مقدمة

في مكان ما وبعالم ما.

كنتُ أتقدَّم ببطء، أنظر إلى الأمام، وحتى بعد كل تلك السنوات التي قضيتها بعيدًا عن هذا المكان، ها أنا مُجددًا أتلهَّف إلى الوصول، وبنفس الشكل، ها هو رواق رمادي لم يتغيَّر منه شيء وتظهره تلك المصابيح الحائطية التي تعتلي النصف الأعلى، بينما أُلصِق على النصف السُّفلي صفائح خشبية رمادية اللون وكان لونها مُغايرًا لِلون الجزء العلوي. ربما خُيل لي ذلك بسبب الإضاءة، وفي نهاية الرواق باب مُزدوج بُنِّيٍّ بمسكتَين ذهبيتين، وبيني وبينه يستقرُّ رجل ببزَّة سوداء يجلس على كرسي أُسند على الحائط. كان يتصفح أحد الكتب قبل أن يراني. كنتُ أفكر فيما قاله لي الرجل (بل جمْع الرجال الذي قابلتُه) قبل توجُّهي إلى هذا الباب المزدوج الذي يؤدي إلى مكانٍ آخر، في الغرفة الأخرى حينما استجوبني. أعتقد أنني لا أذكُر كل تلك الأسماء، وكل تلك الأحداث، وأنا من اعتقدَ سابقًا أن شخصًا في هذا المكان لا يجب أن يخفى عليه شيء ممَّا نفعل بالأسفل، لكن الرجل فعل ذلك ليستفزَّني، ليستفزَّ عدم إيماني بما يفعلون، وحتى بعد كل تلك المرات التي استجوبَني فيها، مع أنه كان يعلم أن أقوالي لن تتغير أبدًا، حتى بعد ذلك ما زال يكرهني ويحتقِرني؛ يحتقر اختلافي وتمسُّكي بما أودُّ أن أكونَه، وهو يخالف بذلك صفة ترفُّعه عن الأحاسيس، ذلك الترفع الذي تتطلَّبه المهنة في هذا المكان البعيد عن الأرض والسماء، ثم التفت إليَّ الرجل الجالس وقال بعد أن أغلق كتابه دون أن ينسى أن يُسجل صفحة توقفه بإبهامه، وأشار إليَّ باحترامٍ إلى الباب المزدوج.

– سيدي، تَوجَّه مباشرة إلى الباب الثاني (يُشير بيده) تلك هي القاعة التي تنشدها (كان يقصد قاعة المحاكمة).

– شكرًا، لكنني أعتقد أنني أعرف ذلك (ما كان يجب أن يخبرني؛ فلا يُوجَد سوى ذلك الباب المزدوج) حسنًا، زرت المكان عدة مرات. أمسكت مسكة الباب وقبل أن أديرها قال: أوه، حقًّا، هذا غريب (عاد لتصفُّح كتابه).

ثم دلفتُ إلى القاعة، وجلست أنتظر.

بعد مدة من الانتظار.

لم يتفاجأ القاضي حينما رآني، ربما لأنه كان يعلم، لكنه أشار لي لأجلس وهو يقول: هذا أنت مُجددًا، إذن ماذا لديك لتقوله؟ (يبتسم.)

وقلتُ في سرعةٍ محاولًا تفسير شيءٍ ما: أعتقد أنني أودُّ قولَ شيءٍ واحد.

(يستمر في الإصغاء.)

(نظرتُ إلى الخلف، الحشد ينظُر في هدوء.)

وهو … وهو أنَّ أسلافي هم السبب.

نظر القاضي مدةً إلى رفاقه ثم ابتسم قائلًا: أسلافك مَن قاموا بالأمر؟ إذن أنت تُنكر أنك من فعلت ذلك!

قمتُ بتعديل بذلتي، ربما فعلتُ ذلك لأنني لم أجد ما أقوله، ثم جلستُ أنظر إليه مُفكرًا.

وفكرت، اكتشفت أنني كنتُ وسأكون دومًا الرجل الذي لا يمكن تحريكه. بالطبع أُخِذ منِّي زمنٌ طويلٌ قبل أن أكتشف ذلك، وأُخِذ من عالمي بشرٌ كُثر ليحدُث ذلك، وإنني لا أنسى صنيعَهم، ولا أذكر ما حدث معهم بعد تلك الأيام، وفي تلك المرة، لا أذكر ما حدث مع سائق الحافلة، إنْ هو توقفَ عن تدخين السجائر، أو ما حدث مع العربي إنْ هو اكتشف أنه تأخَّر حقًّا، أو كيف عاشت زوجتي ما تبقَّى من حياتها مع زوجٍ آخر يُشبهني في كل شيءٍ إلا طباعي الغريبة التي تُحبها، أو إن بكَتِ ابنتي يوم وفاتي كما بكت على تلك العجوز، أو إن تغيرتُ حقًّا عمَّا كنتُ سابقًا، لكنني أذكر أنهم شاركوني ما كنتُ عليه، واليوم هو اليوم الذي فكَّر فيه أسلافي بخصوص معنى الحياة وبخصوص ما سيفعلونه حيال ذلك المعنى، واكتشفوا طريقةً للخلود، طريقة لم يعرفها أحد، ولن يعرفها أحد، حتى أنا، وخلدوا في حربٍ مع القدَر، ذلك الخلود الذي يكرهه هذا الأخير.

قال القاضي: أتذكُر في أي وقتٍ حدث ذلك؟

– نسيته، بعد زمن، عشتُ مدة لم أعُد أذكُر فيها ما أعيش.

– حسنًا أخبرْنا عن الطريقة (ينظُر في إحدى تلك الدفاتر البيضاء).

– أنا طريقة ذلك الخلود (بصوتٍ هادئ) والدليل الوحيد على وجوده.

– سيكون من الصعب تصديق ذلك.

ثم سألته قائلًا: ماذا تكون أنت؟

– أنت تعرف من أكون.

– حسنًا، لمَ أستمرُّ في العودة إلى هنا؟ هل أنت القدَر الذي أعرفه؟

– لا يُمكن أن تقابل قدرَك بُني، لنقل إنني مجرد تخيُّلات لك في هذا المكان.

– حسنًا، ما هذا المكان؟

– أنت تطرح كثيرًا من الأسئلة (ينظر إلى بقية القضاة).

(أخذ نفسًا قبل أن يُقرِّر أن يشرح أكثر.)

– مُجددًا يجب أن أوضِّح الأمر، أنت هنا لأنك اخترتَ ذلك، لكن … لكن أنا من يتوجَّب عليه طرح الأسئلة الآن، فيما بيننا، إنه المكان الذي ستنتظِر فيه انقضاء تسعة أشهر، هو مكان فقط … بين السماء والأرض.

– إذن لِمَ تطرح الأسئلة إن توجَّب أن أنتظر فقط؟ ثم إنه، في الغرفة الأخرى، أرَوني شيئًا عني. لِمَ الجميع هنا يتحدَّث بخصوصي؟ أقصد كلَّما أزور المكان.

– أخبرتَ المُحقِّق أنك تعرف المكان، صحيح؟ (يقصد الرجل الذي استجوبني.)

– أجل، شعرتُ أنني زُرته مُسبقًا، لكن …

ثم أضفت: أين أنا بالتحديد؟

– بُني، إنه مكانٌ ما، لنُسمِّه العدَم الموجود، ربما هكذا سمَّيتموه، ولنقفْ عند هذا الحد. ربما يومًا ما ستعرف أكثر عنَّا، بالتأكيد بعدما تعرف أكثر عن شخصك. تذكَّر، طرْحُنا للأسئلة هو طرحُك لها ليس إلا! أنت مُهم بقدر ما هو مُهم أن تعرف أن القدَر ليس نحن، إنه أنت.

وأضاف: القدَر بُنيَّ هو ما ستكون عليه هذه المرة.

– أخبرني، ماذا عن ابنتي؟ هل هي بخير؟

– لا تقلق، يعمل الجميع بكدٍّ لإنقاذ الوضع، ثم إنَّ ابنتك امرأة قوية، وهي تُظهِر ذلك في هذا الوقت. الأطباء يعملون على إنقاذها، وبما أنك صديقي فلتعلَم أن ابنتك قد قُدِّر لها أن تنجو.

– ماذا أفعل الآن؟

– ستنتظِر، وسنرى في دفاترنا البيضاء ما سيحدُث، وإن كان لك فرصة، ستُغادر هذا المكان.

– من الغريب أن يحدُث هذا، اعتقدتُ أنني غادرت الحياة، وها أنا أجلس هنا أقابلك وخلفي هؤلاء.

– ليس الغريب ما يحدُث معك، الغريب أنك لا تذكُر، ليست هذه أول مرة يحدُث لك هذا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤