التكييف القانوني للصحيفة

قلنا إنَّ الصحافة صناعةً وفنًّا محلُّ بَرنامَجِ السنة الثانية، وإنَّ الصَّحافة (بفتح الصاد) مجموعة صحف ووظيفة اجتماعية من منهاج السنة الأولى.

ونبدأ اليوم — وقد انتهينا مما عددناه مقدمة لدراسة المبادئ العامة — بدراسة الصحف، ونعرض أول ما نعرض لماهية الصحيفة وتكييف وجودها القانوني.

والصحيفة قرطاس مطبوعٌ فيه أخبارٌ ومعلومات وآراء وإعلانات، مختلف شكله ومختلف حجمه باختلاف دوريته؛ يومية أو أسبوعية أو شهرية، وباختلاف طبيعة موضوعاته؛ سياسية أو علمية أو فنية أو فكاهية، يُعرَض على الجمهور لاقتنائه عن طريق الاشتراك في فترة من فترات صدوره، أو عن طريق شراء نسخة من نُسَخ أعداده.

فهي إذن من ناحية التعامل وفقهه، سلعةٌ يبيعها مصدرها — وقد صنعها بالذات أو بالواسطة — ويشتريها القارئ مقابل ثمن يدفعه بطريقة يتفاهمان عليها. وإصدارها إذن عمل صناعي تجاري يخضع لقانون العرض والطلب من الناحية الاقتصادية، ولأحكام التشريع العام الواردة في القانون المدني، وقانونَي التجارة والعقوبات من الناحية الفقهية.

لكن تلك هي النظرة المبدئية السطحية العاجلة، أما إذا عولج أمر الصحيفة بشيء من التعمق والتدقيق والتروي، فإن الفروق تبدو واضحة بين صناعتها وتجارتها وسائر الصناعات والتجارات.

ذلك أنها إذا لاحتْ ورقةٌ عليها مدادٌ انطبقت به فوقها حروف من الرصاص أو سبيكة من القصدير، ودارت بهذا كله آلة عن طريق التيار الكهربائي، وعمل في هذا كله عمَّال آليون وفنيون، والورق والمداد والرصاص والقصدير والآلة عناصر مادية كسائر العناصر المادية، تستحيل عن طريق الصناعة مادة تجارية تُعرَض في الأسواق كما تُعرَض سائر المواد التجارية؛ فإن العنصر الأولي الذي تقوم عليه الصحيفة ليس هو شيئًا من هذه العناصر المادية التي ذكرنا جميعًا، بل إنه عنصر من العناصر ذات القيم المعنوية غير الملموسة إلا عن طريق مظاهرها، كالخبر حين يُسرَد والرأي حين يُبدَى والإعلان حين يُنظم. وهذا العنصر المعنوي هو أول ما يميِّز صناعة الصحافة عن سائر الصناعات العادية، ويُدخِلها في الواقع في عداد المهن الرفيعة كالطب والمحاماة والتعليم والنحت والتصوير والموسيقى أو يقربها منها تقريبًا.

والصحيفة التي تحمل تلك القيم المعنوية تؤثِّر بها في الرأي العام وتوجِّهه. والرأي العام عنصر فعَّال من عناصر تكوين الجماعة وتكييف الأجيال، لا الحالية منها وحدها بل المُقبِلة منها أيضًا. فليست هي سلعة عادية يقف أثر استهلاكها عند مشتريها ومَن هم إليه فقط، بل يعدوهم إلى الجيل كله وإلى الأجيال المُقبِلة أيضًا وإلى كيان الدولة كذلك. وهذا المدى هو ثاني العناصر المميِّزة لصناعة الصحافة عن سائر الصناعات.

وإذا كان مبدأ الحرية هو المقرَّر بالنسبة للاتجار عند كثرة الدول ذات الأنظمة الديموقراطية، فإن الحرية هي كيان الصحافة؛ إذ لا يمكن تصوُّر وجود صحافة بالمعنى الصحيح إلا إذا كفلت لها حرية إبداء الرأي على أوسع ما يمكن من الصور. وإذ كانت حرية المحاماة لا تنال إساءة استعمالها على الغالب إلا من بعض المصالح المالية، وتقتصر إساءة استعمال حرية الطب على بعض الحيوات الفردية؛ فإن إساءة استعمال حرية الصحافة قد يذهب مداها إلى تسميم عقول الجماعة، وإضعاف جسم الأمة، وإفلاس التركة التي يورثها الجيلُ الحاضر الأجيالَ المُقبِلة جميعًا.

وهذه الخطورة المتصلة بإساءة استعمال الحرية هي ثالث العناصر المميِّزة لصناعة الصحافة عن سائر الصناعات.

ولقد كان إصدار الصحف في أول الأمر — بسبب شدة اتصاله باعتبارات الشيء العام — اختصاصًا من اختصاصات الدولة لم تنزل عنه للأفراد، إلا على مر الأيام وبقيود أرادت أن تحيط بها توجيهَ الرأي العام ومعالجة الشئون العامة. وهذه الحيطة هي رابع العناصر المميِّزة لصناعة الصحافة عن سائر الصناعات.

وإذن فليست الصحيفة سلعة عادية كسائر السلع التي تُعرَض على الناس في الأسواق، بل ليست الصحيفة مظهر نشاط من نوع مظاهر نشاط المهن الحرة كالطب والمحاماة، يقوم عرضه على فكرة «شبه التعاقد» الذي يقوم بالفعل بين الطبيب ومرضاه، تفترض فيه ثقة المرضى بكفائة الطبيب، ويترك أمر هذه الثقة وتطوره عظمة أو ضئالة إلى تجارب المريض بالذات، ولكن الصحيفة سلعة من نوع خاص، مادتها الأولية «قيمة معنوية»، وهي مظهر خاص من مظاهر نشاط المهن الحرة متصل بالشيء العام وبحرية الفكر وبنظام الدولة.

ومن أجل هذا الخصوص، ومن أجل هذا الاتصال تدخَّلت الحكومات في التكييف الفقهي للصحيفة تدخُّلًا خاصًّا، يعمق غوره إلى أبعد من المدى الذي تذهب إليه في سائر التكييفات. فأرضخت إصدار الصحيفة إلى إجراءات ذهبت من التعسف والتقتير أول الأمر إلى التسامح والتيسير، وتراوحت فيما بينهما من مراحل خلال القرون والسنين.

•••

ويمكن القول إنَّ النظريات المشرفة على إصدار الصحف يصح حصرها الآن في أربعٍ، يختلف الأخذ بها باختلاف الأنظمة العامة التي تستند إليها الجماعات، مع قيامها كلها في العالم هذه الأيام. وتلك هي نظريات: الإصدار بترخيص، والإصدار بإخطار معلَّق على شرطٍ، والإصدار بمجرد إخطارٍ، والإصدار المُطلَق من كل قيد.

أما الإصدار بترخيص؛ فهو الذي يقضي بألا تظهر صحيفة إلا إذا أذنت الحكومة لصاحبها بالإصدار. وترجع هذه النظرية إلى اعتبار أنَّ إذاعة الأنباء إنما هي اختصاص من اختصاصات الدولة، فلا يمكن النزول عنه إلى فرد أو جماعة إلا أن ترخص الحكومة بهذا النزول في صك رسمي خاص، تكون هي صاحبة الحق المُطلَق في منحه، وتكون هي كذلك صاحبة الحق المُطلَق في سحبه. وتنظِّم مَنْحَ الحق بتوافُر شروط محدَّدة تعيِّنها، وسَحْبَ الحق بوقوع مخالفات محدودة تعيِّنها كذلك، أو لا تنظم المنح ولا السحب، وتُخضِعهما لمشيئتها وحدها. وإذا هي نظمت المَنْح بتوافر شروط، فإن هذه الشروط قد تقف عند حد شخص المصدر أو شخص رئيس التحرير أو كليهما، وقد تتجاوز هذا الاعتبار الشخصي إلى اعتبار مالي، يرجع إلى كفالة تتحقق بطريقة من الطرق، أو بتخصيص مبلغ معين كرأس مال للصناعة الصحفية. وإذا وقفت الشروط عند الحد الشخصي، فقد يُكتفَى في هذا الحد باعتبار السن والجنسية، وقد يذهب إلى اعتبار الخُلُق وحُسْن السمعة، كما قد يذهب إلى اعتبار الكفاية الفنية والمؤهلات العلمية.

وتلك هي أشد نظريات الإصدار وأقساها؛ لأنها تستند — كما قدمنا — إلى فكرة التنازل عن اختصاص من اختصاصات الدولة، وإلى اعتبار التحكم في تقدير ظروف مَنْح التنازل ومَنْعه، وظروف استمراره وسَحْبه.

وأما الإصدار بإخطار معلَّق على شرط؛ فهو الذي يقضي بتقدُّم الراغب في إصدار الصحيفة بطلبه إلى الحكومة متضمنًا ما تريده من بيانات متعلقة بشخصه وشخص رئيس التحرير، وما ترى فرضه من كفالة مالية مثلًا، ثم ينتظر مدة معينة يكون له أن يصدر الصحيفة إذا هي انقضت دون معارضة الحكومة لرغبته، ويكون له أن يناقش الحكومة معارضتها إذا هي أبدت معارضة قبل انقضاء المدة المعينة.

وترجع هذه النظرية إلى فكرة التوفيق بين حرية الرأي التي تكفلها الدساتير الحديثة عادةً، ورغبة الحكومة بل واجبها في أن تحرص على أن تكون هذه الحرية وديعة عند مَن لا يسيء استعمالها، فتنزل إساءة الاستعمال بالأمة ما تنزل من أضرار.

وتخطو نظرية الإصدار بإخطار معلَّق في سبيل الانطلاق من القيود خطوة لا بأس بها بالنسبة لنظرية الإصدار بترخيص.

وأما النظرية الثالثة وهي نظرية الإصدار بمجرد إخطارٍ؛ فتذهب في سبيل الانطلاق إلى أبعد، وهي لا تخضع إصدار الصحيفة إلى إذن صريح من الحكومة تتحكم في منحه ومنعه كما تشاء، كما هو الحال في النظرية الأولى، ولا تخضعه إلى إذن ضمني عن طريق معارضة الحكومة في الإصدار في مدى فترة معينة، كما هو الحال في النظرية الثانية؛ بل هي تجعل الإصدار حقًّا للأفراد، ولكنها تريد أن تحاط به علمًا؛ كي تتَّخِذ إجراءات لمصلحة الجماعة، وقد تكون لمصلحة المصدر ذاته، كتهيئة أسباب الامتيازات التي تتمتع به صحيفته في أجور البريد والبرق وما إليهما مثلًا.

وقد يكون الإخطار الذي تفرضه الحكومات شرطًا وحيدًا للإصدار موجَّهًا إلى أداة حكومية مختصة، كمصالح الصحافة أو إدارات المطبوعات، وقد يُوجَّه إلى مصلحة البريد؛ كي تسجِّل اسم الصحيفة وتعامِلها المعاملة البريدية الممتازة، وقد يكون إجراؤه عن طريق النشر في الجريدة الرسمية.

وأما الإصدار المُطلَق من كل قيد؛ فهو الذي لا يعلق إصدار الصحيفة على تحقق أي شرط من الشروط، ولا يفرض على الراغب في إصدار الصحيفة القيام بأي إجراء من الإجراءات؛ ذلك أنَّ نظرية الإصدار المطلق تستند إلى أنَّ حرية الصحافة من الحريات الأصيلة التي تكفلها الدساتير كفالة مُطلَقة، فلا يصح أن يقوم في سبيل استعمالها أي عائق.

وبين هذه النظريات الأربع تتراوح أنظمة إصدار الصحف في الدول. ويختلف التراوح — كما قدَّمنا — باختلاف النُّظُم السياسية والدستورية التي تقوم عليها الجماعة؛ فنظرية الإصدار بترخيص هي وحدها التي تأخذ بها الدول ذوات الأنظمة الدكتاتورية كروسيا وألمانيا وإيطاليا وتركيا وإسبانيا، ونظرية الإصدار المُطلَق تأخذ بها أبعد الدول شوطًا في سبيل الديموقراطية كالولايات المتحدة الأميريكية، ويُوزَّع الأخذ بالنظريتين الباقيتين على سائر الدول، وتختلف الأنصبة من النظريتين باختلاف أنصبة هذه الدول من التقدُّم الاجتماعي والمدى الثقافي.

وقد مرت مصر خلال تاريخها الصحفي بنظرية الترخيص متحكمًا فيه ومنظمًا، ثم بنظرية الإخطار المعلَّق على شرط — وهي السائدة فيها إلى الآن — ولم تتجاوزها بعدُ إلى نظرية الإصدار بمجرد إخطارٍ، بل نظرية الإصدار المُطلَق من كل قيد.

ففي عهد محمد علي وإبراهيم وعباس الأول، كانت الصحف لا تصدر إلا بترخيص صريح يستند إلى إرادة الحاكم دون رجوع إلى تشريع، وكان الأمر يرجع إلى أشخاص الولاة إلى محمد علي وإلى إبراهيم وإلى عباس الأول يمنحون مَن يشاءون، ويمنعون عمَّن يشاءون دون مناقشةٍ ودون إبداءِ أسباب، وهكذا كان الحال في إصدار الأربع الصحف الأولى التي أصدرها أفرادٌ في مصر بين سنة ١٨٣٣ و١٨٥٣، وكانت هي جريدتين فرنسيتين وأخريين إيطاليتين. وفي عهد سعيد باشا كانت الحكومة تُجِيز التصريح بالصحف على شرط ألَّا تتجاوز الصحف فيما تنشره قوانين الدولة العلية، ولا تذكر أي شيء ضد الحكومة المحلية، وكان هذا الشرط مقرَّرًا بمقتضى تعهُّدٍ كتابي يقدِّمه الراغب في إصدار الصحيفة، دون أن يكون مستندًا إلى تشريع كذلك. وكان هذا حظ الصحيفتين اللتين صدرتا في سنة ١٨٥٦ و١٨٥٧، الأولى السلطنة العثمانية باللغة العربية، والثانية البرجرسودي جبتو بالإيطالية. ولما تطورت الامتيازات الأجنبية إلى حيث ابتعدت عن النطاق المرسوم لها في المعاهدات التي كانت مبرَمة بين الباب العالي والدول الغربية، وكثرت محاولات الأجانب تجاوُز تلك الحدود، أصدرت الحكومة العثمانية في اليوم السادس من شهر يناير سنة ١٨٥٧ قوانين باسم تنظيمات قصدت بها إلى تنظيم العلاقات بين الحكومة العثمانية ورعايا الدول في داخل الدولة العلية، وفي سائر ولاياتها، واختص أحد تلك القوانين بالصحف، وما يجب أن يكون لإصدارها من نظام، وأبلغ هذا القانون إلى قناصل الدول في الدولة العثمانية، وقامت مصر بإبلاغه إلى ممثِّلي الدول لديها بمنشور صدر في شهر ديسمبر سنة ١٨٥٧، أُعلِن فيه إنشاء قلم المطبوعات بنظارة الخارجية، يرجع إليه الإشراف على إصدار الصحف التي يملكها مصريون والتي يملكها أجانب، فكان ذلك القانون بالنسبة للدولة العلية جميعًا، وكان هذا المنشور بالنسبة لمصر خاصةً، أول تشريع في موضوع الصحافة يقضي بضرورة الحصول على ترخيص سابق على الإصدار، ويقلب التعهُّد الكتابي الذي كان يُطلَب من راغب الإصدار أن يقدِّمه فرضًا بالقانون، ويدخل نظام المؤاخذات الإدارية كالمصادرة والإنذارات مستندًا إلى نص تشريعي لا إلى مجرد مشيئة الوالي.

ولما ولي إسماعيل الحكم، بدأ عهده بإبلاغ ممثِّلي الدول في مصر منشورًا تاريخه ٧ أكتوبر سنة ١٨٦٣، ذكر فيه النصوص والأحكام الواردة في القانون العثماني الصادر في سنة ١٨٥٧، وفي المنشور المصري الأول الصادر في ديسمبر من السنة عينها. وفي أول يناير سنة ١٨٦٥ صدر قانون المطبوعات العثماني على غرار قوانين المطبوعات القائمة في البلاد الأوروبية، وقد قضى ذلك القانون بتوافر شروط في مدير الصحيفة التي يراد إصدارها، ففرض أن يكون عثماني الجنسية، وألَّا تقل سنه عن الثلاثين، وأن يكون متمتعًا بكامل حقوقه المدنية، ولم تصدر في حقه أحكام مخِلَّة بالشرف. على أن يُقدَّم الطلب لناظر المعارف، وأن يودِع مصدرُ الصحيفة نسخةً منها قبل توزيعها موقعًا عليها من المدير المسئول في الإدارة الحكومية المختصة. وقضت المادة الثالثة من ذلك القانون بأن يسمح بالترخيص للأجانب بإصدار صحف بشرط الخضوع لنفس الشروط المفروضة على العثمانيين، وبشرط الخضوع للقضاء العثماني دون القضاء القنصلي الأجنبي في كل مخالفة صحفية. وكان القانون يفرض توافر ذلك كله قبل الترخيص الذي يصدر به إذن خاص، تملك الحكومة حق منحه وحق منعه دون إبداء الأسباب. وكان القانون يفرض إنزال العقوبات على الصحف عن طريق القضاء، ولكن قرارًا نظاريًّا صدر في ١٢ مارس سنة ١٨٦٧، نصَّ على إنزال هذه العقوبات بإجراءات إدارية، وأبلغ هذا القرار إلى القناصل الأجانب في مصر بخطاب دوري من شريف باشا ناظر الخارجية المصرية في ١٤ مايو سنة ١٨٧٠.

وكان المصريون الراغبون في إصدار الصحف يتقدَّمون بطلباتهم إلى قلم المطبوعات المصري مباشرةً، وكان الأجانب يتقدَّمون بطلباتهم عن طريق قنصلياتهم. وكان قلم المطبوعات تابعًا أول الأمر لنظارة الخارجية المصرية، ثم انتقل إلى نظارة الداخلية، ثم إلى نظارة المالية، ثم إلى الداخلية من جديد؛ لأنه كان في الحقيقة تابعًا لرئيس مجلس النظار، فكان يتبع الوزارة التي يتولى الرئيس شئونها مع شئون الرئاسة. وفي ١١ ديسمبر سنة ١٨٧٠ صدر الدستور العثماني الأول (دستور مدحت باشا)، فأعلن مبدأ حرية الصحافة، ولكنه لم يلغِ لا قانون سنة ١٨٦٥، ولا القرار الصادر في سنة ١٨٦٧. وإذن ظل الترخيص السابق هو النظام الذي يخضع له إصدار الصحف في الدولة العلية وفي مصر، على الرغم من النص الدستوري الطارئ. وفي ٢٦ نوفمبر سنة ١٨٨١ — وقد توجت مساعي الخديوي إسماعيل في سبيل استقلال مصر الذاتي بتشريعها الخاص دون التقيُّد بالتشريع العثماني — صدر قانون المطبوعات المصري الأول، وقد أُخِذ عن التشريع الفرنسي الصادر في سنة ١٨٥٣، على الرغم من أنَّ تشريعًا فرنسيًّا جديدًا كان قد صدر في شهر يوليو من نفس السنة. وقد ميَّزتْ أحكامُ هذا القانون بين المطابع والصحف، فقضت مادته الأولى بألا تُفتَح مطبعة إلا بترخيص سابق من ناظر الداخلية، وبعد دفع تأمين قدره ١٠٠ جنيه، فكان هذا أول تشريع في مصر وفي الدولة العلية كلها يُدخِل مبدأ التأمين المالي. وقضى القانون بأن يكون حق ناظر الداخلية في الترخيص مُطلَقًا، وكذلك قضى بإطلاق حقه في إغلاق المطبعة إذا خالفت حكمًا من أحكامه. وإذا كان إطلاق هذا الحق مأخوذًا عن التشريع الفرنسي، فإنه كان في مصر أقسى منه في فرنسا؛ لأن فرنسا تستند في نظامها إلى مجلس الدولة، الذي تُرفَع إليه الشكاوى من تصرفات الحكومة الإدارية، يفصل فيها ويحكم على الحكومة إذا رأى إلغاء قراراتها، ويأذن بإعادة فتح المطبعة إذا كانت قد أغلقتها. أما في مصر فليس فيها نظام مجلس الدولة، والمحاكم ممنوعة من النظر في موضوع الإجراءات الإدارية، إلا في حدود الحكم بالتعويض عن الضرر الذي يكون قد وقع بمَن صدرت في حقه الإجراءات.

إلى جانب شرط الترخيص السابق اشترط على الراغب في فتح مطبعة أن يخطِر بالمكتوب المراد طَبْعُه قبل الطبع، وإيداع خمس نسخ من كل صحيفة قبل بيعها أو توزيعها، وذِكْر اسم المطبعة وعنوانها على كل مطبوع علني. ونص في القانون على عقوبات لمخالفة أحكامه تذهب من الغرامات المالية إلى إغلاق المطبعة وسَحْب رخصتها.

هذا خاص بالمطبعة. أما الصحف فقد ميز فيها بين الصحف التي تتعرض للمسائل السياسية والإدارية والدينية، والصحف التي لا تتعرض لهذه المسائل، ويقصر نشاطها على الناحيتين الأدبية والعلمية. والصحف الأولى وحدها هي التي يفرض عليها طلب الترخيص السابق، أما الصحف الثانية فيكتفى لإصدارها بمجرد إخطارٍ يُرسَل إلى إدارة المطبوعات. واشترط القانون كذلك أن يودِع صاحب الصحيفة مبلغ ١٠٠ جنيه إذا كانت صحيفته يومية، و٥٠ جنيهًا إذا كانت الصحيفة أسبوعية، كما اشترط أن يكون رئيس التحرير بالنسبة للصحف التي تعرض للمسائل السياسية والإدارية والدينية من ذوي السمعة الحسنة. ونَصَّ القانونُ على عقوبات تذهب من الإنذار إلى التعطيل المؤقت، إلى التعطيل النهائي، على أن يكون الإنذار من اختصاص وزير الداخلية، وأن يكون التعطيل في حالتيه بقرار من مجلس النظَّار، ونُصَّ في القانون كذلك على أنه واجب التطبيق على المصريين وعلى الأجانب على حدٍّ سواء. وحدث أن كان التطبيق على الأجانب محل خلافٍ ذهب إلى القضاء المختلط وفصل فيه. وكانت القضية الأولى التي رُفِعت في هذا الصدد قضية لجريدة الأهرام رفعتها سنة ١٨٨٤ على الحكومة المصرية، تُطالِبها بالتعويض لما أصابها من قرارٍ صدر بتعطيلها، وكانت الأهرام تستند إلى أنَّ صاحبها متمتع بالحماية الفرنسية، وأنَّ التشريع المصري لا ينطبق عليها. وقد قضت المحكمة المختلطة بأن للحكومة المصرية أن تنفذ قانون المطبوعات في الصحافة المصرية وفي الصحافة الأجنبية، التي تظهر في مصر على حدٍّ سواء، ورضيت القنصلية الفرنسية في الإسكندرية — حيث كان مقر جريدة الأهرام في ذلك الوقت — بهذا الحكم، وقد أرادت الأهرام أن تستعين بتلك القنصلية للتدخل سياسيًّا لدى الحكومة المصرية.

وظل قانون المطبوعات المصري الأول — وهو الذي صدر في سنة ١٨٨١ — معمولًا به حتى سنة ١٨٩٤؛ إذ أُهمِل تطبيقه وتُرِكت الصحافة حرة، وكانت حريتها مُطلَقة، فكانت الصحف تصدر بترخيص أو بغير ترخيص. ولم تكن عقوبات إدارية توقع عليها بحال لا بالإنذار، ولا بالتعطيل المؤقت، ولا بالتعطيل النهائي. فظل الحال على هذا المنوال حتى سنة ١٩٠٩، بحيث يصح وصف تلك السنوات من سنة ١٨٩٤ و١٩٠٩ بأنها العهد الذهبي للصحافة في مصر. وفي ٢٥ مارس سنة ١٩٠٩ أعيد العمل بقانون المطبوعات، ولكنه أعيد بالنسبة للصحف الحديثة وحدها، بمعنى أنَّ كل راغب في إصدار صحيفة يجب أن يتقدَّم بطلب، ويجب أن ينتظر الترخيص الذي قد يُمنَح والذي قد يُمنَع. أما الصحف التي كانت قائمة في ذلك التاريخ، فقد اعتبرت كأن مطابعها قد دفعت التأمين، وكأن الترخيص قد صدر إليها.

وظل قانون المطبوعات نافذًا بأحكامه كلها حتى ١٩١٤؛ إذ أُعلِنت الأحكام العرفية البريطانية، فأصبحت الحكومة المصرية وقد تركت لها السلطةُ العسكرية البريطانية تولِّي اختصاصاتها المدنية مطلَقةً من كل قيد، فكان لها أن تعطل الجرائد تعطيلًا نهائيًّا على الفور قبل أن تمر بأدوار الإنذار والإنذار الثاني والتعطيل المؤقت، وأصبح هذا الحق ممنوحًا لإدارة المطبوعات وحدها لا لناظر الداخلية ولا لمجلس النظَّار. ولما ألغيت الأحكام العرفية عاد العمل بقانون المطبوعات الصادر في سنة ١٨٨١، إلى أن بدأ العمل به في ١٥ مارس سنة ١٩٢٤؛ إذ إن جميع أحكام الدستور كان نفاذها معلَّقًا إلى أن يجتمع البرلمان، وقد اجتمع لأول مرة في ١٥ مارس سنة ١٩٢٤.

وقد نصت المادة الخامسة عشرة من الدستور على أنَّ «الصحافة حرة في حدود القانون، على أنَّ الرقابة على الصحف محظورة، وعلى أنَّ إنذار الصحف ووقفها وتعطيلها بالطريق الإداري محظور كذلك، إلا إذا كان ذلك ضروريًّا لحماية النظام الاجتماعي».

أما القانون الذي أصبحت الصحافة حرة في حدوده، فكان هو قانون المطبوعات المعمول به في ذلك التاريخ؛ أيْ قانون سنة ١٨٨١، ولكن النص على أنَّ الإنذار والوقف والتعطيل بالطريق الإداري محظور، جعل النصوص الواردة في ذلك القانون (سنة ١٨٨١) والمتعلقة بالإنذارات والوقف والتعطيل نصوصًا بطل العمل بها من حيث المبدأ. وأما الاستثناء الذي ورد في نفس المادة الخامسة عشرة من الدستور، وهو الاستثناء المستند إلى ضرورة حماية النظام الاجتماعي، فقد فسر أمره بأن النظام الاجتماعي المشار إليه إنما هو النظام النيابي القائم في مصر، وأنَّ ما يخالف هذا النظام إنما هو النظام الشيوعي. وقد نص على هذا التفسير في المذكرة التي صحبت صدور الدستور، على أنَّ محكمة النقض والإبرام قد زادت هذا النص بيانًا في حكمٍ صدر في قضيةٍ اتُّهِمَ فيها عصام الدين ناصف لمناسبة ما ورد في كتابه عن «النظم الاشتراكية»، فقد قضت المحكمة بأن محل العقاب ليس هو مجرد شرح النظرية الشيوعية، بل ولا الدعوة إلى الشيوعية، ولكن المعاقَب عليه إنما هو أمر الدعوة إليها بالعنف، فإذا كتبت صحيفة إذن مقالًا تدعو فيه إلى الشيوعية وتحبذ مذهبها، وتتمنى دخوله في مصر، فليس هناك عقاب على كاتبها، وليس هناك إذن محل للالتجاء إلى الإنذار أو التعطيل يطبقان عليها بالطريق الإداري، ولكن إذا تضمنت المقالة دعوة إلى الثورة لإدخال الشيوعية في مصر، أو دعوة إلى الالتجاء للقوة لتغيير النظام القائم في مصر بنظام شيوعي، فإن تطبيق الإنذار والتعطيل على الصحيفة بالطريق الإداري يكون تطبيقًا قانونيًّا جائزًا.

أما النص في المادة الخامسة عشرة من الدستور على أنَّ الرقابة على الصحف محظورة، فيكون نافذًا وقت السلم ووقت الأحكام العادية. أما في وقت الحرب وفي أوقات الأحكام العرفية على العموم، فإنه يبطل العمل به، وتفرض الرقابة على الصحف بنص قانون الأحكام العرفية ذاته.

وعلى ضوء هذه البيانات كان الترخيص السابق بإصدار الصحيفة ضروريًّا في ظل الدستور كما كان قبله، وكذلك كانت الضمانة المالية ضرورية في ظله كما كانت قبله؛ لأن النص عليهما وارد في القانون الذي حدَّد الدستور حرية الصحافة في دائرته؛ ولأن النص عليهما لا يتعارض مع المبادئ العامة المقرَّرة في الدستور.

على أنَّ صدور الدستور قد صاحَبَه صدورُ مشروع قانون للمطبوعات ظل غير مصطبغ بالصبغة التشريعية من سنة ١٩٢٣ إلى سنة ١٩٣١، وكان هذا المشروع يقضي بأن يكون صدور الصحيفة خاضعًا لمبدأ الإخطار بدلًا من مبدأ الترخيص السابق. وكان مقيَّدًا هذا الإخطار بمدى ثلاثين يومًا، إذا انتهت دون معارضة الحكومة في صدور الصحيفة صدرت الصحيفة من تلقاء نفسها، دون حاجة إلى إذن خاص، وإذا عارضت الحكومة في صدور الصحيفة خلال الثلاثين يومًا التالية ليومِ تقديمِ الإخطار، كان لصاحب الإخطار حق الرجوع إلى المحاكم، يقاضي الحكومة لتحكم له على الأقل بالتعويض. كذلك كان يقضي ذلك المشروع بأن رئيس التحرير ورؤساء أقسام التحرير في الجرائد العربية يجب أن يكونوا متمتعين بالجنسية المصرية، وحاصلين على إجازة علمية من الجامعة المصرية، أو جامعة أجنبية معترَف بها من الجامعة المصرية، أو دبلوم مدرسة مصرية عالية، أو أن تكون لهم تجارب صحفية تعادِل هذه الدبلومات. وكان مشروع القانون ينص على أنَّ سن رئيس التحرير أو رؤساء الأقسام يجب ألا يقل عن ٢١ سنة، وأن يكونوا غير محكوم عليهم في جرائم مخلة بالشرف، أو بالإفلاس، أو بالفصل الإداري من وظيفة عامة، أو الشطب من جداول المهن الحرة. وكذلك نص المشروع على ضمانة مالية تبلغ قيمتها ١٠٠ جنيه للجرائد اليومية و٤٠ جنيهًا للمجلات.

لكن هذا المشروع لم يظهر ولم يُطبَّق، وصدر في سنة ١٩٣١ مرسوم بقانون رقم ٩٨ قضى بالنسبة للمطابع بألا ضرورة لترخيص سابق ولا لضمانة مالية، واكتفى بأن تُقدَّم نسختان من كل مطبوع قبل التوزيع. وخفَّف العقوبات فأنزلها إلى جنيه واحد، بعد أن كانت الغرامة تتراوح في قانون سنة ١٨٨١ من عشرة جنيهات إلى عشرين جنيهًا؛ أيْ إنه أنزل الجريمة من صف الجنح إلى مستوى المخالفات. أما الصحف فقد قضى فيها بمبدأ الإخطار بدل الترخيص السابق، وقيَّد الإخطار بمدى ثلاثين يومًا، كذلك يجوز للحكومة في بحرها أن تعترض على إصدار الصحيفة، فإذا لم تعترض كان لصاحب الإخطار أن يُصدِر صحيفته دون حاجة إلى إذن خاص. لكن هذا القانون لم يُعْطِ لصاحب الإخطار — كما كان يعطيه مشروع قانون سنة ١٩٢٣ — حقَّ الرجوع إلى المحاكم في حالة رفض الحكومة إصدار الصحيفة، وكذلك قرَّر القانون ضمانةً ماليةً قدرها ٣٠٠ جنيه لليوميات و١٥٠ جنيهًا لغير اليوميات، ونَصَّ على أن تكون هذه الضمانة المالية نقدًا يُودَع في خزانة الحكومة. أما رئيس التحرير ورؤساء أقسام التحرير، فقد نَصَّ القانون بالنسبة لهم على اشتراط توافر الجنسية المصرية فيمَن يعملون منهم في الصحف العربية، وأن تكون سنهم أكثر من ٢٥ سنة، وأن يكونوا متمتعين بالأهلية الكاملة، وأن يكون غير محكوم عليهم في جناية على إطلاق التعبير بالجناية (العقاد)، أو في جنحة ماسة بالشرف، وأن يكونوا غير مفصولين إداريًّا من وظيفة عامة، ولا مشطوبين من جدول مهنة حرة (عبد القادر حمزة)، وأن يكونوا غير محكوم عليهم مرتين في قضية قذف (هيكل)، وأن يكونوا غير أعضاء في البرلمان، وأن يكونوا إلى جانب ذلك كله حسني السمعة.

وعُمِل بهذا القانون إلى سنة ١٩٣٦؛ إذ صدر مرسوم بقانون عدل من الشروط الواجب توافرها في رئيس التحرير، أو رؤساء الأقسام، فرفع شرط عدم الحكم في جناية على إطلاق التعبير، ونص على عدم الحكم في جناية عادية، فأخرج جناية العيب في الذات الملكية؛ لأنها جناية سياسية. ورفع شرط عدم الحكم مرتين في قذف، وشرط عدم الفصل إداريًّا من وظيفة عامة، وشرط الشطب من جدول مهنة حرة، وعدم الجمع بين عضوية البرلمان والصحافة، وكذلك عُدِّل القانون الجديد فيما يختص بالضمان المالي، فرفع شرط دفعه نقدًا، واكتفى بالضمان العيني أو الشخصي.

وتتصل الأسباب والعوامل التي تدعو إلى الأخذ بنظريةٍ دون الأخرى اتِّصَالًا محكمًا بفكرة حرية الصحافة، فحيث تكون حرية الصحافة مبدأ تعتنقه الحكومات ويؤمن به الأفراد، فلا يمكن أن تكون إلا وسيلة الإصدار المطلَق أو على الأقل وسيلة مجرد الإخطار. وحيث يكون تقييد الصحافة مبدأ من مبادئ الجماعة، تكون النظرية السائدة هي نظرية الترخيص السابق تُتَاخِمها نظريةُ الإخطار المعلَّق على شرط.

والعالم منقسم الآن بين طريقين للحكم، طريق الديمقراطية وطريق الدكتاتورية. وتقوم الديمقراطية أصلًا على فكرة حرية الرأي، وتستدعي حرية الرأي كثرة الآراء والتنافس بينها. وتقوم فكرة الدكتاتورية على مبدأ الوحدانية في الرأي، وفي الهيئات التي تعمل للآراء. وإذن فيمكن القول على وجه العموم إنَّ حرية الصحافة هي البارزة في الدول ذات الأنظمة الديمقراطية، على أنَّ الديمقراطية ليست واحدة في كل البيئات، وكذلك ليست الدكتاتورية موحَّدة الطبيعة في كل الدول؛ فمن الديمقراطية ما هو مطلَق، ومنها ما هو حر، ومنها ما هو محافظ. ومن الدكتاتورية ما هو خاضع لمذهب اجتماعي معيَّن، ومنها ما هو خاضع لنوع من الحكم محدَّد. أما الديمقراطية المطلَقة فهي التي تذهب في سبيل الحرية إلى أقصى حدٍّ، هي التي تترك الفرد حرًّا، لا تحد حريته إلا المسئولية التي تقع عليه، إذا أضرت حريته بالغير. وهذا النوع الأول من الديمقراطية هو الذي تطبق فيه نظرية إصدار الصحف دون ترخيص، ولا إصدار معلق على شرط أو غير معلق، بل تصدر الصحف فيه كلما أراد مواطن أن يصدر صحيفة. وجمهور القراء هو الذي يراقب الصحيفة، فإذا رضي عنها أقبل عليها وهيَّأ لها وسائل الدوام، وإذا غضب منها أضرب عنها وأماتها بالفعل. ذلك النوع الأول من الديمقراطية لا تحتاج الدول فيه لإدارة مطبوعات تقرأ ما في الصحف من مقالات، ولا يخصص جزء من النيابة العامة للتحقيقات الصحفية، بل يُترَك الأمر كله للجمهور يُبقِي ما يشاء من الصحف، ويحكم بالإعدام على ما يشاء. أما النوع الثاني وهو نوع الديمقراطية الحرة، فيخطو إلى اليمين خطوة؛ إذ يرى ضرورة وجود شيء من التنظيم، يقف منه عند الحد الأدنى الذي يمكن الدولة من الوقوف على مختلف اتجاهات الرأي، فيطلب تطبيق نظرية الإخطار غير المعلَّق على شرط رغبة في تسجيل الصحف التي تصدر، ورغبة في إشعار أصحاب الصحف إشعارًا نفسيًّا بوجود نوع من المراقبة الأدبية، وإن لم تُوجَد بالفعل. وهذا النوع هو القائم في إنجلترا أو النوع الثالث من الديموقراطية. ونوع الديموقراطية المحافظة تشترط كذلك الإخطار السابق، ولكنها تخطو خطوة أخرى إلى اليمين بأن تنظم العلاقات بين الصحافة والحكومة بشيء من الاتصال، لا تكون فيه شبهة الرقابة، ولكنه يحقِّق نوعًا من الألفة بين الصحفيين والموظفين العاملين في إدارات المطبوعات مثلًا، وهذه النظرية هي السائدة في كثرة البلاد الديموقراطية كفرنسا وبلجيكا قبل الحرب الحاضرة.

أما الدكتاتورية فتقوم على فكرة النظام المُسَيَّر، وعلى فكرة الرأي المُسَيَّر، والإرادة المُسَيَّرة، وهي نوعان: نوع يستند إلى مذهب اجتماعي، فيُخضِع كل رأي وكل اعتبار في حياة الجماعة إلى ذلك المبدأ الاجتماعي. ومن الغريب أنَّ الدكتاتوريات التي تستند إلى المذاهب الاجتماعية تستند إلى وسائل واحدة مهما اختلفت المذاهب الاجتماعية التي تؤمن بها، فالبلشفية والفاشية والنازية، وإن اختلفت في المذاهب الاجتماعية التي تؤمن بها، فهي إنما تستند إلى وسائل عمل واحدة، أبرزها القضاء على كل ما ينتج تعديلًا في مظهر إبداء الرأي، وإذن فهي لا تسمح بوجود أكثر من حزب واحد؛ لأنها لا تريد أن يكون فيها أكثر من رأي واحد. وهذه الرغبة في الحصر في مظهر واحد التي تؤدي حتمًا إلى إخضاع الصحافة، لا لنوع من الرقابة بل لنوع من التوظيف في إدارة كبيرة مكوَّنة من إدارات الصحف، يُؤمَر الموظفون فيها بالاتجاه في مقالاتهم أو في أخبارهم، وفي تحقيقاتهم اتجاه المبدأ الاجتماعي، الذي تدين به الجماعة الدكتاتورية، ولا تصدر بطبيعة الحال فيها صحف إلا الصحف الحكومية الصادرة عن تلك الإدارة الخاصة، ولا يظل في الوجود من الصحف التي تكون قد صدرت قبل قيامها إلا ما ينضم إلى الإدارة الجديدة. وفي النوع الآخَر من الدكتاتوريات، وهو نوع دكتاتورية الحكم التي لا تدين بمذهب اجتماعي معين، ولكنها تأخذ بطريقة حكم استبداد مسيرة، كما هو الحال في تركيا وفي إيران وفي البرتغال؛ في هذا النوع لا تكون الصحافة جزءًا من الحكومة، ولكنها تكون مُسَيَّرة في اتجاه معيَّن، لا من الناحية الاجتماعية ولكن من ناحية الخضوع التام لرئيس الدولة القائم. وفي أنواع الدكتاتورية الثانية من دكتاتورية الحكم تُطبَّق نظرية الترخيص السابق، والترخيص الذي تملكه الحكومة بمطلق إرادتها، إذا شاءت منحته وإذا شاءت منعته.

على أنَّ بعض البيئات الديمقراطية لا تأخذ مبدأ حرية الصحافة أخذًا مطلقًا، بل تُخضِعه لمبدأ تقييدي، هو اشتراط حالات ومؤهلات يجب أن تتوافر في الصحفيين؛ ذلك أنَّ هذه البيئات الديمقراطية تعتقد أنَّ سلاح الصحافة ماضٍ له حدان، يُنتِج الخير كما يجوز أن يُنتِج الشر، وهي تريد أن تطمئن على أن يكون هذا السلاح منتجًا للخير فقط، وتخشى إذا هي أطلقت حرية الصحافة بمعنى حرية إصدار الصحف أن يُوضَع ذلك السلاح في يد مَن لا يُحسِن استعماله، فينتج عن هذا الاستعمال أسوأ الأثر؛ ولذلك يقول أنصار هذا الرأي بأن الصحافة الحرة يجب ألا تُعطَى إلا للصحفي المقيَّد، فيشترطون فيمَن يريد أن يكون صحفيًّا توافُر كفايات مالية وخُلُقية وعلمية، يطمئنون مع توافرها إلى أنَّ المسلَّح بها سيستطيع أكثر من غيره أن يُحسِن استعمال حرية الصحافة. وهم يرون في الصحفي معلمًا أو محاميًا، ويريدون أن تتوافر فيه الشروط التي تتوافر فيمَن يريد أن يفتح مدرسةً يُقبِل عليها الأبناء واثقين فيه مطمئنين إلى كفاياته الخُلُقية والعلمية، مطمئنًا أهله إلى قدرته المالية، حتى يسير بتعليم أبنائهم السير الطبيعي الممهد، لا أن يسير بهم مدة من الزمان، ثم يغلق مدرسته في الوقت الذي لا يستطيع الأولاد فيه أن يلتحقوا بمعهد آخَر. وكذلك الحال بالنسبة للمحامي الذي يجب أن تتوافر فيه المؤهلات العلمية والخلقية والمؤهلات المالية، التي تجعل صاحب القضية مطمئنًا على أنه لن يتلاعب بما يقع في يديه من مصالحه، وإلى أنه سيجده دائمًا أو يجد مَن يحل محله في تنفيذ شرائط التوكيل والعمل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤