحافة في بلدٍ ميزانًا صحيحًا لحالة البلد ذاته من جميع نواحيه الثقافية والخلقية والسياسية، وهو ميزان قليل التعادل عادةً تطغى في أغلب الأحيان كفة من كفتيه على الأخرى.

ويتجلى التعادل أو الطغيان فيما يخص الصحافة من تشريع البلد وأنظمته العامة، فإذا كان نظام البلد نظام طغيان واستبداد، فإن الصحافة تخضع فيه للرقابة المباشرة، سواء أن كانت رقابة واقية أو رقابة مسيَّرة أو رقابة معاقبة، وكذلك فإن العقوبات الجنائية التي يتضمنها التشريع العام لبلاد الطغيان والاستبداد تتجلى فيها قسوة معاملة الصحفيين ومعاقبتهم، لا على جريمة النشر وحدها، بل على جريمة الرأي والتفكير أيضًا؛ إذ يفرض القانون نية الكاتب دون أن يستدل عليه بما يكتب، وتكون قوانين المطبوعات في تلك البلاد مليئة بالقيود التي يجب أن يخضع لها مصدر الصحيفة ورئيس تحريرها وصاحب المطبعة والناشر للصحيفة أيضًا. وإدارات المطبوعات في تلك البلاد أيضًا جزء من إدارات الأمن العام، والصحفي معتبر فيها نوعًا من المجرمين الذين تجب مراقبتهم عن قرب.

وفي بلاد الحرية والديمقراطية تقرر حرية الصحافة مبدأ من المبادئ الدستورية الأصلية، وتكون العقوبات المنصوص عليها في القوانين العامة خفيفة لا تتعلق بالرأي، بل بالنشر وحده، وإن كان السهر فيها على كرامات الناس شديدًا؛ إذ توقع أقصى العقوبات على الطاعنين في الناس والقاذفين، كما هو الحال في إنجلترا مثلًا. وقوانين المطبوعات في تلك البلاد تقوم على فكرة التيسير والسخاء، وإدارات المطبوعات ومصالح الصحافة فيها جزء من الأداة السياسية والدبلوماتية تتبع رئيس مجلس الوزراء أو وزير الخارجية، ويتولاها سياسي أو دبلوماتي أو صحفي عريق.

وللتمييز بين طبيعة الصحافة في بلد يرجع عادةً إلى ما يخصها من نص في الدستور، وإلى ما يخصها من نصوص في قانون العقوبات، وإلى طبيعة قوانين المطبوعات ومركز إدارات المطبوعات ومصالح الصحافة من الدولاب الحكومي، وكذلك إلى مكانة الرقابة الصحفية ومداها. والواقع أنَّ العالم يكاد ينقسم اليوم إلى قسمين بيِّنين، تتضح في أولهما حرية الصحافة ومكانة كرامتها، ويتضح في ثانيهما الطغيان على الصحافة وإخضاعها لشتى المعاملات. ومن البلاد — كما هو الحال في روسيا وفي إيطاليا وفي ألمانيا — ما تعتبر الصحف ذاتها إدارات حكومية يكون الصحفي فيها موظَّفًا كسائر الموظفين، يتلقى من رؤسائه التعليمات والأوامر والمنشورات ليكتب مقاله في اليوم أو في الغد، ويتلقَّى كذلك التوجيه فيما يختص بالتعليق على أنباء اليوم الداخلية أو الخارجية.

وإذا نحن تساءلنا: ما موقف الصحافة في مصر من القسمين اللذين يتوزعان على العالم كما ذكرنا؟ فإن علينا أن نرجع إلى ما يخص الصحافة من نصوص دستورية، وما يتجهه قانون العقوبات من تكييف الجرائم الصحفية، وما تقضي به التشريعات الخاصة بالمطبوعات، وما تسير عليه إدارة المطبوعات من تقاليد. وكذلك يجب النظر في شأن الرقابة التي تفرضها التشريعات المصرية، وهي حالة استثنائية لا تقوم إلا في ظروف خاصة، أما الدستور فتنص مادته الخامسة عشرة على أنَّ «الصحافة حرة في حدود القانون والرقابة على الصحف محظورة، وإنذار الصحف أو وقفها أو إلغاؤها بالطريق الإداري محظور كذلك، إلا إذا كان ذلك ضروريًّا لوقاية النظام الاجتماعي». وتنص المادة الخامسة والأربعون على أنَّ «الملك يعلن الأحكام العرفية، ويجب أن يعرض إعلان الأحكام العرفية فورًا على البرلمان ليقرر استمرارها أو إلغاءها». وتنص المادة ١٥٥ من الدستور على أنه «لا يجوز بأية حال تعطيل حكم من أحكام هذا الدستور، إلا أن يكون ذلك وقتيًّا في زمن الحرب، أو أثناء قيام الأحكام العرفية، وعلى الوجه المبين في القانون». وإذن فالنصوص الدستورية المصرية الخاصة بالصحافة هي نصوص حرية وعدم إخضاع للرقابة، إلا في زمن الحرب وفي حالة الأحكام العرفية التي يقرها البرلمان، وعدم إنذار الصحف وأخذها بالطريق الإداري إلا إذا كان ذلك ضروريًّا لوقاية النظام الاجتماعي، وهي نصوص تدخل في عداد النصوص الحرة الديموقراطية بلا ريب. وأما اتجاه قانون المطبوعات، فهو في عمومه اتجاه إلى التيسير وعدم المؤاخذة على الفكر والرأي، بل إنه يعتبر الجريمة جريمة نشر أولًا وبالذات، وإن كان قد مضى على مصر وقت أو تداولتها عهود كان العقاب فيها متناوِلًا الفكرة، كذلك وإن لم يعبر عنه تعبيرًا.

أما قوانين المطبوعات وإدارات المطبوعات فتتجلى طبيعة كل منها خلال دراستها دراسة تاريخية، منذ عرفت مصر الصحافة والمطبوعات والمكاتب الحكومية، التي تسهر على تنظيم إصدار الصحف وإخراج المطبوعات.

وأما الرقابة التي يشير إليها النص الدستوري، فإنها لم تُعرَف في مصر إلا في العام الماضي؛ وإذن تكون دراستنا قاصرة عليها منذ قامت في الواقع.

الرقابة

اعتادت الحكومات في مختلف العصور أن تعتبر إذاعة الأخبار في الناس، وتناولها بالتعليق والتفسير بينهم حقًّا من حقوق سيادتها عليهم. وكان رجال الدين والكنائس يؤيدون الحكومات فيما تذهب إليه، بل كانوا يحضونها عليه خشية أن تنتج جريمة الكتابة في قلوب المؤمنين أو تدخل عليها زيفًا، ولا سيما إذا كانت الكتابة مطبوعة، وقد كانت للشيء المطبوع — بل لا تزال له حتى اليوم في بعض البيئات — صوفية تضغط بسلطانها على عقول القارئين؛ ولذلك لازمت الرقابة الصحافة في الواقع منذ ظهرت، وتراوحت بين القسوة والشدة والحزم والتسامح تبعًا لما كان يعصف بالجماعة من ريح الطغيان والتحكم، أو يسودها من روح الإصلاح والتقدم. والتاريخ زاخر بالحوادث التي عصفت فيها تلك الريح، ففتكت بأجسام المفكرين وفقأت عيونهم، وأحرقت منتجات قرائحهم، وألقتهم في ظلمات السجون حيث عُذِّبوا تعذيبًا. أو تلك التي سادتها هذه الروح روح التقدم، فسهلت على المصلحين تأدية مهمتهم، بل كرمتهم في سبيل رسالتهم تكريمًا. وتنوعت الرقابة بتنوع طبائع الجماعات، وتفاوتت بتفاوت الظروف التي اكتنفت تطورها التاريخي؛ فكانت الرقابة المسيرة، وكانت الرقابة المعاقبة، وكانت الرقابة الواقية.

أما الرقابة المسيرة Censure Directive؛ فهي التي تعتبر الصحافة في عهدها إدارة من إدارات الحكومة، يقوم بتحرير الصحف وإصدارها موظفون فيها، يتلقون الأوامر من رؤسائهم ويخضعون لتوجيهاتهم، ويُسأَلون أمامهم عن تصرفاتهم، بل لا يخرجون في تصرفاتهم عن حظيرة الأوامر والتعليمات والقرارات والمنشورات التي تُبلَّغ إليهم، شأنهم في ذلك شأن سائر موظفي الحكومة التنفيذيين؛ وبذلك تقبض الحكومة على ناصية التفكير والتوجيه في سبيل الشيء العام، ولا تبيح حرية الرأي إذ لا تحتمل هذه الحرية.
وأما الرقابة المعاقبة Punitive؛ فهي التي لا تتداخل مقدمًا في سياسة الجريدة وكتابة المحررين، فإذا ما صدرت الصحيفة رُوجِعت في تفصيلاتها ودقائقها، فإذا ما وجدت متضمنة خبرًا من الأخبار أو مقالًا من المقالات أو إشارة من الإشارات التي لا ترضى عنها الحكومة، تدخلت الرقابة لتُنزِل بالصحيفة عقوبةَ المصادرة وعقوبة التعطيل أو الإغلاق، ولتُنزِل بصاحب الصحيفة عقوبة الإنذار، وبرئيس التحرير عقوبة سحب الترخيص بتولي رياسة التحرير، بل تُنزِل بالمطبعة عقوبة التعطيل أو الإغلاق أيضًا، وتنزل الرقابة هذه العقوبات جميعًا بالطريق الإداري البحت دون محاكمة قضائية، ودون تحقيق سابق، بل لمجرد إحساسها بالغضب، وتقريرها وحدها أنَّ على بعض ما نشرته الصحيفة لمؤاخذة من وجهة نظرها دون سواها، فتكون هي خصمًا وحكمًا ومنفذًا في وقت واحد، ودون أن يكون للخصومة وللحكم وللتنفيذ أي ضابط.

وأما الرقابة الواقية؛ فهي التي تقف وسطًا بين المسيرة والمعاقبة، لا توجِّه الصحف توجيهًا إيجابيًّا بالإيحاء والأمر والتوظيف، ولا تترك المخالفات تقع، ثم تتولى عقابها بالطريق الإداري الذي ذكرنا؛ بل هي تعمد — كما يُستدَل من نعتها — إلى الوقاية، فتترك للكاتب حرية اختيار الموضوعات التي يعالجها والأنباء التي يذيعها، لكن تشترط عليه عرض كتاباته قبل طبعها، حتى تحذف منه ما تراه معارِضًا لوجهة نظرها، فيمتنع عن نشره ويتقي بهذا العقاب الإداري.

تلك هي أنواع الرقابة التي تلجأ إليها الحكومات في معالجة ما تحسبه أضرارًا تحيق بالجماعة من جرَّاء حرية الصحافة.

وتلجأ الدول الطاغية إلى نظام الرقابة المسيرة، تأخذ به صحافتها زمن الحرب وأيام السلم على السواء، دون تمييزٍ بين حاليهما؛ إذ تعتبر نفسها عادةً في حالة جهاد مستمر في سبيل ما تحسبه غرضًا أسمى، بل سببًا لوجودها وطبيعة لكيانها. وتلجأ الحكومات المذبذبة في أنظمتها وفي حزمها إلى نظام الرقابة المعاقبة، وهو نظام هجين بين الظاهر بمظهر الحرية، والمنطوي على فكرة الانتقام، والمستند أغلب الأحيان إلى نفسية الساعة واعتبار الأشخاص، ولا يُؤخَذ بالرقابة المعاقبة إلا في حالة السلم، وهي وحدها دون حالة الحرب التي قد تتسع إلى ذلك النوع من المران على ترك المخالفات تقع أولًا، ثم أخذها بالعقاب والانتقام ثانيًا. أما حالة الحرب فتستدعي عادةً الاحتراس السابق وأخذ الحيطة لعدم وقوع الأمور غير المرغوب فيها. وأما الرقابة الواقية فتلجأ إليها الحكومات ذات الطبيعة المستبدة عادةً لكن غير غائرة الطغيان، فتقيم وزنًا لحرية الاختيار، وتحسب حسابًا لكرامة شخصية الصحفي، فلا تملي عليه الالتجاء إملاءً، لكن تسهر على ألَّا ينشر شيئًا لا يتفق مع وجهات نظرها، وما تعتقده سبيلًا من سبل إصلاحاتها، وتلجأ تلك الحكومات إلى هذا النظام الواقي أيام السلم وزمن الحرب على السواء، كما تلجأ إليه زمن الحرب تلك الحكومات المذبذبة التي تأخذ أيام السلم بنظام الرقابة المعاقبة، وكذلك الحكومات التي تطبق مبدأ حرية الصحافة أيام السلم، وتضطر إلى الالتجاء للإجراءات الاستثنائية التي تقتضيها ضرورات الحرب.

ويكاد العالم في مختلف أدوار تطوره الفكري والاجتماعي يكون قد مرت بلاده بمختلف أنواع الرقابات التي ذكرنا؛ إذ مرت بها على الغالب جميع أنواع أنظمة الحكم المتراوحة بين الطغيان والاستبداد والتذبذب والحرية، وقد رأينا خلال العرض التاريخي لإدارات المطبوعات المصرية وقوانينها، أنَّ مصر قد جرى عليها هي الأخرى مثل ما جرى على غيرها من تناوب أنواع الأنظمة وأنواع الرقابات، وأنَّ أمرها قد استقر الآن بحيث لا يسمح فيها إلا بنوع الرقابة الواقية، ولا يسمح به إلا وقتيًّا زمن الحرب أو أثناء قيام الأحكام العرفية؛ إذ حرية الصحافة حكم من أحكام الدستور المصري الذي تنص مادته الخامسة والخمسون بعد المائة على عدم جواز تعطيل واحد منها (أحكام الدستور)، إلا أن يكون ذلك وقتيًّا في زمن الحرب، أو أثناء قيام الأحكام العرفية، وعلى الوجه المبيَّن في القانون. فما هو إذن هذا الوجه المبيَّن في القانون، والذي لا يمكن أن تقوم الرقابة الواقية في مصر إلا عليه؟ هو بلا ريب الوجه المبيَّن في التشريع المصري الخاص بإعلان الأحكام العرفية، وقد عرض التشريع المصري لأمر الأحكام العرفية في موضعين؛ موضع القانون رقم ١٥ لسنة ١٩٢٣ الخاص بنظام الأحكام العرفية، وموضع القانون رقم ٨٠ لسنة ١٩٣٦ بالموافقة على معاهدة الصداقة والتحالف بين مصر وبريطانيا العظمى.

أما القانون رقم ١٥ لسنة ١٩٢٣ فتنص مادته الأولى على ما يأتي: «يجوز إعلان الأحكام العرفية كلما تعرَّض الأمن أو النظام العام في الأراضي المصرية أو في جهة منها للخطر، سواء أن كان ذلك بسبب إغارة قوات العدو المسلحة، أو بسبب وقوع اضطرابات داخلية؟» وتنص مادته الثالثة في فقرتها الثالثة على أنَّ للسلطة القائمة على إجراء الأحكام العرفية أن تأمر فيما تأمر به «بمراقبة الصحف والنشرات الدورية قبل نشرها وإيقاف نشرها، من غير إخطار سابق، والأمر بإغلاق أية مطبعة وضبط المطبوعات والنشرات والرسومات التي من شأنها تهييج الخواطر وإثارة الفتنة، أو مما قد يؤدي إلى الإخلال بالأمن والنظام العام، سواء كانت معدَّة للنشر أو للتوزيع أو للعرض على الأنظار أو البيع، أو لم تكن معدَّة لغرض من هذه الأغراض».

أما القانون رقم ٨٠ لسنة ١٩٣٦، فتنص مادته السابعة على أنَّ معاوَنَة صاحب الجلالة ملك مصر بصفته حليفًا لصاحب الجلالة البريطانية «تنحصر إذا اشتبكت بريطانيا العظمى في حربٍ، وكذلك في حالة الحرب، أو خطر الحرب الداهم، أو قيام حالة دولية مفاجئة يخشى خطرها، في أن يقدِّم داخل حدود الأراضي المصرية، ومع مراعاة النظام المصري للإدارة والتشريع؛ جميع التسهيلات والمساعدة التي في وسعه، بما في ذلك استخدام موانئه ومطاراته وطرق مواصلاته، وبناءً على هذا فالحكومة المصرية هي التي تتَّخِذ جميع الإجراءات الإدارية والتشريعية، بما في ذلك إعلان الأحكام العرفية وإقامة رقابة واقية على الأنباء؛ لجعل هذه التسهيلات والمساعدة فعَّالة».

وإذن فإن التشريع المصري يتضمن لإعلان الأحكام العرفية حالات معينة، هي:
  • أولًا: إغارة قوات عدو مسلحة، يتعرَّض بسببها الأمن أو النظام العام في الأراضي المصرية أو في جهة منها للخطر.
  • ثانيًا: وقوع اضطرابات داخلية يتعرض بسببها ذلك الأمن والنظام العام للخطر.
  • ثالثًا: اشتباك بريطانيا العظمى الحليفة في حرب.
  • رابعًا: قيام حالة حرب أو خطر حرب داهم، أو حالة دولية مفاجئة يُخشَى خطرها.

ويتضمن التشريع المصري جواز الالتجاء إلى نظام الرقابة الصحفية الواقية في تلك الحالات الأربع التي تعلن فيها الأحكام العرفية، وقد ذكرت المادة السابعة من القانون رقم ٨٠ لسنة ١٩٣٦ هذا النظام باسمه، فقالت: «إقامة رقابة واقية على الأنباء»، فعبَّرت بالاصطلاح الفني الدقيق، وذكره القانون رقم ١٥ لسنة ١٩٢٣ بوصفه إذ قال: «مراقبة الصحف والنشرات الدورية قبل نشرها.»

ومنذ العمل بالدستور المصري في ١٥ مارس سنة ١٩٢٤، وقد نص في أحكامه الأساسية على مبدأ حرية الصحافة، وعدم جواز الالتجاء للرقابة إلا في عهد الأحكام العرفية؛ لم تعلن هذه الأحكام العرفية إلا بالمرسوم الصادر في أول سبتمبر سنة ١٩٣٩، لمناسبة اشتباك بريطانيا العظمى في الحرب الحالية مع ألمانيا، وهو المرسوم الذي خوَّل رئيس مجلس الوزراء السلطةَ في اتخاذ التدابير المشار إليها في المادة الثالثة من القانون رقم ١٥ لسنة ١٩٢٣، كما رخَّص له علاوةً على ذلك اتخاذ أي إجراء آخَر لازم للمحافظة على النظام أو الأمن العام في جميع أنحاء المملكة المصرية أو جهات معينة منها. وفي اليوم الثاني بعد إعلان الأحكام العرفية، أيْ في ٣ سبتمبر سنة ١٩٣٩ صدر من السلطة القائمة على إجراء تلك الأحكام الأمر رقم (١) الخاص بالرقابة، ففرضها «في جميع الأراضي المصرية ومياهها الإقليمية على الكتابات والمطبوعات والصور، والطرود التي ترد إلى مصر أو تُرسَل منها إلى الخارج أو تتداول داخل البلاد، وكذا كافة الرسائل التلغرافية والتليفونية السلكية واللاسلكية، وعلى جميع الأخبار أو المعلومات أو غيرها من المواد المعدة للإذاعة اللاسلكية، وعلى جميع القطع التمثيلية وأفلام السينما والأسطوانات الفنغرافية، وغيرها من الوسائل الناقلة للأصوات أو للصور؛ وذلك فيما عدا المواد والرسائل الخاصة بالحكومة الملكية المصرية وبالحكومات الحليفة لجلالة ملك مصر». وأنشأ الأمر ذاته مصلحة خاصة بالرقابة يناط بها تنفيذ وإدارة كافة فروع الرقابة، ويرأسها رقيبٌ عامٌّ يضع التعليمات والأوامر اللازمة لتنظيم أعمالها، وتكون لأوامره هذه قوة القانون ما دامت الأحكام العرفية قائمة.

وبتاريخ ٣ سبتمبر سنة ١٩٣٧ ذاته صدر الأمر رقم (٢) بتأليف مصلحة الرقابة من ثلاث مراقبات: مراقبة النشر، ومراقبة البريد، ومراقبة المواصلات السلكية واللاسلكية. يرأس كل واحدة منها مدير، يعاونه نائب مدير، ويعمل معهما رؤساء أقسام ومراقبون وفاحصون.

كما صدر الأمر رقم (٣) بتشكيل لجنة استشارية لمعاونة الرقيب العام في أداء مهمته، تضم مستشارًا للشئون الاقتصادية، ومستشارًا فنيًّا، ومستشارًا قضائيًّا، ومندوبين عن وزارة الدفاع الوطني، وعن السلطات العسكرية البريطانية البرية والبحرية والجوية. وتختص مراقبة النشر بالرقابة الواقية لجميع أنواع الصحف والنشرات والصور والكتب، وسائر المطبوعات التي تتداول داخل البلاد، أو ترد إليها من الخارج أو تُرسَل منها إليه، سواء أن كانت تلك الأنواع مطبوعة على آلات الطبع العادية البطيئة أو السريعة، أو على آلات الرونيو والجستتنر والبلوظة وما إليها من وسائل إكثار النسخ، ولجميع أنواع الكتابات غير المطبوعة المرسلة إلى مصر أو المراد إصدارها منها بقصد النشر. وتختص كذلك بمراقبة جميع الأفلام السينمائية المصنوعة في مصر أو في الخارج، والمراد عرضها في مصر علنًا أو بصفة خاصة، وجميع القطع التمثيلية والأغاني والخطب والأقوال التي تمثل أو تلقى في المحال والاجتماعات العامة، كما تختص بمراقبة الأسطوانات الفنغرافية وغيرها من الوسائل الناقلة للأصوات أو للصور المصنوعة في مصر أو الواردة من الخارج. وتراعي مراقبة النشر في القيام بمهمتها اعتبارات الحرص على سلامة البلاد، والعمل في سبيل الدفاع القومي والأمن العام، والسهر على توحيد جهود الأمة وتدعيم الحكم القائم. وبما أنَّ الرقابة المفروضة — بمقتضى الأمر العسكري رقم (١) الصادر بتاريخ ٣ سبتمبر سنة ١٩٣٩ — إنما هي رقابة منبعثة عن معاهدة الصداقة والتحالف المعقودة بين مصر والمملكة المتحدة في ٢٦ أغسطس سنة ١٩٣٦، ومعلنة لمناسبة اشتباك بريطانيا العظمى في حرب مع ألمانيا؛ فإن من الطبيعي أن تقوم الرقابة لحساب الدولتين المتحالفتين، وأن تستند إلى فكرة التضامن المتين بين مصالحهما المشتركة، ويكون الحرص على ظهور الصحف والمجلات وسائر المطبوعات بمظهر التوفيق بين تلك المصالح، والحيلولة دون نشر ما يعكِّر صفو العلاقات الودية القائمة بين مصر وبريطانيا العظمى، هو الواجب الأول الذي طُلِب إلى الرقباء أن يؤدوه بدقة كاملة وأمانة تامة ووعي وطني صحيح.

ومن القواعد التي تسير عليها الرقابة في علاقاتها بالناشرين: فَرْضُها عدم نشر شيء في جريدة أو مجلة أو نشرة قبل عرضه على مراقبة النشر، والتأشير عليه بالموافقة على نشره، بما في ذلك الإعلانات والعنوانات، وتُقدَّم نسختان من تجارب كل المواد الخاضعة للرقابة أو مراقبة النشر، وتعيد المراقبة نسخةً منها إلى الناشر بعد مراقبتها، وتحتفظ بالنسخة الأخرى، ويفرض على الناشرين أن يقدِّموا كل المعلومات التي يطلبها الرقباء عن أصل ما ينشرونه، وعلى الأخص عن الأنباء السلكية واللاسلكية والإعلانات والصور.

علاقة الحكومة بالمطبوعات في مصر

يكاد إجماع الفقهاء والباحثين ينعقد على أنَّ المطبوعات وفي مقدمتها الصحافة، تجد في قانون المطبوعات الصادر في ٢٦ نوفمبر سنة ١٨٨١ أولَ تشريع ينظِّم شئونها ويحكم مسائلها، ولا يعد هذا الرأي بعيدًا عن الصواب، إذا نُظِر إلى هذا القانون على أنه أول أداة تشريعية مصرية سايرت نشاط الصحافة وسائر المطبوعات في مختلف مراحلها، فتعرضت للتحرير كما تعرضت للطبع والتوزيع والنشر. وإذا كان رأي هؤلاء الفقهاء صحيحًا من حيث اكتمال الإدارة التشريعية بهذا القانون، فإنه يكون رأيًا مبتسرًا من ناحية الأصول التاريخية، فإن المعنيين بهذه الشئون يمكنهم أن يردوا تاريخ التشريع الخاص بالمطبوعات إلى عهد محمد علي منذ إنشاء مطبعة بولاق سنة ١٨١٧. كانت شئون المطبعة هينة في أول الأمر، وقد ظل نظام الرقابة على مطبوعاتها بسيطًا ليس لها لوائح ولا قوانين تحدِّد سياستها وتوضح نظامها، غير أنَّ بساطة هذه السياسة أخذت تتعقد شيئًا فشيئًا، بحيث أصبح من المتعذَّر أن تسير سياسة المطبعة على فطرتها أو تطَّرِد على طبيعتها، فسرعان ما دعا هذا التعقد إلى إصدار الأوامر وسن القوانين، وتحديد سياسة للنشر بها، ووَضْع نظام للرقابة على مطبوعاتها. ويروي لنا السائح المحقق جوفاني باتستا بروكي المناسبة التي تمت فيها هذه الخطوة، فيذكر أنه كان بين مدرِّسِي مدرسة الفنون ببولاق مدرسٌ إيطاليٌّ نظم قصيدة دينية سمَّاها ديانة الشرقيين، طعن فيها طعنًا شديدًا على الإسلام والمسلمين، وقد اتفق هذا الإيطالي سرًّا مع نقولا مسابكي أفندي مأمور المطبعة على طبعها بالمطبعة الأميرية، ووافق مسابكي ولا غرابة في ذلك؛ فقد تعلَّم في إيطاليا موطن العداء للدين الإسلامي، وشجَّعه على ذلك عدم وجود قانون لمراقبة المطبوعات، ولكن صونت قنصل إنجلترا في هذا الوقت سعى للوقيعة بالناظم الإيطالي، فنقل إلى الباشا خبر ذلك الكتاب، وكشف له عن طبعه بمطبعة صاحب السعادة، وبيَّن له الخطر من نشره وإذاعته، فإنه يستحيل أن توافق أية سلطة أوروبية على قبول معانيه وألفاظه، فضلًا عن سلطة إسلامية تجيز طبعه، فأمر محمد علي بمخطوط الكتاب، فأُلقِي في النار، وغضب الباشا على مسابكي، ولولا وساطة المقرَّبين منه لَأُوذِيَ في حياته نفسها.

غير أنَّ هذا الحادث وإن كان مطلعه سيئًا، إلا أنه انتهى بخاتمة حسنة، فقد أصدر محمد علي أمرًا في ١٣ يوليو سنة ١٨٢٣ يحرِّم طبع أي كتاب في مطبعة بولاق، إلا إذا استصدر مؤلفه أو ناشره إذنًا خاصًّا من الباشا بطبعه، وفرض عقابًا شديدًا على كل مَن يخالف هذا الأمر، وقد انسحب هذا الأمر على الكتب التي يصدر قرارٌ بطبعها من دواوين الحكومة أيضًا. ويؤكد أرتين باشا أنَّ هذا الأمر يعتبر أول تشريع للمطبوعات في مصر، وأول تشريع لها في عهد محمد علي، وآخِر تشريع لها أيضًا. وقد وُضِع هذا الأمر موضع التنفيذ، وهناك عدة أدلة على ذلك، منها أننا لا نجد مطبوعًا من مطبوعات بولاق، إلا ونجد أمرًا عاليًا بطبعه وعليه خاتم المطبعة وتاريخ نشره، وذكر أنَّ ولي النعم أصدر أمره بأن يُطبَع في المطبعة، لما رأى فيه من الفائدة والملائمة. ودليل آخَر أنه عقب هذا الحادث أكثرت المطبعة من نشر الكتب الدينية؛ ردًّا على مشروع الإلحاد الذي دعى إليه بيلوني ناظم القصيدة. ولم يُطبَع من كتب التاريخ والأخلاق إلا ما وافق هوى الحكومة. ودليل ثالث أنَّ محمد علي كلَّف المترجم روفائيل بترجمة كتاب الأمير لمكايافلي، فإذا قرئ عليه لم يعجبه ولم يُجِزْ طَبْعَه، وبقي إلى اليوم مخطوطًا بدار الكتب.

هذا فيما يختص بنشر الكتب، أما علاقة محمد علي بالصحف، فكانت علاقة صاحب البيت ببيته. صدرت في عهده خمس جرائد؛ جرنال الخديو سنة ١٨٢٦، ثم الوقائع المصرية سنة ١٨٢٨، ثم الجريدة العسكرية سنة ١٨٣٣، ثم جريدة المونتير إجبسيان سنة ١٨٣٣، ثم لاسبتتاتوري إجيزيانو سنة ١٨٤٦. الصحف الثلاث الأولى صحف الدولة الرسمية، والرابعة الفرنسية والخامسة الإيطالية صحيفتان شبه رسميتين.

ويعنينا أن نعرف شيئًا عن علاقة الرقابة والرقيب بتلك الصحف، فالجريدة العسكرية كانت خاضعةً لرقابة صاحب الدولة السرعسكر إبراهيم باشا، وهي خاصة بالشئون العسكرية الخاصة. وجرنال «الخديو» أصبح جريدة الوالي وحده بعد ظهور «الوقائع». أما الجريدتان الفرنسية والإيطالية، فكانت أخبارهما كلها منقولة عن الوقائع، فتكون الوقائع المصرية هي الجريدة الوحيدة التي شغلت في حياة الدولة جهدًا وإشرافًا، اشترك فيها الموظفون فرنجة ومصريين، ومُنِحت للعلماء، وفُرِضت على التلاميذ والمبعوثين في برلين وفينا وروما وباريس ولندن، ووُزِّعت في بلاد العرب والسودان والشام وكريت، وقد أشرف محمد علي بنفسه على «الوقائع» وإخراجها، فكان يكلِّف موظفيه بكتابة المقالات، ويوعز بنشر الأخبار، ويراجع مسودات الجريدة قبل طبعها، ويعاقب المسئولين إذا أساءوا اختيار الخبر أو المقال.

وفي عهد سعيد باشا صدر تشريعان خاصان بالمطبوعات أوسع نطاقًا مما ذكرنا في عهد محمد علي، أحدهما خاص بالمصريين، والثاني بالأجانب. فأما الأول فسببه أنَّ مصريًّا له عِلْم بفن الطباعة على الحجر، تقدَّم إلى ديوان الداخلية يرجو أن يُؤذَن له بفتح مطبعة لطبع بعض كتب صغيرة لازمة لتعليم الأطفال، فأقر المجلس المخصوص في أول يناير سنة ١٨٥٩ هذه الرغبة، وإنما اشترط أن تُؤخَذ على الطالب شروط خمسة، أصدرها المجلس بهذه المناسبة دستورًا وقاعدةً لمثل هذه الحال، كانت أولاها أنَّ كل كتاب أو رسالة يراد طبعها لا يُؤذَن بها ما لم تُقدَّم نسخةٌ منها إلى نظارة الداخلية؛ لأجل التثبُّت من أنها خالية مما يسيء إلى الديانة ومنافع الدولة العلية والدول الأجنبية، على أن يصدر الأمر بالموافقة من هذا الديوان. والشرط الثاني يذكر أنه لا يُطبَع ولا يُنشَر جرانيل وغازتات وإعلانات دون الحصول على الترخيص من ديوان الداخلية، وإلا تُغلَق وتُسد مطبعته. وينصَبُّ الشرط الثالث على مَن يطبع رسائل وينشر كُتُبًا تسيء إلى الدين والآداب والبولتيقا، وأنَّ للضبطية أن تحول دون ذلك. وأما الشرط الرابع فيقرر عدم طَبْع نُسَخ زيادة عما يحدث الاتفاق عليه بين الكاتب والناشر والحكومة، وأنَّ الزيادة في النسخ المتفق عليها تُعتبَر سرقة وتُصادَر. والشرط الخامس ينص على العقوبات التي يُعاقَب بها مَن يخالف الشروط السابقة، كل حسب جرمه، وأهمها إغلاق المطبعة. فالجديد هنا في هذا القرار أنه انصَبَّ على مطابع الحجر، ثم جمع بين الكتب والصحف والرسائل. والواقع أنه بالرغم مما يتبادر إلى أذهاننا، فهذا القانون كان قانونًا سهلًا ليِّنًا؛ إذ إنَّ ناس ذلك الوقت كانوا بطبعهم لا يعرفون السياسة، وكانوا مؤمنين لا أمل للإلحاد والملحدين بينهم، وهذا القانون صورة من القانون العثماني المعمول به في الدولة العثمانية، وإنْ لم يصدر في نصه، واكتفى المجلس المخصوص بروحه، وهو شبيه أيضًا بالقانون الذي صدر من أجل الأجانب في مصر وسائر ولايات السلطنة العثمانية.

كان للأجانب في مصر على عهد سعيد دَالَّة كبيرة على الحكومة؛ فقد مَدَّ لهم الوالي في رحابه فكثر عددهم، واستتبع ذلك إنشاء خمس صحف بين فرنسية وإيطالية غير صحيفة السلطنة (العربية التركية). وطبيعي أنَّ هذا العدد الكبير من الصحف كان يقتضي رقابة من الحكومة الشرعية؛ حتى تأمن نتائج الآراء المتضاربة التي تذيعها هذه الصحف المتباينة، فبلغت مصر قناصل الدول في منشور التنظيمات الصحفية التي صدرت في الأستانة في ٦ يناير سنة ١٨٥٧، وأرسلتها إلى هؤلاء القناصل موقَّعًا عليها من ناظر الخارجية المصرية في شهر من نفس السنة، وليست مواد قانون الصحافة التي بلَّغها الوزير المصري لقناصل الدول مواد حرفية لقانون المطبوعات العثماني، بل هي تحمل روحه وطابعه دون الصيغة الأصلية. كما أنها لم تأتِ مفصَّلة، وقد بسطها ناظر الخارجية تبسيطًا ملحوظًا، إذا قورنت المواد المبلَّغة بمواد القانون الأصلية، ويوحي القانون الذي بُلِّغ للقناصل باهتمام الحكومة بخطر صحفِيِّ الأجانب في مصر؛ إذ كان يهمها أشد الاهتمام الامتناع عن نقد أعمالها مما قد يؤثر على الأمن، أو يدعو إلى اضطراب في أفكار الأجانب، وهي كذلك حريصة على حماية موظفي الحكومة من النقد الذي قد توجِّهه إليهم هذه الجرائد؛ فشرطت لتحقيق هذه الرغبة أن يقرَّ الأخبار التي تذيعها الصحف عن الحكومة وموظفيها مكتبٌ للصحافة أنشأه سعيدٌ في نظارة الخارجية، وليست الأخبار وحدها المطلوب رقابتها، بل إنَّ الافتتاحيات أيضًا كانت تمر على المسئولين في مكتب الصحافة، أو يقرها موظفوه مشافَهَةً، على شريطة أن يذعن المحرر للاعتراضات التي تُوجَّه إليه اجتنابًا لإذاعة الأخبار الباطلة.

وكذلك فرض قانون الصحافة على الجرائد الأجنبية المصرية أن تفسح صدرها لتكذيب وتصحيح الأخبار التي تنشرها صحف أوروبا، أو يذيعها المغرضون عن الحكومة المصرية. وقد أخذ مكتب الصحافة على عاتقه تزويد الصحف بهذا، كلما دعت الحالة إلى تكذيب أو تصحيح، ولكي تمكِّن الحكومة لسلطانها على هذه الصحف رسمت عقوبات مختلفة ستفرضها على مَن يخالف مواد القانون أو يستهين بها. كما عمدت إلى أن تجعل لهذا القانون أثرًا رجعيًّا، فكل صاحب مطبعة أو نشر ينبغي أن ينال ترخيصًا بفتح مطبعة أو نشر جريدته، وإلا تعرَّضَ لجزاء يقضي على مطبعته ويعطِّل صحيفته. وأُلقِيت كل هذه المشاكل الصحفية الجديدة التي نشأت في الحياة المصرية على مكتب الصحافة الذي أنشأته حكومة الوالي في ١٨٥٧، ومع أنَّ علاقة الحكومة بالمطبوعات أصبحت واضحة بعد هذين القانونين، إلا أنه ينبغي أن نذكر أنَّ الحكومات كالت لهذه المطبوعات بكيلين، فالأجانب كانت لهم الحظوة، وكان لهم في قناصلهم حصانة حالت في كثير من الأحيان دون بطشها ودون رقابتها، فقد فتح السيد محمد هاشم من رعايا أمير المغرب مطبعة حروف دون استئذان الحكومة، فاستفسرت الضبطية المصرية من الوالي ما يجب أن تصنعه، فكان رد سعيد كافيًا ليُظهِر لنا الفارق بين الكيلين، فهذا الكتاب يبيِّن لنا أنَّ القانون لم يُطبَّق بدقة، وأنَّ سعيدًا حاوَلَ أن يكون في أمره للضبطية سياسيًّا، وإن كانت هذه السياسة على حساب مصر وقوانينها، فبالرغم من وجود القانون سمح للرجل بفتح المطبعة دون إذن، ودون تحرير الشروط المنصوص عليها في القانون، وإن لم يعْفِه من الالتزامات التي فرضها التشريع من حيث السياسة والأخلاق والدين.

وأقبل عصر إسماعيل وقد أحل للصحافة من نفسه مكانًا واسعًا، غير أنَّ من الظواهر المشاهَدة في بداية عهده أن كان للسياسة الصحفية الخارجية المكان الأول، فاشترك في أكثر من خمسين صحيفة أجنبية، بينها ست صحف للأزياء، ودفع آلاف الجنيهات لشراء الصحف وأصحابها، وله في ذلك بعض العذر، فقد أثير بينه وبين شركة القناة خلاف شديد، فانتصرت له صحف فرنسا، وأراد أن ينشئ المحاكم المختلطة فوقفت بعض صحف فرنسا وألمانيا وإنجلترا في صفه، ووزَّع اختصاصاته الخديوية، وانتزع قانون وراثة العرش في أولاده ببذل المال للمسئولين في الأستانة ومحرري صحفها وصحف الشرق الأدنى، فسياسته أمام الصحف والصحافة الخارجية سبقت علاقته بالصحف المصرية.

كانت مصر قد دبت فيها نهضة لا بأس بها، وبدأ رعايا الخديوي يحسون وجودها، وأخذت نشأة الصحافة في مصر تتطور وتبلغ مراتب القوة والحياة، فشجَّعها إسماعيل وجاملها كثيرًا، ثم جدَّتْ في حياة مصر ظروفٌ اضطرته لمحاربتها ودعتها إلى الثورة عليه، فاشترى بعضها وقسى على البعض الآخَر، وكان للتدخل الأجنبي أثر في ذلك كله سنوضحه فيما بعدُ.

كانت النكبات المالية والضرائب الفادحة التي تعدَّدت، ومراعاة خواطر الأجانب واستكانة الحكومة لهم، وتدخُّلهم في شئون مصر، وكراهية المصريين للحكم الأوروبي؛ كان ذلك كله دافعًا إلى السخط، وخاصة بعد أن وُجِد في مصر بعض المفكرين الذين تأثروا بالحضارة الأوروبية، أو أرهفت إحساساتهم بعض مظاهر الحياة الجديدة، أو كانوا من الوافدين عليها كجمال الدين الأفغاني الذي أثار وجوده عاصفةً من الرضا بين المواطنين، وعاصفة من السخط بين الحكوميين، وأصبح بقاؤه في البلاد مضافًا إلى ما ذكرنا باعثًا قويًّا على هزةٍ في أفكار الخاصة، أساسُها التفكير في إصلاح الحال والمطالَبَة بحكمٍ عادلٍ يشعر بواجباته نحو مصر، ويهتم بمصير شعبها ويتألم لمصابها، وكانت الصحافة المصرية لسان هؤلاء الخاصة عند عامة المصريين، ولم تكن معظم الصحف الوطنية تخضع لرأي أو تجري في اتجاه معين لا تحيد عنه، بل إنها كانت في أغلبها حرة طليقة الفكر، تذكر الحكومة المسئولة بالخير كلما استوجبت مواقفهم الحمد والثناء، ولا تتحرج من الحديث عنهم حديثًا مؤذيًا لأشخاصهم كلما تكاسلوا أو أساءوا؛ فرأي إسماعيل في صحافة بلاده جديدًا لم يشهده من قبلُ، فأصدر أمرًا في ٢٦ أكتوبر سنة ١٨٦٦ بتوسيع اختصاصات مكتب الصحافة، وتحويله إلى قلم يتبع نظارة الخارجية، يشرف عليه موظفون يجيدون اللغات العربية والتركية والفرنجية جميعًا. كان من شأن هذا المكتب الإشراف على الصحافة ورعاية شئونها ومراقبة أقلام أصحابها. وقد اتسعت شئون هذا القلم بكثرة الصحف الصادرة، فكان يراجع ما يُنشَر فيها، فإذا وجد فيها ما يؤاخذ عليه كان من وظيفته دراسة جرائم النشر هذه، ثم عليه بعد ذلك أن يعدَّ التقارير بالموضوعات التي تستحق المؤاخذة، أو الموضوعات التي من شأنها أن تهم الحكومة ملافاتها، ويرفعها إلى الجهات العليا وهي هنا مجلس النظارة. وأصبح هذا المكتب يتكوَّن من خمسة أعضاء؛ ثلاثة من الأجانب منهم الرئيس وهو إذ ذاك جودار بك، ثم اثنين من الوطنيين توزَّعت اختصاصاتهم فيما بينهم، فكان على العضوَيْن المصريَّيْن مراقَبَة الصحف الوطنية والتركية، بينما اختص الثلاثة الآخرون بمراقبة الصحف الفرنجية.

وقد بقي مكتب الصحافة قائمًا، حتى صدر قانون المطبوعات المصري في ٢٦ نوفمبر سنة ١٨٨١، فانتقلت بذلك الرقابة من الخارجية إلى الداخلية. بقي مكتب الصحافة قائمًا يؤدي وظيفته كما ذكرنا، غير أنه تطوَّر في أخريات عهد إسماعيل وأوائل عهد توفيق، فأصبح للمشرف على الوقائع المصرية حق الإشراف على الصحف والمطبوعات الأهلية من عربية وتركية، وكان المشرف على المطبوعات الفرنجية رئيس قلم الصحافة بنظارة الخارجية، وتلك بدورها تكتب إلى المسئولين في ديوان الخديو.

يتقدَّم مثلًا طالب الترخيص إلى القنصلية الفرنسية التابع لها، وهي بدورها تكتب إلى نظارة الخارجية، وتلك ترفع الأمر إلى الخديو، فإذا وافَق فإنما تجيز موافقته الأثر بشروط، منها أن تكون الصحيفة خاضعة للقانون الموضوع بهذا الشأن والمعلوم لدى نظارة الخارجية. ومن أهم هذه الشروط أن تؤخذ عليه التعهدات مصدقًا عليه من قنصليته، وليس لأجنبي أجيز له إصدار صحيفة أن يتصرف في ترخيصها بالبيع أو النقل إلى شخصٍ ما، إلا إذا اتبعت مع المالك الجديد نفس الإجراءات التي اتبعت مع صاحب الترخيص الأصلي، ويجب أن نقرر هنا أنَّ السلطات المصرية وقانون المطبوعات التركي الذي كان يُنفَّذ في مصر لا يقاس قدرها جميعًا بجانب سلطان الخديو في هذا الموضوع، فإرادته وحدها هي القانون، وهي السلطات المصرية جميعًا. وقد حفلت المحفوظات التاريخية بعابدين بما يثبت ذلك؛ فقد التمس الخواجا بيرتيه أن يُسمَح له بإصدار جريدةٍ لنشر وإذاعة أخبار المراسح والقهوات، على ألَّا تتداخل في السياسة، بَيْدَ أنَّ المعية رفضت التصريح بذلك، وإذا أراد صاحب جريدة أن يضيف إلى جريدته مواد جديدة لم يذكرها في ترخيصه، كأن يُدخِل عليها الشئون السياسية، وكانت من قبلُ خلوًّا منها، كتب في ذلك إلى مكتب الصحافة، وهذا يمضي في إجراءات حتى يبلغ الموافقة أو الرفض من الخديو نفسه، ولم يكن في وسع أي سلطة حكومية حتى ناظر الخارجية أن يشير برأي في إعطاء الترخيص دون الرجوع إلى الخديو، فقد ذكرت وثيقة من الوثائق أنَّ المعية رفضت أن تقطع برأيٍ في طلب ترخيص رفع إلى الجناب العالي لجريدةٍ تبحث في الأدب والتمثيل؛ نظرًا لغياب الخديو إسماعيل خارج القاهرة في هذه الأثناء.

ولم تكن العلاقة معقَّدة هكذا بين الحكومة المصرية والصحافة العربية الوطنية، فكان المواطنون من أصحاب الصحف المصرية العربية، يتقدمون إلى مكتب الصحافة بنظارة الخارجية في أول الأمر، ثم الداخلية أخيرًا، دون وساطةٍ أو شفاعةٍ، يطلبون الترخيص لهم بإصدار صحفهم ويسمون طلبهم العرضحال، فالعلاقة هنا بسيطة بين طالب الترخيص والحكومة، فهذا مواطن يطلب إصدار صحيفة وطنية، فتجيز له السلطات ذلك إن لقي عرضحاله قبولًا، وإن أمضى الطالب نفس الشروط التي يمضيها طالب التصريح الأجنبي، غير أنَّ النتيجة واحدة؛ إذ إنَّ الخديو وحده كان المرجع الأعلى في إجازة الترخيص أو رفضه، وتعني هذه الإجراءات أنَّ الخديو الذي يستطيع أن يمنح حق إصدار الصحيفة أو يقبض يده عن ذلك، تعني هذه الإجراءات أنَّ الصحف الأجنبية التي تصدر في مصر كانت كلها تدين بالولاء للخديو؛ لأنه صاحب الفضل في إصدارها وصاحب اليد عليها، بيد أنَّ هذا ليس صحيحًا كله، فمن بين تلك الصحف ما ناصب الحاكم المصري العداء وجاهَرَ بهذه العداوة في غير تحفُّظ، وخاصة الصحف الفرنجية أو الصحف المصرية التي تحتمي بقنصلية من القنصليات، ولقي المصريون مع واليهم شيئًا من هذا الضيق، فبينما يأمر إسماعيل بإغلاق الأهرام، فيحول قواص القنصلية دون تنفيذ أمره، ترى صحفًا أجنبية أخرى تحمل على الدين الإسلامي وتسخر منه، ولم تستطع الدولة حماية المصريين وحماية دينهم الرسمي؛ لتدخُّل القناصل وحيلولتهم دون بطش الحكومة وتوقيع الجزاء، حتى إيطاليا التي لم تكن قد بلغت من عمرها الحديث ست سنوات حمت يعقوب بن صنوع من إسماعيل، وبعد جهد استطاع الخديو أن يستأذنها في نفيه ومصادرة جريدة أبو نظارة.

ذكرنا أنَّ في عهد الخديو توفيق أصبح للمشرف على الوقائع المصرية حق الإشراف على الصحف والمطبوعات الأهلية من عربية وتركية، والمشرف هنا هو الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده، وفي عهده أصبحت العلاقة بين الحكومة والصحافة علاقة غريبة بعض الشيء. الصحافة حرة في حدود القانون، ولكن المشرف على الوقائع يأبى أن يكون القدح الشخصي قاعدة السياسة الصحفية، فهو ينذر ويعطل كل صحيفة تنهش في الأعراض، أو تجعل المسائل الشخصية سياستها المرسومة، وهو يفرض على المحاكم ومصالح الدولة الأخرى أن توافيه بأخبارها في أسلوب حسن، وإلا كشف عورتها في اللغة بنشرها ونقدها في الوقائع. وهو كذلك يفرض على الصحف أن تعنى بالأساليب العربية في مقالاتها وأخبارها وإلا أنذرت؛ فرئيس المطبوعات في ذلك الوقت كان بمثابة المعلِّم والمهذِّب لمصالح الدولة وصحافة الأمة.

وفي ٢٦ نوفمبر سنة ١٨٨١ صدر قانون المطبوعات المصري مشتملًا على ٢٣ مادة، تضمَّنت شروط فتح مطبعة، وحدَّدت أنواع المطبوعات التي ينسحب عليها القانون، ثم انتقلت إلى الجرائد والرسائل الدولية، فنص القانون على ضرورة الإذن بها من الحكومة قبل إصدارها، كما نصَّ على أنَّ هذا الإذن شخصي ويجب تجديده كلما تغيَّرَ صاحب امتياز الجريدة أو النشرة أو رئيس تحريرها أو مديرها، كما فرض دفع تأمين نقدي، وأثبت حق الحكومة في تعطيل أو مصادرة أو قفل أي جريدة أو رسالة دورية بأمر من ناظر الداخلية بعد إنذارين، وبقرار من مجلس النظار بدون إنذار؛ وذلك بغية المحافظة على النظام العام أو الدين أو الآداب. وواجه القانون الجزاء الذي يحيق بكل مَن يخالف قرار التعطيل أو يتحايل عليه، وأشارت بعض مواد القانون إلى المطبوعات والصحف التي تصدر خارج القُطْر المصري، وهيَّأت للحكومة فرصة مصادرتها متى شاءت ذلك.

وأهم ما جاء في هذا القانون أنه ألغى كل قانون أو لائحة أو أمر أو منشور مخالف له. والمتأمِّل في نصوص هذا القانون يدرك مبلغ ما فيه من تزمُّت وتضييق، وخاصةً أنها أجازت للسلطات الإدارية حقًّا في تعطيل الصحيفة؛ وذلك كلما كان هذا التعطيل متعلِّقًا بالنظام العام أو الدين أو الآداب، وهو سلاح خطر يستطيع الحاكم أن يُجهِز به على حياة الصحف في كل حين، ولن تعوزه حجة في دفع غاشية تتهدد النظام العام أو الآداب، كلما تحركت به شهوة العنت والانتقام. وقد سجَّلت أحكامُ محكمة الاستئناف المختلطة في هذه الفترة التي أعقبت إصدار قانون المطبوعات، مبادئَ قانونية نبَّهت الحكومة إلى التخفيف من ضغط نصوص هذا القانون، ونزعت بها إلى التقليل من استعمال ما أجازته لنفسها من حق التعطيل الإداري، ويُعتبَر هذا الدور الذي لعبه القضاء المختلط تتميمًا للتشريع، ومصدرًا من مصادر القانون؛ إذ إنَّ القانون ليس مراسيم تصدر، بل هو مجموعة من التشريع، ثم من الأحكام العليا التي ترتبت عليه يعود إليها القضاة كلما أعوزهم تفسير أو تعليل، ولا يمكن القول بأن الصحافة قد تداولتها تشريعات هامة بعد ذلك إلى تاريخ صدور الدستور المصري سنة ١٩٢٣، فهذه الفترة من حياة الصحافة يغلب عليها الركود التشريعي، فلم يعالج المشرع مسائلها ولم يتناول نشاطها، وقد شهدت أحيانًا حرية لا تتفق مطلقًا مع قانون المطبوعات؛ إذ اختَطَّ الإنجليز خطة طريفة في كفاحها، فكانوا ينشئون صحفًا لتحارب الصحف الوطنية، وإنما طغت على المطبوعات في فترة الحرب العظمى وأصابها ما يصيب الحريات العامة عادةً في مثل هذه الأزمات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤